الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء
(1)
جاء الكتاب الحكيم والحديث النبوي بحكم بالغة، وعقائد ثابتة، وأحكام عادلة، ودلائل قاطعة، وقد نظر فيها العلماء اليقظون بإمعان وفكر ثاقب، واستنبطوا منها على طريق الدلالة العربية ما يلائم الزمان والمكان، وأدرك الأمراء الموفقون حكمة الكتاب والحديث، وما استنبطه العلماء منهما بعقول مستنيرة، وقلوب سليمة، فأكرموا العلماء، ولاقوهم بسماحة وصدر واسع، واتفق العلماء والأمراء على إجراء الإصلاح بين طوائف المسلمين، ومن أقام في جوارهم.
وما زال نور الكتاب الكريم يتجلى لكل ذي عقل كبير، ونفس مستبصرة تنشد الحق أينما كان.
وأذكر بهذه المناسبة: أني لقيت مستشرقاً ألمانياً أثناء مقامي في ألمانيا دخل الإسلام لمعاشرته عالماً مسلماً، وصله بالثقافة الإسلامية، ووقفه على شيء من أسرار كتاب الله، وسنة رسوله، فانشرح صدره للإسلام لما آنس من رشده وحكمته، وقد وصف صديقه العالم فقال: ما رأيت عالما مثله قط. وبمثل هذا العالم المستنير اهتدى الناس، واقتدى الحكام والأمراء في مختلف الأعصار، واحتفوا بهم، وبالغوا في إكرامهم.
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة التاسعة.
ومن ذلك: ما رواه المؤرخون في إكرام الخليفة عبد الرحمن الناصر لأبي علي القالي عند وفوده عليه بالأندلس، فقد أمر الخليفة ابنه الحاكم بالخروج إلى ظاهر قرطبة، ومعه وفد من خواصه؛ لتلقيه تكرمةً له، وكما أوفد ابن الأحمر سلطانُ غرناطة وفداً من حاشيته للقاء ابن خلدون حفاوة به.
ومن هذين الخبرين يظهر حرص الأمراء على إكرام العلماء قبل لقائهم لمجرد سماعهم بمنزلتهم في العلم.
وكان الأمراء إذا سافروا، صحبوا العلماء؛ ليتولوا تبيين الأحكام إذا سئل عنها الأمير.
ومن هؤلاء: هارون الرشيد؛ فقد صحب عبد الله بن المبارك في سفر، فلما نزلوا في بعض المنازل، التفث الناس حول ابن المبارك، وقالت جارية لهارون الرشيد: من هذا الذي أحاط الناس به؟ فقال لها: هذا عبد الله بن المبارك عالم خراسان. قالت: هذا واللهِ المُلْك، لا مُلكُ هارون الذي لا يساق الناس إليه إلا بالشُّرط والأعوان.
وروي أيضاً: أن أرخان سلطان تركيا عندما أزمع سفراً، زار شيخ العلماء، وطلب منه أن يرسل معه أحد الشيوخ الذين حوله؛ لأن الناس يسألون السلطان عن الأحكام، وهو لا يعرفها، فيجيبهم الشيخ.
وكان العلماء موضع ثقة الأمراء، وائتمانهم على الأسرار وعظائم الأمور، فكانوا يوفدونهم في السفارة إلى الملوك والأمراء؛ لعلمهم بأحوال الاجتماع، وما ينبغي لهذه المهام من حكمة وحسن تات للأمور، فأوفد ملك غرناطة ابن خلدون إلى ملك إسبانيا، وأوفد ابن الأحمر لسان الدين بن الخطيب إلى أمير مراكش، ويذكرون: أنه أنشد بين يدي الأمير قصيدة أعجبته، فاستجاب
لما أوفد فيه قبل أن يجلس ابن الخطيب، فقيل: لم يظفر أحد بجواب رسالته قبل جلوسه غير ابن الخطيب.
ومن الأمراء من كانوا يحتملون من العلماء شدة موعظتهم وغيرتهم على الدين، وغضبهم للحق: خطب منذر بن سعيد البلوطي عالم قرطبة خطبة الجمعة بحضرة الخليفة الناصر، فعاب من يسرف في البناء وتشييد القصور، وإنفاق أموال المسلمين في زخرفة البناء، حتى تلا قوله تعالى في قوم عاد:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129].
فغضب الناصر، واستاء من تعريض الخطيب به، وشكا ذلك لابنه الحكم، الذي أشار عليه بعزله، فقال الناصر: أمثل المنذر في علمه وتقواه نعزله طاعة لنفس أمارة بالسوء؟! وأبى ذلك.
ويروى: أن ابن بشير قاضي قرطبة تقدم إليه أحد الخصوم، واستشهد بالخليفة الناصر، فقال له القاضي: ائتني بشاهد عدل، وسمع بذلك الخليفة، فسال ابن بشير: لماذا لم تقبل شهادتي؟ فقال ابن بشير: لو طلب مني المدعى عليه الإذن له في تجريحك، لوجب أن آذن له!. فأضاف ابن بشير إلى نزاهته: حسنَ بصره بالسياسة والقضاء.
ويذكر الرواة للشيخ عز الدين بن عبد السلام موقفاً جليلاً في الشام حين أعطى الصالح إسماعيل الملقب بأبي الجيش مدينة صفد للصليبيين، فغضب الشيخ لذلك غضباً شديداً، وترك الدعاء له في خطبة الجمعة، فساء ذلك العمل الملكَ وأحفظه عليه، وخرج العزّ مهاجراً إلى مصر حيث تلقاه
الملك الصالح أيوب ملك مصر بالتكرمة والإعزاز، وولاه قضاء مصر، والخطابة في جامع عمرو.
ومن شواهد رعاية الأمراء للعلماء المعرضين عن مظاهر السلطان: ما كان ليحيى بن يحيى من المنزلة الرفيعة عند أمراء الأندلس، حين كان يمتنع عن ولاية القضاء، ويشير بشيوخ آخرين، فتقبل إشارته، وتنفذ مشورته.
وكان الخلفاء يتقبلون أحكام الشريعة من العلماء برضاً وإذعان، فقد حدّثوا: أن أبا يوسف كان جالساً مع الرشيد، فدخل عليهما يهودي يشتكي من الرشيد، فأعمل أبو يوسف سياسته في التسوية بين الخصمين، فنهض من مكانه بجانب الرشيد، وأمر اليهودي بأن يجلس فيه، وجلس هو أمامهما، وتبين عند نظر الدعوى أن الحق لليهودي، فقضى له، وأنفذ الرشيد حكمه عليه.
وكان الأمراء يولون العلماء القيادة العامة إذا أرسلوا جيشاً للحرب؛ تكريما لهم، فهم على ثقة من إخلاصهم، وحماستهم لحماية الدين، كما كان يحيى بن أكثم في بغداد، ومنذر بن سعيد البلوطي في قرطبة.
وكان الأستاذ أسد بن الفرات تلميذ مالك بن أنس القائد العام للجيش الذي فتح صقلية، وكان يتقدم الجيش مقاتلاً بنفسه حتى قتل شهيداً.
وبعض الأمراء يعجب بالعالم، فيريد أن يحمل الناس على أقواله، فيأبى العالم ذلك؛ إبقاء لحرية القول؛ كما روي عن هارون الرشيد حين التقى بالإمام مالك في المدينة، واطلع على كتاب "الموطا"، أراد أن يحمل الناس على العمل به، فأبى مالك، وأشار إلى أن أقوال المجتهدين في كل مكان حرة، لا يعطلها أولو القوة عن العمل بها ما دامت مستندة إلى اجتهاد بنص شرعي،
أو قاعدة يعتدّ بها.
وصفوة القول: أن الأمراء يعظمون علماء الشريعة، ويقدرونهم حق قدرهم؛ لأنهم يقومون بأجل العلوم، وأفسحها مجالاً، وهي علوم الشريعة التي نزلت من السماء.
فالعلماء المخلصون، والأمراء العادلون هم قواعد الشعب الإسلامي، فإذا اختلفا في جوانب الثقافة، فينبغي للأمراء أن يراعوا حقائق الشريعة وآدابها، وينبغي للعلماء أن يتحروا ما راعته الشريعة في نصوصها وقواعدها من مصالح المسلمين، فبذلك يلتقي العلماء والأمراء على رعاية حقائق الشريعة، ومصالح الجماعة الزمنية، فتنهض الأمة على قدميها، ولا يجد الناقد المنصف موضعاً للنقد، ولو حرص كل الحرص على أن يجد سبيلاً للمؤاخذة والتجريح.