المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الرفق بالضعفاء (1) من أدب الإنسان وسمو أخلاقه: أن يرفق بالناس - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(3)«دِرَاسَات في الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ»

- ‌المقدمة

- ‌الله موجود

- ‌الأحكام العادلَة

- ‌كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسُّنة

- ‌الحديث الصّحيح حجة في الدين

- ‌الشهادة وأثرها فى الحقوق

- ‌الذّرائع: سدُّها وفتحها

- ‌مراعاة العرف

- ‌حكمة الإِسلام في العزائم والرُّخص

- ‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

- ‌الكبيرة والصغيرة

- ‌الذّوق، وفي أيّ حال يُعتدُّ به

- ‌النَّذر

- ‌المتُعَة

- ‌استحضار الأرواح

- ‌حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة

- ‌العَدْوى والطِّيَرَة

- ‌الزّكاة وأثرها في نهوض الأمّةِ

- ‌الغيبة وأثرها في النّفوسِ

- ‌حقوق الزّوجيّة

- ‌صلاة الجماعة وأثرها في اتّحاد الأمّة

- ‌الدعوة القائمة على حق ّ

- ‌فَساحَة الصَّدْر ونزاهةُ اللسان عن المكروه

- ‌مكافحة المظالم موجبة للسّلام

- ‌ما يلاقيه العلماء من المكاره

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء

- ‌المال المباح في الإسلام

- ‌الطلاق في الإسلام

- ‌تعدد الزوجات في الإسلام

- ‌النظافة في الإسلام

- ‌العلوم في دائرة الإيمان

- ‌الرفق بالضعفاء

- ‌الأدباء العلماء

- ‌زينة الإنسان حسن السَّمت

- ‌المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده

- ‌ملاحظات على مقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه

- ‌تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه

- ‌نزول القرآن في رمضان

- ‌صلاة التراويح

- ‌رجم الزاني المحصن وشرعيته

- ‌بحث لفظي في آيتي السرقة والزنا

- ‌عاشوراء

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌ترجمة القرآن

الفصل: ‌ ‌الرفق بالضعفاء (1) من أدب الإنسان وسمو أخلاقه: أن يرفق بالناس

‌الرفق بالضعفاء

(1)

من أدب الإنسان وسمو أخلاقه: أن يرفق بالناس في أقواله وأفعاله. وبالرفق يمتاز عن بقية الأجسام الحية، ولما دعت عائشة رضي الله عنها على اليهودي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السام عليكم - والسام: الموت -، قال لها النبي عليه الصلاة والسلام:"مهلاً يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق في كل شيء".

وأذكر في هذا النسق قوله تعالى:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

فقد دلت الآية على أن الدفع بالحسنى شأنه أن يجعل العدو كأنه ولي حميم. فما بالك بمن ليس في قلبه عداوة، أو في قلبه شيء من الود؛ فإن الحسنى تجعله موالياً، أو أصفى ولاء، وأعظمَ مودة. وبهذا الخلق العظيم فتح المسلمون تلك الممالك الطويلة العريضة في أقرب وقت.

ومن الرفق الذي يحبه الله: اللين في القول، وحسن المعاملة، ويتأكد الرفق إما بالضعفاء في أنفسهم، وهم من ليس لهم مال ولا عصبية ولا جاه. أو بالضعفاء بالنسبة لمن يتولى أمورهم، وتكون كلمته نافذة في تصرفهم؛

(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة العاشرة.

ص: 183

كالمرؤوس بالنسبة إلى الرئيس. أما الصرامة، فمقتضياتها في الأمم المثقفة قليلة، وقلتها بحسب تفاوت الأمم في الثقافة، واستعمالها في موضعها مشعر بأن الرفق بالضعيف صادر من مكارم الأخلاق، لا من ضعف في الطبيعة.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المساكين؛ فيخاطبون بلطيف القول، ويعاملون بالتي هي أحسن، من غير مَنّ ولا استكثار.

قال تعالى:

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].

وكان صلى الله عليه وسلم يحثّ على إخفاء الصدقة؛ كما ذكر في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال:"ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

وأخبرت وأنا في (ألمانيا): أن هناك جمعية خيرية ترسل في البريد إلى المحتاجين المعونة من غير أن يعلموا من أين جاءتهم.

وهذا المعنى وجد في جزيرة العرب قبل ما يزيد على ألف سنة؛ فقد جاء في تاريخ أحد أهل الخير: أنه كان يرصد المعونة إلى المحتاجين من غير أن يعرفوه، ولما مات، وانقطعت عنهم المعونة، عرفوا أنه هو الذي كان يرسل إليهم المعونة.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: الأيتام؛ فقد كان شأن آبائهم أن يقوموا بمآربهم، ولما فقدوهم، فقدوا الحنان الذي كان يسعى بحاجتهم، فأمر الله بالمحافظة على أموالهم إن كان لهم مال، قال تعالى:

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].

وأمر بمخاطبتهم بالرفق، فقال تعالى:

ص: 184

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} [الضحى: 9].

وإطعامهم عند الحاجة، فقال تعالى:

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا} [الإنسان: 8].

ووعد كافل اليتيم بالدرجة العالية في الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح:"أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وأشار بأصبعيه المسبّحة والوسطى.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: الأسير، فإذا أخذ من المعركة، كان في إلانة القول له، ومعاملته في المطعم والملبس كأمثاله من الوطنيين.

وحكى لي الثقة بأن الدكتور (أنصاري الهندي) قال له: لقيت إنجليزياً في لندن أخذه أسيراً لجيش العثماني في واقعة - الدردنيل -، فأخذ يمدح الأتراك بحسن معاملتهم للأسرى، فقلت له: هي أخلاق الإسلام، لا أخلاق الأتراك وحدهم.

وأهديت له كتاباً فيه حقائق إسلامية، فلقيته بعد أيام مسلماً، وقال لي: النور الذي نبحث عنه الآن لقيته، وجد في جزيرة العرب منذ مئات من السنين.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المرؤوس بالنسبة إلى الرئيس الذي يأمره وينهاه، فيخاطبه بلين من القول، ويعامله بالحسنى؛ فيجد من طاعته ما لا يجده إن عامله بغطرسة وجفاء.

وأخبرني أستاذنا القاضي الشيخ (إسماعيل الصفائحي): أن صاحب تونس ولّى شخصاً رئاسة جماعة، فلم يجد منهم من الطاعة ما كان يظنه، فاشتكى إلى الأمير منهم، فقال له الأمير: أنا أعطي نصف الوظيفة فقط، ونصفها الآخر تعطيه أنت لنفسك؛ وهو معاملة المرؤوسين بما يستدعي

ص: 185

ائتلافهم وطاعتهم.

وذكر المؤرخون عن بعض كبار الرؤساء: أنهم يحسنون القول والعمل مع كل من واجههم. فانظر إلى ما كتب في ترجمة الوزير أبي بكر بن عبد العزيز الأندلسي؛ فقد قالوا: إنه كان يبتسم في مواضع القطوب، ويظهر الرضا في مواضع الغضب، ويجتهد ألا يخرج عنه أحد غير راض، وإن لم يستطع الفعل، عوض عنه القول.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: أهل البيت بالنسبة إلى رب البيت، فيخاطبهم باللين من القول، ويؤنسهم بما لا يخل بهيبته.

وانظر إلى ما قصه الله تعالى من موعظة لقمان عليه السلام لابنه - وكلها نصح وحنان -، منها قوله:

{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 17 - 18].

وفي الحديث الصحيح: أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يراجعنه في الكلام، ويتقبل منهن ذلك؛ وكان رجال قريش لا يتقبلون مراجعة الكلام من نسائهم.

وفي الصحيح أيضاً: أن أنس بن مالك قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ، ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟ ".

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: الغرباء، الذين يسمّون في عرف الشارع بأبناء السبيل، فإنهم لا يعرفون العادات الجارية في الناس، ولا يعرف الناس عنهم سوى أخلاقهم أو ثقافتهم، فإن راقتهم، قدروها قدرها، وإن لم ترقهم، ابتعدوا عنهم بقدر ما عرفوه من حالهم.

ص: 186

وروي: أن (أبا عبد الله المقري) كان في مجلس السلطان (أبا عنان)، فدخل نقيب الأشراف، فقام له السلطان ومن معه، ولم يقم له أبو عبد الله المقري، فاشتكى النقيب إلى السلطان، فقال السلطان: هذا وارد علينا، فنتركه على حاله حتى ينصرف.

وأذكر بهذه المناسبة: أني زرت السيد (عبد العزيز محمد) وزير الأوقاف سابقاً في منزله، فلقيت السيد (عزيز عزت) الذي كان سفيراً في "لندن"، وتولى مناصب كبيرة في القاهرة، فقال له السيد عبد العزيز: هذا (محمد الخضر حسين) وهو تونسي، فقال السيد عزيز عزت: الأجانب هم الذين اخترعوا: هذا تونسي، وهذا مصري، وهذا شامي، وربطوا ذلك بالوظائف؛ فالمسلم أينما حل، فذلك وطنه، وقد يكسر هذا القيد في بعض البلاد الإسلامية؛ كمصر، وسورية.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المدينون المعسرون بالنسبة إلى دائنيهم، فيطالبون بالمعروف؛ وينتظرون إلى زمن الميسرة، أو يتجاوز عنهم إن كان في الدائنين فضل.

وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أُتيت بمعسر، فتجاوز عنه؛ لعل الله يتجاوز عنا، فلقي الله، فتجاوز عنه".

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: طلاب العلم بالنسبة لأستاذهم، فيقابلهم بوجه طليق، وقول لين، ويشجعهم على البحث في المسائل.

وكان شيخنا سالم أبو حاجب يحب من الطلبة البحث، ويلاقي السؤال المهم بابتهاج، وبدعو للطالب بالفتح.

ص: 187

كنت يوماً في درسه الجامع البخاري، وقرر الشيخ الفرق بين صبر على كذا، وصبر عن كذا، فقال: صبرت على كذا؛ أي لازمته؛ فيقال: صبر على الطاعة. وصبرت عن كذا؛ أي: تركته؛ فيقال: صبرت عن المعصية؛ أي تركتها؛ فقلت له: قد ترك الشاعر هذا الفرق إذ قال:

والصبر يحمد في الأماكن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

فمقتضى هذا الفرق أن يقول: إلا عنك فإنه مذموم، فاغرورقت عيناه، وظهر على وجهه ابتهاج، ودعا لي بخير، ولم يسعه إلا أن يقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فالشاعر استعمل "على" موضع "عن"؛ كما قال الآخر:

إذا رَضِيتْ عليَّ بنو قشير

لعمرُ الله يعجبني رضاها

فإن رضي يتعدى بحسب الأصل بـ: "عن"؛ كما قال تعالى:

{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].

والمطالبة بالرفق وحب البحث تجري مع كل مدرس أينما كان، ويرفق بالمتعلمين، ويشجعهم على البحث، ويتوقع أن يصيروا رؤساء في بعض الأيام المقبلة، ويسوس الضعفاء بالرفق، والطغاة بالعزم.

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المشتري بالنسبة إلى التاجر، فالمشتري مضطر إلى شراء المتاع الذي يحتاج إليه، والتاجر يتحكم في ثمن المبيع، فالرفق بالمشتري يدعوه إلى أن يذكر الثمن الذي فيه ربح عادل، ولما فسدت أخلاق كثير من التجار، وصاروا يرغبون في الربح الكثير، وقع التسعير فيما يحتاج إليه، وإنما يكون التسعير شرعياً إذا كان الثمن عادلاً، لا يضام فيه التاجر، ولا المشتري.

ص: 188

ومن الضعفاء الذين يتأكد الرفق بهم: المرضى، فيحسن من الطبيب - بعد أن يفحص المريض بجد، ويتحرى الدواء الناجع - أن يخفف عن المصاب بالقول اللين، ويخاطبه خطاب من يرجو له الشفاء، والطبيب الماهر يسره شفاء المرضى على يديه أكثر مما يدخره المترفون في خزائنهم.

حكي: أن الطبيب أبا علي بن جزلة كان يحمل لمن يعرفهم الأشربة والأدوية بغير عوض، ويتفقد الفقراء، ويحسن إليهم.

وأخلاق الأطباء في بلاد الإسلام كريمة، والأمل تأليف رسالة خاصة في أخلاق الأطباء، وحسن خدمتهم للإنسانية. ونحن نعلم يقيناً أن عادات الناس تختلف في نفسها، ولكن الأخلاق الكريمة لا تختلف في نفسها باختلاف المواطن والعصور.

فالضعيف محتاج إلى من يشد أزره بالرفق، والشارع يرغب في أن تكون درجات الضعفاء قريبة من درجات ذوي القوة، وإنما يقربون من ذوي القوة بالرفق والتراحم، وإنفاذُ رغبة الشارع أعلى هدف يرمي إليه الإنسان في هذه الحياة.

والرفق بالضعفاء يدعو الحاكم إلى أن يفكر في الطريق الموصلة له إلى حقهم.

والرفق في القضاء هو الذي حمل بكار بن قتيبة قاضي مصر على وعظ المدعى عليه إذا وجبت عليه يمين، ويتلو عليه قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77].

ص: 189