الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراعاة العرف
(1)
العرف - وأريد منه: العادة - هو: ما غلب على الناس من قول وفعل وترك.
والشريعة جاءت بإبطال العرف الفاسد.
فمما أبطلت من عرف فاسد: قول الجاهلية للمتزوج: بالرفاء والبنين.
ووجه فساده: أنه مبني على احتقار البنات وكراهتهن، فأبدلت به الشريعة - كما ورد في الصحيح - قوله صلى الله عليه وسلم للمتزوج:"بارك الله لكم وفيكم وعليكم".
وروى بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم، قال له: وكنا نقول في الجاهلية: بالرفاء والبنين، فلما جاء الإِسلام، علّمنا نبينا، وقال:"قولوا: بارك الله لكم، وبارك فيكم، وبارك عليكم".
ومما أبطلته من عرف فاسد: بيوعهم الفاسدة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر شرّاح الأحاديث وجه فسادها، وهو الغرر والجهالة، وتعاطيهم الربا والميسر، وأكلهم ما ذبح على النصّب، (وهي الأصنام).
ومما جروا عليه في عرفهم الفعلي، وألغاه الشارع: جعلهم في الإبل:
(1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الأول من السنة التاسعة.
بحيرة، وسائبة، ووصيلة، وحاماً.
والبحيرة كما في الصحيح: الناقة التي يُمنع دَرُّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس.
والسائبة: التي يسيّبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء.
والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج لها بأنثى، ثم تثنّي بعدها بأنثى، ويسمونها الوصيلة؛ لأن إحداهما وصلت الأخرى، وليس بينهما ذكر.
والحام: هو فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا انقضى ضرابه، قالوا: قد حمى ظهره، وتركوه لآلهتهم، وأعفوه من الحمل.
وأما ما جرت عادتهم بتركه، وأمر الشارع بفعله؛ لما فيه من المصلحة، فمثل: تركهم القتال ونحوه في الأشهر الحرم، فأحلّه الشرع للمصلحة.
والعرف ثلاثة أقسام:
قسم نهى عنه الشارع، كما ذكرنا في عادات الجاهلية من الربا ونحوه.
وقسم أقره الشارع؛ كأصل الحج، وإذنه في إضافة أبناء السبيل، والصناعة والتجارة والزراعة، وكعدم التعرض لرسول محارب جاء من جانب المحاربين، فالعرف جاء بأن رسول المتحاربين لا يتعرض له أحد بأذى.
وقسم لم يلغه الشارع كما ألغى القسم الأول، ولم يعتبره بدليل خاص كما اعتبر القسم الثاني.
وهذا القسم هو الذي بحث فيه الأئمة المجتهدون، فهل يعتبر في أحكام الشريعة حيث لم يلغه الشارع، أو يلغى منها ولا يعتبر حيث لم يعتبره الشارع بدليل خاص؟.
وذهب أكثر الأئمة من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى اعتباره، وبناء الأحكام الشريعة عليه.
والإمام الشافعي لا يعتبر من العرف إلا ما أرشد الشارع إلى اعتباره؛ كالإنفاق على المرأة بما يقتضيه العرف؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: "خذي لك ولولدك بالمعروف".
وسمّى بعض الفقهاء العرف دليلاً شرعياً، والدليل الشرعي هو نصُّ الشارع على حكم، وليس العرف نصّاً للشارع، ولكن سمّاه بعض الفقهاء: دليلاً؛ نظراً إلى جريانه بالمصلحة، وجريانه بالمصلحة دليل على إذن الشارع فيه.
وقد يستدل بعض الفقهاء على مراعاة العرف في الأحكام بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، ويضعف هذا الاستدلال: أن العرف في الآية محتمل للعرف بمعنى: الإحسان.
ويستدل عليه بعض الفقهاء بحديث: "ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن"، وهذا ليس بحديث، وإنما هو قول ينسب إلى ابن مسعود.
ويصح حمل المسلمين في هذا الأثر على جميع المسلمين، فيكون المراد به: الإجماع، لا مراعاة العرف.
والمعلوم من الأصول: أن قاعدة مراعاة العرف لا تؤخذ من آية واحدة، أو حديث؛ فإنها كسائر القواعد يتحراها المجتهد في موارد متعددة من الشريعة.
والأئمة الذين يقولون بمراعاة العرف، وإن لم يدل عليه دليل خاص، يقولون: إنهم تتبعوا الشريعة، فوجدوها تعتبر العرف إذا لم تكن به مفسدة،
وتتبعوا فتاوى الصحابة رضي الله عنه، فوجدوهم يراعون العرف كذلك، فأخذوا من هذا دليلاً عامًا على اعتبار العرف إذا لم يشتمل على مفسدة.
وينقسم العرف الذي ذهب الأئمة إلى مراعاته:
إلى عرف قولي؛ ككنايات الطلاق؛ فإنه يعتبر ما جرى به العرف منها، وتصدر الفتوى بمقتضاه.
وعرف فعلي؛ كانتفاع المستأجر بمصعد وضعه المالك في المنزل، ولم يكن منصوصاً عليه في العقد، فجريان العرف به كافٍ في ثبوت حق المستأجر.
وعرف يجري بترك الشيء، فيأذن الشارع بما جرى العرف بتركه؛ كتسامح الناس مع من لقط ثمراً ساقطاً من غصن خارج عن البستان، فعرفهم في التسامح دليل على رضاهم بذلك، وقد أقره الشارع.
وإلغاء الشارع للعرف، بمعنى: أن ما جرى به العرف نفسه يكون مناطاً للحكم؛ كالربا، والبيوع الفاسدة، والطواف بالبيت من غير ستر، ودخول البيوت من ظهورها، فإنه جرى بها عرف الجاهلية، وهي نفسها مناط التحريم.
كما قد يكون إلغاء الشارع للعرف بمعنى: أن ينص على أن ما جرى به لا يكون وسيلة إلى حكم شرعي؛ كتبني ولد الغير، فإنه عادة جارية عند العرب، ويأخذ المتبنَى عندهم حكمَ الابن الحقيقي، والشارع نص على أن ما جرى به العرف من التبني لا يكون وسيلة لإجراء أحكام الابن الحقيقي عليه، قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37].
وكذلك العرف الذي لم يلغه الشارع، ولم يعتبره بدليل خاص، وإنما
اعتبره المجتهد بالدليل العام، قد يكون نفسه مناطاً للحكم؛ كالاستقاء من بئر مملوكة عُرف بالعادة أن صاحبها لا يستأذن في الاستقاء منها.
وقد يكون وسيلة إلى حكم شرعي؛ كما إذا تنازع الزوجان بعد الدخول في الصداق؛ فقد جرى العرف بدفع الصداق قبل الدخول، فكان العرف وسيلة الحكم الشرعي الذي هو: القول للزوج.
وإذا نظرنا إلى الوقاع التي قال الأئمة: إنها من قبيل اعتبار العرف، وجدنا العرف إما أن يقيد المطلق، أو يخصص العام، وكذلك قال الفقهاء: إن العرف المعتبر هو الذي يخصص العام، ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب، أو يبيح الحرام، فلا يقول به واحد من أهل الإِسلام.
ومثال العرف الذي يخصص العام: قول الإمام مالك: إن الزوجة الحسيبة شريفة القدر جرى العرف بأن لا ترضع ولدها بنفسها، بل يأتي الزوج لها بمرضع.
وهذا عرف يخصص العام في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233].
ومن المعروف في الشريعة: أن الوكيل له أن يتصرف في الأمر الذي وكّل عليه بمصلحة الموكل، فإذا قال أحد للوكيل: اشتر لي ثوباً، وكان قاضياً، فاشترى له ثوباً لم يعتد القضاة لبسه، كان تصرفه مردوداً عليه. فالعرف يقيد المطلق، أعني قوله: اشتر لي ثوباً.
وقد أخطأ سبيل الحق من جعل العرف وحده دليل إذن الشارع، فقال: إن كشف ما بين السرة والمنبت جائز؛ لأن العمال يتعاملون بذلك، فليس هناك حاجة ولا ضرورة تدعو إلى كشف ما بين السرة والمنبت، فيجب على
كل مسلم أن ينهاهم عن هذا العرف الفاسد.
وربما يخطر للقارئ أن تقييد المطلق من النص، أو تخصيص العام منه يبطل بعض النص.
والجواب: أن الشرع جاء لإبطال العرف الفاسد، والإذن في العرف الخالي من المفسدة، أو المشتمل على مصلحة، وتقييد المطلق، وتخصيص العام إنما أخرجا أفراد العرف التي لا توجد فيها العلة الداعية إلى اعتبار العرف، فلا يكون ذلك مبطلاً لبعض النص؛ لأن النص إنما أراد الأفراد المشتملة على علة اعتبار العرف دون غيرها، وإذا حكمنا بتقييد المطلق من النص، أو تخصيص العام منه، فإنما قيدنا المطلق، وخصصنا العام بقاعدة مستمدة من الشرع، وهي إقرار العرف إذا كان خالياً من المفسدة.
والكتاب، والسنّة، والأصول القطعية المستمدة منهما، شريعة واحدة يبين بعضها بعضاً.
فما جرت به العادة في عهد النبوة يكون حكمه من اعتبار أو إلغاء ثابتاً بالكتاب أو السنّة، وما علم جريانه في عهد الصحابة، ولم يذكر له مخالف، يكون حكمه من اعتبار أو إلغاء ثابتاً بالإجماع، وعادة دخول الحمام جارية على هذا الوجه، فإن كانت في عهد النبوة، فالرخصة فيها ثابتة بالنص الشرعي، وإن كانت في عهد الصحابة، فالترخيص فيها ثابت بدليل الإجماع.
والرخصة في الحمّام جاءت من جهة أن مقدار ما يستعمل من الماء، وهو من قبيل البيع مجهول، وأن بقاء الشخص في مبنى الحمام من قبيل الإجارة، والمدةُ مجهولة.
وإنما يكون الحمام رخصة شرعية إذا روعي فيه ستر ما يجب ستره.
قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "وما ذكر من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في التحقيق باختلاف من أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي، وإنما معنى الاختلاف: أن العوائد إذا اختلفت، رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها".
وقال القرافي في قواعده: "إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، فينتقل الفقيه بانتقالها".
وقد ينص المجتهد المقتدى به على رواية واقعة راعى فيها العرف الذي هو جارٍ في وقته، ويكون العرف قد تغير، فيتبع فقيه آخر نصه الذي انبنى على عرف تغير، ولهذا قال القرافي:"واتباع نص الرواية - رواية المجتهد - في بعض النوازل من الجهل العظيم".
وضربوا مثلاً بالصداق إذا جرى العرف بدفعه قبل الدخول، وتنازع الزوجان، فالقول للزوج؛ لأن معه أصلاً شاهداً، وهو العرف، وإن لم يجر به عرف، فالقول للزوجة؛ لأن معها أصلًا، إذ الأصل عدم الدفع.
ومما يوردون مثالاً للعرف الذي يختلف باختلاف المواطن: تحديد ساعات العمل من اليوم للعمال؛ فإنه يراعى فيه العرف، وإن لم ينص عليه في عقد العمل.
ومن ذلك أيضاً: كشف الرأس لذي المروءة في المجالس العامة؛ فإنه مألوف عند أهل الأندلس، ولا يقدح في شهادتهم، ولكنه عند أهل المروءة في الشرق يقدح في شهادتهم، وإن كان في الأصل مباحاً.
وقد يجري العرف بعقد فاسد، فهل يكون وسيلة لحكم شرعي؟ فاختلف أصحاب مالك، بعضهم يرى أن العرف العام إذا جرى بعقد فاسد،
فهو مثل جريانه بعقد صحيح، فالقول لمن يكون بجانبه العرف، ولو كان فاسداً؛ لأن المعنى الذي كان سبب اعتبار العرف الصحيح موجود في العرف الفاسد، فيكون شاهداً على صدق مدعيه.
وذهب فريق إلى أن العرف الفاسد غير معتبر شرعاً، فلا يجوز أن يعتبر وسيلة لحكم شرعي.
وقال المالكية: إن الغيبة، وإن كانت من الكبائر التي يعاقب عليها شرعاً، لا تقدح في الشهادة؛ لأنها لما غلبت على الناس، فالشرع يأذن بإلغائها خشية ضياع الحقوق.
وأذكر بهذا: أني كنت قاضياً في "بنزرت" وملحقاتها في تونس، فجاءتني رسالة من المحكمة الشرعية العليا بتونس بأن أقبل التجريح في شهود وثيقة، فُجِّرح بعضهم بأنه يؤخر الصلاة عن وقتها، فالتقيت بأستاذنا الشيخ محمد النجار العضو بالمحكمة العليا، فقال لي: إن تأخير الصلاة عن وقتها كالغيبة لا يجرَّح به الشهود؛ لأنه صار غالباً في الناس.
والشريعة السمحة لم تترك طريقاً للخير إلا فتحته، ولم تدع طريقاً للفساد إلا أغلقته، والعرف يعتبر إن قام على أساس وثيق، ويلغى إن جرى بالناس في غير طريق.