الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المداراة والمداهنة
(1)
خُلِقَ الناس للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا لينفرد كل واحد بمرافق حياته.
وللإنسان عوارض نفسية؛ كالحب والبغض، والرضا والغضب، والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يَعْرض له من هذه الشؤون في كل وقت، وعلى أي حال، لاختلَّ الاجتماع، ولم يخلص التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يُحدث تقاطعاً، أو يدعو إلى تخاذل، ذلك الأدب هو: المداراة.
فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار، إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراً من كتمانه.
فمن المداراة: أن يجمعك بالرجل يضمر لك العداوة مجلس، فتقابله بوجه طلق، وتقضيه حق التحية، وترفق به في الخطاب.
قال سحنون في وصيته لابنه محمد: "وسلِّمْ على عدوك وداره؛ فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس".
(1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد الثالث من المجلد الثاني، الصادر في شهر ربيع الأول 1350 هـ - القاهرة.
وقال أحد الحكماء من بني أسد:
وأَمْنَحُه مالي ووُدِّي ونُصرَتي
…
وإن كان مَحنِيَّ الضُّلوعِ على بُغْضي
ونقرأ في سيرة الأستاذ محمد بن يوسف السنوسي صاحب المؤلفات المعروفة في علم الكلام وغيره: أنه "كان يفاتح من تكلم في عرضه بكلام طيب وإعظام، حتى يُعتقد أنه صديقه".
ونقرا في سيرة القاضي يحيى بن أكثم: أنه "كان يداعب خصمه وعدوّه".
وقد تبلغ المداراة إلى إطفاء العداوة وقلبها صداقة.
قال محمد بن أبي الفضل الهاشمي: قلت لأبي: لِمَ تجلس إلى فلان، وقد عرفت عداوته؟ قال: أُخْبي ناراً، وأقْدحُ وداً.
وقد يقصد المداري إلى علاج جرح العداوة، ومنعه من أن يتسع.
قال عقال بن شبة: كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل، فحياه أبي وألطفه، فلما مضى، قلت: أَبَعْدَ ما قال لنا ما قال؟! قال: يا بني! أفأوسع جرحي؟!.
ومن المداراة: أن يلاقيك ذو لسان أو قلم عُرف بنهش الأعراض، ولمز الأبرياء، فتطلق له جبينك، وتحييه في حفاوة؛ لعلك تحمي جانبك من قذفه، أو تجعل لدغاته خفيفة الوقع على عرضك.
نقرأ في الصحيح عن عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أنه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال:"ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة" أو "بئس أخو العشيرة"، فلما دخل، ألان له الكلام، وفي رواية: فلما جلس، تطلق النَّبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فقلت: يا رسول الله! قلْتَ ما قلت، ثم ألَنْتَ له القول؟! فقال: "أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه - أو: ودعه -
الناس اتقاء فُحْشه" (1).
فلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل المعروف بالبذاء، من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رفق به في الخطاب، وقد سبق إلى ذهن عائشة رضي الله عنها: أن الذي بلغ أن يقال فيه: "بئس ابن العشيرة" لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبه قسوة الخطاب، وعبوسة الجبين، ولكن نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد مدى، وأناته أطول أمدًا، فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم، فلا يظهر أثره إلا في مكان أو زمان يليق فيه إظهاره، ويريد تعليمهم أدبا من آداب الاجتماع هو رفق الإنسان بمن يقصد زيارته في منزله، ولو كان شره في الناس فاشياً.
على أن إطلاق جبينك لمثل هذا الزائر لا يمنعك من أن تشعره بطريق سائغ أنك غير راض عما يشيعه في الناس من أذى، ولا يعوقك عن أن تعالجه بالموعظة الحسنة، إلا أن يكون شيطاناً مارداً.
ومن المداراة: أن تلقى ذا يد تبطش، فتمنحه جبيناً طلقاً، وتتجنب في حديثك ما لا يكون له أثر في نفسه، إلا أنه يثير فيها القصد إلى أذيتك، وهذا مجمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه:"إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لَتَلْعنهم"، وفي رواية:"لتقليهم"(2)، والكشر: التبسم. وفي هذا الأثر شاهد على أن التبسم في وجه الظالم اتقاء بأسه ضرب من المداراة، ولا يتعداها إلى أن يكون مداهنة.
ومن المداراة: أن يكون الرجل على حال تقتضي صرفه عن بغية، أو
(1)"صحيح الإمام البخاري".
(2)
تبغضهم.
عمل، وتعرف أن في الاعتذار له بهذا الحال ما يثير في نفسه ألماً، فتعرض عن ذكر ما يؤلم، وتذكر له وجهًا غيره مما هو واقع، حتى لا تجمع له بين الحرمان من بغيته، وإيلامه بما لا يجب أن يعتذر له به.
أصاب الكسائي وَضَح (برص)، وهو مؤدبُ أبناء هارون الرشيد، فكره الرشيد ملازمته لأولاده، فقال له: كبرتَ في السن، ولسنا نقطع راتبك، وأمره أن يختار لهم من ينوب عنه ممن يرضاه، فاختار لهم علي بن الحسن المعروف بالأحمر. ولا ريب أن اعتذار هارون الرشيد للكسائي بكبر السنن أخف على نفسه من أن يقول له: أُصِبْت بوضَحٍ، ولسنا نقطع راتبك.
فالنفوس المطبوعة على المداراة، نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوًا ركب معها في جسد، إلا أن يصاب بعلة يعجز الأطباء أن يَصِفوا له بعدُ دواء.
فالمداراة يُبتغى بها رضا الناس، وتكليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون، فلا يُبعدك عنها قضاء بالقسط، أو إلقاء النصيحة في رفق، فلم يخرج عن المداراة أبو حازم حين دخل على سليمان بن عبد الملك، وقال له:"إنما أنت سوق، فما نفق عندك، حمل إليك؛ من خير أو شر، فاختر أيهما شئت".
ترجع المداراة إلى ذكاء الشخص نفسه؛ فهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون، ولأسباب العداوة مدخل في تفاوت مقادير المداراة، واختلاف طرقها، فإذا ساغ لك أن تبالغ في مداراة من ينحرف عنك لخطأ في ظنٍّ يظنُّه بك، أو لعدم ارتياحه لنعمة يسوقها الله إليك، فلمداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته، حد قريب، ومسحة من
التلطف خفيفة، وينبغي أن تكون مداراتك لمن ترجو منه العود إلى الرشد، وتأنس في فطرته شيئاً من الطيب، فوق مداراتك لمن شابَ على عِوَج العقل، ولؤم الخلُق، حتى انقطع أَمَلُك من أن يصير ذا عقل سليم، أو خلق كريم، ولك مع من فيه بقية من العقل ضرْب من المداراة لا تسلكه مع من يعد مداراتك له أثر الخوف من سلاطة لسانه، فيزداد فُحشًا؛ ليزداد الناس رهبة، فيزيدوه خضوعاً.
المداراة خصلة كريمة، يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء.
أما المداهنة، فهي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل، أو عمل مكروه، وأصلها الدِّهان، وهو: الذي يظهر على الشيء، ويستر باطنه.
تضم المداهنة تحت جناحيها: الكذب، وإخلاف الوعد.
أما الكذب، فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال، فلا يبالي أن يعده بشيء، وهو عازم على أن لا يصدق في وعده، وليس من الصعب على المداهن - وقد مرَد (1) على الكذب - أن يخلف الوعد، ويختلق لإخلافه عذراً، وهذا الاختلاق لا يرتكبه الراسخ في كرم الأخلاق، وإن كلفه الوفاء بالوعد أمراً جللاً.
فالمداهن لا يتريث في أن يَعِدَ؛ لأنه لا يتألم من أن يخلف، ولا يصعب عليه أن يصور من غير الواقع عذراً، والراسخ في الفضل لا يعد إلا عند العزم على أن يصدق فيما وعد، فإن وقف أمامه عائق، كشف لك عن وجهه الحق،
(1) مرد: أقدم. "القاموس".
فإذا لم يساعده الحال على إنجاز الوعد، لم يفُتْه الصدق فيما يلقيه إليك من عذر.
ومن المداهنة: أن تثني على الرجل في وجهه، فإذا انصرفْتَ عنه، أطلقتَ لسانك في ذمّه.
قيل لابن عمر رضي الله عنه: "إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا، قلنا غيره"، فقال:"كنا نَعُدُّ ذلك نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد قرر أهل العلم أن الرجل إن كان مستغنياً عن الدخول على من يضطره الحال إلى الثناء عليه، فدخل، وأثنى بغير ما يعلم، كان نفاقاً؛ أما إن اضطر إلى الدخول على ذي قوة لا يخلص من بأسه إلا أن يُسمعه شيئاً من الإطراء، فهو في سعة من أن يُطريه بمقدار ما يخلص من بأسه، ولا تُلْحِقه هذه الحالة الشاذة بزمرة المداهنين.
انهزم جيش السلطان فرج بن برقوق أمام جيش الطاغية تيمورلنك، ووقع طائفة من العلماء في أسر الطاغية، ومن هذه الطائفة: الفيلسوف ابن خلدون، فكان من هذا الفيلسوف أن تقدم إلى تيمورلنك، وقال له فيما حادثه به:"إني ألفت كتاباً في تاريخ العالم، وحلَّيته بذكرك، وما أسفي إلا على هذا الكتاب الذي أنفقت فيه عمري، وقد تركته بمصر، وإن عمري الماضي ذهب ضياعًا حيث لم يكن في خدمتك، وتحت ظل دولتك، والآن أذهب، فآتي بهذا الكتاب، وأرجع سريعًا حتى أموت في خدمتك"، فأطلق سبيله، فقدم مصر، ولم يعد إليه.
ومن أسوأ ما يفعل المداهن: أن يلاقي رجلين بينهما عداوة، فيظهر لكل واحد الرضا عن معاداته لصاحبه، ويوافقه على دعوى أنه المحق، وصاحبه
هو المبطل، وفي مثل هذا ورد قوله صلى الله عليه وسلم:"تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"(1).
وقال حكيم من بني أسد:
ولستُ بذي وَجْهينِ فيمَنْ عرفْتُه
…
ولا البخُلُ فاعلم من سمائي ولا أرضي
يتخذ الرجل وجهين متى كان يطمح إلى ما في أيدي الناس من متاع، أو كان يطمع في إرضاء طوائف على تباعد ما بينهم من نزعات، وعلى شدة ما بينهم من اختلاف، والعبور إلى النفع على جسر من المداهنة يحرم صاحبه من أعز متاع هو الصدق، بعد أن يحرمه من أطيب لذة هي ارتياح الضمير. ومن كان حريصاً على أن يكون صديق الطوائف المتباينة، فإن الطيّب منهم يأبى أن يلوث صدره بصداقة من يتملق الخبيث.
المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجّلون إلى قول ما يشتهي أن يقولوا، فيمدحون ما يراه حسناً، ويذمون ما يعده سيئاً، أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على يد من في استطاعته الخير، فيربؤون بألسنتهم أن تساير في غير حق، ويؤثرون نُصْحَ الوجيه على أن يزينوا له ما ليس بزين.
ابتنى الخليفة عبد الرحمن الناصر "القبيبة" بقصر الزهراء، واتخذ لسطحها قراميد من ذهب وفضّة، وجلس فيها إثر إتمامها، وقال لمن حضر مفتخرًا:"هل رأيتم أو سمعتم من فعلَ هذا من قبلي؟ "، فقالوا: إنك لأوحد في شأنك
(1)"صحيح الإمام البخاري".
كله، ولكن القاضي منذر بن سعيد وعظه وعظاً بليغاً، وتلا عليه قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، فأطرق الناصر مليًا، ثم أقبل على منذر، وقال له: جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً، وعن الدين والمسلمين أجل جزائه، فالذي قلت هو الحق، وقام من مجلسه، ونقض سقف "القبيبة"، وأعاد قرمدها تراباً.
والوجيه الحازم يكره المداهنة، ويملأ عينه باحترام من يوقظه لوجه الخير إذا كان في غفلة منه، ولوجه الشر إذا اشتبه عليه.
قال الطاهر بن الحسين في الكتاب الذي بعث به لابنه عبد الله بن طاهر: "وليكن كرم دخلائك وخاصتك عليك: من إذا رأى عيباً، لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر، وإعلامك بما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك".
وقع الوزير هاشم بن عبد العزيز في يد العدو أسيراً، وذكره الأمير محمد ابن عبد الرحمن الأموي في جماعة من رجال دولته مستقصراً له، ناسباً له إلى الطيش والعجلة والاستبداد برأيه، فلم ينطق أحد ممن كان في المجلس بالاعتذار عنهما عدا الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم، فإنه اعتذر عن الوزير هاشم، ورد على السلطان في مسلك سائغ، ومما قال في الاعتذار عن هاشم:"قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يك ملاك النصر بيده، فخذَله من وثق به، ونَكَلَ عنه من كان معه"، ثم قال: "فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم، وأيضًا فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضا للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا
جالباً التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ". فأعجب الأمير بكلامه، وأقصر بعد عن تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه من الأسر.
ومن عظماء الرجال من يبغض المداهنة، ولا يقبل من جليس مبالغة في مدح أو مسايرة.
ومن المُثل الكاملة لهؤلاء العظماء: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ فإنا نقرأ في سيرته: أنه قال لجرير حين دخل عليه بقصيدة يهنئه فيها بالخلافة: "اتَّقِ الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً".
وقال له رجل مرة: "طاعتكم مفروضة"، فقال له:"كذبت! لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله".
والأجلّاء من علماء الدين الذين كانوا يداخلون رجال السياسة، فينعقد بينهما التئام أو صداقة، كانوا يأخذون بسنّة المداراة، ولم يكونوا - فيما نقرأ من سيرتهم - يتلطخون برِجْسِ المداهنة.
فهذا أبو الوليد الباجي كان يصاحب رجال السياسة، ويختارونه للسفارة بينهم، وهو الذي قال لمن ذكره بمداخلة السلطان: لولا السلطان، لنقلني الذرُّ (1) من الظلِّ إلى الشمس. وتاريخه يشهد بأن قوة إيمانه كانت تحرسه من أن يقع في حمأ المداهنة.
كان مرة في انتظار أحمد بن هود صاحب "سرقسطة" بالأندلس، فجالسه ابنه الملقب بالمؤتمن، وأخذ المؤتمن يجاذب الباجي الحديث في كتب الفلسفة حتى قال له:"هل قرأت أدب النفس لأفلاطون؟ "، فقال له
(1) الذرّ: صغار النمل.
الباجي: "قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: شريعته من قرآن وسنّة.
والباجي هو الذي رجع من الشرق إلى الأندلس، فوجد أمراءها في تقاطع، والعدو يتحفز لوضع يده على رقابهم، فقام يتردد على مجالسهم، ويطرق بالنصيحة آذانهم، ويسعى لجمع كلمتهم، فكانوا يجلونه في الظاهر، ويستبردون نزعته في الباطن، وأقل ما يجتنيه الداعي إلى الإصلاح براءة ذمته، وأنه عند الوقوف بين يدي ربّه.
فالنفوس التي تنحط في المداهنة انحطاطَ الماء من صَبَب، نفوس لم تشبّ في مهد الأدب السنيّ، ولم تهدها المدرسة إلى الصراط السويّ، وما شاعت المداهنة في جماعة، إلا تقلصت الكرامة من ديارهم، وكانت الاستكانة شعارهم، ومن ضاعت كرامتهم، وداخلت الاستكانة نفوسهم، جالت أيدي البغاة في حقوقهم، وكان الموت أقرب إليهم من حبال أوردتهم.
فمن واجب أساتذة التربية ودعاة الإصلاح: أن يُعنوا بجهاد هذا الخلق المشؤوم حتى ينفوه من أرضنا، وتكون أوطاننا ومدارسنا منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في رقة أدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لأن يحدثهم في صراحة.