المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌النَّذر (1) حُكْم الشارع: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف؛ بأن يقتضي - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(3)«دِرَاسَات في الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ»

- ‌المقدمة

- ‌الله موجود

- ‌الأحكام العادلَة

- ‌كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسُّنة

- ‌الحديث الصّحيح حجة في الدين

- ‌الشهادة وأثرها فى الحقوق

- ‌الذّرائع: سدُّها وفتحها

- ‌مراعاة العرف

- ‌حكمة الإِسلام في العزائم والرُّخص

- ‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

- ‌الكبيرة والصغيرة

- ‌الذّوق، وفي أيّ حال يُعتدُّ به

- ‌النَّذر

- ‌المتُعَة

- ‌استحضار الأرواح

- ‌حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة

- ‌العَدْوى والطِّيَرَة

- ‌الزّكاة وأثرها في نهوض الأمّةِ

- ‌الغيبة وأثرها في النّفوسِ

- ‌حقوق الزّوجيّة

- ‌صلاة الجماعة وأثرها في اتّحاد الأمّة

- ‌الدعوة القائمة على حق ّ

- ‌فَساحَة الصَّدْر ونزاهةُ اللسان عن المكروه

- ‌مكافحة المظالم موجبة للسّلام

- ‌ما يلاقيه العلماء من المكاره

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء

- ‌المال المباح في الإسلام

- ‌الطلاق في الإسلام

- ‌تعدد الزوجات في الإسلام

- ‌النظافة في الإسلام

- ‌العلوم في دائرة الإيمان

- ‌الرفق بالضعفاء

- ‌الأدباء العلماء

- ‌زينة الإنسان حسن السَّمت

- ‌المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده

- ‌ملاحظات على مقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه

- ‌تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه

- ‌نزول القرآن في رمضان

- ‌صلاة التراويح

- ‌رجم الزاني المحصن وشرعيته

- ‌بحث لفظي في آيتي السرقة والزنا

- ‌عاشوراء

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌ترجمة القرآن

الفصل: ‌ ‌النَّذر (1) حُكْم الشارع: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف؛ بأن يقتضي

‌النَّذر

(1)

حُكْم الشارع: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف؛ بأن يقتضي منه فعل شيء، وهو الواجب، والمندوب، أو يقتضي منه ترك شيء، وهو المحرم، والمكروه، أو يخيره بين فعل الشيء وتركه، وهو المباح.

ثم إن الواجب قسمان: وهما: ما يوجبه الله على الإنسان ابتداء؛ كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وما يوجبه الإنسان على نفسه ويلتزمه من غير أن يوجبه الله عليه أولاً، وهو النذر.

وإيضاح الفرق بين الواجب المتأصل، والواجب بالنذر في نظر الشريعة: أن أحكامها مبنية على رعاية المصالح والمفاسد، فإن كانت المصلحة في النظام الاجتماعي عظيمة، فهو الواجب المتأصل، وإن كانت مصلحته قليلة، فهو المستحب، فإن كانت مصلحته لا تحصل إلا بالنذر، وهي كمال الأدب مع الخالق، فإن النذر وعد من الإنسان لربّه بشيء، وكمال الأدب مع الخالق أن ينجز الإنسان ما يعده به، فمصلحة النذر هي كمال الأدب مع الخالق، بخلاف مصلحة الواجب المتاصل؛ فإنه يقتضيها النظام الاجتماعي؛ كإيجاب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان.

(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثالث من السنة الحادية عشرة.

ص: 71

وكان النذر مشروعاً في الأمم السابقة، قال الله تعالى قاصّاً عن امرأة عمران:{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35].

وقولها: {مُحَرَّرًا} معناه: أنه يزهد في الدنيا، ويقوم على عمل الآخرة، ويكون في خدمة الكنيسة. وقال تعالى في قصة مريم عليها السلام:{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].

وكان عدم الكلام في شريعتهم داخلاً في الصوم، وذكر القرآن أن أتباع عيسى عليه السلام ألزموا أنفسهم واجبات لم يقضها الله عليهم، فتركوا الدنيا وشهواتها؛ كالتزوج بالنساء، ونحوه، ولكنهم لم يراعوها حق رعايتها؛ أي: لم يحافظوا عليها حق محافظتها، فذمّهم الله بذلك، ومعلوم أن الذم موجّه إلى من لم يراع ما التزموه بأنفسهم حق رعايته. ومن بقاياهم أرباب الصوامع الآن.

وكنت حضرت في احتفال ببرلين ألقى فيه أحد المنتمين إلى الإسلام خطبة قال فيها: "إن إبراهيم عليه السلام قد نذر ذبح ابنه على عادة الأمم المتوحشة، ففداه الله بذبح عظيم".

ونبهت بعض من يتصل بالمحاضر إلى الآية التي صرحت بأنه رأى في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء وحي، وهذه الرؤيا ابتلاء من الله لإبراهيم عليه السلام، فلما كاد أن يفعل ما أمر به، وظهر صدقه، فداه الله بذبح عظيم، ولولا أن الكلمة التي قالها المحاضر قيلت في احتفال رسمي، ونشرت في الصحف الألمانية، لما كتبتها.

ص: 72

وقد أقرت الشريعة الإسلامية النذر، وجعلته مما يطالب الوفاء به، فأخبر الله تعالى بأنه يعلم النفقات والنذور، فقال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270].

ومدح الموفين بالنذر، فقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].

وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29].

وقال صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح في وصف الذين يخرجون عن الدين: "وينذرون ولا يوفون".

فالشارع جعل الوفاء بالنذر هو الطاعة. وقد قال بعض الفقهاء: إنه خلاف الأولى، ففعلُ الإنسان المستحب بغير نذر؛ لأن الله أمر به على وجه الاستحباب، أولى من فعله بمقتضى النذر.

وقال بعض الفقهاء: "نكره النذر، وننهى عنه، ولكن من نذر شيئاً من طاعة الله، لزمه الوفاء به فرضاً".

وجاء في الحديث الصحيح: أن النذر لا يقدم شيئاً، ولا يؤخره، وإنما يستخرج فيه من البخيل.

والحديث تحذير من التهاون بعد إيجاب الوفاء به.

والفرق بين النذر والدعاء، مع أن كلاً منهما لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، أن الدعاء عبادة؛ بحيث يلام الإنسان على تركه؛ بخلاف النذر؛ فإنه في ذاته ليس بعبادة، فلو قضى الإنسان حياته كلها ولم ينذر فيها فلا يلام على ذلك، وإنما يلام إذا نذر، ولم يوف بالنذر، فإن شفاه الله من مرض مثلاً، فالأولى أن يصلي أو يصوم شكراً لله على نعمته من غير نذر.

ص: 73

والنذر إنما يتعلق بالمستحب، ومصلحة المستحب في ذاته تقتضي الاستحباب، فإذا أضيف إليها مصلحة النذر، وهي كمال الأدب مع الله تعالى، صارت عظيمة، فجاء الوجوب من هذه الجهة، ووجب الوفاء به.

والشارع لم يأمر بالنذر، ولا مدح الناذرين، وإنما أمر بالوفاء بالنذر، ومدح الموفين به.

وتعليق النذر على أمر يفعله الله في المستقبل مكروه، فإن وقع، يجب الوفاء به؛ كان يقول الإنسان: إن شفاني الله من المرض، أو شفى ابني، فعلي صلاة كذا، أو صوم كذا.

ووجه كراهته: أنه وقف العبادة على فعل في المستقبل، والعبادة يفعلها الإنسان في الوقت الذي يتيسر فيه الفعل.

ولا ينعقد النذر المتعلق بالحرام؛ كأن يقول: لله عليّ شرب كأس خمر، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح:"من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصيه، فلا يعصه"، كما لا يتعلق النذر بترك الحلال: كأن يقول: لله عليّ ألا أشرب اللبن، فلا يلزمه الوفاء به.

ومن الفقهاء من قال: عليه كفارة يمين في المسألتين.

ومن النذر المكروه ما يسميه الفقهاء بنذر اللجاج، وهو أن يريد الإنسان التنفل بصلاة أو صيام أو صدقة، ويخاف التهاون به، فينذره؛ ليلزم نفسه به. ووجه كراهته: أنه لم يرد من المنذور به أن الله أمر به خاصة، بل دخل في نية النذر أن يجعله وسيلة لعدم التهاون.

وإذا نذر الإنسان نذراً، ومات قبل الوفاء به، فلوارثه أن يقضيه عنه.

وفي الصحيح: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان

ص: 74

على أمه، وماتت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها.

ومن لا يرى من الفقهاء النيابة في الأعمال البدنية؛ كمالك بن أنس، يحمل النذر في الحديث على أنه متعلق بمال؛ كالصدقة، ونحوها.

ومن المحدثات التي لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد السلف: النذر للأولياء. والأقرب لقصد الناذر أن يوزع النذر على الفقراء المقيمين حول الولي.

ويجب أن يعلم الناذر الصيغة الصحيحة للنذر.

ولا يجوز للإنسان أن يتصرف في مال شخص إلا إذا انطبقت عليه شروطه؛ كمن يقف من ماله ما يختص بطائفة القراء مثلاً، فينبغي لمن لم يكن من القراء أن يترك الانتفاع به.

وأذكر بهذه المناسبة: أن أبا بكر العربي استأذن في الدخول على الإمام الغزالي، فأذن له بالدخول، فوجد بين يديه خبزاً وخلاً، ولكنه لم يدعه إلى الأكل.

قال ابن العربي: فتذاكرت مع بعض الأساتذة في هذا الشأن، ومن الوجوه التي عرضت لي أن قلت: إنه طعام خاص بالصوفية، ولم يرني الغزالي من أهل هذا الشأن.

والهدف من هذا المقال: أن النذر غير مطالب به من الشارع في نفسه، فإذا نذر الإنسان مستحباً، وجب عليه الوفاء به.

ص: 75