المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(3)«دِرَاسَات في الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ»

- ‌المقدمة

- ‌الله موجود

- ‌الأحكام العادلَة

- ‌كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسُّنة

- ‌الحديث الصّحيح حجة في الدين

- ‌الشهادة وأثرها فى الحقوق

- ‌الذّرائع: سدُّها وفتحها

- ‌مراعاة العرف

- ‌حكمة الإِسلام في العزائم والرُّخص

- ‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

- ‌الكبيرة والصغيرة

- ‌الذّوق، وفي أيّ حال يُعتدُّ به

- ‌النَّذر

- ‌المتُعَة

- ‌استحضار الأرواح

- ‌حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة

- ‌العَدْوى والطِّيَرَة

- ‌الزّكاة وأثرها في نهوض الأمّةِ

- ‌الغيبة وأثرها في النّفوسِ

- ‌حقوق الزّوجيّة

- ‌صلاة الجماعة وأثرها في اتّحاد الأمّة

- ‌الدعوة القائمة على حق ّ

- ‌فَساحَة الصَّدْر ونزاهةُ اللسان عن المكروه

- ‌مكافحة المظالم موجبة للسّلام

- ‌ما يلاقيه العلماء من المكاره

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء

- ‌المال المباح في الإسلام

- ‌الطلاق في الإسلام

- ‌تعدد الزوجات في الإسلام

- ‌النظافة في الإسلام

- ‌العلوم في دائرة الإيمان

- ‌الرفق بالضعفاء

- ‌الأدباء العلماء

- ‌زينة الإنسان حسن السَّمت

- ‌المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده

- ‌ملاحظات على مقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه

- ‌تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه

- ‌نزول القرآن في رمضان

- ‌صلاة التراويح

- ‌رجم الزاني المحصن وشرعيته

- ‌بحث لفظي في آيتي السرقة والزنا

- ‌عاشوراء

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌ترجمة القرآن

الفصل: ‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

(1)

جعل الله حال الإنسان في الحياة يقظة أو نوماً، فيكون في اليقظة تحت سلطان العقل، فيدرك الحقائق با لأدلة المنطقية، والروايات الثابتة، ويكون في حال النوم تحت تصرف الخيال أو الإلهام.

وقد خاض العلماء في حقيقة الرؤيا، ويكفينا أن نقول: هي اعتقادات في قلب النائم بانتظام أو غير انتظام.

والشريعة تعرضت لأقسام المرئي والحلم، فالمرئي تارة يكون صوراً خيالية تتقلب في اختلاف وتناقض وتسلسل في غير ملاءمة، وهذه تسمى: أضغاث أحلام، وتارة تكون منتظمة تنبه على حسن ما وقع أو قبحه، أو تنبه على حسن ما سيقع في المستقبل أو قبحه، وهو الأكثر في المرائي.

ويدخل في المتخيل ما تتحدث به النفس في اليقظة، فترى في النوم ما يتعلق به.

ويدخل فيه تهاويل الشيطان وتخاويفه، وعلامته: أن يعرض على أدلة الشريعة، فتنهى عنه إن أمر الشيطان لإتيانه، أو تأمر به إن نهى عن إتيانه، وهذا الضرب لا يعرف بالعقل إلا من جهة الدليل القاطع الذي قام على صدق الشرع

(1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الأول من السنة الثامنة.

ص: 52

فيما يقوله، والعقل لا يستطيع أن ينفيه بالأدلة المنطقية.

ومرائي الأنبياء إلهام من الله بلا شك، ولهذا تثبت بها الأحكام الشرعية، كما قصَّ الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: أنه قال لابنه الذبيح: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

فقول الذبيح: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} دليل على أن إبراهيم أمر في المنام بذبح ابنه، وأراد تنفيذه، وهو من أشد ما شرع من الأحكام، وقوله:{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} لا يقصد به تخييره، وإنما يقصد به ظهور عقله وثباته وحسن طاعته لله بقوله:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}

والإِسلام، كان جعل الرؤيا الصالحة جزءاً من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، لم يجعلها مستنداً لأحكام الشريعة.

فغير الأنبياء لا يثبت برؤياهم حكم شرعي، فقد يخطئ في الضبط والتأويل.

وهذا أبو بكر الصديق، على صفاء سريرته، واستنارة بصيرته، قد أخطأ في التأويل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً"(1).

(1) الحديث رواه البخاري، ونصه: أن ابن عباس رضي الله عنه -كان يحدث: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر، والمقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع، ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت، والله لتدعني فأعبرها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اعبر". قال: أما الظلة، فالإِسلام، وأما =

ص: 53

وسئل الإمام مالك رضي الله عنه: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال أبالنبوة يُلعب؟!

وإنما يستأنس بها في البشارة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح:"لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، وفي رواية:"يراها المسلم، وترى له".

وتكون للإنذار، وهي المشتملة على ما يتألم منه، ولو عرض على الدلائل الشرعية، لكرهته، وأمرت باجتنابه؛ كمصاحبة الفاسق، والاقتران بامرأة غير صالحة.

وتكون لاطمئنان النفس عما يقع في المستقبل من المصائب؛ كما ورد في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في رؤياي أني هززت سيفاً، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحُد، وهززته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين".

وتجيء الرؤيا لحكمة الانتصار على الأعداء كما قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43].

وإيضاح هذا أن الله جعل أول محارب للمسلمين كفار قريش، وقريش

= الذي ينطف من العسل والسمن، فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له، فيعلو به.

فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطات؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً". قال: فوالله! لتحدثني بالذي أخطات، قال:"لا تقسم".

- معنى ظلة: سحابة. تنطف: تقطر. يتكففون: يأخذون بكفهم. السبب: الحبل.

ص: 54

ممن اشتهر بالنخوة والبسالة في الحرب، والذي فهمناه من سنة الله أن ينصر أولياءه على أعدائهم بالطرق المعروفة في القتال، حتى يظهر للملأ أن أولياءه انتصروا بالشجاعة والاستخفاف بالموت في سبيل الدعوة إلى الحق، ومن المعروف أن تتغلب الفئة القليلة على الفئة الكثيرة إذا كانت الفئة القليلة أوفى شجاعة، وأقوى صبراً على الشدائد، والفئة القليلة تغلب الكثيرة على حسب ضعف الفئة الكثيرة، فقد يقتضي حال المئة من الفئة الكثيرة أن يغلبها أربعون أو ثلاثون من الفئة القليلة، كما قال الشاعر:

وإن ابن باديس لأكبر حازم

ولكن لعمري ما لديه رجال

ثلاثة آلاف لنا غلبت له

ثلاثين ألفاً إن ذا لمحال

ومن عرف قريشاً، وحرصهم على أن يكونوا هم الغالبين، فلا بد أن يبذلوا شجاعتهم وكل ما يملكون من صبر في قتال المسلمين، وغير معقول عادة أن يغلب المئة منهم الأربعون أو الخمسون من فئة أخرى تكون ظالمة مثلهم.

ولما كان المؤمنون يحاربون قريشاً الذين عرفوا بالنخوة والإقدام في الحروب، والحرص على أن يكونوا الغالبين لمن دعاهم إلى دين غير دينهم، فشأنهم أن لا تتغلب عليهم الفئة القليلة إلا أن يؤيدهم الله بروح من عنده، فأراهم في النوم جيش العدو قليلًا حتى ينشطوا للقائه، ولا تتفرق آراؤهم، فقال تعالى:{وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43]،

وأراهم جيش العدو مثليهم عند اللقاء؛ ليحرصوا على قتاله، ولا يعودوا إلى الهزيمة بعد لقائه، ويبذلوا ما استطاعوا من الشجاعة في غلبه، وما هو إلا أن الله جعل أنظارهم تخطئ في تقدير جيش العدو، وجعل أنظار العدو تخطئ

ص: 55

في تقدير جيش المؤمنين؛ لينتصر أولياء الله على أعدائه، فالخطأ في التقدير واقع في الأنظار، وقد شاءه الله، كما يقع الخطأ في تقدير أشياء أخرى.

وإضافة تخطئه الأنظار إلى الله؛ لأنه أتى بفائدة عظيمة هي: اتحادهم عند العزم على القتال، واستمرارهم عليه عند الالتحام.

فالرؤيا قد تكون صريحة؛ كقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102].

أو قريياً من الصريح؛ كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورة عائشة رضي الله عنها في سَرَقَة (قطعة) من حرير، وقال: (أُريتك في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة، فيقول: هذه امرأتك، فأكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله، يُمضِمه".

وقد تكون - وهي أكثر- محتاجة إلى تأويل، كرؤيا العزيز، وقوله للملأ:{أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43].

وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].

وقد تصدق الرؤيا من كافر؛ كرؤيا العزيز، ورؤيا صاحبي السجن التي أوّلها يوسف عليه السلام، ووقعت كما أولها. وصدق هذه الرؤيا كان لمصلحة هي خروج يوسف عليه السلام من السجن، وتوليه إدارة شؤون المال التي كان فيها صلاح بيت المال ونظامه.

وتصدق الرؤيا عاجلاً كما يقع في كثير من المرائي، وقد تصدق آجلاً؛ كرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليها بقوله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].

ص: 56

فإنها وقعت في السنة المقبلة من الرؤيا، وكرؤيا يوسف عليه السلام المشار إليها بقوله تعالى:{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].

وقد تاأولها يوسف عندما خرَّ له أبواه سجّداً، فقال:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100].

وكان ذلك بعد رؤيته بسنين.

وقد نهى الإسلام عن الكذب في المنام، وعدَّه النبي من أكذب الكذب، فقال كما جاء في الصحيح:"من أفرى الفرى أن يُرِي عينيه ما لم تر"، وفي الصحيح أيضأ:"من تحلَّم بحلم لم يره، كلّف أن يعقد بين شعرتين، ولن يفعل".

والرؤيا الصادقة إن كانت واضحة، أو أوِّلت تأويلاً صادقا، من قبيل معرفة بعض ما في الغيب، ولم يجعل الإسلام الاطلاع على الغيب طريقاً من طرق إثبات الأحكام، ومن هذا قال النبي:"إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع"، وقال الأصوليون: الإلهام ليس بحجة.

وجاء في الصحيح: أن الإنسان قد يرى في النوم ما يكدره، وذكر آداباً إذا قام بها، لا يضره بشيء؛ كالاستعاذة من الشيطان الرجيم، وأن لا يقصها على أحد.

فالرؤيا الصادقة وتأويلها قد اعترفت بها الأديان السماوية، بل قال بها غير المتدينين أيضاً، وأتى الإسلام فأقرها، ووكل أمرها إلى عارف بتأويلها إن كان في حاجة تأويل.

ص: 57

وبعض المؤمنين بها يسرفون في حكاية ما يرونه في النوم، سواء كان منتظماً، أو غير منتظم؛ كما يسرف بعض الناس فيعبر كل ما يحكى له من المرائي على ما يسر الرائي؛ مخافة أن يصفه بالجهل.

ويقابل هذا من ينكر الرؤيا جملة، ويعدها من أضغاث الأحلام، فلا ينبغي الالتفات إليها؛ فكلا الرجلين مسرف في اعتقاده، والمحق من يقول بأصل الرؤيا.

ويبقى الاعتقاد بصدق الرائي وتأويل ما يراه عائداً إلى الثقة وحسن الظن.

ص: 58