المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علة إعراض الشبان عن الزواج - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(8)«رسَائِلُ الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌المروءة ومظاهرها الصّادقة

- ‌الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

- ‌في مفاسد البغاء

- ‌كلمة في المسكرات

- ‌الشجاعة

- ‌المساواة في الإسلام

- ‌عِظَمُ الهمّة

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة

- ‌صدق اللهجة

- ‌فضيلة الإخلاص

- ‌الأمانة في العلم

- ‌القضاء العادل في الإسلام

- ‌الإنصاف الأدبي

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

- ‌كبر الهمّة في العلم

- ‌الدهاء والاستقامة

- ‌الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

- ‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

- ‌سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين

- ‌العزّة والتواضع

- ‌المداراة والمداهنة

- ‌الرفق بالحيوان

- ‌محاكاة المسلمين للأجانب

- ‌الاجتماع والعزلة

- ‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

- ‌النبوغ في العلوم والفنون

- ‌متى تكون الصّراحة فضيلة

- ‌رسائل الإصلاح

- ‌المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

الفصل: ‌علة إعراض الشبان عن الزواج

‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

(1)

في الشعوب من يهضم حقوق الزوجة، ويقسو في عشرتها، وفيهم من تكون إرادته متابعة لإرادتها، ورأيه ملغي أمام رأيها. وقلّما أخلصت المرأة لمن يهضم حقوقها، ويسيء عشرتها، وقلما طاب للرجل عيش مع زوجة تكون كلمتها فوق كلمته، وقلما اغتبط بولد تضعه من لا تحترمه في حضوره فضلاً عن غيبته.

أما الإِسلام، فكان بين ذلك قوامًا: أنقذ المرأة من أيدي الفريق الذين يزدرون مكانها، وتأخذهم الجفوة في معاشرتها، فقرر لها من الحقوق ما يكفل راحتها، وينبّه على رفعة منزلتها، ثم جعل للرجل حق رعايتها، وإقامة سياج بينها وبين ما يخدش كرامتها.

ومن الشاهد على هذا: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. فجعلت الآية للمرأة من الحقوق مثل الرجل.

وإذا كان أمر الأسرة لا يستقيم إلا برئيس يدبره، فأحقهم بالرياسة هو الرجل، الذي شأنه الإنفاق عليها، والقدرة على دفاع الأذى عن ساحتها، وهذا ما استحق به الدرجة المومأ إليها في قوله تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .

(1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد الخامس من المجلد الرابع، الصادر في شهر جمادى الأولى 1352 هـ - القاهرة.

ص: 261

فالإِسلام أصلحَ الصلة بين الرجل والمرأة، وجعلها بمأمن من أن يلحقها وهن، أو يعلق بها كدر. وبعد أن أحكم صلة الزواج، وهذّب حواشيها، حثّ على الزواج، وجعله من سننه التي يعدّ تاركها من غير عذر مستخفًا بما أمر الله.

وإذا نظرت إلى أن حكمة الله تعالى قد اقتضت بقاء النسل؛ لإقامة الشرائع، وعمران الكون، وإصلاح الأرض، وأن النسل الصالح لا يبقى إلا بالزواج، رأيت كيف كان الزوج وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة أحبّ الله أن تكون، وحبب للناس القيام عليها.

وإن كنتَ من علماء الأخلاق، ونظرت إلى أن هناك فضيلة يقال لها: العفاف، وعرفت أن الزواج مما يعين على التحلي بهذه الفضيلة، ظهر لك أن الزواج وسيلة من وسائل الفضائل، وكثيراً ما تأخذ الوسائل حكم المقاصد في نظر الشارع، وفي عرف الناس.

وإذا نظرت إلى الناس "الجنس اللطيف"، وما فطرن عليه من الضعف، وعدم إطاقة الأعمال الشاقة، شهدت فيهن العجز عن أن يهيئن لأنفسهن مرافق الحياة، ويعشن في شيء من الراحة. والزواج يصل ضعفهن بقوة، ويسوق إليهن جانباً من الهناءة. ولو قصد الرجل بالزواج كفاية المرأة ما يعنيها من مطالب الحياة، لقصَد لعمل يكسبه شكوراً، وتزداد به صحيفة حياته نوراً.

أوليس الزواج يكسب الرجل رفيقة تخلص له ودّها، وتشمل منزله برعايتها؟ ومثل هذه الرفيقة التي تحمل حبه الطاهر، وتعمل لتدبير منزله في غير مَنّ ولا تباطؤ، ولا تتمثل إلا فيمن تربطه بها صلة الزواج.

وليس الزواج صلة مقصورة على الزوجين فحسب، بل تمتد هذه الصلة من الزوجين إلى أسرتيهما، فتكون حلقة واسعة في سلسلة اتحاد الأمة،

ص: 262

وللصلات الخاصة؛ كالقرابة والصهر أثر في التناصر كبير.

والزواج يكسب الرجل ولداً إن يحسن تربيته، كان له قرة عين في حياته، وذكراً طيباً بعد وفاته. ومن ذا ينكر أن الولد المهذب من أجلّ النعم في هذه الحياة؟.

فللزواج مصالح تكثر بكثرته، وتقلّ بقلته، وتفقد بفقده. وقد عرفت قيمة هذه المصالح، ومكأنها في إعلاء الدين، وبسطِ أجنحة العمران، وتخفيف متاعب الحياة.

ويكفي الإعراض عن الزواج شراً: أنه علة خراب الديار، واليد القابضة لروح العفاف، والوسيلة إلى ابتذال فتياتنا، وعيشهن في تعب، أو في غير صيانة.

فمن واجب من يغارون على الفضيلة، أو على عمارة الأوطان، أو على الفتيات المصونات: أن يعملوا للتعاون على مكافحة هذا الوباء المتفشي في البلاد، وهو انصراف شباننا عن الزواج.

الزواج صلة بين الرجل والمرأة، تسوق إليه الفطرة السليمة، وتدعو إليه الشراع الحكيمة. وما زالت نفوس البشر تنساق فيه مع الفطرة، وتجيب به داعي الحكمة، إلا نفوساً لم تسلم فطرتها، أو عميت عن حكمة خالقها.

وقد كانت هذه النفوس المعرضة عن الزواج؛ لعدم سلامة الفطرة، أو لجهلها بما في الزواج من حكمة، مغمورة بالنفوس الآخذة بسنته، العاملة على تحقيق حكمته، فلم يشعر الناس بالنقص أو الفساد الذي دخل في المجتمع من ناحية أولئك المعرضين عن الزواج.

ص: 263

أما اليوم، فقد أصبح انصراف شبابنا عن الزواج في ازدياد، حتى ظهر في مظهر ينذرنا سوء المنقلب، وما بعد هذا المنقلب إلا الانقراض، فحرام علينا أن نقف أمام هذا الخطر الداهم صامتين، وحقيق علينا أن نبحث عن العلل التي أصبحت بها قلة الزواج ظاهرة ظهور المرئي بالعين الباصرة. وعلينا - بعد البحث عن هذه العلل - النظرُ في طريق معالجتها؛ لعلّنا نقطعها من منبتها، وننقذ فتياتنا، ونحفظ أمتنا، ونطهر أوطاننا من خبائث لا تظهر إلا من إعراض الفتيان عن الزواج.

وإذا بحثنا عما يصح أن يكون سبباً لهذه الأزمة الاجتماعية، وجدناه يرجع إلى علل مختلفة.

وأظهر هذه العلل: تبرُّج كثير من الفتيات تبرج من استولى عليهن الهوى، ونضب من وجوههن ماء الحياء، حتى استوى في هذا التبرج الممقوت بعض الناشئات في بيوت غير فاضلة، وبعض المترددات على مدارس لا تعنى بتلقين الفضيلة، ولا يؤلمها أن تذهب الفتاة في الخلاعة إلى غاية قصوى.

وهذا المظهر الذي ظهر به كثير من فتياتنا اليوم، قد جعل الشاب يحجم عن الزواج؛ مخافة أن يساق إلى قرينة تستخفّ بجانب الصيانة، كما تستخف به هؤلاء السافرات المتهتكات.

وليس هذا الخوف بحق، فإن البيوت المحتفظة بالحشمة، الآخذة بأدب الصيانة، غير قليلة، يهتدي إليها كل من يبتغي الحياة الطاهرة، ولا سيما فتى لا يعنيه من الفتاة إلا أن يرتاح قلبه إذا نظر إليها، ويأمن على عرضه إن غاب عنها.

وإذا أردنا معالجة هذا التبرج الذي أوجس منه الشبان خيفة، فإن تبعته

ص: 264

تعود إلى أولياء المتبرجات؛ إذ لم يأخذوا في تربيتهن بالحزم، ولا في الرقابة عليهن باليقظة.

فمن طرق مكافحة الإعراض عن الزواج: مقاومة هذا السفور القاضي على كرامة فتياتنا، وإرشادهُن إلى أن الصيانة خير من الابتذال، والحياء أجمل من الصفاقة، وأي صفاقة أكثر من أن تقلّب الفتاة وجهها في وجوه الرجال!.

ومن علل قلة الزواج: ضعف العقيدة الدينية؛ فإن الإيمان بما ينال الفاسق من الخزي والشقاء، يقر النفس على العفاف، ويقطع تطلعها إلى ما ليس بحلال، فلا يبقى له إلا الاستمتاع بالزواج المباح. أما مزلزل العقيدة، فلا يجد في نفسه حرجًا من أن يطلق لشهواته العنان، ويتقلب بها في بيوت الدعارة، وذلك ما يصرف قصده عن الزواج وهو يستطيع الزواج.

وإذا أردنا أن نعالج هذه العلة، فإن أكبر جانب من تبعة ضعف العقيدة يقع على المتولين لتربية النشء؛ حيث لم يعملوا لتلقينهم العقائد الصحيحة تلقينًا يجعلها راسخة رسوخ الشجرة الطيبة: أصلها ثابت، وفرعها في السماء. فعلاج هذه العلة: أن نسعى لأن يكون نشؤنا على تربية دينية صحيحة، والدين هو الذي يزكي النفوس، فلا ترى القبيح حسناً، ولا الخبيث طيباً.

ومن علل قلة الزواج: تشوّف كثير من الشبان للاقتران بذات ثروة، وذواتُ الثروة اللاتي يقبلن على التزوج بالشبان المقلّين غير كثير. فهل لأساتيذ التربية وخطباء المنابر، أن يلقوا للنشء نصائح في الزواج، ويوجهوا نفوسهم إلى الناحية التي تجيء منها راحة البال، وانتظام الحياة، ودوام العشرة، وهي طيب منبت الزوجة، وسماحة أخلاقها، وسمو آدابها؟ " وأريد بطيب المنبت: أن تنشأ في بيت يرعاه ذو غيرة وحزم، وإن كان قوت أهله كفافاً، قال صلى الله عليه وسلم:

ص: 265

"الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:"تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"(2)!.

وانظروا كيف عنيت الشريعة الإِسلامية بوصف الكفاءة بين الرجل والمرأة، ومن وجوه الكفاءة: أن يكون حال الرجل من جهة المال والحسب مناسبًا لحال المرأة من هذه الجهة، وإنما عنيت بالكفاءة بين الزوجين، وجعلت المال من مقوماتها؛ لأن أمر الزواج لا ينتظم في غالب الأحوال إلا أن يكون الرجل محترمًا في عين المرأة، وشأن المرأة أن لا تحترم من يكون أقل منها مالاً أو حسبًا، فلا يجد منها المعاشرة التي يودّ دوامها، ولا يطمع أن تطيعه بالمعروف، فيكون مرتاح القلب للاقتران بمثلها.

وقد يكون سبب الإعراض عن الزواج: اتساع رغبات النساء في صنوف الملابس والمآكل والفرش، ونحوها من أمتعة البيوت ووسائل الرفاهية، حتى صارت كل طبقة تنظر إلى ما فوقها من الطبقات ثروة، وتجتهد أن تحاكيها في الترف ومظاهر الأبهة. فإن صمّمت الفتاة على محاكاة الأسر التي هي أوسع غنى، وأنمى ثراء من أسرة زوجها، فإما أن تجد من الزوج غفلة، أو ضعف إرادة، فترهقه بما تقترحه من النفقات إرهاقًا، ومصير من ينفق من غير سعة الفاقةُ والإفلاس، وإما أن يقابل مقترحاتها الخارجة عن مستطاعه بشيء الحزم والنظر في العواقب، فينفق بمقدار ما يسعه كسبه، وهي بعد هذا إما أن تجنح إلى الفراق، وإما أن تبقى مع زوجها الحازم في حالة من ترى أنها مبتلاة بهذا الزوج الذي لا يفي بجميع رغائبها. وماذا ترى في عيشة صاحبين يعتقد أحدهما

(1)"صحيح الإمام مسلم".

(2)

رواه الإمامان: البخاري، ومسلم.

ص: 266

أن صحبته للآخر قد جرّت عليه شقاء، وإلى عيشه كدراً؟ فهل يقطعان مسافة الحياة في شيء من الراحة والصفاء؟!.

أما التي تعود إلى رشدها، وتقنع بالرزق الذي يسوقه الله تعالى إلى زوجها، فأمثالها في هذا العصر، ولا سيما الناشئات في المدن، غير كثير.

قد يكون هذا المرض الخلقي المتفشي في فتياتنا أحد الأسباب التي صرفت الشبان عن الزواج؛ لأن الشباب يخشى أن يبتلى بزوجة تتعدى بمطالبها وما تشتهيه نفسها حدود المعروف؛ فإما أن ترهقه عسراً، وإما أن تسلّ ثوبها من ثوبه جانحة للفراق، وإما أن تبقى معه على غير مودة خالصة. وإذا لم تخلص المودة بين الصاحبين، فلا تسلْ عن كثرة ما يدور من مناقشات ومنغّصات.

ونحن لا ننازع في أن اتساع رغبات النساء في شؤون الحياة قد تجاوز حد المستطاع، ولكنا لا نسلم أنه نزعة عامة، وطبيعة لا تتحول حتى نتخذ منه للشبان الذين لا يقبلون على الزواج معذرة، بل نرى أن اتساع الرغبات إلى الحد الذي يثبّط عن الزواج إنما هو شائع في طبقات الناشئات في ترف، أو من يتصلن بهن، ولم تسبق لهن تربية نافعة. أما الأسر التي تعيش في حالة اقتصاد، وفيها أثارة من تهذيب، فإن فتاتهم تقنع بما يسره الله لزوجها من رزق، وتغتبط بحسن خلقه ومودته، وبذله الوسع في إنعام بالها، غير ناظرة إلى ما تقصر عنه يده من الأشياء الزائدة على الضروريات والحاجيات. وليست هذه الأسر المهذبات بقليل، فلو وجه للفتيان هممهم إلى لذة الحكمة والعلم، وعرفوا أنهم يجدون مع الفتاة المهذبة من راحة الضمير، والتفرغ لاكتساب المجد ما لا يجدونه مع الفتاة الواسعة الرغبات، لكان لهم في مصاهرة تلك الأسر الفاضلة ما يجعل ضمائرهم في راحة، وعيشهم في هناء.

ص: 267

فمن يُبلِّغ شبابنا هذه الحقائق؛ ليعلموا أن إعراضهم عن الزواج قتل لفضيلة العفاف، وحرمان للأوطان من نسل طيب، وإطفاء لمصابيح الحياة الاجتماعية الراقية؟ ولا أراهم بعد أن يعلموا هذه الحقائق، وهم عشاق الفضيلة، والغيورون على المصالح العامة، والعاملون لحياة الأمة ورقيها، إلا أن يطهروا نفوسهم من محكاة الإباحيين في الإعراض عن الزواج وهم يستطيعونه، فيكونوا -بتوفيق الله تعالى- أيديًا بانية لا هادمة، ومصلحة لا مفسدة:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

ص: 268