الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدباء العلماء
(1)
من الناس من يجيد الشعر، ولا يقصد للمباحث العلمية، وهم: الشعراء؛ كأبي تمام، والبحتري، وبشار، وابن هانئ، وغيرهم. وفيهم من يجيد الشعر، ويحرر المباحث العلمية، وهم الأدباء العلماء. وهؤلاء الأدباء العلماء هم الذين نشير إليهم في هذا المقال، فمنهم الإمام الشافعي رضي الله عنه، ومرتبته في العلم والفتوى معروفة، وقد ذكروا في تاريخه: أنه كان يقول الشعر الجيد، وأورد له ابن خلكان في تاريخه شعراً يدل على أنه من الشعراء المجيدين.
وممن يجيد الشعر: القاضي عبد الوهاب المالكي البغدادي، وقد جاء إلى مصر ومرّ بالمعرة فالتقى بأبي العلاء المعري، وقال أبو العلاء في حقه:
المالكي ابن نصر زار في سفر
…
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً
…
وينشر الملك الضِّلِّيل إن شعرا
يريد بالملك الضليل: امرؤ القيس.
ومنهم: منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، فقد كان يقول الشعر الجيد،
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني من السنة الحادية عشرة.
ويحقق النظر فيما يصدر عن غيره من الشعر.
حكي: أنه أتى إلى مجلس أبي جعفر النحاس في مسجد بمصر، فوجده يشرح شعر قيس بن الملوّح (مجنون ليلى)، ومن جملته أبيات قال فيها:
قد اسلمها الباكون إلا حمامة
…
مطوقة باتت وبات قرينها
فقال له منذر: وماذا باتا يفعلان؟ فقال له أبو جعفر: وماذا تقول أنت يا أندلسي؟ فقال له: بانت وبان قرينها، فسكت أبو جعفر.
ومن الأدباء العلماء: يحيى بن يحيى الليثي: كان يقول الشعر المجيد، ويفهم لطائفه؛ فقد حكى في تاريخه: أنه سمع أبياتاً من الشعر، فاستلطفها، وكتبها على ظاهر كفه. قال حاكي القصة: فرأيته يكبر في الصلاة على جنازة، والأبيات على ظاهر كفه.
ومن أدباء العلماء: أبو الوليد الباجي، فقد أخذ علم الشريعة والفلسفة من الشرق، وكان يقول الشعر الجيد.
ومن شعره:
إذا كنت أعلم علم اليقين
…
بأن حياتي جميعاً كساعةْ
فلم لا أكون ضنيناً بها
…
وأصرفها في صلاح وطاعةْ
ومن أدباء العلماء: القاضي أحمد بن محمد الأرّجاني؛ فإنه كان عالماً كبيراً، وشاعراً مطبوعاً، ولذلك قال:
أنا أفقه الشعراء غير مدافع
…
في العصر لا بل أشعر الفقهاء
ومن شعره: قوله في التحريض على الشورى:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
…
فالحق لا يخفى على الاثنين
والمرء مرآة تريه وجهه
…
ويرى قفاه بجمع مرآتين
ومن أدباء العلماء: ابن دقيق العيد، فكان دقيق النظر في لطائف الشعر، وكان معجباً بقصيدة ابن خميس المغربي، يضعها في مجلسه، ويكثر مطالعتها. وكان شيخ شيوخنا المفتي الشيخ إبراهيم الرياحي من أدباء العلماء، يقصد في الفتوى، ويقول الشعر الجيد، أرسله ملك تونس إلى سلطان المغرب، فأنشد بين يدي السلطان قصيدة يقول في مطلعها:
إن عزّ من قبر النبي مزارُ
…
فلنا بزورة نجله استبشار
وهنأه بقصيدة أخرى ضمّن فيها غنيمة وقعت للسلطان من البحر في اليوم الذي بلغ فيه السلطان تفسير قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، ومطلعها:
دلائل فضل الله فينا تُتَرْجِمُ
…
وإن غفلت عنا طوائف نوّم
ومن أدباء العلماء: القاضي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، جدُّ صديقنا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، كان عالماً محققاً، وشاعراً عظيماً، ومن شعره قوله وهو يتكلم على الناقة عندما قصد الأمير الصادق من أمراء تونس:
ولاح لها من كاذب الفجر ما يبدو
فقلت لها: مهلاً وبالصادق ابشري
فقالت: أجل إن الأمير هو القصدُ
وممن لقيت من الأدباء العلماء: شيخنا الشيخ سالم أبو حاجب، فكان يقول الشعر، مع كونه يغوص على المسائل العلمية بفكر ثاقب. سافر مع
الوزير خير الدين التونسي إلى الآستانة، وخاطب السلطان بقصيدة، فأمر السلطان بإعطائه وساماً، وقال له المكلف بإعطاء الأوسمة: هذا وسام براتب، فأبى قبوله، وقال: إن من العيب عندنا أن يحمل العالم وساماً، فلما عاد إلى تونس، قال له ملك تونس: لو قبلتَ الوسام، لغضبت عليك؛ لأني كنت عرضت عليك مثل ذلك، فأبيتَ.
ومن أدباء العلماء: الشيخ المكي بن عزوز، فكان عالماً جليلاً، وأديباً كاملاً.
ومن شعره: قوله في أستاذه حين ختم كتاب "المواقف" دراسة:
إذا عمر بن الشيخ وافى لدرسه رس
…
تعال التقط درّاً بملء جفان
وقال فيه لما تولى الفتوى:
بك جامع الزيتونة السامي غدا
…
في العدّ لا يرضى بغير الخنصر
يريد: أن إصبع الخنصر أول الأصابع في العدّ والحساب.
ومن أدباء العلماء: الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي بمصر، فقد كان عالماً كبيراً، وأديباً بليغاً.
بعد ما قدمنا من الأمثلة لاجتماع العلم والأدب لطائفة من العلماء، يتبين أن الأدب معدود بين العلوم المطلوبة، والصفات المكملة للعالم، وقديماً كان في الناس من غالى في مدح الشعر، فقال:
ولولا خلال سنّها الشعر ما درى
…
بغاةُ العلا من أين تؤتى المكارم
والأدب له أسلوبان: الشعر، والنثر الفني، فكل منهما يستعمل في الهزل والجد، غير أن الهزل على الشعر أغلب، وربما وجد في الشعر من
التذلل والتصاغر ما لا يوجد في النثر الفني؛ كقول بعضهم:
وما أنا إلا عبد نعمتك التي
…
نسبت إليها دون أهلي ومعشري
ولهذا ذم الشعر من قال:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري
…
لكنت اليوم أشعرَ من لَبيد
والبيت ينسب للشافعي.
والحق أنه ليس من طبيعة الشعر أن يزري بالعلماء، ولا أن يكون قبيحاً، وإنما الشاعر هو الذي يهزل، أو يجد، وهو الذي يقبح، ويقول ما يزري أحياناً، ولذلك قال الشاعر:
وأحسن الشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
والأدباء العلماء خدموا الإسلام خدمة لا يستهان بها، وكان بيانهم مترجماً عن تعاليم الإسلام وأحكامه، يقول أبو العلاء المعري في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم:
وحثَّ على تطهير جسم وملبَسٍ
…
وعاقب عن قذف النساء الغوافلِ
وحرّم خمراً خلت ألباب شربها
…
من الطيش ألباب النعام الجوافلِ
فصلى عليه الله ما ذرّ شارق
…
وما فت مسكاً ذكره في المحافل
وقد كان الشعر من جنود الله التي تقاتل في سبيله، وبث دعوته؛ كالذي فعله حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وغيرهما من شعراء الرسول في نصرة الإسلام.
وقد كان أدب العلماء الأدباء يمتاز بصفات تناسب سمعتهم وجدهم، فكان خالصاً للحكمة، والدعوة للفضائل والحق.
ومن خير الأدباء العلماء: القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصوصه"، وحسبك في وصفه والكشف عن أدبه أبياته التي يقول فيها:
يقولون لي: فيك انقباض وإنما
…
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
يقولون: هذامورد، قلت: قد أرى
…
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا
…
محياه بالأطماع حتى تَجَهَّما
ومما يذكر في هذا المقام: فلسفة الشعراء، وفلسفة الحكماء، فالشاعر المتفلسف: هو الذي يغوص في المعاني اللطيفة، والتخيلات البديعة، وفلسفة الحكماء: هي نظريات عقلية ينتجها البحث العلمي. ولذلك لا تعد خطرات الشعراء من علوم الفلسفة. فلا يقال: فلسفة ابن هانئ، ولا فلسفة المتنبي؛ كما يقال: فلسفة أرسطو وأفلاطون.
وخير ما أختم به بيتان لمفتي الموصل الشيخ حبيب الله، وهو من أدباء العلماء، وقد اقترح على بعض أدباء الشام تشطيرهما، وهي مع التشطير:
(سيد الرسل ومن بعثتُه)
…
سطعت فانقلب الليل نهارا
سُلبت أمتك العزَّ وكم
…
(كست الكونَ بهاء وفخارا)
(قم إلى النور الذي جئت به)
…
والورى في غسق الجهل حيارى
تلق نار الغيّ تسطو حوله
…
(أفترضى أن يكون النور نارا؟)