الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متى تكون الصّراحة فضيلة
(1)
وهبَ الله للإنسان لساناً يعبر به عما يجول في نفسه من آراء، أو يشعر به من نحو الحب والبغض، والسرور والحزن، واللذة والألم، وإذا كانت الآراء أو العواطف ونحوها قد تحدث في النفس غير اختيار، فإن اللسان موكول إلى صاحبه يتصرف فيه حسب اختياره، فله أن لا يبين ما في نفسه إلا حيث يدعوه إلى ذلك البيان ابتغاء خير، أو دفع ضرر، ومن هنا ترى الناس يلومون الإنسان على بعض ما يلفظ من قول، فيلام على القول من جهة مخالفته للواقع، وهو الكذب، أو من جهة مخالفته لما لا يعتقد، وهو النفاق، أو من جهة أنه يجلب ضرراً؛ كالغيبة والنميمة، أو من جهة أنه لا يأتي بفائدة، وهو اللغو، كما يلام الإنسان على تركه القول في حال يكون القول فيه نافعًا أو واجباً؛ كإظهار المودة لذوي النفوس الكريمة، والشفاعة لذوي الحاجات، والحكم بين الناس بالحق، وأداء الشهادة الصادقة، وتنبيه الغافلين لما فيه خير، أو تحذيرهم مما هو شر.
والناس يقولون: فلان صريح، على معنى: أنه يجهر بما في نفسه من نحو الآراء والعواطف، لا يكتمها، ولا يدل عليها بتعريض أو كنايات خفية، وقد يصف الإنسان بها نفسه على وجه الفخر، أو يصف بها غيره على وجه
(1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الثاني عشر، الصادر في جمادى الثانية 1359 هـ.
المدح؛ لأنه يراها وليدة الشجاعة، أو يراها وليدة الإخلاص والسلامة من علة الحب والمداهنة.
والحقيقة: أن الصراحة التي تعد من خصال الحمد، واقعة بين طرفين مذمومين، فطرف التفريط فيها يرجع إلى علة الجبن، أو الطمع، أو الجهل بما تأتي به الصراحة من خير كثير. وطرف الإفراط فيها يرجع إلى علة العجلة، وقلة التروي فيما تثير بعض الأقوال الصريحة من عداوات خاصة، أو فتن عامة.
والطريق المعتدل للصراحة، وهو الذي يعد فضيلة: أن يجهر الإنسان بما له من آراء أو عواطف؛ حيث يكون في الجهر مصلحة، ولا يتوصل إليها بطريق التعريض، أو الكنايات الخفية.
ويمثل التفريط في الصراحة: أولئك الذين يرون أمتهم، أو طائفة منهم منحدرين في غواية، أو عمل منكر، ويمتنعون من دعوتهم إلى سبيل الرشد والعمل الصالح؛ خشية أن تحرمه الدعوة منفعة دنيوية، أو تجر إليه مكروهاً، ولو لم يكن شيئاً يذكر بالنسبة إلى المكروه الذي انحدرت فيه الأمة، وكان في ميسوره أن ينقذها بدعوة صريحة.
ولا يدخل في هذا التفريط المذموم من أبى أن يقول غير الحق، وسلك في التعبير عن الحق طريقاً غير صريح، ولكنه يغني غناء الصريح في جلب الخير، أو دفع الأذى، ونسوق إليك مثلاً لهذا: قصة تيمورلنك إذ جمع علماء حلب، وقال لهم متعنتًا: قُتِل منّا ومنكم جماعة، فمن الذي في الجنة: قتلانا، أم قتلاكم؟ وأراد بهذا السؤال إيقاعهم في حرج حتى يتوصل إلى أذيتهم، فقال له أحد العلماء، وهو ابن الشحنة فيما يظن: قد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال حين سئل عنه، فغضب تيمورلنك، وقال له: كيف ذاك؟ فقال: روينا
في الصحيح: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليذكر وليرى مكانه، فمن الذي في الجنّة؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو الذي في الجنة"، فتلقى تيمورلنك هذا الجواب بالإعجاب، ثم بالسكوت.
وهذا الجواب وإن يكن صريحاً، ولكنه أغنى عن الصراحة، ويمتاز عنها بأنه كان مخلِّصاً للقوم من سطوة ظالم غشوم.
ويمثل ذلك الإفراط في الصراحة: أولئك الذين لا يحكمون سياسة الأمور، ولا يريدون أن الدهاء خصلة محمودة، وإن من الدهاء أن يبقي الرجل بعض آرائه في نفسه، ولا يحرك بها لسانه؛ حيث يرى أن النفوس لم تتهيأ لقبولها، أو أن الحال لا يساعد على إنقاذها.
وليس من الإفراط في الصراحة أن يخشى الرجل في سكوته عن قول الحق، ضياعَ هذا الحق، وظهور الباطل مكانه، فيصدع بكلمة الحق موطنًا نفسه على احتمال ما يلاقيه من أذى، فلا أعدّ القاضي مالكَ بنَ سعيد الفاروقي قد أفرط في الصراحة إذ أمره الحاكم العبيدي بن يكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد، فأبى أن يفعل، وكتب عليها:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولما قال له الحاكم: هل فعلتَ ما أمرتك به؟ قال: نعم، فعلت ما يرضي الرب عز وجل، وقرأ عليه الآية، فأمر بضرب عنقه، فمات شهيداً، وحماه الله من أن تكتب يمينه شيئاً يجر إليه عاراً في الدنيا، وخزياً في الآخرة.
ويمثل لك الطريق المعتدل للصراحة: أولئك الذين يجمعون إلى
الإخلاص والغيرة على الإصلاح روية ودهاء، فالإخلاص والغيرة يمنعانهم من التفريط في الصراحة؛ إذ لا يكون مع الإخلاص والغيرة جبن ولا طمع، ولا إيثار المنافع الشخصية على المنافع العامة، والروية والدهاء يمنعانهم من الإفراط في الصراحة؛ إذ يرون ببصائرهم المضيئة وألمعيتهم المهذبة المواطن التي يكون السكوت عن شيء، أو استعمال الكنايات الخفية، أفضلَ من التصريح به.
ويظهر فضل الصراحة جلياً متى وقع بجانب الكلام المبهم أو المطلي بشيء من المواربة، كما ترى في قصة عمر بن هبيرة والي العراق في عهد يزيد ابن عبد الملك؛ إذ استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي، وقال لهم:"إن يزيد خليفة الله أخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب لي بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟ ".
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية.
فأقبل ابن هبيرة على الحسن البصري، وقال له:"ما تقول يا حسن؟ ".
فقال: "يا ابن هبيرة! خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله .. حتى قال له .. فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
فموقف الحسن البصري في هذه القصة ظاهر الفضل، وبمقارنته بموقف ابن سيرين والشعبي ازداد فضله ظهوراً.
وإذا اقتضى الحال الصراحة، فإن لها أساليب تختلف باختلاف أحوال المخاطبين، فمن حسن بيان المتكلم أن يراعيها، ويصوغ عبارته في الأسلوب المناسب؛ حتى تأتي الصراحة بثمراتها الطيبة.