المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فساحة الصدر ونزاهة اللسان عن المكروه - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(3)«دِرَاسَات في الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ»

- ‌المقدمة

- ‌الله موجود

- ‌الأحكام العادلَة

- ‌كيف تستنبط القواعد من الكتاب والسُّنة

- ‌الحديث الصّحيح حجة في الدين

- ‌الشهادة وأثرها فى الحقوق

- ‌الذّرائع: سدُّها وفتحها

- ‌مراعاة العرف

- ‌حكمة الإِسلام في العزائم والرُّخص

- ‌موقف الإسلام من الرؤيا وتأويلها

- ‌الكبيرة والصغيرة

- ‌الذّوق، وفي أيّ حال يُعتدُّ به

- ‌النَّذر

- ‌المتُعَة

- ‌استحضار الأرواح

- ‌حكم الإسلام فيمن بلغته الدعوة

- ‌العَدْوى والطِّيَرَة

- ‌الزّكاة وأثرها في نهوض الأمّةِ

- ‌الغيبة وأثرها في النّفوسِ

- ‌حقوق الزّوجيّة

- ‌صلاة الجماعة وأثرها في اتّحاد الأمّة

- ‌الدعوة القائمة على حق ّ

- ‌فَساحَة الصَّدْر ونزاهةُ اللسان عن المكروه

- ‌مكافحة المظالم موجبة للسّلام

- ‌ما يلاقيه العلماء من المكاره

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحة أهل العلم

- ‌ما يلاقيه العلماء من سماحه الأمراء

- ‌المال المباح في الإسلام

- ‌الطلاق في الإسلام

- ‌تعدد الزوجات في الإسلام

- ‌النظافة في الإسلام

- ‌العلوم في دائرة الإيمان

- ‌الرفق بالضعفاء

- ‌الأدباء العلماء

- ‌زينة الإنسان حسن السَّمت

- ‌المنافقون في عهد النبوة والملاحدة بعده

- ‌ملاحظات على مقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تحقيق مذهب مالك في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه

- ‌تحقيق مذهب مالك في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه

- ‌نزول القرآن في رمضان

- ‌صلاة التراويح

- ‌رجم الزاني المحصن وشرعيته

- ‌بحث لفظي في آيتي السرقة والزنا

- ‌عاشوراء

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌ترجمة القرآن

الفصل: ‌فساحة الصدر ونزاهة اللسان عن المكروه

‌فَساحَة الصَّدْر ونزاهةُ اللسان عن المكروه

(1)

خلق الله الإنسان، وجعل له لساناً يبين به الحقيقة، ويتوسل به إلى ما تقتضيه الحياة من المرافق. فمن استعمله للحكمة، أو القول النافع، فقد أقر بالنعمة، ووضع الشيء في الموضع الذي خلق من أجله. ومن كمال الإنسان: ألا ينطق إلا بالحكمة، أو القول المفيد له، أو لسامعه. والشريعة أمرت بإلانة الكلام حتى للأعداء، فقال تعالى:

{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الكلمة النابية، أو يبلغه أن قوماً منافقين تكلموا بسوء، ونسبوا إلى مقام النبوة ما لا يليق به، فيقول بعض الصحابة: دعنا نقتلهم، فيقول: دعوهم لئلا يقول كفار قريش: إن محمداً يقتل أصحابه.

وقال أنس بن مالك: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال أُفٍّ، ولا: لم صنعتَ، أو هَلَاّ صنعت.

وحكي عن الأحنف الذي يضرب به المثل في سعة الصدر، والإغضاء عن النابية التي يقذف بها: أن رجلاً أخذ في إساءته حتى وصل إلى حيّه،

(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الحادية عشرة.

ص: 127

فوقف الأحنف وقال للرجل: قل ما شئت أن تقوله قبل أن يسمعك أهل الحيّ فيؤذوك.

وكان الأستاذ بدر الدين الحسني عالم الشام، لم يسمع منه أحد كلمة مكروهة، ولا يسمح لأحد كبير أو صغير أن يذكر أحداً في مجلسه بسوء.

ويحكى أن الوزير بتونس الشيخ محمد العزيز أبو عتور لا يُسمِع أحداً خادماً أو غيره قولاً مكروها.

وروي: أنه نبّه على سائق سيارته بأن لا يسرع في السير بها، فاسرع السائق، فاشار إليه أن يتمهل، فأسرع مرة أخرى، فقال له: قف بالعربة، ونزل وفرش منديلاً له على الأرض، وجلس عليه، وقال للسائق: اذهب إلى تونس، واقض الحاجة التي أسرعت من أجلها، وارجع تجدني هنا.

ووقع بيني وبين العلماء نزاع في مسألة، فلم يقتصر على ما يراه صحة لرأيه، بل زاد على ذلك كلاماً لا يتعلق بالبحث، فأجبته بذكر الحقيقة والتاريخ، وقلت له: ما زاد على ذلك، فغير أهل العلم أقدر عليه من أهل العلم.

ويعجبني ذهاب بعض الفقهاء إلى أن حرية رأي المجتهد في أحكام الدين إنما تقتصر على ذكر الدليل الذي يدل على تأييد رأيه، دون أن يصف رأي المخالف بضلال، أو خروج عن الشريعة كما يفعل أهل الأهواء.

وابن حزم عالم فاضل، غير أنه نقص من قدره أنه أطلق لسانه في الأئمة، ولم يقتصر على بيان رأيه والحجة عليه، أو بيان بطلان ما ذهب إليه غيره من الأئمة.

وقد نسب بعض المتعصبين من فقهاء المالكية إلى الإمام مالك طعناً في مذهب الإمام أبي حنيفة، ولكن أبا الوليد الباجي قال في كتاب "المنتقى":

ص: 128

"إن هذا موضوع على الإمام؛ لأن ما عرف به مالك من العقل والعلم والفضل يرد ذلك".

وقد قال مالك: "أدركت بالمدينة قوماً لم يكن فيهم عيوب، فبحثوا عن عيوب الناس، فبحث الناس عن عيوبهم. وأدركت قوماً لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم".

ويدل على عظيم تقديره لمذهب غيره: إباؤه حمل الناس جميعاً على العمل بما في كتابه "الموطأ" حين عرض عليه الخليفة ذلك، وقال له: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في البلاد، وعند كل منهم علم.

وقد روى عنه "موطأه" محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وذلك قاطع على ما كان يسود بينهم من فساحة صدر، ونزاهة علم.

وألَّف أحد علماء الأندلس رسالة في فضائل مالك، وذكر فيها:

إنما أباحت الشريعة ذكر إنسان بما يكره في مواضع، منها: أن يذكر اعتداءه عند من يرجو أن يجيره منه، أو أن يصفه عند الشهادة عليه بما يفعله من ظلم، أو عند استشارة من يريد معاملته بتجارة أو مصاهرة، أو بذكر الفاسق بما جاهر به من ذنوب قصداً إلى زجره.

والحرية الفاضلة، والعدالة المحمودة، لا يسمح بها إلا واسع الصدر لا يحول بين امرئ وحقه، كما روي عن عمر بن الخطاب: أنه قال لرجل: لا أحبك، فقال الرجل: أيحملك عدم الحب لي على منعي من حق ثبت لي؟ فقال عمر: لا، فقال الرجل: إنما يأسف على حب الرجال النساء.

وما سجن عمر بن عبد العزيز يزيدَ بن المهلب إلا بعد ما اطلع على كتاب أرسله إلى سليمان بن عبد الملك يقول فيه: أرسلت لك الهدايا والأموال

ص: 129

على قطارات، أولها عندك، وآخرها عندي، فتبين بذلك أنه يأخذ أموال الناس بغير حق.

ومن عدالة عمر بن عبد العزيز: أنه كان ينكر على سليمان بن عبد الملك الخليفة قتله الرجل لمجرد شتمه له، ويقول له: ليس لك إلا أن تشتمه كما شتمك.

وقد كنت - بعد أن نلت درجة العالمية من جامعة الزيتونة - أنشأت مجلة (1) علمية أدبية، وهي أول مجلة أنشئت بالمغرب، فأنكر عليَّ بعض الشيوخ، وظن أنها تفتح باب الاجتهاد؛ لأني قلت في أول عدد منها:"ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تُسمع إلا مع دليل يبطل الدليل الذي انفتح به أولاً"، وشجعني على إنشائها شيخنا أبو حاجب، وقال لي في باب الشفاء من جامع الزيتونة: أقول لك ما قاله ورقة بن نوفل: "ما أتى أحد بمثل ما جئت به، إلا عودي". وكان ممن شجعني عليها كذلك الوزير محمد أبو عتور، وشكا إليه بعض الشيوخ مما نشر في المجلة فيما يتعلق بالخطابة، فأجابه الوزير، وكان من العلماء الأجلة، ورأيت له نسخة من "المفتاح" للسكاكي كتبها بخط يده الجميل: إن ما تنشره المجلة لا يعارض الشرع، ولا القانون.

ومن قلد إماماً من المجتهدين، لا ينبغي له أن يغض من قدر غيره.

وإن كان ولا بد من انتصاره لمذهبه، فيكون بتقوية حجته، وليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة؛ فإنهم على هدى من ربهم.

وقد ضل بعض الناس، فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما

(1) انظر كتاب الإمام: "السعادة العظمى"، وهو يضم مقالات الإمام في مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها بتونس عام 1322 هـ 1904 م.

ص: 130

لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملة.

ومن العادات الجارية في الشرق والغرب: أن يتخذ صاحب المنزل خادماً يساعده في شؤون المنزل. ومن المحافظة على آداب الإسلام أن لا يدعو الخادم بلقب يجرح عاطفته، وليكن الخادم بمنزلة الابن أو الأخ في مطعمه وملبسه. وإن كلفه بعمل يشق، أعانه عليه.

ولقد خالجني الأسف لما سمعت صاحب المنزل يقول للخادم: هل صحا سيدك محمد من النوم؟ ويريد صاحب المنزل بمحمد: (ابنه) الذي لا يتجاوز الثالثة أو الرابعة من عمره. ولا خير في أمة يكون شطرها فاقداً عزة النفس وسمو الهمة.

ص: 131