الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذّرائع: سدُّها وفتحها
(1)
الذريعة: الوسيلة، يقال: جعلت ذريعتي لفلان فلاناً؛ أي: وسيلتي إليه.
والسد: المنع، يقال: سد عليه الطريق؛ أي: منعه من الدخول فيه.
وهذا أصل قول الفقهاء في قاعدة سد الذرائع: منع ما يجوز؛ لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز.
فقد منع الشارع ما يجوز في نفسه؛ خشية أن يتوصل به إلى محرّم. وما يمنعه الشارع من الأفعال قسمان:
قسم يشتمل بنفسه على المفسدة؛ كالقتل بغير حق، والزنا، والسرقة، والقذف، وشرب الخمر.
وقسم لا يشتمل على المفسدة بنفسه، وإنما هو مقدور للمكلف، وأصله الجواز، ولكنه يفضي إلى ما فيه المفسدة، وهذا هو الذي يسمى: ذريعة، ويسمى منعه: سداً.
والذرائع على ثلاثة أقسام:
قسم اعتبره الشارع، ومنع منه حيث كان يفضي كثيراً إلى ما فيه المفسدة؛
(1) مجلة "لواء الإِسلام" - العدد الثالث من السنة التاسعة.
كسب آلهة المشركين في وجوههم؛ فإنه يؤدي إلى ما فيه المفسدة، وهو سب الإله الحق، وإن كان سب آلهة المشركين في نفسه ليس فيه مفسدة، قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وكضرب النساء بأرجلهن وفيها الخلاخل؛ ليسمع وسواسَ الحلي من يريد الاتصال بهن، قال تعالى:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31].
فضرب الأرجل بالخلاخل في نفسه ليس فيه مفسدة، ولكنه ذريعة إلى ما فيه مفسدة، وهو اتصال الأجنبي بالمرأة.
وقسم ألغاه الشارع؛ لقلة ما يفضي إليه من مفسدة بالنسبة إلى كثرة ما ينتج عنه من المصلحة؛ كزرع العنب، فقد يفضي إلى اتخاذ الخمر من عصيره، فلم يمنعه الشارع؛ نظراً للمصلحة التي تنجم عنه كثيراً، وهو أكله من جملة الثمرات، واكتفى الشارع بالنهي عن الخمر نفسه.
والقسم الثالث من الذرائع: يتردد بين المصلحة والمفسدة، ولم يبين له الشارع حكماً بدليل خاص، كما بيَّن القسمين السابقين، وهذا القسم هو الذي بحث فيه المجتهدون، واتجهت أنظار الكثير منهم إلى منعه، واختلفوا في بعض الفروع؛ كالصور المعروفة في بيوع الآجال، التي منها: أن يبيع شخص لآخر سلعة بمئة إلى أجل، ثم يشتريها منه نقداً بخمسين، فقد نص كثير من الأئمة على منعها؛ لأن البائع خرج من يده خمسون جنيهاً، وأخذ عند حلول الأجل مئة، والسلعة قد جعلت ذريعة للربا، وجعل هؤلاء الأئمة علة المنع من العقد كثرة قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع
حكماً مطرداً، من غير نظر إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده؛ لأن علة الحكم يكفي فيها أن تكون مظنونة، ولا يشترط فيها أن تكون محققة.
وذكر القائلون بسد الذرائع في معرض الأدلة: آية: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وآية {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور: 31].
وحديث: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا ثمنها"؛ فإن الشحوم حرمت عليهم تحريماً ذاتياً، فتوسلوا ببيعها إلى الانتفاع بثمنها كما ينتفعون بالشحوم، وبذلك توصلوا إلى إبطال تحريمها.
وذرائع الفساد التي في الآيتين والحديث مجمَع على سدها، ولكن المجتهد يعدها في جملة ما استقرأه من موارد الشريعة، فإن لا يقرر قاعدة إلا إذا استقرأ معناها من نصوص متعددة تدل بجملتها على أن قصد الشارع سد ذرائع الفساد، فإذا حصل له الجزم من تتبع النصوص الكثيرة بالمعنى الذي استقرأه فيها، صاغه حينئذٍ قاعدة، فإذا جرت واقعة فيها ذرائع فساد حكم بالمنع مستنداً إلى القاعدة، حيث لم يرد في الواقعة دليل خاص على سدها، والقاعدة تنزل من كلام الشارع منزلة اللفظ العام، فتطبق على الوقائع التي تدخل تحتها من غير توقف في حكمها على دليل خاص.
فإذا ذكر المجتهد الآية والحديث، فإنما يذكر بعض ما استند إليه في تقرير القاعدة.
وقد ساق ابن القيم أدلة كثيرة على سد الذرائع من الكتاب والسنّة وعمل السلف، وذكر في هذا الصدد مخالفة الإمام الشافعي للقول بسد الذرائع، فقال الحفيد بن رشد في "بداية المجتهد": وقال الشافعي: وحمل المسلمين
على التهم لا يجوز.
وقال ابن رشد: والشافعي لا يعتبر التهمة، وإنما يراعي مما يحل ويحرم من البيوع ما اشترط البائعان، وذكراه بألسنتهما، وظهرا من فعلتهما.
وقد تعرض ابن القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" للإمام الشافعي، فقال:"ومن عرف سيرة الشافعي، وفضله ومكانته في الإِسلام، علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وكان رحمه الله يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، وفرق بين أن يعتبر القصد في العقد، ويجريه على ظاهره، وبين أن يسوغ عقدًا قد علم بناءه على المكر والمخادعة، وقد علم أن باطنه خلاف ظاهره، ولو قيل للشافعي: إن المتعاقدين تواطآ على ألف بألف ومئتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السلعة محللاً للربا، لم يجوِّز ذلك، وأنكره غاية الإنكار، وقد كان الأئمة من أصحاب الشافعي ينكرون على من يحكي عنه الإفتاء بالحيل".
ومقتضى تحرير مذهب الشافعي: أن الشافعي لو علم أن المتعاقدين قصدا الوصول إلى الربا، لوافق غيره في تحريم الصور التي يحرمها غيره مطلقًا، سواء علم قصد المتعاقدين إلى الربا، أم لم يعلم.
والذين يذهبون إلى إباحة الذرائع يقولون: إنما نسمي ما يتوصل به إلى ممنوع: وجوه المخارج من المضائق، ولا نسميها: الحيل التي تنفر الناس من اسمها.
وليس في الشريعة مضائق حتى يحتاج إلى الخروج منها، فإن أرادوا بالمضائق ما نهى عنه الشارع نهيَ تحريم، أو أمرَ به أمر إيجاب، فالتكاليف
التي تتضمن تحريماً أو إيجاباً كلها مضائق إذاً، والله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وكيف لا يسلم القائلون بإباحة الذرائع، وأنهم ناقضوا قصد الشارع، فكان الشارع- في زعمهم- قال لهم: توصلوا بهذا الوجه الجائز إلى ما حرمته، وتوصلوا بهذا الوجه الجائز إلى إسقاط ما أوجبته، واستدلوا على مذهبهم بأدلة تصدى ابن تيمية وابن القيم إلى إبطالها.
والتحقيق الذي نراه، ونقر عليه العقيدة: أن الذريعة التي يقصد بها التوصل إلى محرم، كالربا، أو يقصد بها التوصل إلى إسقاط واجب؛ كالزكاة، يجب سدها.
وكما تمنع الذرائع المفضية إلى فساد، تفتح الذرائع المقدور عليها الموصلة إلى واجب؛ كالسعي لصلاة الجمعة، والرحلة إلى الحج لمن كان خارج الحرم، قال تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ} [الجمعة: 9].
وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
ويقال هذا في السلاح الذي يقاتل به الأعداء، فالأمر بإعداد السلاح أمر ليس بواجب لا لذاته، بل لتحقيق واجب هو القتال.
وكذلك الرحلة لطلب العلم مأمور بها؛ لأنها ذريعة إلى طلب العلم اللازم للفرد أو الأمة، قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122].
فالفقيه إذا استقرأ هذه النصوص ونحوها، وقرر فتح ذرائع الواجبات،
فإذا عرضت عليه واقعة يتوقف فيها قيام المكلف بواجب على أمر مقدور له، طبق على الواقعة قاعدة فتح ذرائع الواجبات، وقضى عليه بفعل ذلك الذي توقف عليه القيام بالواجب.