المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المدنية الفاضلة في الإسلام - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(8)«رسَائِلُ الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌المروءة ومظاهرها الصّادقة

- ‌الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

- ‌في مفاسد البغاء

- ‌كلمة في المسكرات

- ‌الشجاعة

- ‌المساواة في الإسلام

- ‌عِظَمُ الهمّة

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة

- ‌صدق اللهجة

- ‌فضيلة الإخلاص

- ‌الأمانة في العلم

- ‌القضاء العادل في الإسلام

- ‌الإنصاف الأدبي

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

- ‌كبر الهمّة في العلم

- ‌الدهاء والاستقامة

- ‌الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

- ‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

- ‌سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين

- ‌العزّة والتواضع

- ‌المداراة والمداهنة

- ‌الرفق بالحيوان

- ‌محاكاة المسلمين للأجانب

- ‌الاجتماع والعزلة

- ‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

- ‌النبوغ في العلوم والفنون

- ‌متى تكون الصّراحة فضيلة

- ‌رسائل الإصلاح

- ‌المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

الفصل: ‌المدنية الفاضلة في الإسلام

‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

(1)

أخذ نبهاء الأمم الخاملة أو مهضومة الجانب يسعون إلى أن تكون أممهم في رقي وسعادة، وخطَوا في هذا السبيل خطوات قصيرة أو واسعة، ووضعوا أسسًا متينة أو واهية، والذي يعنينا في هذا المقام أن نقول كلمة في وسائل نهوض الشعوب الإسلامية إن كانت خاملة، أو ظفرها بالحرية الصادقة إن كانت محرومة من التمتع بحقوقها التي أوصى دينها الحنيف.

لا نفتأ نذكر ذلك السلطان الكريم الذي بسطه خلفاء الإسلام الراشدون على المعمورة، فعَلَّم الناس كيف يعيشون أحرارًا، والملوك كيف يقيمون عروشهم على قواعد العدل والمساواة، ورجال الدين كيف يدعون إلى الحقيقة والفضيلة في سماحة ووقار. ولا نجحد مع هذه الذكرى أن الشعوب الإسلامية قد وقعت منذ عهد بعيد في وهدة من الخمول، وانقطعت الصلة بينها وبين الأمم، فلم تدر ماذا يصنعون، حتى تراءى لها ما نبهها من غفوتها، وحثّها أن تنهض من كبوتها، فمسك بقيادتها فريق كانوا على بصيرة من هداية الإسلام، وإن شئت فقل: تقدم لقيادتها رجال مستنيرون من أبناء المعاهد الإسلامية، وآخرون مهتدون من القائمين على جانب من العلوم الكونية. فمن يتحدث

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثاني- الصادر في شهر جمادى الأولى 1349 هـ.

ص: 123

عن النهضة المصرية - مثلاً - لا يحيد عن ذكر رجال استنارت عقولهم بين جدران الجامعة الأزهرية، ومن يتحدث عن النهضة التونسية ذكر في مقدمة رجالها فريقاً تلقوا معارفهم بين جدران الجامعة الزيتونية.

ولو استمر العمل لرقينا المدني بأيدي طوائف تجمع بين رجال الدين المصلحين، ورجال العلم الحديث المهتدين، لقطعنا في سبيل السعادة شوطاً أبعد مما قطعنا، ولكُنّا أثبت موقفاً وأقرب إلى أن يهابنا الذين يعملون لشقائنا، ولكن حركة تقدمنا لم تستمر على ما وصفنا، ومسها مرض إذا لم نبادر إلى إنقاذها منه، كان شرها أكبر من خيرها، وخيبتنا أقرب إلينا من نجاحها.

بليت نهضتنا المدنية بعلتين:

أولاهما: أن بعض نشئنا المتخرجين من مدارس غير إسلامية قد وقفوا موقف الدعوة إلى الإصلاح، ولم يصبروا أنفسهم على تعرف آداب الدين، فحادوا عن طريق الإصلاح النقية، ولم يبالوا أن يجهلوا على الدين، ويجحدوا أن يكون له في الحياة المدنية سلطان كبير أو صغير.

ثانيتهما: أن كثيراً ممن درسوا العلوم الإسلامية، تقاعدوا عن أن يخوضوا في شؤون الحياة المدنية، فكان انزواؤهم وزهدهم في منصب الإرشاد العام فرصة لظهور الدعايات المنحرفة عن الطريق المستقيم.

إن الأمة التي تأخذ بنصائح الدين، وتقتدي بآدابه في السر والعلانية، لهي الأمة التي يمكنها أن تتحد وتتآزر في صفاء، وهي التي تستطيع أن تبني عظمة، وتحوط كنافها بمنعة، فلا تجد الأيدي العادية إلى هضم حق من حقوقها منفذاً.

سنواصل - بتوفيق الله - القول في نصائح الدين التي تأخذ بيد الجماعة

ص: 124

إلى هضبة الشرف القصوى، ونقفّي على أثر النصيحة بأخرى، حتى يستبين لك أن الإسلام صُنع الله الذي أتقن كل شيء. وإنما أذكر في هذا المقام خصالاً كالدعائم يقوم عليها صرح الحياة المدنية بهيّ المنظر، شامخ البناء. وما هذه الدعائم إلا العلم الصحيح، والعمل النافع، والخلق الرفيع.

أما العلم، فقد عُني به الدين فيما عُني، ونوه بذكره فيما نوه، فقال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. ومن دلائل أن الإسلام ينظر إلى العلم بإقبال، ويعده في أكبر النعم التي يتقلب فيها الإنسان: أنك ترى في أول ما نزل به الروح الأمين قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5] .. وقد اندفع المسلمون إلى اقتناء ما لغيرهم من العلوم برغبة حريصة، وهمم كبيرة، وتناولوا بحثها بعقول راجحة، علاوة على العلوم التي استمدوها من الكتاب والسنّة؛ كأحكام الفقه وأصوله، أو العلوم اللغوية؛ كالنحو والبيان.

فالإسلام ينصح لأوليائه أن يبتغوا العلوم أينما كانت، ويحضهم على أن ينظموا شؤونهم الحيوية على مقتضى ما علموا، ولم يجئ الإسلام في عقائده أو أخباره بما يخالف العلم الصحيح، ولم يجئ في نصائحه بما ينقص الرغبة في العلم على اختلاف فنونه، فشأن الأمة التي تبتغيه ديناً أن تكون أصفى الأمم بصائر، وأغزرها معارف، وأبعدها في البحث نظراً.

وإذا أضاف أحد على جهالة أو سوء قصد إلى الدين شيئاً لا يقبله العلم، فالإسلام كله حقائق، وهو من تبعة ما يلصقه به الجاهلون أو المفسدون براء. واذا صدر من بعض المنتمين إلى الدين كلمة تصرف الناس عن علم مادي أو أدبي، فأقصى مصدر هذه الكلمة ذهن صاحبها، وليس بينها وبين الدين من

ص: 125

صلة، بل شأن الدين أن لا يكون عنها راضياً.

ولم يبق اليوم بعد أن ظهر من نتائج العلوم الكونية من أمثال هذه الغواصات والطائرات والمقذوفات ووسائل المخابرات من لا يرجع إلى قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، ويتفقه فيها أكثر مما كان يتفقه، ويشهد بن العلوم التي يسمونها: الطبيعيات والرياضيات هي من فروض الكفايات التي يجب أن تقوم عليها طائفة من الأمة، فإن الله لا يرضى لها إلا حياة العزة والكرامة، وهي لا تحيا هذه الحياة إلا أن تكون على بينة مما يعلم أو يصنع خصومها.

وأما الأخلاق الشريفة، فإن الإسلام لم يدع مكرمة إلا نبه على مكانها، وندب على التجمل بحليتها، وقد عُني بمزايا هي أساس رقي الأمة وانتظام حياتها الاجتماعية؛ كالصدق والأمانة، والعفاف، والحلم، والعفو، والتراحم، والعدل، وعزة النفس والشجاعة، وحرية الضمير والإقدام على قول الحق وبذل المال في وجوه البر، وسنبحث في هذه المزايا ببسط القول، وإقامة الشواهد في مقام آخر - إن شاء الله -.

وأما العمل النافع، فإن الدين يحث على العمل لهذه الحياة كما يحث على العمل للحياة الأخرى، وجعل لعمل الشخص في هذه الحياة نصيباً من ثواب الآخرة - فوق ما يناله من منفعة عاجلة - متى كان قصده من العمل خالصاً.

ولما نسميه أعمالاً أخروية - وهي العبادات - الأثرُ الطيب في الحياة الدنيا قبل الحياة الآخرة، أليست الصلاة المقرونة بحضور القلب وعمارته بجلال الله تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتكف يد صاحبها عن أن يعمل سوءاً.

ص: 126

فتحميه من جرائم شأنها أن تجره إلى عقويات بدنية أو مالية، وفيها - بعد هذا - غنى عن طائفة من الشرط والسجون ينفق عليها أولو الأمر أموالاً طائلة؟!.

أو ليس في الصيام رياضة النفوس، وتدريبها على احتمال المكاره، والصبر عن الشهوات حتى لا تكون أسيرة في ملاذها؟! وفي النفوس التي اعتادت الصبر عما تشتهي- وهو حاضر لديها- قوة وجلادة لا تجدها في النفوس التي لا تكف عن المشتهيات إلا عند فقدانها، فالصيام بحق يشفي النفوس من علّة الانحطاط في الشهوات كلما عرضت، ويسبكها في صورة النفوس القوية التي يسهل عليها أن تنصرف عن ملاذها ساعة ترى الخير في الانصراف عنها.

أو ليس في الحج فوائد اقتصادية واجتماعية، لو وجه إليها زعماء الحجيج عنايتهم، لعادوا إلى أوطانهم بما ينفعهم في الأولى، بعد أن قدموا للآخرة من العمل الصالح ذخراً باقياً؟!.

ولا أرى حاجة إلى أن أذكر في هذا النسق فريضة الزكاة؛ فإن أثرها في سد حاجات كبيرة من حاجات الأمة ظاهر ظهور الشمس في كبد السماء.

ولم يشرع الدين من العبادات ما يضيق به وقت العمل للحياة مقدار أنملة، فنحن نرى الذين هم عن الآخرة غافلون، يشغلون جانباً من أوقاتهم في راحة ولهو، أفلا يحق للمؤمن أن يقضي جزءاً من وقت راحته في الوقوف بين يدي الخالق ابتغاء رضوانه، وهذا الجزء لا يزيد على ساعة في اليوم والليلة إذا شاء؟! ليفعل هذا، وليقس حياته بحياة من يصرف أوقاته في جمع المال، وإذا انتقل عنه، فإلى راحة ولهو، فإنه يجد من طمأنينة القلب وارتياح النفس ما يجعل عيشه أهنأ، وحياته أطيب، مصداق قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا

ص: 127

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

لا أدري كيف حدث خاطر: أن قلة إقبال المسلمين على العمل لجمع المال، وتفشي الفقر في شعوبهم آتيان من ناحية دينهم؟! وهؤلاء علماؤنا يقررون أن كل صنعة تحتاج إليها الأمة فرض كفاية، لا تخلص الأمة من واجبها حتى تقوم بها طائفة منهم، وقالوا: إن نحو التجارة هي مباحة بالنسبة للأفراد؛ أي: يجوز للرجل أن يتخذها حرفة يستمر عليها، وله أن يختار غيرها في بعض الأحيان، ولو تركها الناس جميعاً، لأثموا بتركهم لما هو من الضروريات المأمور بها (1).

وهذا الزركشي يقول في بحث: فروض الكفاية من "قواعده": "الدنيوي: كالحرف، والصنائع، وما به قوام المعاش؛ كالبيع، والشراء، والحراثة، وما لا بد منه، حتى الحجامة والكنس"، ثم قال:"ولو فرض امتناع الخلق منها، أثموا".

والتوكل في لسان الدين إنما يراد به: توجه القلب إلى الخالق حال العمل، واستمداد المعونة منه، فلم يكن داعية إلى البطالة والإقلال من العمل البتّة، بل كان للتوكل الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على الأعمال الجليلة التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأسباب الحاضرة يقصران عن إدراكها، وإذا فسرته فئة غير عالمة بقبض اليد عن العمل، وطرح الأسباب جملة، فذلك تفسير لا يقزه الدين الذي يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ

(1) انظر بحث: المباح بالجزء المطلوب بالكل من "موافقات" الشاطبي.

ص: 128

لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، ويقول:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102].

فالشريعة الإسلامية تأمر بالعمل لهذه الحياة، وتجعل السعي على العيال، والعمل للتعفف عما في أيدي الناس، أو للإنفاق في سبيل الخير، من قبيل العمل الذي يستحق صاحبه ثواب الله في الأخرى، وتكره للرجل أن يوصي بما فوق الثلث، وتقول له:"إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم".

إن شريعة هذا شأنها، لشريعة مدنية تجمع إلى تهذيب النفوس - الذي هو القوة المعنوية - أسباب البسطة في المال- الذي هو القوة المادية -، وإذا جمع قوم بين القوتين، فقد أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا كما ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

فالإسلام ينادي أممه إلى أن يتعلقوا من العلم بكل فن، وينوه بشأن الأخلاق أبلغ تنويه، ويجعل كل ما تدعو إليه حاجة الجماعة من العمل النافع أمراً واجبًا، فما من أمة تريد أن تصعد إلى أفق السيادة الأعلى إلا وجدت في مبادئه أجنحة تطير بها إلى حيث تطمح همتها، وعلى قدر ما تنفق من عزمها.

وكذلك قصّ علينا التاريخ الصادق أن الإسلام أخرج للناس أمة بهرت العالم بعلومها الزاخرة، وأعمالها الفاخرة. وإذا شاءت الشعوب الإسلامية أن تكون المثل الأعلى للمدنية الفاضلة، ففي استطاعتها أن تتحرى نصائح الدين الحنيف، وفي احترام رؤسائها وزعمائها لأحكام الدين ونصائحه أخْذ بالسياسة الرشيدة، وهي التصرف في شؤون الأمة على مقتضى إرادتها.

ص: 129