المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(8)«رسَائِلُ الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌المروءة ومظاهرها الصّادقة

- ‌الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

- ‌في مفاسد البغاء

- ‌كلمة في المسكرات

- ‌الشجاعة

- ‌المساواة في الإسلام

- ‌عِظَمُ الهمّة

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة

- ‌صدق اللهجة

- ‌فضيلة الإخلاص

- ‌الأمانة في العلم

- ‌القضاء العادل في الإسلام

- ‌الإنصاف الأدبي

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

- ‌كبر الهمّة في العلم

- ‌الدهاء والاستقامة

- ‌الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

- ‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

- ‌سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين

- ‌العزّة والتواضع

- ‌المداراة والمداهنة

- ‌الرفق بالحيوان

- ‌محاكاة المسلمين للأجانب

- ‌الاجتماع والعزلة

- ‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

- ‌النبوغ في العلوم والفنون

- ‌متى تكون الصّراحة فضيلة

- ‌رسائل الإصلاح

- ‌المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

الفصل: ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

(1)

يخطُر في النفس أمر، فتثق بأنه حق أو نافع، فتحرص على حصوله، فإذا أضافت إلى هذا الحرص النظر في وسيلة بلوغها إياه؛ وبدا لها أنه في حدود استطاعتها، فسرعان ما تقبل عليه، وتبذل سعيها للوصول إليه، وذلك ما نسميه: بالعزم، أو الإرادة.

فما يخطر في النفس مما تعتقد حقيقته أو نفعه، وتود أن يكون حاصلًا لديها، ثم لا تسعى له سعيه، ولا تضع لبلوغه خطة، فإنما هو التمني الذي لا يفرق بين المحال والمستطاع، والذي يخطر في نفوس القاعدين؛ كما يخطر في نفوس المجاهدين، وما مثله إلا كمثل الشرر الذي يلمع حول النار، ثم يتصاعد هباء.

وإذا تحدثنا في هذا المقال عن قوة الإرادة، وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد، فإنما نعني: الإرادة المتوجهة إلى ما هو خير. ومن أفضل ما يمدح به الرجل: أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق، أو إقامة مصلحة. تنشأ قوة الإرادة من التجارب، فمن تعلق همه بأمر، كان قد عرف بطريق التجربة أنه ميسور، وأن عاقبته سلامة ونجاح، انقلب همه في الحال

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثالث، الصادر في شهر رجب 1349 هـ.

ص: 136

عزماً صادقاً، أما من لم تسبق له تجربة، فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله يده، أو يخشى من أن يلاقي وراء السعي إليه خيبة، فيقف في تردد وإحجام، فذو العمر الطويل من أولي الألباب، قد يكون أسرع إلى بعض الأمور، وأشد عزماً عليها من حديث السن؛ لما تفيده التجارب من إمكانها، ونجاح السعي لها.

وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ، فالذي يخطر في باله أمر، قرأ في سيرة شخص أنه كان قد هم بمثله، وعمل لحصوله، فنجح عمله، وصلحت عاقبته، شأنه أن يعزم على ذلك الخاطر، ويجعله بعد العزم عملاً نافذاً، فمن يخطر في باله أن يدعو الحاكم الجائر بالموعظة الحسنة، وقد قرأ سير العلماء الذين كانوا يأمرون بعض الجبارين بالمعروف فيأتمرون، أو يكظمون في الأقل غيظهم ولا يبطشون، يكون أقوى عزمأ على الدعوة ممن لم يقرأ في هذا الشأن خبراً، لما عرفه من أن للحق الذي يخرج في أسلويه الحكيم سطوة على النفوس، وإن كانت طاغية، فيقدم على وعظه في رفق، وحسن خطاب، فإن لم يهده سبيل الرشد، قضى حق النصيحة له، وما على الذين أوتوا الحكمة إلا البلاغ.

وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة تجعل الرجل على يقين من نجاح العمل وحسن العاقبة، واعتبروا في هذا بتصميم أبي بكر الصديق رضي الله عنه على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فإنه كان عالماً بأنه على حق من قتالهم، وكان على ثقة من أنه سينتصر بفئته القليلة على جموعهم الكثيرة، ومما دله على أنه الظافر، وأن المرتدين عن الدين لا يفلحون، قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]. ولو تقاعد أبو

ص: 137

بكر عن جهاد تلك القبائل، وخلّى الردة تتفشى في جزيرة العرب وباء فاتكًا، لانفصمت عرا الوحدة العربية الإسلامية، ولم يستقم أمر تلك الفتوح التي كانت عاقبتها ظهور دين الحق على سائر الأديان.

وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا الأخرى، وبلوغها غاية قصوى؛ كسجية إباءة الضيم تهز الضعيف، وتثير في نفسه العزم على أن يدافع القوي عن حقوقه ما استطاع دفاعه، وكذلك خُلُق الشجاعة يجعل الرجل أمضى عزماً، وأسبق إلى الحروب من الجبان الذي يتمثل له الموت في كل سبيل.

ومما يساعد الرجل على صدق العزيمة خُلُقُ التعفف وشرف الهمة، فلتجدنَّ أنزه القوم نفسًا، وأبعدهم عن الطمع وجهة، أشدَّهم عزماً على أن يقول حقاً، أو يعمل صالحاً، وإن لم يرض عن قوله الحق، أو عملِه الصالح ذو مال أو سلطان.

تتفاوت الإرادة في القوة، وتفاوتها على قدر قوة شعور الرجل بما للشيء من حقيقة أو نفع، وعلى قدر ثقته من تيسره وإمكان حصوله، فالذي أتقن علماً، فأحاط بأصوله، وغاص على أسراره، يكون عزمه في الدعاية إلى الأعمال المرتبطة به أقوى من عزم ذلك الذي وقف في دراسته عند حد لا يجعله من أعلامه، والرئيس العادل يكون أقوى عزماً على حرب أعدائه من الرئيس الجائر؛ لأن العادل يثق من قومه بحسن الطاعة أكثر مما يثق الجائر، ومن ظفر من قومه بحسن الطاعة، فقد ظفر باكبر أسباب الفوز والانتصار.

نقرأ في التاريخ: أن المنصور بن أبي عامر الذي جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم في قرطبة، قد غزا ستًا وخمسين غزوة دون أن تنتكس له راية، أو يتخاذل له جيش، أو يصاب له بعث، أو تهلك له سرية، ومن درس

ص: 138

سيرته، لم يعجب لهذا الانتصار المطرد؛ إذ يجد فيها عدلاً ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقي إليه بالمودة والامتثال، ومن الأخبار الشاهدة بما وصفنا: أن رجلاً من العامة وقف بمجلسه، وقال له: إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك، وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة (1)، وكان للفتى فضل محل عنده، فقال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية! ثم نظر إلى الفتى، وقال له: ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره، وبعد أن جازاه القضاء بما يستحق، أبعده المنصور عن خدمته، وصاحبُ مثل هذه السيرة حقيق بأن يكون له، متى هم بالحرب، عزم لا يختلج بتردد.

فمن وضع أمامه غاية شريفة، ورام من قومه العمل لها بعزم لا يخالطه فتور، فما عليه إلا أن يريهم بالأسلوب السائغ والدليل المقنع وجه شرف تلك الغاية، ثم يصف لهم طريقها الناجح، فلا يكون منهم إلا أن يتسابقوا إليها، ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها.

فإذا رأيت قوماً يذكرون في صباحهم ومسائهم شيئاً من معالي الأمور، ولم ترهم يسعون له سعيه، ولا يتقدمون إليه بخطوة، فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه، فهم إما أن يكونوا عن حقيقته وشرف غايته غائبين، وإما أنهم ضلّوا طريقه وما كانوا مهتدين.

(1) الدرقة: الترس.

ص: 139

وإذا ذكرنا العزم النافذ في خصال الشرف، فإنما نريد: الإقدام على الأمر بعد استبانة عاقبته، ولو على وجه الظن الغالب، وذلك ما يعنيه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في قوله:"ولكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المَكيث"، والمكيث: من لا يخف إلى الهجوم إلا بعد روية وتدبر.

ولا يعد في قلة العزم أن يستبين الرجل الحق أو المصلحة، ويقف دون عزمه مانع؛ كأن يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله، ويخشى الفتنة، فيرجئه ريثما يمهد له بما يجعله مقبولاً سائغاً.

قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت! ما لك لا تنفذ الأمور؟ فو الله! لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور، فقال له عمر: لا تعجل يا بني، إن الله تعالى ذمّ الخمر مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه، وتكون فتنة.

ولا يُعَدُّ في قلة العزم أن يرى الرجل رأياً، ويعقد النية على إنقاذه، ثم يبدو له على طريق الحجة أنه غير صالح، فينصرف عنه.

وقويُّ العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله، فيقبل بها على ما يراه صواباً، ويدبر بها عما يراه فساداً.

وإذا قال الشاعر مادحاً:

إذا همَّ ألقى بين عينيه عَزْمَهُ

ونكَّبَ عن ذِكْرِ العواقِبِ جانِبا

فإنما يريد: الهمّ الناشئ عن رجاحة رأي. وقويُّ العزم متى بصر بالأمر، ووثق بأنه سداد، قطع نظره عن العواقب، ونهض له في قوة، أما ضعيف العزم، فإنه يترك نفسه مجالاً للخواطر وذكر العواقب، هذه تغريه على العمل، وهذه تصده عنه، حتى تفوت الفرصة، ويذهب وقت العمل ضائعاً.

ص: 140

ومن صرامة العزم: أن تفرغ فؤادك من كل داعية شأنها أن تلحق بعزمك وهنًا، أو تصرف وجهك عنه صفحًا. وتتمثل هذه الصرامة في عبد الرحمن الداخل "صقر قريش (1) "؛ إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس، وأُهْدِيت له جارية بارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شغلت عنها بما أهم به، ظلمتُها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهم به، ظلمت همتي، فلا حاجة لي بها الآن. وردّها على صاحبها.

وكثيراً ما يجيء التردد في أمر من ناحية الشهوات والعواطف؛ كالذي يثق بما في طلب العلم من خير وشرف، ويقعده عنه حب الراحة، وإيثار ما تنزع إليه النفس من اللذات الحاضرة، والذي يقول:

إذا كنتَ ذا رأي فكُنْ ذا عزيمةٍ

فإنَّ فسادَ الرأي أنْ تَتردَّدا

إنما ينبه على التردد الناشئ عن نحو الشهوات والعواطف، فذلك هو التردد المفسد للرأي، والموقعُ في خسر.

لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم، فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن وسائر وسائل السؤدد فتيان كثيرون، ولكنه يجد من قوة الإرادة ما لا يجدون، فيكون له شأن غير شأنهم، ويبلغ في المحامد شأوًا أبعد من شأوهم، ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما ظهر غيرهم،

(1) قال أبو جعفر المنصور لأصحابه يوماً: أخبروني عن صقر قريش، فذكروا له طائفة من الخلفاء، وهو يقول:"لا"، فقالوا: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: عبد الرحمن ابن معاوية الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًا مفردًا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكاً بعد انقطاعه؛ لحسن تدبيره، وشدة شكيمته.

ص: 141

وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لِداتهم، لم تجد في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم غير أنه يهمون بالأمر، فيعملون.

وإذا جعلت تتقصى أثر دولة الموحِّدين التي وضعت قدمها في فاس، وبسطَت أجنحتها على الأندلس والجزائر وتونس، وجدت أقصى هذه الدولة همة طفحت بها نفس محمد بن تومرت بعد انصرافه عن مجالس أبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وغيرهما، عائداً إلى بلده بالمغرب الأقصى.

وكم من أمة أو دولة لم ينقذها ممن يبتغي بها سوءاً سوى قوة الإرادة!.

وقد يكون فيما صنع هارون الرشيد بالبرامكة غلو في الانتقام، وسرف في القتل، ولكن تنقية مناصب الدولة لم تكن إلا بنت اليقظة والإرادة التي لا يأخذها التردد في قطع المكر السيئ من جذوره. وإذا صح ما يصفهم به بعض أهل (1) العلم من أنهم كانوا يكيدون للإسلام كيد الباطنية، كان لهارون الرشيد موقف المنتقم لملكه، أو ملك أسرته من بعده.

فإذا كان صدق العزيمة من أفضل خصال الشرف، وأجلها في الإصلاح أثراً، فجدير بأساتيذ التربية أن يعطوه من عنايتهم نصيباً وافرًا، وحقيق بالرجال القوّامين على الشؤون العامة أن يأخذوا به أنفسهم، ويقيموه شاهداً على كفايتهم؛ فإن ما بيننا وبين المدنية الفاضلة والحياة الآمنة مسافة طويلة المدى، صعبة المرتقى، إذا لم نقطعها بالعزم الصارم والعمل المتواصل، ظلمنا أنفسنا، ولم نقض حق الأجيال بعدنا، فمن واجبهم علينا أن نبني لهم صروحاً من العز شامخة، فإن لم نستطع، هيأنا لهم أسسًا ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة، فإذا هم أحرار في أوطانهم حقاً، مكرمون لنزلائهم طوعاً.

(1) هذا ما قرره القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم".

ص: 142

وما اقترن العزم الصحيح بأدب التوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت عاقبته نجاحاً ورشداً؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

ص: 143