الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زينة الإنسان حسن السَّمت
(1)
خلق الله الإنسان، وجعله خليفة له في الأرض، وأودع فيه العقل والفهم؛ ليدل الناس على معرفته، ويبين لهم الأحكام التي يوحي بها إليهم، ويجريها عليهم إذا اختلفوا، وأرسل الأنبياء عليهم السلام مُثلاً علية، وأكملُهم صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام الأعظم الذي يقتدى بأقواله وأفعاله التي منها: حسن السمت (2).
وحسن سمت الإنسان: ألا ينحط في الهزل والمجون، وألا يرتكب ما يستهجنه الناس من أمثاله؛ كالأكل في الطريق العام، مع التزامه فعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه.
وتركه لما يستهجنه الناس في عاداتهم يجعله الفقهاء مروءة، وقد زادوا في تعريف الشهادة - كما سبق لنا بيانه في بعض المقالات -: مراعاة الشاهد للمروءة، وفسروها بأن لا يفعل الإنسان ما يُستهجن في العادة، وهو المراد بقولهم في القاعدة المعروفة:"العادة محكَّمةَ"، والفرق بين ما يستهجنه الناس، وبين ما ينهى عنه الشارع من أول الأمر على وجه الكراهة أو الحرمة: أن ما ينهى عنه الشارع تكون المفسدة كبيرة أو صغيرة في نفس الفعل، أما
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد العاشر من السنة العاشرة.
(2)
السمت: الطريقة، وهيئة أهل الخير.
الذي يعد اجتنابه من المروءة، فيكون النهي عنه من جهة استقباح الناس له فقط، ولهذا يقول الفقهاء: إنه يختلف باختلاف المواطن والأزمان؛ مثل: كشف الرأس؛ فإنه كان يخالف المروءة في الشرق، ولا يخالفها في بلاد الغرب.
ومن حسن سمت الرجل: أن يلبس ملابس أمثاله في البلد الذي استوطنه، ولم نر في التاريخ أن قاضياً يخالف لبس القضاة إلا ابن بشير؛ فقد كان قاضياً في قرطبة، ولا يلبس لبس القضاة. ومن يحافظ على لبس وطنه، أو اللبس الذي نشأ فيه مما لا يستهجنه الناس، نتركه وشأنه؛ فإن الإنسان يصعب عليه أن يغير الملبس الذي نشأ فيه.
وقد حكى المؤرخون: أن أبا العباس الميكالي طلب منه أن يتقلد ديوان الرسائل، فاشترط أن يبقى بلبسه المعتاد له، فأخبر السلطان بذلك، فرضي بشرطه، فكان يجلس بالديوان متعمماً متطلساً، ويؤتى له بالرسائل، فيقضي فيها بما يقتضيه العلم.
ولا يخرج عن حسن السمت المزح القليل الصادق؛ فإن فيه ترويحاً للنفس، وأنساً للجليس، وكان صلى الله عليه وسلم وهو الإمام الأعظم - يمزح نادراً، ولا يقول إلا حقاً.
وروى المؤرخون: أن منذر بن سعيد البلوطي - مع ما أحيط به من الوقار - كان يمزح قليلاً.
وحكى المؤرخون أيضاً عن القاضي شريح بن الحارث، وكان قد استقضاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على الكوفة: أنه كان يمزح حتى في مجلس القضاء مع الخصوم.
وقد يقول المؤرخون بعد أن يصفوا العالم بالزهد والصلاح: وكان رقيق الطبع في النادرة، فلا يردها إذا أمكنته.
وبقدر محافظة الإنسان على حسن السمت تكون مهابته في قلوب الناس.
ومن حسن السمت: ألا يفر المرء من صف القتال خوفاً من الموت؛ فإن الفار من صف القتال يعد من قبيل الجبناء الذين يحبون الحياة على أي حال، ويؤثرونها على الموت في سبيل الدعوة إلى الحق، وعوتب أحد الكبار عن فراره من وجه العدو، فاعتذر بأنه فرّ من الأسر وما يلحقه فيه من الإهانة، ولو علم أنه يموت في صف القتال، لما فر، وهذه الدعوى ربما تقبل من شجاع معروف لا يهاب الموت.
وقال بعض اليهود للمسلمين يعاتبونهم على الجولة التي وقعت لهم في غزوة أحد: إنكم فررتم يوم أحد، فقال له المسلم: ولكن رسول الله لم يفر.
وواقعة أحد لله فيها حكمة، وقد ذكرها الكتاب المجيد، وفصلتها السيرة أحسن تفصيل.
والعامة والخاصة من الناس يرون أن العالم الذي خالف الشريعة قد اختل سمته، ومن رضي منهم أن يموت في السجن، ولا يخالف الشريعة بما يطلب منه، فقد حافظ على حسن سمته الذي أمره الله بالمحافظة عليه.
ويرى الذين ضربوا أو سجنوا؛ كمالك بن أنس، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما: أن السجن أو الضرب لا يمس حسن السمت، ويرى أناس: أنه إهانة لهم؛ إذ هو يخالف هيبتهم التي يحملها الناس لهم.
ويرى سائر الناس: أن تحمل الأذى، والصبر على المكاره يزيد في
حسن سمتهم.
وقال المؤرخون: لم يزل مالك بعد ذلك الضرب في علو ورفعة؛ كأنما كانت تلك السياط حلياً حُلّي به. وكذلك أحمد بن حنبل كان ما وقع له من الضرب والسجن في التاريخ ذكراً مجيداً، وكانت هيبته عند الناس فوق ما يقتضيه علمه وروايته.
روي أن عالمين دخلا على ملك جالس على بساط من حرير، أما أحدهما، فأخذ يطوي البساط من جهته حتى وصل إلى الملك، وأما الآخر، فقد داس على البساط، وفرش رداء عندما وصل إلى الملك، وجلس عليه، وقد رأوا أن جلوسهما على بساط من حرير يخل بسمتهما، وينافي كرامتهما عند الله، وعند الملك وحاشيته.
وكان أستاذنا الشيخ محمد المكي بن عزوز (1) يدرس لنا في جامع القصر بتونس شرح ابن هشام لقصيدة كعب بن زهير في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها أبيات غزلية، وكان الشيخ يشرح الأبيات الغزلية، فدخل جماعة من العامة، وجلسوا بالحلقة، فخشي الشيخ أن ينكروا عليه شرح الأبيات الغزلية، فانتقل في الحال إلى حديث زاهر رضي الله عنه ودخول النبي صلى الله عليه وسلم السوق، وزاهر يبيع شيئاً أمامه، والقصيدة بأبياتها الغزلية مقطوعة السند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ألغى أحكام الشريعة، وأتى عوضها بقانون وضعي، فقد خرج بالقضاة عن سمتهم المهيب.
وقد يخرج الإنسان على حسن السمت بالقول؛ كمن ينطق الفحشاء،
(1) خال الإمام.
ويذكر العورات بأسمائها.
قال أنس كما في الصحيح: "ولم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً"، ومعناه: لم يكن رسول الله ينطق بالفحشاء، ولا متكلفاً النطق به؛ أي: لم يكن الفحش خلقاً له، ولا مكتسباً.
وللأدباء في الكناية والمجاز مندوحة من الخروج على حسن السمت بالقول إذا اضطروا إلى ذلك، ووردت في القرآن الكريم ألفاظ كانت في عهد نزوله مجازات، ثم صار الناس بحسب العرف يستعملونها في المعنى المجازي، وهذا لا ينافي أن القرآن الكريم لا يستعمل هذه الألفاظ إلا على وجه المجاز.