الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم
(1)
شأن العالِم أن يقدُر العالِم قدره، ويرعى ما يستحقه من حفاوة وإجلال؛ لأنه عرف قيمة العلم، وقيمة من يبذل العناية في تحصيله، ولولا العلم، لعاش الناس في حياتهم بعيدين عن الرشد، قريبين من الضلال كما كانوا في جاهليتهم.
وقد جرى على هذا الشأن أئمة علماء الشريعة، فالتقى الإمامان أبو حنيفة، ومالك، وشهد كل منهما لصاحبه بالفطنة والعلم والفهم، وما نسبه بعضهم إلى مالك من أنه قال في أبي حنيفة: إنه أضلَّ الناسَ بالرأي، فقد كذّب ذلك أصحابُ مالك، وممن كذّبه: أبو الوليد الباجي في كتاب "المنتقى". فابو حنيفة روى عن مالك بعض الأحاديث كما هو ثابت في "مسند أبي حنيفة" رضي الله عنه، وروى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة "الموطأ" عن مالك، وعبد الله بن المبارك من أصحاب أبي حنيفة، وكان مالك يجلّه، وأبو حنيفة في علمه وزهده وتقواه لا يقول مالك فيه هذا القول.
وسمع الإمام سفيان الثوري بقدوم الإمام الأوزاعي للحج، فخرج لتلقيه في ظاهر مكة إكراما له.
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من المجلد التاسع.
وبعث الإمام الليث برسالة إلى الإمام مالك معترضاً بعض الأصول التي رآها مالك منزعاً للشريعة، وأجابه مالك برسالة ذكر فيها وجه ما ذهب إليه، وسنده، وقد تجلى في الرسالتين احترام كل منهما لصاحبه، ورعاية أدب البحث والنقد، فلم يخرجا عن موضوع بحثهما، ولا مسَّ أحد منهما كرامة الآخر.
وهاك نموذجاً من رسالة الليث للإمام مالك رضي الله عنه يناقشه في مسائل اختلف فيها أهل المدينة وغيرهم من أهل الأمصار، فاستفتح الرسالة بقوله:
"سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرّني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه".
ثم انتقل إلى سرد المسائل التي فيها الخلاف في أسلوب يتحلى بالوقار والإجلال حتى ختم الرسالة بقوله:
"وأنا أحبّ توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار.
فهذه منزلتك عندي، ورأي فيك، فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك، وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت، أو لأحد يوصَلُ لك، فإني أسرّ بذلك. والسلام عليكم ورحمة الله".
وصحب الإمام الشافعي الإمام مالكاً مدة، وأخذ عنه "الموطأ"، وكثيراً من الفقه، ومخالفته لآراء مالك في الشريعة لا تقدح في أقواله المشتملة على
إجلال مالك وتعظيمه؛ كقوله: فما أحد أمنّ عليّ من مالك، وجعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى. وأثنى الإمام مالك على الإمام الشافعي بالحفظ والفهم.
والتقى مالك وأبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة على بساط الكرامة والإنصاف. ومما أخذه أبو يوسف عن مالك: أن زكاة الفطر خمسة أرطال وثلث رطل بغدادي، بعد أن كان يقول: إنها ثمانية أرطال، لمّا أراه مالكٌ الصيّعانَ التي توارثها أهل المدينة من أسلافهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان بين يحيى بن معين وأحمد بن حنبل صحبة وألفة واشتراك في الاشتغال بعلم الحديث، وروى أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين بعض الأحاديث، وكان من أقرانه، ولم يجد أحمد بن حنبل - مع عظم شأنه - غضاضة في أن يروي عن يحيى بن معين، وهو من أقرانه.
ووصف جماعة من أكابر العلماء الإمام الغزالي، وأطلقوا أعنة القول في الثناء عليه، منهم: الحافظ أبو بكر بن العربي، وقال بعضهم لما التقى بالغزالي: من اجتمع بالغزالي، وجده فوق ما يتخيل من العلم والفهم.
وقد دخل عالم تلمسان (ابن مرزوق) جامع الزيتونة، فوجد الشيخ ابن عرفة يدرّس قوله تعالى:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36].
ويستعرض وجوه القراءة والإعراب في الآية، فعرض لوجه غامض منها، وسأل طلبته عنه، فلم يجيبوا، وأجاب ابن مرزوق، قال - أي ابن مرزوق -: وكنت قريب عهد بحفظ كتاب "التسهيل"، فبينت الوجه وشاهده من كلام العرب، فقال ابن عرفة: لعلك ابن مرزوق! وأكرمه واستضافه.
ومدح ابن مرزوق ابن عرفة بأن عادته الإنصاف في المذاكرة.
ودخل عالم توزر (1) الشيخ إبراهيم أبو علاق جامع الزيتونة، فوجد أستاذنا سالماً أبا حاجب في أحد الدروس، فباحثه الشيخ أبو علاق حتى أبرمه، وهو لا يعرفه، فدعا ملاحظ المسجد لإخراجه، فخرج الشيخ أبو علاق، وابتدأ قصيدة قال في مطلعها:
تقاصرت مذ أبدى التطاول سالم
…
وسالمت والقاصي المكان يسالم
فلما سمع الأستاذ القصيدة، وعرف أنه من العلماء الأدباء، ذهب إليه، واعتذر له، وأكرمه، واستمرت الصحبة بينهما.
والكاتبون في تراجم العلماء يقولون عند تزكية كثير من العلماء: "إن فلاناً لم يقل في أحد سوءاً"، وهذا كثير في "الشقائق النعمانية". ومن لم يقل في أحد سوءاً، كسب حمد الناس ومحبتهم، سواء أكان من العلماء، أم من غيرهم.
ومن خلق العلماء الراسخين تقريبُ إخوانهم من الحاكم الذي يختصهم بمودته؛ كما صنع أبو بكر محمد بن الطفيل إذ قرب القاضي الحفيد ابن رشد وغيره من العلماء المحققين من الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وكما فعل الحافظ ابن حجر إذ نوّه بشأن الأستاذ محمد بن يحيى الأندلسي عند الأشرف، فأقبل عليه، وولاه قضاء المالكية بالقاهرة.
فتلك الأمثال تبين ما كان عليه العلماء من السلف الكريم من التآخي والمحبة والإيثار، وتلك طبيعة العلم إذا تمكن من الروح، ولم يكن نظرياً
(1) مدينة تونس.
صرفاً؛ فإنه يطبع الأخلاق والأعمال على الإحسان والمجاملة والمروءة، ولذلك زكى الله سبحانه وتعالى العلماء أكرم تزكية، وأثنى عليهم أجمل الثناء بقوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
ومن خشية الله: محبة العلم وأهله؛ كما جاء في ترجمة ابن الحاجب، فقالوا: إنه كان محباً للعلم وأهله، وكذلك كان شأن العلماء من قديم الزمان، فمما يؤثر عن أرسطو قوله:"الصّداقة لا تدوم إلا بين الفضلاء". والآية الكريمة تقرر ما هو أجمل من هذا وأجل إذ تقول:
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67].
فبينت أن الأهوال لا تؤثر على الصداقة عند العلماء الأتقياء.
وأمنيتنا في تحرير هذا المقال أن يستمر العلماء على الألفة والتوادد؛ حتى يمكنهم القيام بأمر الدعوة إلى الدين الحق على كمل وجه، ويحافظون على أدب البحث مادام المخالف طالباً للحق بقلب سليم، أو مادام ذو الرأي لم يخرج عن دائرة الإسلام المعروفة بين المسلمين.