الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو على الجبائى وأبو هاشم ابنه
للمعتزلة أصول خمسة لا يستحق في رأيهم أن يوصف بالإعتزال من لم يقل بها جميعها، وهي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمن كملت فيه هذه الخصال كان معتزليًا (1) "إلا أنهم بعد الاتفاق على هذه الأصول اختلفوا في كثير من التفاصيل والفروع المتعلقة بها اختلافا يسير، أو كبير، ، فكان من هذا أن افترقوا إلى اثنتين وعشرين فرقة، كلها تستحق الوصف بالإسلام إلا اثنتين هما الحائطية والحمارية، وكلها يكفر بعضها بعضا كما يذكر الإمام أبو منصور البغدادي (2). وإذا كان بعض الفرق قد ضل، كابن حائط راس الحائطية الذي مال عن الإسلام فنفاه المعتزلة عنهم حتى لا تصيبهم معرته (3)، فإنه مع هذا ليس من السهل أن نؤمن بأن كل الفرق يكفر بعضها بعضًا.
ومهما يكن، فإن من تك الفرق العشرين الفرقتين الجبائية والبهشمية، الأولى تنسب إلى أبي على الجبائى، والثانية إلى أبي هاشم ابنه، وهذه تعرف أيضًا بالذمية للقول باستحقاق المرء الذم والعقاب على مالم يفعل كما سيجئ بيانه، لا استنكار، لهم كما جاء بالمادة.
وقد كان الجبائى إمامًا في علم الكلام، وعنه أخذ إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعرى، وله معه المناظرة المشهورة في مسألة الإخوة الثلاثة الذين مات أحدهم طفاو، وأنسا الله في أجل الآخرين فمات واحد منهما مؤمنًا تقيا والآخر كافرًا، شقيًا، فماذا يكون شأنهم مع الده تعالى؛ وفيها أن الجبائى لما انقطع عن الإجابة وأحيط به شتم تلميذه وقال له: إنك مجنون، فقال له الأشعرى: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة (4). وكان بعد هذا ما نعرف من أن الأشعرى هدى إلى طريق الحق، وصار إمام أهل السنة والجماعة.
(1) الانتصار للخياط المعتزلى، نشر الدكتور نيبرج ص 126 ومقالات الإسلاميين للاشعرى، نشر ريتر، ص 278.
(2)
الفرق بين الفرق ص 18.
(3)
الانتصار ص 149.
(4)
ابن خلكان، طبع بولاق بمصر، ج 1، ص 685 - 686.
وقد تزعم كل من الجبائى وابنه معتزلة البصرة في عهده، وعمل على نشر مذهب أبي هاشم أبو القاسم الصاحب ابن عباد أحد المتشيعين له والمتوفى عام 385 هـ. ولعل من الطريف أن نذكر أنه كان لأبي هاشم هذا ولد عامي لا يعرف شيئًا، فدخل يوما على الصاحب فأكرمه رعاية لحق والده ولما ظنه فيه من العلم، ثم سأله عن مسألة فقال: لا أعرف ولا أعرف فصف العلم. فعجب الصاحب من اختلاف حظ الأب والابن من المعرفة، وقال: صدقت يا ولدى، إلا أن أبالىُ تقدم بالنصف الآخر (1).
والباحث لآراء الفرق الكلامية في مظانها يتبين له أن الجبائى وابنه اتفقا مع المعتزلة في الأصول التي قالوا بها، وانفردا عنهم بآراء خاصة بهما، كما اختلف كل منهما عن الآخر في بعض ما ذهب إليه في مسائل غير قليلة، ولكل وجهة هو موليها.
فمن الآراء التي توافقا فيها أن السبيل لإفناء العالم حين يريد الله أن يخلق "فناء" لا في محل، فيفنى به جميع الأجسام، ومن ثم لا يصح في قدرة الله تعالى أن يفنى البعض دون البعض وان كان لم يخلق الجميع مرة واحدة! وبعبارة أخرى، إن في قدرة الله أن يفنى العالم متى شاء مرة واحدة، وليس في قدرته أن يفنى بعضه ويبقى على سائره (2).
واتفقا كذلك على أن الله ما دام لم يخلق الناس عبثًا ولم يتركهم سدى، بل طلب منهم فعل الحسن والواجب واجتناب الإثم والقبيح، مع ما ركبه في خلقتهم وركزه في طبائعهم من الشهوات والميل لإرضائها ولو بفعل القبيح، فيجب إذًا عليه تعالى إكمال عقولهم ونصب الأدلة لهم وأن يمدهم بما يستجيبون به لتكاليفه (3). ونعتقد أن الده تفضل وفعل لخلقه كل هذا؛ فقد هدانا للحق بما جعل فينا من عقل، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس عليه بعد هذا وذاك حجة،
(1) ابن خلكان ج 1 ص 414.
(2)
الملل والنحل للشهرستاني، طبع الخانجي، ج 1، ص 98. والفرق بين الفرق ص 168 - 169.
(3)
الملل والنحل ج 1 ص 106 - 107.
ولكنه من سوء الأدب أن يقال يجب على الله!
كما اتفقا أيضًا فيما جعله المتكلمون "مسألة اللطف". فقد ذهب بشر بن المعتمر رأس الفرقة البشرية إلى أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا بان يخلق فيمن يعلم أنه لا يؤمن "لطفا" فيؤمن طوعا (1)، وخالفه سائر المعتزلة في هذا ذاهبين إلى أنه لو كان عند الله هذا اللطف ثم لم يفعله بالكفار لم يكن مريدًا لخيرهم (2). وذهب الجبائى وابنه إلى أن الله فعل بعباده ما هو أصلح لهم في دينهم، ولو كان في معلوم الله شيء يؤمن به الكفار لو فعله بهم ثم لم يفعله لكان مريدًا لفسادهم، وإذا فلم يدخر الله عن خلقه شيئًا يكون سببا للطاعة والتوبة من الصلاح والأصلح واللطف، لأنه حكيم وجواد لا تنقص خزائنه بالإعطاء (3).
ومن الممكن بعد هذا أن نذكر بعض ما اختلف فيه الوالد وولده، وأهمه مسألة الصفات.
من المعلوم لمن درس علم الكلام أن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الله تعالى حي بحياة، وقادر بقدرة وعالم بعلم، ومريد بإرادة، وسامع بسمع، وباصر ببصر، ومتكلم بكلام ليس من جنس ما نعهد من أصوات وحروف. وهذه الصفات أجمعوا كذلك على أنها أزلية، وليست عين الذات ولا غيرها. والمعتزلة ذهبوا، فرارًا من القول بتعدد القدماء، إلى نفى جميع الصفات الأزلية، وقالوا إنه عالم بذاته وقادر بذاته وهكذا. ولقريب من هذا أو بمثله ذهب الجبائى، حين قال إن الله عالم وقادر وحى لذاته، أي لا يقتضي الأمر صفة أو حالًا يوجب كونه عالمًا وقادرًا وحيًا (4).
ورأى أبو هاشم وجاهة ما ألزم به أبوه من أن قوله يئول إلى جعل نفس الله علما وقدرة مثلًا لأن حقيقة العلم ما
(1) الفرق بين الفرق ص 141 ومقالات الإسلاميين ص 246.
(2)
نفسه ص 574.
(3)
الملل والنحل ج 1، ص 100 - 101 والمقالات 247 - 248.
(4)
الملل والنحل ج 1 ص 101، وأصول الدين للبغدادى طبع إسلامبول عام 1928، ص 92.
به يعلم العالم وحقيقة القدرة ما به يقدر القادر، وما دام الجبائى قد جعل الله عالما لنفسه أو لذاته -وقادرًا كذلك- يكون نفس الله علما وقدرة! لهذا ذهب أبو هاشم مذهبا آخر، وحاول به أن يكون وسطا بين مثبتى الصفات وبين منكريها، فقال إن الله عالم أي ذو حال- وراء كونه ذاتًا - به يعلم، وهو قادر لكونه على حال به يكون قادرًا. وهذه الأحوال صفات لا يقول عنها إنها معلومة أو مجهولة ولا موجودة أو معدومة ولا قديمة أو حادثة، وتتعدد بتعدد المعلومات والمقدورات والمسموعات والمبصرات ونحوها. أي أن الله يعلم هذا المعلوم بحال غير الذي يعلم به المعلوم الآخر، فتكون أحواله لا نهاية لها إذ لا نهاية لمعلوماته ومقدوراته ونحوها. وهذا المذهب يرى فيه البغدادي في كتابه "أصول الدين" أنه مذهب لا يعقله صاحبه عن نفسه، فكيف يناظر في تصحيحه.
واختلفا أيضًا في معنى كون الله سمعيا بصيرًا فقال الجبائى الأب إن معنى هذا أن الله حي لا افة به، وذهب الابن -زيادة على هذا- إلى رأيه في الأحوال كما عرفنا. ورأى الأب أن يقال لم يزل الله سمعيًا بصيرًا، ولا يقال لم يزل سامعا مبصرًا، إذ زعم التفرقة بين سامع وسميع ومبصر وبصير، هذه التفرقة هي أن الوصف بسامع ونحوه يقتضي وجود مسموع ولا كذلك سميع، ولما لم تكن المسموعات موجودة أزلًا كان الله - تعالى عما يقولون- في الأزل سميعا لا سامعًا وبصيرًا لا مبصرًا (1). وفي هذه التفرقة التي لا أساس لها يقول البغدادي في كتابه "أصول الدين":"ولا يُدرى من أين أخذ فرقه بين السامع والسميع! وهل أخذه من لغة العرب أو العجم، أو من لغة شيطانه الذي أغواه".
بقى أن نشير إلى ما ذهب إليه أبو هاشم من الشدة في الوعيد. لقد رأى أن المرء يستحق الذم والعقاب على
(1) مقالات الإسلاميين ص 175 - 176، 294، 526، 527 وأصول الدين ص 97.