الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كبر الهمّة في العلم
(1)
الحديث عن فضل العلم وما يناله طالبه من مجد وكرامة حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، فأقصد إلى شيء غير هذا، هو: لفت أنظار نشئنا إلى ناحية تجعل المعارف لدينا غزيرة، والمباحث محررة، والآراء مبتكرة، وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا الذين خدموا الدين والعلم والمدنية، فكانت لهم المكانة التي يصفها التاريخ بإجلال وإعجاب، ونعني بهذه الوسيلة: كِبَر الهمّة في العلم.
ل كبر الهمة في العلم مظاهر، هي: أن تقضي الوقت في درس أو مطالعة أو تحرير، وأن تقتحم في سبيل ذلك المصاعب، وتدافع ما يعترضك من العوائق، وأن تبسط النظر في كل مسألة تصديت لبحثها حتى تنفذ إلى لبابها، وأن تضع يدك في كل علم استطعت إليه طريقاً، ثم تحط رحلك في علم تكون فيه النجم الذي يهتدي به المدلجون، والغيث الذي ينتجعه الظامئون، وكبر همتك في العلم يأبى إلا أن يكون للعلم مظهر، هو: العمل به، والسير على ما يرسمه من الخطط الصالحة في هذه الحياة.
أما صرف الوقت في ابتغاء العلم، فإن للعمر أجلاً إذا جاء لا يستأخر،
(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثامن من المجلد الأول، الصادر في شهر شعبان 1349 هـ.
وللعلم بحراً طافحاً ليس له من آخر، فكل ساعة قابلة لأن تضع فيها حجراً يزداد به صرح مجدك ارتفاعاً، ويقطع به قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً، فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجد الأسمى، ولقومك السعادة العظمى، فدَعِ الراحة جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً.
وإذا رجعنا البصر في تاريخ النوافي الذين رفعوا للحكمة لواء، وجدناهم يبخلون بأوقاتهم أن يصرفوا شيئاً منها في غير درس أو بحث أو تحرير.
قدم الحافظ ابن أبي حاتم صاحب كتاب "علل الحديث" القاهرة؛ ليتلَقّى عن شيوخها مالم يكن يعلم، فقضى في مصرسبعة أشهر لم يجد هو وأصحابه من الوقت ما يهيئون فيه لطعامهم مَرَقأ، وكانوا بالنهار يطوفون على الشيوخ، وبالليل ينسخون ويقابلون.
ونقرأ في حياة الفيلسوف أبي علي ابن سينا أنه لم ينم مدة اشتغاله بالعلم ليلة كاملة، ولم يشتغل بالنهار بسوى المطالعة.
ونجد في التاريخ: أن الفيلسوف ابن رشد لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله.
لم يقض حقَّ العلم، بل لم يدرِ ما شرف العلم، ذلك الذي يطلبه لينال به رزقاً، أو ينافس فيه قريناً، حتى إذا أدرك وظيفة، أو أَنِسَ من نفسه الفوز على القرين، أمسك عنانه ثانياً، وتنحى عن الطلب جانباً.
وإنما ترفع الأوطان رأسها، وتبرز في مظاهر عزتها، بهمم أولئك الذين يقبلون على العلم بجد وثبات، ولا ينقطعون إلا أن ينقطعوا عن الحياة.
وأما اقتحام المصاعب في الطلب، فإن معالي الأمور وعرة المسالك، محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق
إليها الأمم، فلا يخلص إليه الطالب دون أن يقاسي شدائد، ويحتمل متاعب، ولا يستهين بالشدائد إلا كبير الهمة، ماضي العزيمة.
كان سعيد بن المسيب يسير الليالي في طلب الحديث الواحد.
ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن نافع وهو في مصر ليروي عنه حديثاً، فقدم مصر، ونزل عن راحلته، ولم يحل رحلها، فسمع منه الحديث، وركب راحلته، وقفل إلى المدينة راجعاً.
ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب أو الأندلس إلا برجال رحلوا إلى الشرق، ولاقوا في رحلاتهم عناء ونصبأ، مثل: أسد بن الفرات، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي.
يتجرع كبير الهمة مرارةً حين تقف بينه وبين جانب من العلم عقبة، فإذا وجد مرعى العلم خصبًا، فعناؤه فيما يدعونه: راحة، وانقباضه فيما يسمونه: لهوًا، وألمه في ساعة ينقطع فيها عن العلم يساوي ألم المستهتر في الشهوات حين يقضي يومه في غير شهوة.
وقد يحسب من لم تصفُ بصيرته حتى يرى الحكمة في أسنى مظاهرها أن الذي يقول:
سَهَرِي لتَنقيحِ العلومِ ألذُّ لي
…
من وصْلِ غانية وطيبِ عِناقِ
إنما هو شاعر لا يبالي أن يفضل الشيء على ما هو أكمل في وجه الشبه وأقوى، ويبعد في نظره أن يبلغ ابتهاج النفس عند تحقيق بحث علمي مبلغ ابتهاجها بلقاء الغانيات، ولكن الذي يقدر الحكمة، يرى أن ناظم البيت لم يجد شيئاً يحاكي به اللذة التي يجدها عندما يطلق فكره وراء شوارد العلوم، فيظفر بها، فجاء إلى هذا الذي اشتهر بين الناس أنه لذيذ بالغ، ووصف لذة
الحكمة بأنها فوق لذته، فصاحب البيت لم يتجاوز في تصوير ارتياحه لتنقيح العلوم حد الحقيقة.
وأما نفوذ النظر في لباب المسائل، فلأن وقوف طالب العلم عند ظواهرها، واكتفاءه بالمقدار الذي يقصر به عن حسن بيانها، وإجادة العلم بها، لا يبعدان به عن منزلة خالي الذهن منها؛ فإنما وضعت العلوم لتهدي إلى العمل النافع، ولا شرف لها في نفسها، وإنما شرفها بما يترتب عليها من عمل صالح، أو كلم طيب، فمن يقضي زمناً في طلب علم، ثم ينفصل عنه وهو لا يستطيع أن يدفع عن أصوله شبهاً، أو يضرب له من العمل مثلاً، ذهب وقته ضائعاً، وبقي اسم الجهل عليه واقعاً.
فالفقيه بحق من تعرض لواقعة لم يفصل لها الشارع حكماً، ولم يتناولها السَّلَف باجتهاد، فيرجع إلى الأصول الثابتة، والقواعد المقررة، ويقتبس لها حكماً موافقاً.
ولا نكتفي ممن يدرس البلاغة أن يتصور قوانينها، ويعرف أمثلتها إلا أن يبصر بها كيف تسري في كتاب الله سريان الماء في الأزهار الناضرة، وحتى يستطيع أن يخطب أو يكتب على وفق ما درس من مناهجها الواضحة، وأساليبها الساحرة.
ولا يحق لنا أن نفتخر بفتيان درسوا الطبيعة والكيمياء، إلا أن يعودوا وفي قدرتهم أن يستقلوا بإدارة مصاح للدفاع، ومعامل لمرافق الحياة، فإنا نريد أن نعود كما كنا أساتذة في العلوم، نقلية أو عقلية، نظرية أو مادية.
ومما رمى الأفكار في خمول، ووقف بها حقبة عن الخوض في عباب العلوم إلى أمد بعيد، هذه المختصرات التي يقضي الطالب في فتح مغلقها،
وحل عقدها قطعة من حياته، جديرة بأن تصرف في اكتساب مسائل هي من صميم العلم، والملكات تقوى بالبحث في لباب العلم أكثر مما تقوى بالمناقشة في ألفاظ المؤلفين.
وممن نبه على أن الاختصار عائق عن التحقيق في العلم: أحد علماء القرن الثامن العلامة محمد المعروف (1) بالأيلي إذ قال: "كل أهل هذه المئة على حال من قبلهم من حفظ المختصرات، فاقتصروا على حفظ ما قلّ لفظه، ونزرَ حظُّه. وأفنوا أعمارهم في حل لغوزه، وفهم رموزه، ولم يصلوا إلى ردّما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلاً عن معرفة الضعيف والصحيح".
فمن أسباب الرسوخ في العلم، وطموح الهمم إلى التوسع في البحث، وعدم الرضا بما دون الذروة: قراعة الكتب التي تنسج على طريقة الاستدلال والغوص على أسرار المسائل، وهي طريقة المتقدمين من علمائنا.
وأما بسط النظر في علوم متعددة، فلارتباط العلوم بعضها ببعض، وكلما كان الاطلاع على العلوم أوسع، كان البحث في المسائل أجود، والخطأ في تقريرها أقل، والاحتجاج عليها أسلم، فلا يجيد دراسة التفسير أو الحديث من لم يكن ضليعاً في العربية، ولا يحكم الاستدلال على العقائد، ويدفع ما يحوم عليها من شُبه، إلا من كان عارفاً بالتفسير والحديث، والقوانين المنطقية، والمذاهب والآراء الفلسفية، ولا يقوم على دراسة الفقه أو أصوله من لم يملأ يده من الحديث والتفسير والعلوم العربية.
واطّلاع الرجل على علوم كثيرة يعرف موضوع بحثها، ويقف على جانب عظيم من مبادئها، لا يمنعه من الإقبال على علم يجعل له من الدرس والمطالعة
(1) من أساتذة ابن خلدون.
ما يرفعه إلى مرتبة أئمته الذين يكتبون فيه فيحققون، ويسألون عن أخفى مسائله فيجيبون، والذي يضع يده في علوم شتى، يمكنه أن يجاري طوائف العلماء في المباحث المختلفة، وعلى قدر ما يكون للرجل من خبرة بالعلوم، يبعد عن مواقع الذِّلَّة، ويزداد في أعين الناس تَجِلَّة.
عكف أبو صالح أيوب بن سليمان على كتاب "العروض" حتى حفظه، فسأله بعضهم عن إقباله على هذا العلم بعد الكبر، فقال: حضرت قوماً يتكلمون فيه، فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه.
تقضي الحياة الراقية أن يقوم بكل علم طائفة يكونون السند الذي يرجع إليه، وكذلك كان علماؤنا فيما سلف: يُقْبل كل طائفة منهم على علم يقومون عليه دراية، ويقتلونه بحثًا. وبهذا اتَّسَعت دائرة المعارف، وظهرت المؤلفات الفائقة. وتراهم قد عرفوا من قبل أن نجاح قصر الطالب على الرسوخ في علم، يرجع إلى ترك الطالب وما تميل إليه نفسه من العلوم.
ومما نقرأ في ترجمة أبي عبد الله محمد الشريف التلمساني - وكان راسخاً في المنقول والمعقول -: أنه كان "يترك كل أحد من الطلبة وما يميل إليه من العلوم، ويرى أن كل ذلك من أبواب السعادة".
ومن لطف مبدع الكون أن جعل النفوس تختلف في استعدادها للعلوم والفنون والصنائع؛ لينتظم شأن الحياة، وتتوافر وسائل السعادة. وربما نشأ أفراد في مهد واحد، واختلف ميلهم إلى العلوم، فبرز كل في العلم الذي وافق رغبته، ووجه إليه همته؛ كأبناء الأثير الثلاثة: علي (1) الملقب بعز الدين: إمام
(1) صاحب كتاب "الكامل" المعروف بتاريخ ابن الأثير.
في التاريخ، ومحمد (1) الملقب بمجد الدين: نحرير في الحديث والأدب، ونصر الله (2) الملقب بضياء الدين: بارع في الأدب وتحرير الرسائل، وكثير من علمائنا كانوا يدرسون علومًا مختلفة يبلغون في بعضها الذروة، ويكتفون في بعضها بالمقدرة على تدريسها، أو تحقيق مباحثها عند الحاجة.
فهذا أبو إسحاق الشاطبي تقرأ له كتاب "الموافقات"، فتحس أنك تتلقى الشريعة من إمام أحكم أصولها خبرة، وأشرب مقاصدها دراية، ثم تقرأ " شرحه على الخلاصة" في النحو، فتشعر بأنك بين يدي رجل هو من أغزر النحاة علماً، وأوسعهم نظراً، وأقواهم في الاستدلال حجة.
والقاضي إسماعيل من فقهاء المالكية البالغين درجة الاجتهاد في الفقه، قد سمت منزلته في العربية، حتى تحاكم إليه عَلَمان من أعلامها في مسألة، وهما: المبرّد، وثعلب.
وكبير الهمة في العلم يريد أن يكون النفع بعلمه أشمل، ومما يدرك به هذا الغرض: احترامه لآراء أهل العلم، ولا نعني باحترامها: أخذها بالقبول والتسليم على أي حال، وإنما نريد: نقدها بتئبت، وعرضها على قانون البحث، ثم الفصل فيها من غير تطاول عليها، ولا انحراف عن سبيل الأدب في تفنيدها.
والفطر السليمة، والنفوس الزاكية، لا تجد من الأقبال على حديث من يستخفه الغرور بما عنده مثلما تجد من الإقبال على حديث من أحسن
(1) صاحب كتاب "النهاية في غريب الحديث"، و"جامع الأصول في أحاديث الرسول".
(2)
صاحب كتاب "المثل السائر".
الدرسُ أدبَه، وهذَّب الأدبُ منطقَه.
وإذا كان الأستاذ كمدرسة يتخرج في مجالس درسه خلق كثير، فحقيق عليه أن يكون المثال الذي يشهد فيه الطلاب كيف تناقش آراء العلماء مع صيانة اللسان من هجر القول الذي هو أثر الإعجاب بالنفس، والإعجاب بالنفس أثر ضعف لم تتناوله التربية بتهذيب.
كبير الهمة يستبين خطأ في رأي عالم، أو عبارةِ كاتب، فيكتفي بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه، ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام، أو يخف إلى التبجح بما عنده.
وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء، ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخلق المكروه، فكان عوجًا في سيرهم، ولطخاً في صحفهم، ولو تحاموه، لكان ذكرهم أعلى، ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله أرقى. وخلاصة المقال: تذكير النبهاء من نشئنا بأن يُقْبلوا على العلم بهمم كبيرة؛ صيانة للوقت من أن ينفق في غير فائدة، وعزم يَبلى الجديدان (1) وهو صارم صقيل، وحرص لا يشفى غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طافحة، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو أو مهاترة.
ذلك عنوان أكبر الهمة في العلم، وذلك ما يجعل أوطاننا منبت عبقرية فائقة، ومطلع حياة علمية رائعة، وما نبتت العبقرية في وطن نباتاً حسناً، إلا كانت أرضه كرامة، وسماؤه عزة، وجوانبه حصانة ومنعة.
(1) الليل والنهار.