الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذّوق، وفي أيّ حال يُعتدُّ به
؟ (1)
يذكر الذوق في كتب اللغة بمعنى حقيقي أو مجازي، ويذكر فيما يتحدث فيه الناس في معنى الجمال، ويذكر في علم البلاغة بمعنى، ويذكر في كتب التصوف بمعنى، ويستعمله بعض المعاصرين في مقابلة الأحكام الشرعية.
ونحن نتحدث عن الذوق بحسب المعاني التي تراد منه حتى يتبين ما يعتدُّ به من الذوق، وما لا يعتد به.
الذوق في اللغة، وهو الأصل: إدراك طعم الشيء؛ كمن يدرك الحلو فيرتاح له، أو يدرك المرّ كالصبر فينفر منه.
وقد أشار الناس إلى أن الإنسان يتناول ما يرتاح له ذوقاً، قال شاعرهم:
أما الطعام فكلْ لنفسك ما اشتهت
…
والبَسْ لها ما يشتهيه الناس
فالإنسان يتناول من ألوان الطعام والمشروب ما طاب له، ما لم يكن مضراً بالعقل؛ كالخمر، أو البدن؛ كالميتة، أو العقيدة؛ كما أُهِلَّ به لغير الله، أو نازعاً منه صفة العدالة؛ كمن يضع يده في طعام آخر بغير رضاه.
ويستعمل الذوق في اللغة مجازاً فيما يرتاح له الإنسان؛ كالنوم، والرحمة، فيقال: ما ذقت اليوم نوماً، وأذاقه الله رحمة. ويستعمل فيما يستلزم النفور
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد السادس من السنة الثامنة.
منه؛ كالبأس والعذاب.
والذواق: ما يتناول من طعام، وما يروى من حكمة.
وقال بعض علماء البلاغة في الأثر الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم: كانوا لا يفترقون إلا عن ذواق: الذواق: ما يتناول من طعام. ويكنّى به عما يذكرون من حكمة على وجه النصيحة والموعظة.
والذوق فيما يتحدث فيه الناس في إيثار السمرة على البياض، أو البياض على السمرة، أو السمن على نحافة الجسم، وتفضيل العيون السود على العيون الزرق.
واختلاف الناس في إيثار أمر من هذا يرجع إلى اختلاف الذوق، وليس لأحد دليل عقلي يستطيع به تفضيل لون على آخر. واختلاف الناس في مأكلهم وملابسهم وتنظيم بيوتهم يرجع إلى اختلاف أذواقهم.
والذوق عند علماء البلاغة: هو قوة في الطبع يدرك بها الرفيع من الكلام والمنبوذ منه، ولا يرجع الحكم فيه إلى قواعد مقررة، بل إلى استحسان الطبع للكلام أو استهجانه، سواء كان في التئام حروف الكلمات، أو التئام بعض الكلمات مع بعض، أو وقوعها الموقع اللائق بها. ويتبع هذا أن يكون الاستحسان أو الاستهجان في التشابيه والمجازات والاستعارات والكنايات.
وقد ضرب صاحب "دلائل الإعجاز" أمثلة لذلك، فمما خفي استهجانها عند بعض الباحثين في البلاغة، وظهر لهم استحسانها، وليست في الواقع بمستحسنة: قول المتنبي:
عجباً له مسك العنان بأنمل
…
ما حفظها الأشياء من عاداتها
والذوق السليم ينكر قوله: ما حفظها الأشياء؛ لأن الإضافة تدل على
أن لها حفظاً، ومراد الشاعر: أن ليس من عادتها الحفظ أصلاً، فالمناسب أن يقول: ما حفظ الأشياء.
ومما ظهر استهجانه، وليس بمستهجن: قول ابن الرومي:
وجهل كجهل السيف والسيف منتضى
…
وحلم كحلم السيف والسيف مُغمد
قال الصاحب بن عباد: كان الأستاذ - يعني: ابن العميد - يختار من شعر ابن الرومي، وينقط عليه، وسلم إليّ القصيدة التي أولها:"راعت طلاعى جمرة تتوقد"، فتأملتها، فوجدته ترك خير بيت فيها، وهو قوله:"وجهل كجهل السيف"، وقلت: لم ترك الأستاذ البيت؟ فاعتذر بعذر كان شراً من تركه، فقال: تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. وقال الصاحب: لو قال: وجهل كجهل السيف وهو منتضى، أو كجهل السيف وهو منتضى، أو كحلم السيف وهو مغمد، فسد المعنى؛ يعني: من جهة البلاغة.
وقد أنكروا على أبي تمام قوله:
كانوا برود زمانهم فتصدعوا
…
فكأنما لبس الزمان الصوفا
حيث أسند لبس الصوف إلى الزمان، وذلك ينفر منه الطبع؛ كإنكارهم الاستعارة المكروهة في قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صبّ قد استعذبت ماء بكائي
حيث أضاف الماء إلى الملام، وعادتهم إضافته لما يستحسن؛ كماء الحسن، وماء البشاشة، وماء الحياء، ويكنى عن العزة بماء الوجه.
وقال المتنبي:
وقد ذقت حلواء البنين على الصبا
حتى قال بعضهم: ما زالت الأذواق تستهجن ماء الملام حتى عززها أبو الطيب بحلواء البنين.
وقد أراد أبو تمام أن يجعل استعارة ماء الملام كجناح الذل في الآية؛ إذ حكي أن بعض المستهجنين استعارة ماء الملام أرسل له قارورة، وقال له: أرسل لي شيئاً من ماء الملام.
فقال أبو تمام: أرسل لي ريشة من جناح الذل، أرسل إليك شيئاً من ماء الملام!.
والفرق بين ماء الملام وجناح الذل في حسن السبك وانتقاء وجه الاستعارة لا يخفى على ذوق سليم يدرك الحسن من المستهجن.
وبعض من يشهد له بالذوق السليم قد يغفل، فلا يبصر وجه الاستهجان في الاستعارة وغيرها، ويبصر به غيره، كما غفل أبو تمام عن استهجان ماء الملام، والمتنبي عن حلواء البنين، وإلا فمن يقول كأبي تمام:
من لم يُسَسْ ويطير في خيشومه
…
وهج الخميس فلن يقود خميسا
ومن يقول كالمتنبي:
فلو أن المقام به علوٌّ
…
تعالى الجيش وانحطّ القتامُ
شأنهما أن يتنبها لما في استعارة ماء الملام وحلواء البنين من الاستهجان.
واختلاف الشعراء والكتاب في أساليبهم يرجع إلى اختلافهم في الذوق.
وربما يبدو للذوق العاجل في نظر القرآن أن لو ذكر القرآن لفظاً آخر غير الذي ذكره، لكان أحكم نظاماً، وأوفى بلاغة؛ كما إذا نظر الذوق على عجل قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
ويبدو له أن المناسب لقوله تعالى: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] اسم الغفور، بدل العزيز، ولكن لفظ العزيز أنسب عند التأمل بقوله:{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ، والمعنى: إن تعذبهم، فإنهم عبادك ليس لأحد سلطان لأن يمنعك من عذابهم، وإن تغفر لهم، فلا سبيل لأحد أن يصدك عن المغفرة لهم، فإنك أنت العزيز؛ أي: الغالب على كل شيء، الحكيم الذي يضع كل شيء الموضع اللائق به.
ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لكان معرضاً بالشفاعة لهم، وهو يريد أن يفوض الأمر إلى الله ليفعل ما يشاء، وهو العالم بما يقتضيه حالهم من التعذيب والمغفرة لهم.
وتجرأ بعض القارئين فقرأ: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، وعوقب معاقبة من يتعمد تبديل ألفاظ القرآن بما يوافق ذوقه الخاص.
وقواعد النحو لا يعتبر فيها الذوق الخاص؛ كما لو أراد بعض الأذواق أن يؤنث العدد للمؤنث، ويذكره للمذكر، وأن يصرف الممنوع من الصرف، فإن فعل ذلك، فقد جاء بلغة أخرى غير العربية الفصحى؛ لأنه يعتبر في قواعدها ما روي عن العرب، سواء وافق الذوق الخاص، أو لم يوافقه، ولاسيما لغة نزل بها القرآن، وألّفت بها في شتى كتب العلوم كتب قيمة.
والذوق عند الصوفية، ويعبرون عنه بالوجد: عرفان يقذفه الحق في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره.
وشرط أصحابه أن يوافق قرآناً وسنّة.
قال سهل بن عبد الله التستري، وهو من أساطين الطائفة: كل وجد
لا يشهد له الكتاب والسنّة فهو باطل.
وقال أبو سليمان الداراني، وهو من أكابرهم أيضاً: إني لتمرُّ بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنّة.
فإذا فعل بعض من ينتمي للصوفية شيئاً، وقال: إنه عرفان من حق، ولم يشهد له كتاب أو سنّة، أو سيرة السلف الصالح، تركناه جانباً.
ومن هنا قال العلماء: المتشابه لا يكون إلا في كلام الشارع ليقضى فيه بالمحكم لحكمة يعلمها الشارع، وأما المخلوق، فيحكم على كلامه بما يقتضيه لفظه الصريح العربي؛ حتى لا يدعي المخلوق يلحد في كلامه أنه من قبيل المتشابه.
والذوق عند بعض أهل العصر: إدراك ما يليق في العمل أو المعاملات، فيقولون: فلان صاحب ذوق: إذا كان يحسن ما يعمل، أو يحسن معاملة غيره.
وقد يخطئ في الذوق بعض أهل العصر، فيستعمله في القوانين والأعمال الشرعية، وهو طبيعة تتربى بمحاكاة بعض الأجانب، وتغلو به المحاكاة إلى قوانينهم ومعاملاتهم؛ كالربا، ولا يزيد إن ذكرت له حداً من حدود الشريعة أن يقول: هذا مناف للذوق.
وإنما يحسن أن نحاكيهم فيما سبقونا إليه من الأشياء المادية؛ كالهاتف، والبرق، والأسلحة، والطائرات، والغواصات، والإذاعة، وأما الأمور العقلية المعنوية، فقد دلت المشاهدة على أنهم ونحن فيها سواء.
وإنما يعتد في القوانين بالمصالح العامة، ولا يعتد بالذوق الخاص، ولا بالذوق الذي تربى من عادة بنيت على غير مصلحة.
والخلاصة: أن الذوق في اللغة، وفيما يتحدث به الناس في اللون أو الشكل أو البراعة في القول يعتد به، وأما في قواعد النحو، فالمعتمد به ما ورد عن العرب، أو اقتضاه القياس على كلامهم. ولا عبرة بالذوق في أحكام الشرع، فيعتد فيها بما ورد عن الشارع، وما اقتضته المصالح العامة.