المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإنصاف الأدبي (1) لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(8)«رسَائِلُ الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌المروءة ومظاهرها الصّادقة

- ‌الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

- ‌في مفاسد البغاء

- ‌كلمة في المسكرات

- ‌الشجاعة

- ‌المساواة في الإسلام

- ‌عِظَمُ الهمّة

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة

- ‌صدق اللهجة

- ‌فضيلة الإخلاص

- ‌الأمانة في العلم

- ‌القضاء العادل في الإسلام

- ‌الإنصاف الأدبي

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

- ‌كبر الهمّة في العلم

- ‌الدهاء والاستقامة

- ‌الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

- ‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

- ‌سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين

- ‌العزّة والتواضع

- ‌المداراة والمداهنة

- ‌الرفق بالحيوان

- ‌محاكاة المسلمين للأجانب

- ‌الاجتماع والعزلة

- ‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

- ‌النبوغ في العلوم والفنون

- ‌متى تكون الصّراحة فضيلة

- ‌رسائل الإصلاح

- ‌المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

الفصل: ‌ ‌الإنصاف الأدبي (1) لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن

‌الإنصاف الأدبي

(1)

لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن الإنصاف الذي يفسر بالعدل، ويوصف به من ينتصب للحكم بين المتخاصمين، فقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع في مقال:"القضاء العادل في الإسلام". كما أني لا أريد البحث عن الإنصاف الذي هو خلق يحمل صاحبه على أن يعطي الحقوق المادية من نفسه؛ كأن يعرف الرجل أن هذا المال أو المتاع حق لفلان، فيكفّ يده، أو يرفعها عنه من تلقاء نفسه، لا يخشى سطوة حاكم، أو لومة لائم. فللحديث عن الإنصاف الذي هو تبرئة الذمة من الحقوق المادية مقام غير هذا المقام، وإنما الغرض: البحث عن ضرب خاص من ضروب الإنصاف، وهو أن يقول الرجل صوابًا، فتعترف بأنه محق، أو يحرز خصلة حمد، فتقرّ بها، ولا تنازع من يصفه بها، ولا أجد مانعاً من أن أسمّي هذا النوع من الإنصاف:"الإنصاف الأدبي"، ويقابله من الأخلاق المذمومة:"العناد"، وهو جحود الحق، وردّه مع العلم بأنه حق.

والإنصاف الأدبي من الخصال التي لا ترسخ إلا في نفس نبتت في بيئة صالحة، وارتضعت من ثدي التربية الصحيحة لبناً خالصاً، والجماعة

(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثالث من المجلد الرابع، الصادر في شهر ربيع الأول 1352 هـ - القاهرة.

ص: 104

التي تفقد هذا الخلق تفقد جانباً عظيماً من أسباب السعادة، ويدخلها الوهن بعد الوهن، حتى تتفرق أيدي سبأ، وعليك الإنصات، وعلينا البيان:

بين الأخلاق روابط، وكثيراً ما يكون بعضها وليد بعض؛ كالعدل قد يكون وليد القناعة، وكالشجاعة قد تكون وليدة عزَّة النفس، وكالجبن قد يكون وليد الطمع، وكذلك خلق العناد وعدم الإذعان للحق قد يكون وليد الحسد، وقد ينشأ عن طبيعة الغلوِّ في حبّ الذات، وللغلو في حب الذات فرعان: حب الانفراد بالفخر، دايثار النفس على كل شيء حتى الحق، فالحاسد، أو الحريص على الانفراد بالفخر، هو الذي يسمع الرجل يقول صواباً، فيقول له: أخطأت، أو يسمع الثناء عليه ببعض ما أحرز من خصال، فيقول للمثنى عليه: كذبت. وإيثار النفس على النفس هو الذي يحمل الرجل على التعصب لرأيه، والدفاع عنه وهو يعلم أنه في خطأ مبين.

فمن أراد أن يطبع ناشئاً على خلق الإنصاف، نقّب على علتي: الحسد، والغلو في حب الذات، فإن وجد لهما في نفس الناشئ أثراً، راوضه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يتهيأ الناشئ لأن يكون على هذا الخلق العظيم؛ أعني: خلق الإنصاف.

وإذا كان منشأ الحسد قلة ملاحظة أن النعمة تصل إلى صاحبها من علاّم الغيوب، وهو لا يرسلها إلا لحكمة، فإن من وسائل علاج هذا الداء: تلقين الناشئ أن النعم - مادية أو أدبية - إنما ينالها بمشيئة العليم الحكيم.

وإذا كان منشأ الحرص على الانفراد بالفخر هو الغلو في حب الذات، كان على المربي تهذيب عاطفة حب الذات في نفس الناشئ حتى تكون عاطفة معتدلة: تجلب له الخير، وتأبى له أن ينال غيره بمكروه.

ص: 105

وإذا شفي الناشئ من مرض الحسد، وخلص من لوثة الغلو في حب الذات، لم يبق بينه وبين فضيلة الإنصاف إلا أن تعرض عليه شيئاً من آثارها الطيبة، وتذكره بما يدرك المحرومين منها، والمستخفّين بها من خسار وهوان.

وقلة الإنصاف تبعد ما بين الأقارب أو الأصدقاء، وكم من تجافٍ نشأ بين أخوين أو صديقين، وإنما نشأ من جحود أحدهما بعض ما يتحلى به الآخر من فضل، أو من ردّه عليه لرأياً أو رواية، وهو يعلم أنه مصيب فيما رأى، أو صادقاً فيما روى.

قال الحكيم العربي:

ولم تَزَلْ قِلّةُ الإنصافِ قاطعةً

بينَ الرّجالِ وإنْ كانوا ذَوي رَحِمِ

ومتى شعر الرجل من آخر وإنكار شيء من فضله، أو بتعسفه في معارضه رأيه، رآه غير موضع للصحبة والمعاشرة، وربما وقع في ظنه أن الراحة في عدم لقائه.

قلة الإنصاف تجر إلى التقاطع، والإنصاف يدعو إلى الالفة، ويؤكد صلة الصداقة، فإذا كنت في مجلس، فقرر الرجل رأيًا واضح الحجة، فغلبك ما في نفسك، وحاولت أن تصوره للناس خطأ، فقد ألقيت بينك وبينه عداوة، فإن خضعت لحجته، وأعربت له عن استحسان رأيه، فقد مددتَ بينك وبينه سبباً من أسباب الألفة؛ إذ يشعر من إنصافك أنك لا تحمل له ضغناً، ولا تكره له أن ينال حمداً؛ فإن سبق هذا الإنصاف خصومة، شعر بأنك خصم شريف، فيسعى لأن تنقلب الخصومة سلماً، ويتبدل التقاطع ولاء.

وقلة الإنصاف تسقط احترامك من العيون؛ فإن من يراك تهاجم الآراء

ص: 106

المؤيدة بالحجة، قد يحمل هذا الهجوم على قصر نظرك، وعجزك عن تمييز الباطل من الحق، فإن حمله على أنك تهاجمها كراهة أن تكسب صاحبها حمدًا، وقع في نفسه أنك تتمنى لغيرك زوال النعمة، أو أنك حريص على الانفراد بخصال الحمد، فإن ذهب في تأويل إبايتك لقبول الحق إلى أنك تموّه على الناس؛ حتى لا ينسبوا إليك نقيصة الخطأ، علم ما لم يكن يعلم من إيثارك النفس على الحق، ولا احترام لمن لا يدرك الآراء المؤيدة بالحجة، أو يتألم من أن يرى غيره في نعمة، أو من يعمل للانفراد بالحمد من طريق التعسف والعناد، أو يدافع عن نفسه نقص الخطأ بمحاولة قتل الحق.

قلة الإنصاف تسقط احترامك من القلوب؛ والإنصاف يزيد احترامك في القلوب مكانة؛ ذلك لأن إنصافك للرجال يدل على صفاء سريرتك ونقائها من أن تكون قد حملت شيئاً من دنس الحسد، أو حام بها الغلو في حب الذات.

نقرأ في كتب الأدب: أن منذر بن سعيد البلوطي دخل مصر، وحضر مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء، فأنشد أبو جعفر أبيات مجنون ليلى هكذا:

خليليَّ هلْ بالشّامِ عيْنٌ حزينةٌ

تُبكّي على نَجْدٍ لعلّي أُعِينها

قد اسلَمها الباكون إلا حمامةً

مطوّقةً باتَتْ وباتَ قرينُها

تجاوِبُها أخْرى على خَيْزُرانَةٍ

يكادُ يدنيّها من الأرضِ لينُها

فأراد منذر أن ينبهه على أن قراءة: "باتت وبات" من عجز البيت الثاني بالتاء المثناة خطأ، فقال: يا أبا جعفر! ماذا- أعزك الله- باتا يصنعان؟ فقال أبو جعفر: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ قال منذر: "بانت وبان قرينها".

ص: 107

كيف يكون مقام أبي جعفر في نفسك لو قصَّ عليك التاريخ أنه تلقى تصحيح منذر بن سعيد بالارتياح، وقال له: أنا أخطأتُ، وأنت أصبتَ؟ لا شك أنك تحمل له من الاحترام فوق ما كنت تحمل، ولكن منذر بن سعيد يقول: إن ابن النحاس سكت، وما زال يستثقلني، ثم عاد بعد حين إلى ما كنت أعرفه منه؛ يعني: من الإقبال والحفاوة.

وقلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً؛ فمن لم تنصفه من أهل العلم، وجد في نفسه مثبطًا عن أن يسرع إلى إفادتك أو يقيض القول في مذاكرتك، فيفوتك حظّ من العلم لولا عدم إنصافك، لازددت به قوة في الفهم، وسعة في العلم، وقد يكون من أثر جحودك لفضل الرجل أن تقل رغبتك في ملاقاته، والتزود من آرائه أو رواياته، وكم وصل الرجل بإنصافه إلى علم وأدب جم!

قال أبو إسحاق الزجّاج: لما قدم المبرِّد بغداد، أتيته لأناظره؛ وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، وأميل إلى قول الكوفيين، فعزمت على إعنات المبرِّد، فلما فاتحني، ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة؛ وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فتبينت فضله، واسترجحت عقله، وجددت في ملازمته.

فلو كان أبو إسحاق من أولئك الذين يجمح بهم التعصب للأشياع أو المذهب، حتى ينبذوا الانصاف ناحية، لما اعترف بفضل المبرد، وقد فاتحه بالمناظرة عازمًا إعناته، ولفاته العلم الذي غنمه بالجد في ملازمته.

وقلة الإنصاف تحدِث في العلم فساداً كبيراً؛ ذلك لأن من لا يقدر الإنصاف قدره، قد يرى بعض الآراء العلمية الصحيحة قد صدرت من شخص لا يرتاح هو لأن تكون قد صدرت منه، فيقابلها بالرد والأنكار، وقد تكون

ص: 108

له براعة بيان، فيصرفها في تشويه وجه الحق، وهو يعلم أنه حق، فيظهر الجهل على العلم، ولو في فئة قليلة، أو دائرة صغيرة.

قلة الإنصاف تخذل العلم، وتطمس شيئاً من معالمه، والإنصاف يؤيد العلم، ويجعل موارده صافية سائغة. ولو أخذ الإنصاف حظه من نفوس جميع الباحثين عن الحقائق، لقلَّت مسائل الخلف في كل علم، فيكون حفظ العلوم أيسر، ومدة دراستها والرسوخ فيها أقصر.

نقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبد السلام: أن ابن الصبّاغ اعترض عليه في أربع عشرة مسألة، فلم يدافع عن واحدة منها، بل أقرّ بالخطأ في جميعها.

ومن النواحي التي غفل فيها بعض الناس عن فضيلة الإنصاف، فكانت منبت فساد غير قليل: ناحية التعصب للمذهب تعصبَ من لا يسمع ولا يرى، ولصاحب المذهب أو المقتدى به أن يبسط القول في تقرير أصوله، وإيراد حججه، وله أن يناقش أقوال مخالفيه، وأدلتهم، فيردها، ويصفها بالخطأ إذا شاء، ومن الإنصاف أن يناقشها استبانة للحق، ولا يصفها بالخطأ إلا بعد أن تأذن له الحجة في وصفها، والعالِم الذي يطول نظره في أقوال الأئمة، يشهدهم كيف يرمون إلى غرض واحد هو الحكم المطابق للحق، فيمتلئ قلبه باحترامهم، ويقف في حدود الإنصاف عند درسه لمسألة من المسائل التي جرى فيها اختلافهم.

قال الإمام الشافعي: الظرف في الوقوف عند الحق كما وقف.

لا يصعب على النفوس - التي فيها بقية من خير - أن تنصف الرجل يبتكر رأياً، أو ينهض لعمل، فتعترف لرأيه بالإصابة، أو لعمله بالإجادة.

ص: 109

والإنصاف الذي قد تجمح عنه نفسك كثيراً أو قليلاً: أن تقول قولاً تظنّه صوابًا، أو تعمل عملاً تحسبه حسناً، فينقده آخر بميزان العلم الصحيح، ويريك أنك قد قلت خطأ، أو عملت سيئاً، ففي مثل هذا المقام قد تجد في نفسك كراهة للاعتراف بالخطأ في القول، أو الإساءة في العمل، فإن كنتَ على ذكر من فضيلة الإنصاف، وما تؤتيه من ثمار طيبة، لم تلبث أن تكظم هذه الكراهة، ولا تجد في نفسك حرجاً من أن تقول للناس: إني قد أخطأت في قولي، أو أسأت في عملي.

وتاريخ الإسلام مملوء بقصص الذين رجعوا عن آرائهم بعد محاورات أو مناظرات ظهر لهم منها أن الحق في جانب من دارت بينهم ويينه المحاورة أو المناظرة.

ومما يروى في هذا الصدد: أن مناظرة جرت بين الإمامين: مالك بن أنس، وأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة في مقدار الصاع الذي تؤدى به زكاة الفطر، فقال مالك: هو خمسة أرطال وثلث، وكان أبو يوسف يذهب إلى أنها ثمانية أرطال، فاحتج عليه مالك بالصيعان الموجودة لذلك العهد عند أبناء المهاجرين والأنصار بالمدينة، فرجع الإمام أبو يوسف إلى ما قاله الإمام مالك.

لا يصعب على الرجل أن ينصف قريباً أو صديقاً، بل لا يصعب عليه أن ينصف من لا تربطه به قرابة أو صداقة، ولا تبعده منه عداوة.

والإنصاف الذي قد يحتاج فيه إلى مراوضة النفس كثيراً أو قليلاً: أن يبدي بعض أعدائه رأياً سديدًا، أو يناقشه في رأي مناقشة صائبة، فهذا موطن تذكير النفس بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد من إثم وفساد.

ص: 110

ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة: أن يتحدث الرجل عن خصمه، فينسب إليه ما يعرفه له من فضل.

أنشد في مجلس الإمام علي بن أبي طالب قول الشاعر:

فتىً كان يدنيه الغِنى من صديقِهِ

إذا ما هو اسْتَغْنى ويبعدُه الفَقْرُ

كأنّ الثُّرَيّا عُلِّقَتْ بجبييهِ

وفي خدِّهِ الشَّعرى وفي الآخَرِ البَدْرُ

فلما سمعها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف ليلتئذ مجرداً بينهما.

يسهل على الرجل أن ينصف من هو أكبر منه سناً، أكثَر مما يسهل عليه أن ينصف قرينه؛ ذلك لأن أكبر عائق عن الإنصاف التحاسد، وحسد الإنسان لأقرانه أكبر وأشد من حسده للمتقدمين عليه في السن، وشمهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدث سناً منه، إذ يسبق إلى ظنه أن ظهور مزية لمن هو أحدث عهدًا منه قد تقتضي إلى أن يكون ذكره أرفع، وفضل القرين على بعض أقرانه شائع أكثر من فضل المتأخر على المتقدم، وشيوع الشيء يجعله أهون على النفس مما هو أقل شيوعاً منه.

فينبغي للإنسان أن يتيقظ للأحوال التي تتقوى فيها داعية العناد، ويعدّ للوقوف عند حدود الإنصاف، ومقاومة تلك الداعية ما استطاع من قوة.

ويقص علينا التاريخ: أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يظهر عليه أحدُهم في بحث أو محاورة.

يذكرون: أن العلامة عبد الله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صورة، ويروى أن أبا عبد الله هذا كان

ص: 111

قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد بن الإمام الكلام في مسألة، وطال البحث اعتراضاً وجواباً حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً:

أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كُلَّ يَوْمٍ

فَلَمَّا اشْتَدَّ ساعِدُه رَماني

ومن نظر بروية إلى أن فضل العلم من جهة أنه وسيلة إلى إصلاح العمل وإسعاد البشر، وكان مع هذا النظر ناصحًا لأمته، وقف عند حد الإنصاف، ولم ينحرف عنه إجابةً لداعي الحسد، أو انسياقًا مع حب العلو في الأرض ولو بغير حق.

أخذ رجال بأدب الإسلام، فرسخوا في فضيلة الإنصاف على قدر صفاء سرائرهم، واحترامهم لأصول الدين وأحكامه؛ وقد مثّل الصحابة رضي الله عنهم الانصاف في أكمل صورة.

بدا لعمر بن الخطاب مرة أن يضع للمهور حداً، فخطب قائلاً:"لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد، ألقيت زيادته في بيت المال"، فقامت امرأة من صفّ النساء، فقالت: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: لأن الله عز وجل يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال عمر:"امرأة أصابت، ورجلٌ أخطأ". ولو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أولئك الذين يألمون من أن ينسب إليهم نقص أكثر من ألمهم لتحريف آية عن موضعها، أو استبدال خاطر بشري بحكم إلهي، لما عدم وجهاً من أمثال تلك الوجوه التي يصورها المخادعون أو ضعفاء الإيمان تعصباً لآرائهم المخالفة للقرآن.

اختلف ابن عباس، وزيد بن حارثة رضي الله عنهما في مسألة من باب الحيض، فقرر

ص: 112

ابن عباس حكماً، وخالفه زيد، فرأى فيها رأياً آخر، فقال له ابن عباس: سَل نسيّاتك: أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد فسألهن، ثم جاء وهو يضحك، فقال لابن عباس: القول ما قلتَ. وموضع العبرة من هذه القصة: أن زيداً تمسك برأيه في مخالفة ابن عباس حتى استبان له أن الحق مع ابن عباس، فلم يجد في نفسه حرجًا من أن يرجع إليه ضاحكًا، ويقول له: القول ما قلت.

ويروى: أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه تكلم في مسألة، فقال له أحد الحاضرين: ليس الأمر كذلك يا أمير المؤمنين، ولكنه كذا وكذا، فقال عليّ: أصبتَ وأخطأتُ، وفوق كل ذي علم عليم. وعشاق الأخلاق الكريمة يجلون الإمام عليّاً لهذا الإنصاف إجلالهم له عندما يفتي فيصيب الحق، أو يعظ فينطق بالحكمة.

وقد اقتدى بالصحابة في هذا الخلق الكريم من جاء بعدهم من كبار العلماء، وهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول:"ما ناظرت أحداَّ عَلى الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه".

والراسخون في فضيلة الإنصاف لا يبالون أن يكون رجوعهم عن الخطأ أمام من خالفهم وحده، أو بمحضر جمع كبير لم يشعروا بالخلاف، ولا بخطأ المخطئ، أو إصابة المصيب. وها هو ذا التاريخ يحدثنا عن رجال من علماء الإسلام بلغوا هذه الغاية من الإنصاف.

قال عبد الرحمن بن مهدي: ذاكرت القاضي عبيد الله بن الحسين في حديث، وهو يومئذٍ قاض، فخالفني فيه، فدخلت عليه بعد، وعنده الناس سماطين (1)، فقال لي: ذلك الحديث كما قلتَ أنتَ، وأرجع أنا صاغراً.

(1) سماط القوم،: صفّهم، يقال؛ قام القوم حوله سماطين؛ أي: صفين.

ص: 113

فعبيد الله قد أحسن إلى نفسه إذ أخذها بفضيلة الإنصاف، وأحسن إلى الناس إذ علّمهم كيف يعترفون بالخطأ إذا أخطؤوا؛ ولا يتلبثون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم، وعلت أقدارهم.

العناد قبيح، ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رده على صاحبه، فمتى كانت الحجة أظهر، كان العناد أقبح.

والإنصاف جميل، ويكون جماله أوضح وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيء من الخفاء، وحيث يمكنك أن تتحيز لرأيك، وتهيئ كثيراً من الأذهان لقبوله.

وقد ينقل التاريخ شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة، فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد، وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب، وربما كان إكبارهم لمن شهد لخصمه بمكرمة فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة، وسبب هذا الإكبار: عظمةُ الإنصاف، وعزّة من يأخذ نفسه بها في كل حال.

قال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.

وإذا لم ينصفك الرجل، فردَّ عليك الحق بالشمال واليمين، أو جحد جانباً من فضلك وهو يراه رأي العين، فلا تكن قلة إنصافه حاملة لك على أن تقابله بالعناد، فتردّ عليه حقاً، أو تجحد له فضلاً، واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك

ص: 114

أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم، كلا، لا يحارب الرجل خصومه المبطلين بمثل الاعتصام بالفضيلة، ولا سيما فضيلة كفضيلة الإنصاف تدل على نفس مطمئنة، ونظر في العواقب بعيد. ومن وجد في خصمه فضائل، حصر محاربته في الأمر الذي هو منشأ للخصومة؛ وترك تلك الفضائل قارَّةً في مكانها، بادية لمن أراد أن يقتدي بها.

وإذا كان الإنصاف فضيلة ترتفع بها أقدار الرجال، وتتسع بها دوائر العلوم، وتصفو بها موارد الآداب، ويشتد بها حبل الاتحاد، وينتظم بها شأن الاجتماع، كان من واجب أولياء الأطفال، وأساتذة الأخلاق، ودعاة الإصلاح، أن يجعلوا له من تربيتهم وتعليمهم ودعوتهم نصيباً يكفي لأن نرى أنديتنا ومؤلفاتنا وصحفنا نقية من إنكار الحق، بريئة من جحود الفضل.

ص: 115