الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرفق بالحيوان
(1)
أقام الإِسلام هدايته على أساس الرحمة المحفوفة بالحكمة، والرحمةُ تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان، والحكمةُ تقف بالرحمة عند حدود لو تجاوزتها، انقلبت إلى ضعف ورعونة، وعلى هذا الطريق الوسط جاءت الأحكام والآداب الخاصة بالتصرف في الحيوان.
أذِنَ الإِسلام في أكل الطيّب من الحيوان، ونبَّه بهذا الإذن على خطأ أولئك الذين يقبضون أيديهم عن تذكيته، أو أكله بدعوى الرأفة أو الزهد، وأباح استعماله في نحو الركوب والحراثة وحمل الأثقال.
وقد امتنَّ القرآن الكريم بهذه الضروب من الاستمتاع المألوف بين العقلاء، فقال تعالى:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 5 - 6]، وقال تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]
امتن الله تعالى في كتابه العزيز بما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها وجلودها من الملابس والفرش، والبيوت، وبما يتغذى به من ألبانها
(1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد الثاني من المجلد الثالث، الصادر في شهر صفر 1351 هـ - القاهرة.
ولحومها، وبما هُيئت له من حمل الأثقال، وهذه المنافع من أهم ما تنتظم به حياة الإنسان.
وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، فذكر في هذه الآية أهم ما خلقت له الخيل والبغال والحمير من المنافع، وهو الركوب، وفي الركوب راحة البدن، وسرعة الانتقال من مكان إلى مكان، والراحة من متممات الصحة، وسرعة الانتقال حفظ للوقت من أن يذهب في غير جدوى.
امتنَّ الله تعالى بالأنعام والخيل وما عطف عليها، ونبه على ما فيها من جَمال وزينة، وفي هذا ما يرشد إلى أن يكون الاستمتاع بها في رفق ورعاية؛ فإن إرهاقها، أو قلة القيام على ما تستمد منه حياتها، يجعل نفعها ضئيلًا، ويذهب بما فيها من جَمال وزينة.
كان للعرب قبل الإِسلام عادات تحرمهم من الانتفاع ببعض أفراد الحيوان، وفيها قوة على أن ينتفعوا بها، ومن هذا القبيل: الناقة المسماة بالسائبة، وهي الناقة التي يقول فيها الرجل: إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي، فهي سائبة، ويحرم ركوبها ودرّها؛ والوصيلة: وهي أن تلد الشاة ذكراً وأنثى، فيقولون: وصلت أخاها، فلا يذبح من أجلها الذكر؛ والجمل المسمى بالحام: وهو الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، فكانوا يقولون: قد حمى ظهره، ويمتنعون من ركوبه والحمل عليه، والبَحيرة: وهي الناقة التي تنتج خمسة أبطن آخرها ذكر؛ فإنهم كانوا يبحرون أذنها؛ أي: يشقونها، ثم يحرمون ركوبها ودرّها.
ثم جاء الإِسلام، فلم ير من الحكمة تعطيل الحيوان وهو صالح لأن
يُنتفع منه، فنهى عن هذا التعطيل الناشئ عن سفاهة الرأي، فقال تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
وكان للعرب عادات يسومون فيها الحيوان سوء العذاب، ومن هذه العادات: ما يفعلونه لموت كريم القوم، إذ يعقلون ناقته أو بعيره عند القبر، ويتركونها في حفرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت.
ومن هذا الباب: شقّهم لآذان الأنعام كما قصصنا عليك عادتهم في البحيرة، وهو ما أشار القرآن إلى قبحه؛ إذ جعله مما يأمر به الشيطان، فقال تعالى:{لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118 - 119].
ما زال الحيوان كسائر الأمتعة تحت يد مالكه يفعل فيه كيف يشاء، وإذا ناله رفق، فمن ناحية عاطفة الإنسان على ما يملك؛ لتطول مدة انتفاعه به، ولكن الإِسلام أرشد إلى أن الحيوان في نفسه حقيق باللطف، فغرس له في القلوب عطفًا عاماً، واستدعى له الرحمة حتى من قوم لا ينتفعون، أو لا يرجون أن ينتفعوا به في حال. وجعل الرفق به من قبيل الحسنات التي تذهب السيئات، وتنال بها المثوبة عند الله.
أذِنَ الإِسلام في قتل الحيوان المؤذي؛ كالكلب العقور، والفأرة، وأمر بالإحسان في القتل، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القتلة". وأذن في ذبح الحيوان للاستمتاع بالطيب من لحومه، فقال صلى الله عليه وسلم:"وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
قد يخطر على البال: أنه متى أذِنَ في قتل الحيوان أو ذبحه، فللإنسان أن يتخذ لإزهاق روحه ما يشاء من الطرق أو الوسائل، فقصد الشارع الحكيم إلى دفع هذا الخاطر، وإرشاد الناس إلى اتخاذ أحسن الطرق في القتل أو الذبح، فلا يجوز إحراق ما أُذِنَ في قتله، أو التمثيلُ به، ويجب إرهاف آلة الذبح حتى لا يلاقي الحيوان قبل إزهاق روحه آلاماً.
وقد ذكر أهل العلم آداباً اقتبسوها مما جاءت به الشريعة من أصول الرفق بالحيوان، فقال عمر رضي الله عنه:"من الإحسان للذبيحة: أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها".
وقال ربيعة: "من الإحسان: أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها".
وقالوا: يستحب للذابح أن لا يحد شفرته بحضرة الذبيحة، وأن لا يصرعها بعنف.
أباحت الشريعة صيد الحيوان بنحو الجوارح والنبال والشباك؛ لينتفع منه الإنسان بما يحل الانتفاع به، ومنعت من أن يُنصَب الحيوان غرضاً ليرمى بنحو النبال.
ومما نقرؤه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله: "لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غَرَضاً"(1). وفي "صحيح الإمام مسلم": "مرّ ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر، تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً".
(1)"صحيح الإمام مسلم".
ووردت أحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدِّهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله، قال صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"(1).
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ " فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر" (2).
وانظر إلى قولهم: "وإن لنا في البهائم أجراً"، تَرَهم كيف كانوا يستهينون بأمر الحيوان، ولا يعتقدون أن الإحسان إليه يبلغ مبلغ الإحسان إلى الإنسان، فيستحقون عليه أجراً، وكيف يكون حال حيوان وقع تحت يد من لا يعتقد أنه سينال بالإحسان إليه ثوابًا، ويلقى من أجل القسوة عليه عذاباً؟!.
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرّة لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض"(3). والوعيد بعقوبة النار على الأمر يدل على أنه من المحظور حظرًا لا هوادة فيه، ومن ذا يخطر على باله قبل هذا أن يكون لحيوان كالهرة حرمة تبلغ في الخطر أن يعاقب من
(1)"صحيح الإمام البخاري".
(2)
"صحيح البخاري".
(3)
البخاري ومسلم.
ينتهكها بعذاب النار؟!.
وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها؛ بأن يعلفها، أو يرعاها بنفسه، أو يَكِلَ لغيره رعْيها، ولو بأجر، ولم يختلفوا في وجوب ذلك عليه، وصرح طائفة منهم بأنه يجبر عليه قضاءً، فإن لم يفعل، بيعت الدابة، ولا تترك تحت يده تقاسي عذاب الجوع.
ومما نقرؤه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال:"اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة (1)، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة"(2).
وتحرم الشريعة الإساءة إلى الحيوان بتحميله من الأثقال ما لا يطيق، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون أن من حمّل دابة ما لا تطيق، حوسب عليه يوم القيامة.
يروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه قال لبعير له عند الموت: يا أيها البعير! لا تخاصمني إلى ربك؛ فإني لم أكن أحمّلك فوق طاقتك.
وقال الغزالي في الحديث عن الرفق بالدابة، وعدم تحميلها ما لا تطيق:"والمحمل (3) خارج عن حد طاقتها، والنوم عليها يؤذيها، ويثقل عليها"، وقال:"كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلا غفوة عن قعود".
وإنما يجوز الحمل على ما يطيق الحمل؛ كالإبل والبغال والحمير،
(1) التي لا تقدر على النطق.
(2)
"سنن أبي داود".
(3)
المحمل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان. ويقال: أول من اتخذه الحجاج ابن يوسف الثقفي.
ولا يجوزالحمل على ما لم يخلق للحمل؛ كالبقر.
قال ابن العربي: لا خلاف في البقر أنه لا يجوز أن يحمل عليها.
وذهب كثير من أهل العلم إلى المنع من ركوبها؛ نظراً إلى أنها لا تقوى على الركوب، وإنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الأرض، وسقي الحرث.
ومن الرفق بالدابة: أن لا يركبها ثلاثة أشخاص يكون عبؤهم عليها ثقيلاً.
أخرج ابن أبي شيبة عن زاذان: أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال: لينزل أحدُكم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث.
وأخرج الطبري عن علي رضي الله عنه: أنه قال: "إذا رأيتم ثلاثة على دابة، فارجموهم حتى ينزل أحدهم".
ومحمل هذه الآثار على حال ما إذا كان ركوب الثلاثة يرهق الدابة، فإن كانت تطيق ذلك؛ كالناقة أو البغلة يركبها رجل وصبيّان - مثلاً -، فليس به من بأس، ولا سيما ركوبها في مسافة قصيرة، وهذا ما كان من النَّبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة راكباً على بغلته، فاستقبله أغيلمة من بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه، والآخر خلفه.
ومن الرفق بالحيوان: تجنب أذيته في بدنه بنحو الضرب الأليم، والإشعار الوارد في بُدن الهدي ليس إلا جرحًا في سنام البعير بنحو المبضع؛ ليكون علامة أنها هَدْي، وأما طعن البدنة بنحو السنان حتى يتجاوز الجلد إلى اللحم، فإنما يرتكبه الجهال، ولا يختلف العلماء في تحريمه.
وورد النهي عن خصاء البهائم كما جاء من حديث ابن عمر: "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخصى الإبل والبقر والغنم والخيل" (1). وبهذا احتج فريق من أهل العلم على أنه لا يحل خصاء شيء من الفحول، وأفتى فريق بجوازه متى دعت إليه مصلحة؛ كان يخاف عضاضه، وإذا وجد طريق لمثل هذه المصلحة من غير الخصاء، لم يبق موضع للخلاف؛ لأنه تعذيب، وقد نهى الشارع عن تعذيب الحيوان.
ومن الرفق بالدابة: أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعبًا، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظًا من الأرض"(2)، وفي رواية:"ولا تعدو المنازل".
وورد في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة (3) إلا قطعت"، فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان، وقال: إنما أمر بقطع القلائد من أعناق الإبل؛ مخافة اختناق الدابة بها عند شده الركض، ولأنها تضيق عليها نفسها ورعيها، وكراهة أن تتعلّق بشجرة، فتخنقها، أو تعوقها عن المضي في سيرها.
ومن المحظور: وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها، وقد ورد في النهي عن هذا الصنيع حديث:"إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس"(4).
وذكر الغزالي أن أهل الورع من السلف كانوا لا يقفون على الدواب
(1)"شرح معاني الآثار" للطحاوي.
(2)
مسلم، وأبو داود.
(3)
أمر بقطع ما تقلد به من وتر القوس، ثم أمر بقطع كل قلادة من أي صنف كانت.
(4)
رواه أبو داود.
الوقوف الطويل.
ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان: تهييج بعض الحيوان على بعض؛ كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها، وهو من اللهو الذي حرمته الشريعة؛ لما فيه من إيلام الحيوان، وإتعابه في غير فائدة، وفي "سنن أبي داود"، والترمذي:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم "، والتحريش بينها: إغراء بعضها على بعض.
وان شئت أن تزيد يقيناً بما جاء به الإِسلام من الرأفة بالحيوان، فانظر إلى ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه إذ قال: كنّا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة (1) معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش (2)، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال:"من أحرق هذه؟ "، قلنا: نحن، قال:"إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار"(3).
وقد نص علماؤنا على حرمة تمكين الصبي من التلهي بالطير على وجه فيه إيلام له، وأمّا ما ورد في الحديث من أن ابناً فطيماً لأم سليم كان يلعب بنُغَر (4)، فمحمول على أن ذلك التلهي لم يكن بحال تعذيب؛ كأن يكون الطير في قفص أو نحوه، أو يكون التلهي بمحضر أحد أبويه، وهما يعلمان
(1) ضرب من الطير، وقيل: الحمرة: القبرة.
(2)
ترتفع وتطل بجناحيها.
(3)
أبو داود.
(4)
اسم لنوع من الطير. وقد بلغ هذا الخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل إنكاره له.
ما جاءت به الشريعة من النهي عن تعذيب الحيوان.
ونهى الشارع عن إيذاء الحيوان في وجهه نهياً خاصاً.
روى أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى حماراً موسوماً على وجهه، فقال:"لعن الله من فعل هذا"(1).
وقال المقداد بن معد يكرب: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن لطم خدود الدواب".
أما شتم الحيوان ولعنه، فأدنى ما يقال فيه: أنه لغو من القول، لا يصدر إلا ممن شأنه الرمي بألفاظ الشتم واللعن دون تدبر في معناها، ولا قصد إلى موضعها، بل وردت الأحاديث في الزجر عن لعن الحيوان بطريقة بالغة، فإنا نقرأ في "صحيح مسلم": أن امرأة كانت على ناقة، فضجرت منها، فلعنتها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال:"خذوا ما عليها، وأعروها؛ فإنها ملعونة". وإنما أمر بإعراء الناقة مما عليها، وإرسالها، عقوبةً لصاحبتها، وفي رواية "لا تصحبنا ناقة عليها لعنة". وفي هذا الأسلوب من النهي مبالغة في الزجر عن لعن الحيوان، وكذلك كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يعمد إلى الشيء الذي يظنه الناس هينًا، فيزجر عنه بطريق أشد؛ حتى ينصرفوا عنه جملة.
ومن فوائد النهي عن لعن الحيوان: تطهير الألسنة من التعود على قول السوء، ومتى ارتدعت النفوس عن لعن ما لا يفهم للّعن معنى، كان ارتداعها عن لعن من تثور ثائرة غضبه، أو غضبِ بعض أوليائه إذا لعن، أقرب وأولى.
هذه شذرات مما أوصى به الإِسلام من الرفق بالحيوان، وإن شئت
(1)"تهذيب الأسماء" للنووي.
أن تعلم كيف كان أثرها في نفوس من يقتدون بآدابه في كل حال، فإليك مثلاً من آداب عديّ بن حاتم أحد أفاضل الصحابة، هو: أنه كان يفتّ الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، ولهن حق (1).
ومن أدب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي: أنه كان يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب، فزجره رفيق الأستاذ، فنهاه الأستاذ، وقال له: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟!.
فقد رأيت كيف حاربت الشريعة السمحة طبيعة القسوة على الحيوان، وقررت للتصرف فيه أحكاماً مبنية على قاعدة الرفق بكل ذي كبد رطبة، ولعلك تنتبه مما تلوناه عليك أن الإِسلام قد وضع لجمعيات الرفق بالحيوان أساسًا يقيمون عليه دعوتهم، وما من نفس أو جمعية تدعو إلى ناحية من الخير إلا وجدت في هذه الشريعة ما يؤيد دعوتها، ويهديها سبيل الرشد إذا تشابهت السبل عليها.
ومما تضطرم له القلوب أسفاً: أن تؤسس جمعيات الرفق بالحيوان في بلاد أوربة منذ نحو مئة سنة، ويرتفع صوت الدعوة إلى الرحمة بالحيوان أكثر مما يرتفع في بلاد الإِسلام، حتى ظن كثير من الأحداث والعامة الذين يقيسون الأديان بسير المنتمين إليها: أن الإِسلام لم يوجه عنايته إلى واجب الشفقة على الحيوان، وأن أوربا هي صاحبة الفضل في الدعوة إلى هذه الشفقة!.
أنشئت في إنكلترة جمعية الرفق بالحيوان الملكية (سنة 1824 م)، ومما يثير الخجل أن يكون لتلك الجمعية فرع في بلد إسلامي كالقاهرة، ولا يقوم
(1) رواه الطبراني والبزار.
بمثل عملها جماعة من المسلمين، وقد أيقظ الدين الحنيف في قلوب أسلافهم عاطفة الرحمة بالحيوان منذ (1350 سنة).
وإذا احتاج الإنسان إلى حُماة، وهو يملك من البيان ما يعبر به عن حاجته، ويدافع به عن حقه، كان الحيوان الأعجم أشد احتياجًا إلى من يستجدي له الرحمة، ويدافع عنه البلاء بيده إن استطاع، أو بلسانه.
هذا والأمل معقود على أن تؤلف في أوطاننا جمعيات لمراقبة تصرف الناس في الحيوان، حتى إذا رأت صاحب الحيوان يرهقه يحمل الأثقال، أو يناله بأذى، سعت بما تستطيع من طرق النهي عن المنكر إلى إزالة ما تشهده من الإرهاق أو الأذى، فيكون لها حمد الناس في الدنيا، وثواب الله في الآخرة.