الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استحضار الأرواح
(1)
سأل سائل عن استحضار أرواح الموتى بأنفسها، هل هو واقع، أو شعوذة ممن يدعي إحضارها؟.
فقلت: كانت دعوى استحضار أرواح الموتى تذكر، ولا نعطي لها بالاً؛ لأن في اعتقادنا أن كل مسلم يعتقد أنها شعوذة، لا أكثر ولا أقل؛ لأنها من المسائل التي لا تصدق فيها التجارب، ولا تتحقق فيها الأدلة المنطقية.
ولما كنت بألمانيا، سمعت أيضاً أن أناساً من أوروبا وأمريكا يدّعون أنهم يستحضرون أرواح الموتى، ويخبرونهم عن حالهم، وبعض ما يقع لهم في الحياة، فأقول: إن هذه الواقعة باطلة بنفسها.
واجتمعت بقسيس في بلد (لنداو) من ألمانيا، وسألته: هل حضر جلسة من جلسات هؤلاء الذين يدعون استحضار الأرواح؟ قال القسيس: هذه دعوى باطلة، والعلماء ينكرون ذلك.
وجئت إلى مصر، ووجدت هذه المسألة دائرة في المجالس، فبعض الناس يصدق بها، وبعضهم يتوقف فيها، وأكثرهم ينكرون ذلك.
فقلت: حيث ظهرت المسألة في أوروبا وأمريكا ننظر أقوال كبار علمائهم
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الثامنة.
أولاً، ثم نقرر ما يقوم عليه الدليل من الشرع الحنيف، ولا يهمنا كثيراً أو قليلاً اتفاقهم على استحضار الأرواح، واختلافهم في ذلك، وإنما نريد أن نعلم: ما رأيهم في هذا الادعاء؟
وجدنا الدكتور يعقوب صروف ينكر استحضار أرواح الموتى، ونقل في مجلة "المقتطف" عن مجلات أوروبا وأمريكا إنكار كثير من علمائهم الذين حضروا جلسة استحضار الأرواح، وصرحوا بأنها شعوذة وخداع.
قال: ويدل على هذا: أن أشهر الذين كانوا يدَّعون مناجاة الأرواح اعترفوا آخراً أنهم كانوا يستعملون الحيل والخداع للناس، والأرواح التي يزعم مستحضروها أنها أرواح الموتى لا تفعل إلا أسخف الأعمال وأحقرها، فلا تكتشف سراً في كشفه فائدة لأحد، ولا تنبئ بأمر من الأنباء به نفع ما.
وصدق الدكتور صروف، فقد دلت المشاهدات الطويلة على أنه ليس في زعم استحضار الأرواح من فائدة دنيوية أو أخروية، سوى تسلية النفوس الفارغة من الأعمال؛ بإراءتها الباطل في ثوب الحق كبقية المظاهر السحرية.
ثم قال: وإن الذين يصدقون بمناجاة الأرواح، ويمارسون ذلك، تضعف قواهم العصبية رويداً رويداً، وينتهي أمرهم إلى الجنون، وهذا أمر معلوم يدل على أن أعصابهم كانت ضعيفة من أصلها، أو مائلة إلى الضعف، ومن كانت أعصابه كذلك، لا يركن إلى أحكامه وتصوراته.
وتعرض إلى العلماء الذين يصدقون بهذه الشعوذة، وقال: إن العلماء المنجرين أشد انخداعاً من غيرهم، حتى قال أحد المشعوذين: إن العالم الذي يجلس حيث نجلس، ويلتفت حيث نقول له أين يلتفت، هو الرجل الذي تجوز عليه حيل الشعوذة، ويرى ويصدق ما لا يراه ولا يصدقه تلامذة المدارس.
وقد جرب بعض المحاكم بإنجلترا استحضار الأرواح في قضية قتل، فلم تحصل منه نتيجة، ولم يروها من الطرق المثيرة للشبهة حتى يعتبر في تقرير الجنايات.
وممن أنكر استحضار الأرواح الشاعر أحمد شوقي، وقال فيما صنع من الشعر:
لا تسمعن لعصبة الأرواح ما
…
قالوا بباطل علمهم وكذابِهِ
الروح للرحمن جل جلاله
…
هي من ضنائن علمه وغيابِهِ
غُلبوا على أعصابهم فتوهموا
…
أوهام مغلوب على أعصابِهِ
وطالعت "دائرة المعارف" للأستاذ فريد وجدي، فوجدته أثبت صحة استحضار الأرواح؛ استدلالاً بما وقع فيه بعض علماء أوروبا من تصديق مدعي استحضارها.
ولا شأن له إلا أن نقل عنهم ما يقولون. وتابعه بعض الشيوخ هنا، وأسرع إلى متابعته حيث وجد فيه شاهداً على الماديين، والماديون يسهل الرد عليهم بغير استحضار الأرواح.
وقال الشيخ المراغي في تقريظ كتاب الدكتور هيكل:
"من الفوائد التي أتى بها الابتكار الحديث: استحضار الأرواح".
والأستاذ المراغي أخذ أقوال من شهدوا بأن المسألة صدق، ولم يوجه نظره إلى بحث المسألة باعتناء.
وقام أحد الكاتبين في مصر، فترجم كتاباً لأحد الأوروبيين في تصديق ما قاله بعض مدعي استحضار الأرواح، وزاد عليه الكاتب في مقدمته ذكر بعض من ادعى أنهم حضروا لديه في حجرة استحضار الأرواح، منهم: عباس
البهائي، فقال:"قد تجسدت روح الزعيم الديني الفارسي عبد البهاء غير مرة، وكان يسلم علي بالعربية أولاً، ثم تكلم بالإنجليزية تكلم العالم المطلع (1) ".
ولسنا بصدد الكلام على اعتقاد الكاتب الذي ذكر زعيم البهائية بما شاء.
وذكر ممن استحضر أرواحهم في جلسة واحدة جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وويصا واصف، وطنطاوي جوهري، ومصطفى كامل.
ونقل الكاتب نحو الصحيفة والنصف من رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، ومضمونها: أن الروح غير البدن، وأن كلاً منهما مستقل
…
وهذا النقل لا يفيده؛ فإن تغاير البدن والروح هو الذي ذهب إليه المحققون من علماء الإسلام.
ونحن لا نتكلم على تغاير البدن والروح، وإنما نتكلم على استحضار الروح بعد الموت.
وذكر الكاتب مستدلاً على استحضار الأرواح بما كتبه الشيخ المراغي في تقريظ كتاب الدكتور هيكل، وبينّا وجه تقصيره في بحث المسألة.
كما ذكر الكاتب شعر شوقي في تكذيب من يزعم استحضار الأرواح، وادعى أن روح شوقي اتصلت به في عالم الروح، ورجعت عما سبق لها
(1) البهائية: طائفة ضالة، تنسب إلى بهاء الله، لقب يدعى به ميرزا حسين علي الزعيم الثاني للمذهب الذي تتولاه هذه الطائفة، وتسمى هذه الطائفة أيضاً: البابية نسبة إلى "الباب"، وهو لقب ميرزا علي الذي ابتدع هذه النحلة، وكانت عقوبته أن أعدمته الحكومة الإيرانية صلباً في تبريز سنة 1265 هـ إثر فتن وحروب ثارت بين أشياعه وبين المسلمين سفكت فيها الدماء.- انظر كتاب:"القاديانية والبهائية" للإمام.
من الإنكار عليه.
وقال الكاتب: "لا ينكر استحضار الأرواح إلا البله من المتدينين والملاحدة".
قال هذا، ولم يقم دليلاً على استحضار الأرواح يقنع الأذكياء من المتدينين.
ونحن لا نؤمن باستحضار أرواح الموتى؛ لوجوه غير الوجوه التي نقلناها من مقال الدكتور صروف.
منها: أن الشريعة الحكيمة نصت على أن من مات ذهبت روحه إلى عالم الآخرة، ولا يعلم ما يقع في عالم الآخرة إلا الله، أو من ارتضى من رسول، قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27].
وإذا علم غير الرسول من الغيب، فبإلهام من الله في المنام، أو بصفاء البصيرة، وكلاهما يعطي ظناً قوياً، لا في قوة ما يطلع الله عليه من ارتضى من رسول، والله أعلم وأحكم من أن يطلع على غيبه شخصاً يعدُّ حجرة يتسلى فيها الناس بالحديث مع الموتى.
ومنها: أن الكتاب نص على أن الناس منهم سعيد وغير سعيد، وقد جعل الله لروح كل واحد منهم حالاً خاصة، ومدعي استحضار أرواح الموتى يزعم أنه جمع بين أرواح مختلفة الأحوال، دون أن يفرق بين من يعرف بالعقيدة السليمة، ومن يعرف بالجحود.
ومنها: أن الدين الحنيف صرح بأن الجان والشياطين أحياء كائنون، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
وقال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
وقد قامت الدلائل الواضحة من الشريعة على أن الجان والشياطين يتصورون بصورة الآدميين صوتاً وشكلاً.
فعلى فرض أن يسمع مستحضر الأرواح صوت الميت، أو يرى شبحه، هل يستطيع أن يقيم لنا الدليل على أنه سمع صوت الميت، أو رأى شبحه، لا صوت الروح العابثة مثلت صوته أو شبحه، وأخبرت ببعض ما تعرفه من أحواله؟! فإن لم يستطع ذلك، فلنتمسك بالحقائق التي قام عليها الدليل من الشريعة الإسلامية.