المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ضلالة فصل الدين عن السياسة - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(8)«رسَائِلُ الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌المروءة ومظاهرها الصّادقة

- ‌الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

- ‌في مفاسد البغاء

- ‌كلمة في المسكرات

- ‌الشجاعة

- ‌المساواة في الإسلام

- ‌عِظَمُ الهمّة

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة

- ‌صدق اللهجة

- ‌فضيلة الإخلاص

- ‌الأمانة في العلم

- ‌القضاء العادل في الإسلام

- ‌الإنصاف الأدبي

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

- ‌كبر الهمّة في العلم

- ‌الدهاء والاستقامة

- ‌الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

- ‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

- ‌سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين

- ‌العزّة والتواضع

- ‌المداراة والمداهنة

- ‌الرفق بالحيوان

- ‌محاكاة المسلمين للأجانب

- ‌الاجتماع والعزلة

- ‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

- ‌النبوغ في العلوم والفنون

- ‌متى تكون الصّراحة فضيلة

- ‌رسائل الإصلاح

- ‌المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

الفصل: ‌ضلالة فصل الدين عن السياسة

‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

(1)

ما زال الرسل عليهم السلام يرمون في الدعوة إلى أصول الإيمان بالله عن قوس واحدة، ولكل رسول -بعد هذا- شريعة يُراعَى في أمرها ونهيها من يرسل إليهم خاصة، حتى حضر الوقت الذي تهيأ فيه البشر من اختلاف بيئاتهم للانتظام في شريعة واحدة، فبعث الله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، وجعله خاتم النبيين، وقضى بأن تكون شريعته خاتمة الشرائع، ولعموم رسالته، سواء الشاهد فيها والغائب، والعربي والعجمي، أقام على صدقه آيات باقيات ما نظرَ فيها ذو فطرة صافية، أو بصيرة نافذة، إلا أسلم وجهه لله قانتًا {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، ولخلود شريعته جعلها أبلغ الشرائع حكمة، وأوفاها أصولاً، وأوسعها للمصالح رعاية.

ثلاث حقائق كل واحدة منها شطر من الإسلام: عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، واشتمال شريعته بنصوصها وأصولها على أحكام ما لا يتناهى من الوقائع، وكون هذه الشريعة أحكم ما تساس به الأمم، وأصلح ما يقضى به عند التباس المصالح، أو التنازع في الحقوق.

أجمع علماء المسلمين على هذه الحقائق، وعرفها عامتهم، فمن

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الحادي عشر - الصادر في شهر المحرم 1358 هـ - القاهرة. كما نشر البحث في مجلة "نور الإسلام".

ص: 185

أنكر واحدة منها، فقد ابتغى في غير هداية الإسلام سبيلاً، ومَثَلُ من يماري في شيء منها، ثم يدعي أنه لا يزال مخلصًا للإسلام، مثل من يضرب بمعوله في أساس صرح شامخ، ثم يزعم أنه حريص على سلامته، عاملٌ على رفع قواعده.

فتنت مدنية الشهوات أشخاصاً ينتمون إلى الإسلام، فانحرفت بهم عن المحجة، وأدركوا أن مجاهرتهم بإنكار رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم تسقطهم من حساب المسلمين دفعة، فلا يبلغون من فتنة الأمة مأربًا، فبيتوا أن يبقوا ثوب الإسلام على أكتافهم، ويحركوا بمدحه في بعض المجالس ألسنتهم، أو في بعض الصحف أقلامهم؛ لكي يركن الغافلون من المسلمين إلى أقوالهم، فيقذفوا من وراء ريائهم، وثقةِ بعض الناس بهم ما شاؤوا من آراء خاسرة، ويزعموا أن هذه الآراء من هداية الإسلام، أو أن الإسلام لا ينكرها.

والواقع أن هذا الصنف من المنحرفين قد أحدث في بعض البلاد الإسلامية آثار فساد، لم يُحدث معشارها النابذون إلى الدين على سواء، وكم أرتنا الأيام في هذا الصنف من عجائب دلتنا على أن هناك مغارات يأتمرون بالدين بين حيطانها، ولغةً إذا حضرهم بعض المسلمين، يجنحون إلى التخاطب بها، وضروباً من الإغواء يجهدون أنفسهم في تمويهها.

منذ عهد قريب أخذ بعض الكاتبين يتشبهون بمن يؤلف على طريق البحث العلمي، فقالوا ما شاؤوا أن يقولوا، وخرجوا بغير مناسبة منطقية إلى إنكار أن يكون للإسلام مدخل في الشؤون القضائية، والمعاملات المدنية.

جال هذا الصوت جولة الباطل، ثم ذهب كصيحة في واد، ولم يبق له صدى إلا في آذان رهط لا يسمعون رشداً، ولا يفقهون حجة، وإن شئت

ص: 186

فقل: صادف ذلك الصوت أفئدة هواء، فجعلوا يحاكونه في بعض ما يكتبون، ويوقظون فتناً لو أقبل كل على ما يحسن أن يتحدث فيه، لكانوا عنها في شغل.

ما كدنا ننتهي من إماطة أذى ذلك الذي ادعى أنه يفسر القرآن بالقرآن (1)، حتى خرجت إحدى المجلات تحمل مقالاً تحت عنوان:"داء الشرق ودواؤه"، وفي هذا المقال دعاية إلى فصل الدين عن السياسة، وبلغ بكاتبه الحال أن زعم أن سبب تأخر المسلمين عدم فصلهم الدين عن السياسة.

ونحن نودّ - والله يعلم - أن يقبل كل من بيده قلم على ما فيه خير الناس، والموضوعات العلمية والأدبية والسياسية مترامية الأطراف، وانصراف نفس الكاتب عن البحث في أمثال هذه الموضوعات ليس بعذر يبيح له أن يخوض بقلمه في الحديث عن الدين خوضَ من يقولون ما لا يتدبرون.

ونود - والله يعلم - أن نقبل على شأننا، ونمضي في سبيلنا، وليس في فطرتنا الولوع بأن نفند لكاتب رأياً، أو نبطل لباحث قولاً، ولكن القوم أصبحوا يتساقطون على طمس معالم الحقيقة والفضيلة تساقطَ الفراش على السراج، والسكوت عنهم تفريط في جنب الله، ومن فرط في جنب الله، خسر الدنيا قبل الآخرة.

قال صاحب المقال في ذكر أهم النقط الجوهرية التي ترجع إليها أسباب

(1) إشارة إلى كتاب: "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" تأليف محمد أبو زيد الدمنهوري. وردَّ عليه الإمام محمد الخضر حسين -انظر كتابه: "بلاغة القرآن". ومجلة "نور الإسلام" - العدد الثاني من المجلد الثاني الصادر في صفر 1350 هـ.

ص: 187

ضعف الشرق: "الثانية: عدم التفريق بنظام قاض بين السلطتين الدينية والدنيوية، فكان هذا من جملة المسببات لتأخر المسلمين؛ إذ أن جمع السلطتين في شخص واحد، بدون تحديد لهما، كان من أبعد (1) الأمور إلى اختلاف النظام، وإذا كان هذا أفاد المسلمين في صدر التاريخ الإسلامي، وأمر العالم لهم كما قدمنا، إلا أنه كان بلاء بعد انقسام المسلمين إلى ممالك وفرق، وشيع ومذاهب وأحزاب، ووجود دول أخرى تنازعهم السيادة على العالم، وقد عاد اجتماع هاتين السلطتين بلاء عليهم إذ أصبحت الرياسة الدينية والدنيوية في الواقع في قبضة تلك الدول التي نازعتهم كما هو مشاهد الآن".

نعرف من قبل أن يظهر هذا المقال: أن الذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة فريقان:

فريق يعترفون بأن للدين أحكاماً وأصولاً تتصل بالقضاء والسياسة، ولكنهم يفكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب، ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدين وأصوله، وقبلوا أن يسميهم المسلمون: ملاحدة؛ لأنهم مقرّون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن، ولا بمن نزل عليه القرآن.

ورأى فريق: أن الاعتراف بأن في الدين أصولاً قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذانٌ بالانفصال عن الدين، وإذا دعا المنفصل عن الدين إلى فصل الدين عن السياسة، كان قصده مفضوحاً، وسعيه خائباً، فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يدّعوا أن الإسلام

(1) كذا في الأصل ولعلها محرفة عن كلمة (أدعى).

ص: 188

توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه؛ لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة، فيتم لهم ما بيتوا.

هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة، وكلاهما يبغي من أصحاب السلطان أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها، وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حكم بالغات.

أما أن الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاماً من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنّة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين؛ إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله، أو سنّة رسول الله.

في القرآن شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية، وتتولى إرشاد السلطة السياسية، قال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وكل حكم يخالف شرع الله، فهو من فصيلة أحكام الجاهلية، وفي قوله تعالى:{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إيماء إلى أن غير الموقنين قد ينازعون في حسن أحكام ربّ البرية، وتهوى أنفسهم تبدُّلها بمثل أحكام الجاهلية، ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم، وقال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب الله، ونبّه على أن من

ص: 189

لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسرى الشهوات عن بعض ما أنزل الله، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم، ويضع مكان حكم الله حكماً يلائم بغيتهم، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وفي آية:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفي آية ثالثة:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد، ولا من العبادات؛ كأحكام البيع والربا، والرهن والدَّين والإشهاد، وأحكام النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار، والحجْر على الأيتام، والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والديّة، وقطع يد السارق، وجلد الزاني وقاذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فساداً، بل في القرآن آيات حربية فيها ما يرشد إلى وسائل الانتصار؛ كقوله مرشداً إلى القوة المادية:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وقوله تعالى مرشداً إلى القوة المعنوية:{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقوله تعالى منبهاً على خطة هي من أنفع الخطط الحربية:{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، والكفار هنا المحاربون، ففي الآية إرشاد إلى أن يكون ما بينهم ويين ديارهم أمنًا، ولا يدعوا من ورائهم من يخشون منه أن ينهض إلى أموالهم وأهليهم من بعدهم، أو يجلب عليهم بخيله ورجله ليطعن في ظهورهم، وقد أقبلوا على العدو الذي تجاوزوا إليه بوجوههم.

وفي الآيات الحربية ما يتعلق بالصلح؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ

ص: 190

صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وفيها ما يتعلق بالمعاهدات؛ كقوله:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].

وفي السنّة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا مما يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، إنما تصور ديناً آخر، وسمّاه: الإسلام.

وفي سيرة أصحاب رسول الله وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة - ما يدل دلالة قاطعة على أن للدين سلطانًا على السياسة؛ فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله، وسنّة رسول الله.

ولولا علمهم بأن السياسة لا تنفصل عن الدين، لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه، أو يراه مجلس شوراه مصلحة، وفي "صحيح البخاري":"كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنّة، لم يتعدوه إلى غيره؛ اقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم".

من شواهد هذا: محاورة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة؛ فإنها كانت تدور على التفقه في حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بقوله في الحديث: "فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وأبو بكر الصديق يحتج بقوله في الحديث: "إلا بحقها"، ويقول: الزكاة من حق الأموال.

ولو لم يكونوا على يقين من أن السياسة لا يسوغ لها أن تخطو خطوة إلا أن يأذن لها الدين بأن تخطوها، ما أورد عمر بن الخطاب هذا الحديث، أو لوجد أبو بكر عندما احتج عمر بالحديث فسحة في أن يقول له: ذلك

ص: 191

حديث رسول الله، وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة.

ومن شواهد أن ربط السياسة بالدين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم: قصة عمر بن الخطاب إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حداً، فتلت عليه امرأة قوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فما زاد على أن قال: رجل أخطأ، وامرأة أصابت، ونبذ رأيه وراء ظهره، ولم يقل لها: ذلك دين، وهذه سياسة.

وكتبُ السنّة والآثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد، ولم يوجد - حتى في الأمراء المعروفين بالفجور - من حاول أن يمس اتصال السياسة بالدين من الوجهة العلمية، وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما يأذن به الله، جهالة منهم أو طغياناً.

وأراد الحجّاج أن يأخذ رجلاً بجريمة بعض أقاربه، فذكّره الرجل بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فتركه، ولم يخطر على باله وهو ذلك الطاغية أن يقول له: ما تلوته دين، وما سأفعله سياسة.

وأما قيام أحكام الشريعة على أساس العدل، ورسمها للسياسة خططاً محكمة الوضع، فسيحة ما بين الجوانب، فذلك ما لا أستطيع تفصيل الحديث عنه في هذا المقال، وفيما كتبناه ونكتبه -إن شاء الله- تحت عنوان:"الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"(1) ما يساعد عل الإلمام بأصول الشريعة، ومعرفة اتساعها لكل ما يحدث من الوقائع، والذي نقوله في هذا المقام: إن السياسة لا تجد في الدين ما يقف دون مصلحة، ولا تجد منه ما يحمل على إتيان مفسدة، لا تجد فيه هذا ولا ذاك متى وزنت المصالح والمفاسد

(1) كتاب للإمام مطبوع.

ص: 192

بميزان العقل الراجح، وكان القابضون على زمامها من حصافة الرأي في منعة من أن يطيش بهم التقليد، أو إرضاء طائفة خاصة إلى أن يروا الفساد صلاحاً، فيشرعوه، أو يروا الصلاح في لون الفساد، فينصرفوا عنه، وليس من شأن الدين أن يراعي فيما يشرع الأهواء الجامحة، وإن كانت أهواء الملأ الذين استكبروا، أو أهواء من في الأرض جميعاً.

والرؤساء الذين لم يحافظوا في سياسة شعوبهم الإسلامية على أحكام الشريعة وآدابها، فوضعوا لهم قوانين جائرة، وأذنوا بمظاهر غير صالحة، إنما أتوا من ناحية جهلهم بسماحة شرع الإسلام، وسعة قواعده وسمو مقاصده، وإذا كان على غير الرؤساء تبعة، فعلى أولي الحل والعقد من فضلاء الأمة وعلمائها إذا أهملوا علاجهم، ولم يبذلوا في دعوتهم إلى الاستقامة جهدهم.

أما الأحداث وأشباه الأحداث الذين لا يهدأ لهم بال ما داموا يسمعون اسم الدين يجري في لسان بعض الدول باحترام، فإن من نشأ في غير جد، وأسرف في حب اللهو، لا يألف شريعة تأمر بالعدل، وتضع دون الأهواء الجامحة حاجزًا، فلا عجيب أن يتآمروا بها، ويشيروا على السياسة بأن تبتعد منها، وإذا بلغ هؤلاء مأريهم في سياسة وقع زمامها في يد زائغ عن سبيل الرشد، فستذهب آمالهم خائبة في كل قطر يسوسه رئيس يقدر الإسلام قدره، ويجد من حوله علماء درسوا الشريعة بنباهة، ولا يخفى عليهم قصد من يتغنون بمدح الإسلام، وقبل أن تستريح حناجرهم يطعنونه في الصميم.

يقول الكاتب: "إن جمع السلطتين في شخص واحد بدون تحديد لهما كان من أدعى الأمور إلى اختلال النظام".

ليس في الإسلام سلطة دينية إلا على معنى أن الأمير ينفذ أحكام الشريعة

ص: 193

المفصلة في الكتاب والسنّة، أو المندرجة في الأصول المأخوذة منهما. وقاعدة الشورى التي قررها القرآن الكريم، وجرى عليها الخلفاء الراشدون كافلةٌ بصحة الاجتهاد في الأحكام المستنبطة من الأصول، أما النظم التي تقوم بها الشورى على وجهها الصحيح، فموكولة إلى الآراء الراجحة، وما تقتضيه مصالح الأمم أو العصور، فالإسلام لم يترك السلطة التي وضعها في أيدي الأمراء مطلقة عن التقيد، وإذا استهان بعض الأمراء بقاعدة الشورى، فإن التشريع تام، والوِزْر على من لم يأخذ نفسه بما قرره الشرع العزيز.

وإذا كان بعض الأمراء هم الذين خرجوا عما حده الإسلام لسلطتهم الدينية، فحكمة الكاتب متى كان مسلمًا أن يقرر الحد الذي رسمه الإسلام، ويبين للناس كيف تعداه أولو الأمر؛ ليطالبوهم بالوقوف عنده، لا أن يقول كلاماً مبهماً، ويبني عليه المناداة إلى شهوة هي فصل الدين عن السياسة.

ويقول صاحب المقال: "وقد عاد اجتماع السلطتين بلاءً عليهم؛ إذ أصبحت الرياسة الدينية والدنيوية في الواقع في قبضة تلك الدول التي نازعتهم، كما هو مشاهد الآن".

لسقوط الشعوب الإسلامية في قبضة تلك الدول التي نازعتهم أسباب ليس الجمع بين السلطتين منها في شيء، ومن طبيعة سيطرة تلك الدول عليهم أن تتصرف في شؤونهم على طرق لا تحفظ حقوقهم، ولا تراعي فيها مصالحهم، وهل ينقص هذا البلاء لو أن المسلمين أعلنوا فصل سياستهم عن الدين قبل أن يسقطوا في أيدي هذه الدول المنازعة لهم؟!.

حِرْص الكاتب على شهوة فصل الدين عن السياسة جعله يورد في معرض التسويق إليها ما ليس بحق، ولا يشبه أن يكون حقاً، بأي طريق عرف

ص: 194

الكاتب أن تلك الدول إذا وجدت السياسة في يد، والدين في يد أخرى، سلبت ما في اليد الأولى من سياسة، وتركت اليد الأخرى تعمل في حدود سلطتها بحرية؟!.

ويقول الكاتب: "وإذا كان هذا أفاد المسلمين في صدر التاريخ الإسلامي، وأمر العالم لهم كما قدمنا، إلا أنه كان بلاء بعد انقسام المسلمين إلى ممالك وفرق، وشيع ومذاهب وأحزاب، ووجود دول أخرى تنازعهم السيادة على العالم".

قد عرفتَ أن الأمير ليس عنده في الواقع سوى سلطة واحدة هي: تدبير شؤون الأمة على مقتضى القوانين الشرعية، والنظم التي لا تخالف شيئاً من أصولها، فتجريد الأمير من السلطة الدينية هو عزل له عن الإمارة في نظر المسلمين، فالمسلمون لا يستطيعون أن يتصوروا أميراً مجرداً عن السلطة الدينية، فضلاً عن أن يجردوه منها بالفعل، ويرضوا بعد تجريده منها بالاستماع إليه، والطاعة له. ولم تكن السلطة الدينية بيد الأمراء في يوم من الأيام بلاء على المسلمين، وإنما بلاء المسلمين في عدم قيام بعض أمرائهم بما توجبه هذه السلطة من نحو العدل والشورى والمساواة، وإعداد القوة لتقرير الأمن وكفّ العدو الذي يبسط إليهم يده بالسوء.

قال صاحب المقال: "فكل مملكة احتضنت مذهباً في العقائد والفروع لتبقى وحدها منفصلة عن الممالك الأخرى، فبعد الانقسام أصبح كل أمير إمامًا دينيًا، وحاكمًا سياسيًا لقطره، فكانت النتيجة من هذا الجمع الإخلال بالنظام العام، وزالت الوحدة المقصودة من روح التشريع الإسلامي، فتعددت الخلافة، واختلت أحكامها، بعكس الأمم الأخرى التي تنبهت إلى حكمة الفصل

ص: 195

بين السلطتين، فصار ذلك الفصل مصدراً لفائدة الأمة، وحمايتها من التلاشي والانهيار، فلم يضرها اختلاف الدول فيها لوجود الرياسة الدينية قائمة في حدود سلطتها وتخصصها. ولذلك بقيت وحدتها خالدة في عصمة من الانشقاق والتدهور الذين أصابا الوحدة الإسلامية".

وقع تفرّقٌ في الممالك الإسلامية، وأصبح كل أمير مستقلاً بالنظر في أمور قطره، فكانت النتيجة من استقلال كل أمير بملكه، مع تقاطع هذه الممالك وتدابرها: انحلال الرابطة الإسلامية، وزوال الوحدة المقصودة من التشريع الإسلامي.

فسبب إخلال النظام العام، أو أحكام الخلافة: انقسام الأمة الإسلامية إلى دول انقسامًا غير مصحوب بشيء من التحالف والتعاطف، أما إن كل أمير يرجع إليه النظر في شؤون رعيته الدينية، فذلك من لوازم الإمارة في الإسلام، فلم يكن لعدِّ الأمير المستقل نفسه حارساً للدين في مملكته الخاصة دخل في اختلال النظام، فوهْنُ المسلمين جاء من جهة استقلال كل أمير بطائفة من المسلمين استقلالًا يقطع بينها وبين الدولة العظمى صلة التناصر والتعاون، لا من جهة أن رعاية الدين داخلة في سياسة كل دولة.

ويقول الكاتب: "بعكس الأمم الأخرى التي تنبهت إلى حكمة الفصل بين السلطتين، فصار ذلك الفصل مصدراً لفائدة الأمة، أو حمايتها

إلخ".

وهذا صريح في أن الكاتب يريد من الدول الإسلامية أن تفعل ما فعلته الدول الغربية من تجريد السياسة من الدين، وهو رأي لا يصدر إلا ممن يكنّ في صدره أن ليس للدين من سلطان على السياسة، وهذا ما بيتّه فئة يريدون أن ينقصوا حقيقة الإسلام من أطرافها حتى تكون بمقدار الديانة المسيحية، ثم

ص: 196

يصبغوا هذا المقدار من بعد بأي صبغة أرادوا، فيذهب الإسلام، فلا القرآن نزل، ولا محمد صلى الله عليه وسلم بعث، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها، وانتزاع الأحكام من أصولها.

يضرب الكاتب المثل بالأمم الأخرى، ويزعم أن فصلها الدين عن السياسة كان مصدر فائدة الأمة، وحمايتها من التلاشي والانهيار، ومن أجل فصلها الدين عن السياسة، ووجود الرياسة الدينية قائمة في حدود سلطتها، لم يضرها اختلاف الدول فيها.

وضربُ المثل على هذا الوجه أثرُ نظرة متسرعة؛ إذ ليس للرياسة الدينية في الإسلام حد تنتهي إليه، ثم يكون للأفراد أو الجماعات أن تفعل بعده ما تشاء، ولو كان في دين تلك الدول قوانين مدنية، ونظم سياسية، وقامت كل دولة على تنفيذ تلك القوانين والنظم داخل حدودها، أفيكون مجرد رعايتها لما جاء به دينها سبباً لانتشارمرض التقاطع بينها؟!.

ليس في طبيعة ربط السياسة بالدين التقهقر والتنازع إلا أن يكون في تعاليم الدين ما يسير بالناس إلى وراء، أو ما يغري بينهم العداوة والبغضاء، وليس في دين الإسلام إلا ما يصعد بالأمم متى شاءت الصعود إلى السماء، وليس فيه إلا ما يدعو إلى الائتلاف والتعاون على أن تكون كلمة الحق هي العليا.

قال صاحب المقال: "ولنضرب لذلك مثلاً: وحدة الكنيسة الكاثوليكية؛ فإنها على الرغم من اختلاف الدول الكاثوليكية بقيت لها زعامتها وشعورها بقوة فكرتها، وقد رأينا أثرها في الحروب الصليبية المستمرة، بل وفي كل

ص: 197

الحوادث التي تلتها، والتي تألبت فيها أوربا على الأمم الإسلامية، فإن للكنيسة والجمعيات الدينية المختلفة التي تستمد سلطتها منها أثرها الفعال في بقاء وانتشار المسيحية، وتأثيرها في سياسة العالم".

ليس في الإسلام سلطة دينية تشبه السلطة الكاثوليكية، والسلطة الدينية في الإسلام لكتاب الله، وسنّة رسول الله؛ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وعلى العلماء البيان، وعلى الأمراء التنفيذ، فإن أراد الكاتب من السلطة: البيان، فالبيان حق لكل عالم تفقه في أصول الشريعة ومقاصدها، فلا يختص به عالم دون آخر، ولا يعد بيان العالم الذي تعينه الأمة للبيان أرجح من بيان غيره، إلا أن تكون حجته أقوى، وإذا كان الأمر للحجة، فما معنى تعيين شخص ليكون مصدر البيان في كل حال؟ فإن أراد من السلطة: التنفيذ، فليس له معنى سوى أن تأكل الأمة إلى شخص القيامَ بتنفيذ أحكام الدين على أن تكون هي يده التي ينفذ بها، وسلاحه الذي يدافع به من يعارض في التنفيذ، وذلك معنى الخلافة المعروفة في الإسلام.

قال صاحب المقال: "ولو رزق المسلمون رجالاً ينظرون بعين الناقد البصير - من قبل قرنين -، وفصلوا الدين عن السياسة، لكان للإسلام اليوم من الشأن والسيادة في الممالك التي اغتصبتها الدول الأوربية ما لا يقل عما للفاتيكان، وما كان خطر الاستيلاء الأجنبي عليهم عظيماً".

كلام يروج، ولكن في غير هذا الوادي، ويُتقبل، ولكن بعقول لم تستنر بهداية، يأسف صاحب المقال على الشأن والسيادة اللذين فاتا للمسلمين لعدم فصلهم الدين عن السياسة من قبل قرنين، ويرى أن إبقاءهم الدين في جانب

ص: 198

السياسة كان سبباً في أن صار خطر الأجنبي عليهم عظيماً.

فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقل مما يعتدي به الأجنبي على الدين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدين عن السياسة علنًا كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب، لو ملكت القوة، لألغت محاكم يُقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تُدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم الله تصرّفَ من لا يرجو لله وقاراً.

يقول الكاتب: لو فصلوا الدين عن السياسة، ما كان خطر الاستيلاء الأجنبي عليهم عظيماً، يقول هذا كأنه لا يدري أن السياسة الطاغية لا تهاب إلا حديداً أشد بأساً من حديدها، وناراً أشد حراً من نارها، فليس من المعقول أن تردّها عن قصدها سلطة دينية ليس في كنانتها سهم، ولا في كفّها حسام، أما قياسه حال السلطة الدينية الإِسلامية - على فرض صحة إقامتها - بحال السلطة الكاثوليكية في احترام مؤسساتها، وإطلاق يدها في عمل يرفع أهل ملتها، فمغالطة أو غفلة عن الفرق بين سلطة دينية يجد فيها الاستعمار مؤازرة أو موافقة على أي حال، وسلطة دينية قد يكون في بعض أصولها ما لا يلائم طبيعة الاستعمار.

ولو ربط المسلمون سياستهم بالدين من قبل قرنين ربطاً محكماً، لم

ص: 199

تجد يدُ الغاصب للعبث بحقوقهم مدخلاً، ولو أعلنوا فصل الدين عن السياسة، لظلوا بغير دين، ولوجدَ فيهم الغاصب من الفشل أكثر مما وجد، فليس مصيبة المسلمين في تركهم السياسة مربوطة بالدين كما زعم الكاتب، وإنما هي ذهولهم عن تعاليم دين لم يدع وسيلة من وسائل النجاة إلا وصفها، ولا قاعدة من قواعد العدل إلا رفعها.

قال صاحب المقال: "فإن أعظم ما أصاب المسلمين من المصائب: إنما هو فقد الرياسة الدينية بعد أن فقد منهم الاستقلال وحرمانهم من بقائها درعا حامياً وسداً منيعاً من تسرب المستعمرين باسم السياسة إلى السيطرة على شعور وضمائر الأمم الإِسلامية، حتى كاد يختل بناء الدين، ويتنكر المسلمون تعاليمه الحقة".

حقيقة فقد الرياسة الدينية من أعظم ما أصاب المسلمين، وهي الرياسة التي في إحدى يديها هداية، وفي أخراهما قوة، أما الرياسة التي لا يتعدى صاحبها أن يكون واعظًا عاماً، يدعو الناس إلى الصلاة والصيام والحج إن استطاعوا إليه سبيلاً، فلم تفقد بعد، ولم يحرم المسلمون منها، ولا تزال باقية، ولكن في أشخاص متفرقين في البلاد، لا في شخص واحد كما يرغب صاحب المقال، ولم نذكر الزكاة من قبيل ما يدخل في الوعظ؛ مخافة أن يكون الكاتب قد انتزعها من أحضان الدين، وجعلها في قسمة السياسة.

يربط الكاتب الوقائع، ولكن بغير أسبابها، ويصل النتائج، ولكن بغير مقدماتا، النفرض أن المسلمين اتفقوا على ضلالة فصل الدين عن السياسة، وأقاموا رياسة دينية لا جند لها ولا سلاح، أمن العقول أن تكون هذه الرياسة درعًا حاميًا، وسدًا يمنع تسرب المستعمرين إلى السيطرة على شعور الأمم

ص: 200

الإِسلامية وضمائرها؟!.

إذا سيطر المستعمر على الشعور والضمائر، فإن أكبر مساعد له على هذه السيطرة: قبضه على زمام التعليم العام؛ حيث يسير به على منهج يخرج به الناشئ مزلزل العقيدة، غائبًا من سماحة الدين وحكمة التشريع، ومعظم النشء مأخوذون بحاجات أول دواع إلى أن يترددوا على مدارس الحكومة.

فإن أراد الكاتب أن يكون لتلك السلطة الدينية فضل إقامة مؤسسات تغني عن مدارس التبشير ومستشفياتهم التي يتخذونها وسائل للسيطرة على شعور المسلمين وضمائرهم، قلنا: في يد المسلمين أن يقيموا مؤسسات تحاكي تلك المؤسسات، فينقذوا أبناءهم من شر مؤسسات الأجنبي، ولا شيء يضطرهم إلى موبقة فصل الدين عن السياسة، وابتداع رياسة دينية لم ينزل الله بها من سلطان.

بسط صاحب المقال لسانه في "الفقهاء المسلمين" كما يبسطه فيهم من لم يطالع كتبهم، فغلا في وصفهم بالجمود، حتى زعم أنهم "لم يقولوا لنا كيف يجتهد الفقيه"، وتمادى في هذه المزاعم إلى أن قال:"ووجد من الفقهاء المزيفين من جوَّز إمامة المغتصب الذي يتولى ولاية الأمة بغير رغبتها وإرادتها".

يقول الفقهاء: تنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وهذا هو الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه الإمامة في كل حال، وأجازوا للإمام متى خشي التنازع في الإمامة من بعده، ورأى في أحد رجاله الكفاية، أن يعهد إليه بها قطعاً للفتنة، ولم يجيزوا لأحد أن يتولى أمرها دون أن يبايعه أهل الحل والعقد، أو يعهد إليه بها الإمام، وإن قام مسلم

ص: 201

ذو قوة، فتولاها بالقهر والغلبة، فإن كان جامعاً لشروط الولاية؛ من نحو العلم والعدل والاستقامة، كان إقراره أسلم عاقبة من منازعته، وليس في إقراره من بأس ما تحققت فيه شروط الولاية، فالفقهاء يجيزون ولاية المتغلب على معنى أنه بعد القهر والغلبة يعد إماماً لتحقق شروط الإمامة فيه، ولأن منازعته تفضي إلى فتنة ليسوا في حاجة إلى إثارتها.

فإن فقد منه بعض شروط الولاية، منتخباً كان، أو معهوداً إليه، أو متغلباً، فمن الشروط ما يكون فقده مسقطًا للولاية بنفسه؛ كالارتداد عن الدين، واختلال العقل، ومنها ما يستحق به العزل لإجماع؛ كالفسق، ومن الفقهاء غير المزيفين من يعد الفسق في الشروط التي تسقط ولايته بنفسها، ولا تحتاج إلى إعلان أهل الحل والعقد بخلعه، أما القيام على الفاسق، وإبعاده من مقر الولاية باليد، فموكول إلى اجتهاد أهل الحل والعقد، وهم الذين يسلكون ما تقتضيه الحكمة، وتستدعيه مصلحة الأمة.

هذا ما يقوله الفقهاء أخذاً من أصول الشريعة، ورعاية لمقاصدها في الاستنباط، وليس فيه تفريط في المصلحة العامة، ولا ما يمس مقام الولاية العظمى بسوء.

ص: 202