الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ «1» .
وبعد أن ذكر- سبحانه- بعض المنن التي امتن بها على نبيه موسى- عليه السلام أتبع ذلك بذكر بعض التوجيهات التي أمره بفعلها، حيث كلفه بتبليغ الدعوة إلى فرعون، فقال- تعالى-:
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
وقوله- سبحانه- وَلا تَنِيا فعل مضارع مصدره الونى- بفتح الواو وسكون النون- بمعنى الضعف والفتور والتراخي في الأمر.
يقال: ونى فلان في الأمر ينى ونيا- كوعد يعد وعدا- إذا ضعف وتراخى في فعله.
وقوله: أَخُوكَ فاعل لفعل محذوف. أى: وليذهب معك أخوك.
والمراد بالآيات: المعجزات الدالة على صدق موسى- عليه السلام، وعلى رأسها عصاه التي ألقاها فإذا هي حية تسعى، ويده التي ضمها إلى جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء.
(1) سورة القصص الآيات من 7- 9.
والمعنى: اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى حيث آمركما متسلحين بآياتى ومعجزاتي، ولا تضعفا أو تتراخيا في ذكرى وتسبيحي وتقديسي بما يليق بذاتى وصفاتي من العبادات والقربات.
فإن ذكركما لي هو عدتكما وسلاحكما وسندكما في كل أمر تقدمان عليه.
فالآية الكريمة تدعو موسى وهارون، كما تدعو كل مسلم في كل زمان ومكان إلى المداومة على ذكر الله- تعالى- في كل موطن، بقوة لا ضعف معها وبعزيمة صادقة لا فتور فيها ولا كلال.
وقد مدح- سبحانه- المداومين على تسبيحه وتحميده وتقديسه في كل أحوالهم فقال:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ «1» .
قال صاحب الكشاف: قوله وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي الونى: الفتور والتقصير. أى لا تنسيانى ولا أزال منكما على ذكر حيث تقلبتما، واتخذا ذكرى جناحا تصيران به مستمدين بذلك العون والتأييد منى، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكرى. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر.. «2» .
وقال ابن كثير: والمراد بقوله وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوة لهما. وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث «إن عبدى كل عبدى الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» «3» .
ثم أرشدهما- سبحانه- إلى الوجهة التي يتوجهان إليها فقال: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى.
أى: اذهبا إلى فرعون لتبلغاه دعوتي، ولتأمراه بعبادتي، فإنه قد طغى وتجاوز حدوده، وأفسد في الأرض، وقال لقومه: أنا ربكم الأعلى. وقال لهم- أيضا- ما علمت لكم من إله غيرى.
قال الجمل: وقوله: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ جمعهما في صيغة أمر الحاضر مع أن هارون لم يكن حاضرا محل المناجاة بل كان في ذلك الوقت بمصر- للتغليب فغلب الحاضر على غيره، وكذا الحال في صيغة النهى. أى: قوله وَلا تَنِيا روى أنه- تعالى- أوحى إلى هارون
(1) سورة آل عمران الآيتان 190، 191.
(2)
تفسير الكشاف ج 3 ص 65.
(3)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 287.
وهو بمصر أن يتلقى موسى- عليه السلام وقيل: سمع بإقباله فتلقاه.. «1» .
وقوله- تعالى-: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى إرشاد منه- سبحانه- إلى الطريقة التي ينبغي لهما أن يسلكاها في مخاطبة فرعون.
أى: اذهبا إليه، وادعواه إلى ترك ما هو فيه من كفر وطغيان، وخاطباه بالقول اللين، وبالكلام الرقيق. فإن الكلام السهل اللطيف من شأنه أن يكسر حدة الغضب، وأن يوقظ القلب للتذكر، وأن يحمله على الخشية من سوء عاقبة الكفر والطغيان.
وهذا القول اللين الذي أمرهما الله- تعالى- به هنا قد جاء ما يفسره في آيات أخرى، وهي قوله- تعالى-: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى
…
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على ألطف أساليب المخاطبة وأرقها وألينها وأحكمها.
قال ابن كثير: قوله فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً
…
هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهي أن فرعون كان في غاية العتو والاستكبار، وموسى كان صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين كما قال يزيد الوقاشى عند قراءته لهذه الآية: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟.
والحاصل أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال- تعالى-: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. «2» .
والترجي في قوله- تعالى-: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى على بابه إلا أنه يعود إلى موسى وهارون.
أى: اذهبا إليه، وإلينا له القول، وباشرا الأمر معه مباشرة من يرجو ويطمع في نجاح سعيه، وحسن نتيجة قوله.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: والترجي لهما أى: اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر عمله فهو يجتهد بطوقه، ويحتشد- أى- يستعد ويتأهب- بأقصى وسعه، وجدوى إرسالهما إليه مع العلم أنه لن يؤمن، إلزام الحجة،
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 93.
(2)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 288.
وقطع المعذرة، كما قال- تعالى-: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى «1» .
ويرى بعضهم أن الترجي هنا للتعليل. أى: فقولا له قولا لينا لأجل أن يتذكر أو يخشى.
قال الآلوسى: قال الفراء: «لعل» هنا بمعنى كي التعليلية.. وعن الواقديّ: أن جميع ما في القرآن من «لعل» فإنها للتعليل، إلا قوله- تعالى- وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإنها للتشبيه أى: كأنكم تخلدون «2» .
ثم حكى- سبحانه- ما قاله موسى وهارون عند ما أمرهما- جل جلاله بذلك فقال:
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى.
أى: قال موسى وهارون بعد أن أمرهما ربهما بالذهاب إلى فرعون لتبليغه دعوة الحق:
يا ربنا إننا نخاف أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أى يعاجلنا بالعقوبة قبل أن ننتهي من الحديث معه في الأمر.
يقال: فرط فلان على فلان يفرط إذا عاجله بالعقوبة وأذاه بدون تمهل، ومنه قولهم:
فرس فارط، أى سابق لغيره من الخيل.
أَوْ أَنْ يَطْغى أى يزداد طغيانه، فيقول في حقك يا ربنا مالا نريد أن نسمعه، ويقول في حقنا ما نحن برءاء منه، ويفعل معنا ما يؤذينا.
وقد جمع- سبحانه- بين القولين اللذين حكاهما عنهما، لأن الطغيان أشمل من الإفراط، إذ الجملة الأولى تدل على الإسراع بالأذى لأول وهلة، أما الثانية فتشمل الإسراع بالأذى، وتشمل غيره من ألوان الاعتداء سواء أكان في الحال أم في الاستقبال.
وهنا يجيبهما الخالق- جل وعلا- بما يثبت فؤداهما، ويزيل خوفهما فقال: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى.
أى: قال الله- تعالى- لهما لا تخافا من بطش فرعون، إننى معكما بقوتي وقدرتي ورعايتى، وإننى أسمع كلامكما وكلامه، وأرى فعلكما وفعله. لا يخفى على شيء من حالكما وحاله، فاطمئنا أننى معكما بحفظي ونصرى وتأييدى، وأن هذا الطاغية ناصيته بيدي، ولا يستطيع أن يتحرك أو يتنفس إلا بإذنى
…
ثم رسم لهما- سبحانه- طريق الدعوة فقال: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ
…
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 65. [.....]
(2)
تفسير الآلوسى ج 16 ص 195.
أى: فأتيا فرعون، وادخلا عليه داره أو مكان سلطانه، وقولا له بلا خوف أو وجل إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ الذي خلقك فسواك فعدلك.
وكان البدء بهذه الجملة لتوضيح أساس رسالتهما، ولإحقاق الحق من أول الأمر، ولإشعاره منذ اللحظة الأولى بأنهما قد أرسلهما ربه وربهما ورب العالمين، لدعوته إلى الدين الحق، وإلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وإلى التخلي عن الكفر والطغيان. وأنهما لم يأتياه بدافع شخصى منهما وإنما أتياه بتكليف من ربه ورب العالمين.
أما الجملة الثانية التي أمرهما الله- تعالى- أن يقولاها لفرعون فقد حكاها- سبحانه- بقوله: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ أى: فأطلق سراح بنى إسرائيل، ودعهم يعيشون أحرارا في دولتك ولا تعذبهم باستعبادهم وقهرهم، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم.
قال- تعالى-: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ «1» .
قال الآلوسى: والمراد بالإرسال: إطلاقهم من الأسر، وإخراجهم من تحت يده العادية، لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام، كما ينبئ عنه قوله- سبحانه- وَلا تُعَذِّبْهُمْ أى: بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب، فإنهم كانوا تحت سيطرة القبط، يستخدمونهم في الأشغال الشاقة كالحفر والبناء.. «2» .
وقوله- تعالى-: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جملة ثالثة تدل على صدقهما في رسالتهما.
والمراد بالآية هنا: جنسها، فتشمل العصا واليد وغيرهما من المعجزات التي أعطاها الله- تعالى- لنبيه موسى- عليه السلام.
أى: قد جئناك بمعجزة من ربك تثبت صدقنا، وتؤيد مدعانا، وتشهد بأنا قد أرسلنا الله- تعالى- إليك لهدايتك ودعوتك أنت وقومك إلى الدخول في الدين الحق.
فالجملة الكريمة تقرير لما تضمنه الكلام السابق من كونهما رسولين من رب العالمين، وتعليل لوجوب إطلاق بنى إسرائيل، وكف الأذى عنهم.
أما الجملة الرابعة التي أمرهما الله- تعالى- بأن يقولاها لفرعون فهي قوله- سبحانه-: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.
(1) سورة البقرة الآية 49.
(2)
تفسير الآلوسى ج 16 ص 198.