المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الثنوية أسسها، الفرق التي تفرعت عنها. أثرها في الإسلام لعل الذي دعا إلى - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌الثنوية أسسها، الفرق التي تفرعت عنها. أثرها في الإسلام لعل الذي دعا إلى

‌الثنوية

أسسها، الفرق التي تفرعت عنها.

أثرها في الإسلام

لعل الذي دعا إلى جعل "الثنوية" مادة من مواد دائرة المعارف الإسلامية، مع أن هذه النحلة لا تتفق والإسلام الذي يقوم على التوحيد، أن المسلمين عرفوها في بلاد فارس التي فتحها الله عليهم وعنوا بالرد عليها حين أسرها كثير ممن دخلوا في الإسلام خوف السيف أو الاستذلال.

وأهل الحق من المسلمين فيما ذهبوا إليه من حدوث العالم كله: أجسامه وأعراضه، لا يخالفون الثنوية وحدهم في قولهم بأصلين أزليين خالقين للعالم وما فيه من خير وشر، كما أن في الإنسان صراعًا بين العقل والهوى أي بين مبدأ للخير وآخر للشر؛ بل يخالفون كذلك الدهريين الذين يقولون بأزلية العالم على ما هو عليه في أفلاكه وكواكبه وأركانه، وأصحاب الهيولى من الفلاسفة الذين يرون أن هيولى العالم قديمة، وأهل الطبائع القائلين بقدم التراب والماء والنار والهواء (1).

ومهما يكن، فالحاجة ماسة للتلعيق على هذه المادة، مع مراعاة الإيجاز.

أولًا - لم يقل بالثنوية من أصحاب مذاهب التفكير ثلاثة فقط - هم: الديصانية والمانوية والمزدكية - بل قال بها هؤلاء والمرقونية أيضًا كما ذكر الرازي الذي يجعل الثنوية فرقًا أربع: هؤلاء الثلاث والرابعة المرقونية (2)؛ وقال بها كذلك الباطنية والحائطية. وكل هؤلاء يرجعون فيما ذهبوا إليه من هذين الأصلين القديمين إلى النحلة الزرادشتية؛ لذلك وجب أن نجلو هذه النحل بكلمة عن كل منها، بادئين بالزرادشتية إذ كانت أقدمها جميعًا.

(أ) تنسب الزرادشتية إلى زرادشت مصلح أقوم الأديان الفارسية، وهو - كما يقال - رجل من أهل أذربيجان

(1) أصول الدين للبغدادى ص 59 طبع استانبول سنة 1928 م.

(2)

اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 88 - 89 طبع مصر عام 1938 م.

ص: 2581

عاش في القرن السابع أو الثامن أو العاشر قبل الميلاد. كان هذا المفكر يرى أن النور والظلمة -أو يزدان وأهْرمَن - هما مبدآ العالم، وأنهما متضَادان وأزليان، وبامتزاجهما حصلت تراكيب العالم وصوره المختلفة، وأن هذين المبدأين - على ما يرى بعض الباحثين - يرجعان في خلقهما وإبداعهما إلى خالق واحد لا ضد له ولاند وهو الإله الأعلى، وأنه أخيرًا كان -أي زرادشت - نبي إله الخير ورسوله (1).

(ب) وجاء بعد زرادشت بزمن طويل ديصان أوابن ديصان - نسبة إلى نهر ولد عليه كما يذكر ابن النديم (2) - وإليه تنسب الفرقة الديصانية. والمذهب الذي تدعو إليه هذه الطائفة ثنوى في أساسه، إلَّا أنها بعد الإجماع على أن النور، أو إله الخير، يفعل الخير بقصده واختياره وأن الظلمة أو إله الشر يفعل الشر عن طبع واضطرار منه (3)، حاولت أن تجد علة لامتزاج مبدأ الخير بمبدأ الشر، فذهب جماعة منها إلى أن النور قصد إصلاح الظلمة فخالطها مختارًا وعز عليه بعد هذا أن يخرج عنها، وذهبت جماعة أخرى إلى أن النور أحس بنتن الظلمة وخشونتها فأراد أن يبعدها عنه فكان الاختلاط والامتزاج الذي لم يكن يقصد إلى شيء منه (4).

(جـ) ثم كانت المانوية التي تنسب إلى "مانى" الذي ظهر بعد ابن ديصان بنحو ثلاثين عامًا. ولد مانى ببابل وتأثر في مذهبه بالمجوسية وبرأى يوحنا المعمدان في المسيحية (5) وبشئ من البرهمية والمانوية ترى في الأصلين اللذين كان منهما العالم، أنهما أزليان وأبديان، وأنهما قوتان وسميعان وبصيران (6) ولها بعد ذلك رأيها في امتزاج الخير بالشر وسببه وفي خلاص النفس وسببه أيضًا، وهذا الرأى الذي تراه ذكره الشهرستانى بتوضيح (7) فإليه يرجع من يشاء. وكذلك أطال ابن النديم في محاولة بيان ما كان من خلق الإنسان القديم،

(1) الملل والنحل للشهرستاني طبعة مصر جـ 2. ص 77 - 78، والرازى ص 79، والفلسفة في الشرق للأستاذ "ماسون أورسيل M.oursel" ص 71 - 72 طبع باريس.

(2)

الفهرست طبع مصر ص 458، 474.

(3)

الشهرستاني 2: 88.

(4)

الفهرست ص 474 والشهرستانى 2: 88.

(5)

أورسيل: 74.

(6)

الشهرستاني 2: 81.

(7)

الشهرستاني 2: 83 وما بعدها.

ص: 2582

والحرب بين النور والظلمة وأعوان كل منهما، ثم ما كان من خلق آدم وحواء وسائر العالم (1).

(د) وكان بعد هذا المزدكية أتباع مردك الذي ظهر أيام "قباذ" ملك الفرس والد "أنوشروان" المشهور بالعادل، وكان من أمره أن ادعى النبوة، ونهى عن الخلاف والتباغض والقتال، وأظهر الإباحة حتى في النساء، فكانت عاقبته أن قتله الملك هو وأتباعه (2).

ومع أن المزدكية كانوا يرون ما يراه المانوية من الكونين والأصلين، كما يحكى لنا أبو عيسى الوراق، إلَّا أنهم كانوا يفرقون بين النور والظلمة في صفاتهما وفيما يكون منهما من أفعال. كانوا يذهبون إلى أن النور عالم حساس، والظلام جاهل أعمى، وأن النور يفعل عن قصد واختيار، بينما الظلام يفعل بالصدفة والاتفاق. وأما امتزاج الخير بالشر فقد كان مصادفة واتفاقا. كما يكون الخلاص كذلك أيضًا مصادفة واتفاقًا من غير اختيار (3).

(هـ) أما المرقونية فهي إحدى الفرق التي تنتظمها الثنوية في رأى الرازي (4).

وهي فرقة نصرانية رأت أن تخلط بين الثنوية والمسيحية بالأخذ من هذه وتلك؛ إذ أداها النظر والتفكير إلى أن النور والظلمة - وهما أساس العقيدة عندهم - متنافران متضادان، فكيف اجتمعا وكان من اجتماعهما العالم؟ إنهما إذًا لا يجتمعان إلَّا بجامع يكون وسطًا بينهما، لذلك أضافوا إلى هذين الأصلين أصلًا ثالثًا دعوه "المعدل" وجعلوه سبب المزاج، ووضعوه في منزلة فوق النور وتحت الظلمة. وهذا الكون الثالث المتوسط هو الحياة أو عيسى على رأى فريق منهم، أو أن عيسى كان رسوله على رأى فريق آخر (5).

(و) ثم كان بعد هؤلاء جميعًا الباطنية التي يرى أبو منصور البغدادي أن القائلين بها كانوا أعظم ضررًا على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وسائر ملل الكفر على اختلافها، وأنهم من الأصناف التي لا يقبل منها إلَّا الإسلام أو السيف (6).

(1) الفهرست ص 459 وما بعدها.

(2)

الرازي ص 89.

(3)

الشهرستانى جـ 2، ص 86.

(4)

اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 89.

(5)

الفهرست ص 474 - 475، والشهرستانى 2:89.

(6)

الفرق بين الفرق طبع مصر ص 265، وأصول الدين ص 323.

ص: 2583

ويحكى الذين عنوا بأصحاب المقالات من أرباب الملل والنحل أن أرباب هذه النحلة كانوا في الأصل مجوسًا وثنوية، ثم تستروا بالإسلام ليميلوا بالأغمار والضعفة عن دينهم الذي ارتضى الله لهم، ومهدوا لهذا بتأويل نصوص الدين وشرائعه لتضعف الثقة به ويسهل التحول عنه، وإن كانوا في باطن الأمر ينكرون الرسل والشرائع كلها. وقد ظهروا بدعوتهم في صدر الدولة العباسية، وكان من دعاتها الأولين ميمون بن ديصان الذي عرف بالقَدّاح، وكان - على ما يروون - مجوسيًا من سبى الأهواز، وحمدان قرمط وكان من الصابئة الحرانية (1):

وفي الحق، أن الصلة بين الباطنية والثنوية وثيقة العرى؛ هؤلاء يرجعون العالم إلى مبدأين قديمين، هما إله الخير وإله الشر أو النور والظلمة أو يزدان وأهرمن؟ وأولئك يذهبون إلى أن الله خلق النفس، فصار هو الأول وهي الثاني، وإليهما معًا يرجع خلق هذا العالم وتدبيره؛ أي أن كلا من هاتين الطائفتين الضالتين قال بصانعين قديمين وكل ما بينهما من اختلاف هو في التسمية والتعبير فحسب (2).

(ز) بقى من هذه الفرق التي قالت بالاثنين والتي أردنا تجليتها، الفرقة الحائطية التي تنسب إلى زعيمها أحمد بن حائط -أو ابن خابط على الخلاف في تسمية أبيه - الذي مات في عهد الواثق بالله العباس، وقد كان اعتزم قتله لما تبين له إلحاده.

كان رأس هذه الفرقة معتزليًا، ثم ضل ضلالًا بعيدًا خرج به عن الإسلام؛ فقال بخالقين: أحدهما قديم وهو الله، والآخر مخلوق وهو كلمته أي عيسى ابن الله بالتبنى لا بالولادة. ومن العجب الداعى إلى السخرية أنه جعل لهذا المخلوق - وهو الأصل الثاني الحادث في رأيه - خلق العالم وحساب الناس يوم الدين، أي أنه جعله مخلوقًا وخالقًا

(1) الفرق بين الفرق: 266 وما بعدها، وأصول الدين:323.

(2)

الفرق بين الفرق ص 2699 - 270، والتبصير للإسفرايينى طبع مصر بتحقيق الشيخ الكوثرى ص 85.

ص: 2584

معًا! (1) وكأن ابن حزم أراد توضيح فكرته، فذكر أن الأصل الثاني المحدث هو كلمة الله المسيح التي بها خلق الله العالم (2).

ومهما يكن من فكرته وتفسيرها فإن البغدادي كان محقًا حين أنكر أن هذا الرجل شارك الثنوية والمجوس في القول بخالقين، وأنه لهذا لا يمكن أن يعد فرقة من فرق الإسلام، كما لا يعد النصارى من الفرق الإسلامية (3).

ثانيًا - ونحب هنا أن نلاحظ أنه قد تبين مما تقدم:

1 -

أنه غير صحيح ما ذكره بعض المستشرقين R. Strothmann من أن البغدادي أخطأ في عبد المرقونية من الثنوية مخالفًا بذلك غيره من مصنفى النحل، فقد رأينا أن ابن النديم والشهرستانى والرازى معه فيما ذكره.

2 -

وأن المراد بالصانعين اللذين قال بهما الباطينة يتضح تمامًا إذا رجع الباحث إلى البغدادي في الفَرق بين الفِرق والإسفرايينى في التبصير، وأن هذين الصانعين هما الله والنفس التي خلقها الله وأشركها معه - على ما قال الباطنية - في الخلق والتدبير.

3 -

كما يتبين أخيرًا أن البغدادي لم يتعسف - حسبما يقول هذا المستشرق - في تأكيده الطابع المجوسى الوثنى في النحلة الباطنية؛ فقد شاركه في ذلك غيره من مؤرخى أرباب الملل والنحل والأهواء المختلفة، وكل ما بين الباطنية والثنوية من فرق في هذه الناحية هو -كما ذكرنا من قبل- الاختلاف في التسمية والتعبير فحسب.

ثالثًا - هذا، وقد أشار هذا إلى ابتلاء المسلمين بالثنوية التي أسرها كثير ممن دخل من فارس في الإسلام كابن المقفع وأمثاله، وهذا حق. لقد ذاعت هذه النحلة بين طائفة من الذين تظاهروا بالإسلام ولم يخالط قلوبهم، ونستطيع أن نذكر لذلك مثلًا عدة مستقين من المراجع الأصلية التي بين أيدينا.

(1) الانتصار للخياط المعتزلى ص 148، والفرق بين الفرق ص 260.

(2)

الفصل 4: 197 - 198.

(3)

الفرق بين الفرق ص 261.

ص: 2585

من هؤلاء أبو حفص الحداد وابن ذر الصيرفى وأبو عيسى الوراق؛ فقد كانوا من القائلين بقدم الاثنين (1)، وبذلك اتفقوا مع الثنوية في أساسهم الميتافيزيقى، لا في تحريم القتل فقط كما جاء بالمادة.

ومنهم -كما يذكر ابن النديم- ابن طالوت وأبو شاكر وصالح بن عبد القدوس من المتكلمين، وبشار بن برد وسَلْم الخاسر من الشعراء، وأبو يحيى الرئيس وأبو على سعيد وأبو على رجاء يزدانبخت من رؤسائهم في المذهب في الدولة العباسية (2).

وربما كان منهم -كما ذكر الرازي- ناصر خسرو الشاعر وأتباعه الكثيرون الذين ضلوا بسببه، فقد كانت فرقته من الفرق التي تتظاهر بالإسلام وليست منه (3). وإذًا فنزعة التوحيد التي عرف بها لا تمنع من أن يكون في حقيقته ثنويًا، ولا تمنع من وسمه بالثنوية كما جاء بالمادة!

وقد أشار الكاتب إلى أن بعض تلاميذ النّظّام كانوا يدعون إلى ثنوية صريحة. ونستطيع أن نذكر أن من هؤلاء التلاميذ، الذين عرفوا بالثنوية فتبرأت منهم المعتزلة، ابن حائط -أو خابط - وقد تقدم الحديث عنه، وفضل الحذاء على ما ذكر الخياط (4) أو فضل الحدتى على ما جاء عن البغدادي (5) والإسفرايينى (6) أو فضل الحربى على ما ذكر ابن حزم (7).

رابعًا - ولعل من الخير، ، أن نقول كلمة الحق في أمور أو مسائل ثلاث ذكرها الكاتب، وهي:

(1)

القول بكلمة الله وأنها المسيح لا يفسد التوحيد إفسادًا تامًّا.

(2)

ما نسبه إلى بعضهم من تفسير آية "الزخرف" ظاهر فساده وبطلانه.

(3)

الرأى الذي نسبه إلى الغزالى في علم الكلام، من أن هذا العلم

(1) الانتصار: 150، 152.

(2)

الفهرست: 473.

(3)

اعتقادات فرق المسلمين والمشركين 78.

(4)

الانتصار: 152.

(5)

الفرق بين الفرق: 260.

(6)

التبصر: 82، وفي هامش هذه الصفحة ملاحظة رقم 3 للمحقق الشيخ الكوثرى، أنه الحديثى نسبة إلى بلدة الحديثة على الفرات.

(7)

الفصل 4: 197.

ص: 2586

متناقض يتذبذب بين التوحيد والكفر الصريح!

1 -

لا ندرى كيف لا يكون الذهاب إلى أن كلمة الله هي عين المسيح إفسادًا تامًّا للتوحيد، مع ما ينسب أصحاب هذه العقيدة للمسيح من الخلق والتدبير، ومع ما ذكره الكاتب نفسه في سبيل التعليل لما يقول من أنه ليس إلَّا خالقًا مخلوقًا وواسطة! أليس في ذلك نقض للتوحيد الذي من معناه وحدة الله في خلق العالم وتدبيره من غير حاجة إلى شريك وإن كان المسيح الذي هو كلمته وروح منه!

2 -

أما التفسير الذي عزاه إلى أحد غلاة الشيعة، وهو البيان بن سمعان التميمى، لقوله تعالى في سورة الزخرف الآية الرابعة والثمانون:"وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" من أن المراد بهذه الآية إثبات إلهين أحدهما للسماء والآخر للأرض، هذا التفسير باطل بشهادة التركيب اللغوي والقرآن والسنة وأصول الدين الذي أساسه التوحيد! ويكفى الرجوع إلى أي مرجع من كتب التفسير المعتبرة، كتفسير أبي المسعود مثلًا، ليظهر المراد بهذه الآية.

تناول أبو السعود هذه الآية في الزخرف وأحال في تفسيرها إلى ما ذكره في سورة الأنعام في آية 3 "وهو الله في السموات وفي الأرض". ومن هذين الموضعين يتبين الباحث أن المراد: وهو الله المعبود بحق في السموات والأرض، وهو المالك المدبر فيهما (1). وكيف، والآيتان تقولان "وهو" أي هو وحده، ولا أحد معه في شيء من هذا كله!

3 -

أما ما نسبه الكاتب أخيرًا إلى الغزالى خاصًّا بعلم الكلام، فلم أعثر عليه فيما لدى من مؤلفات الغزالى وهي عديدة ومعروفة، ومع هذا فالأمر في حاجة إلى تمحيص لخطورة ما حكاه عن حجة الإسلام. لقد جاء في المادة "ويؤكد الغزالى توكيدًا جازمًا أن علم الكلام لا يبت في المسائل، فهو متناقض بتذبذب بين التوحيد والكفر الصريح

" فأين المرجع الذي نجد فيه هذا التوكيد للغزالى؟ .

الحق أن الذي نجده له فيما يختص

(1) تفسير أبي السعود 2: 120 - 121 طبع القاهرة عام 1938 م.

ص: 2587