الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاكاة المسلمين للأجانب
(1)
قد يوجد في أفراد البشر من يولد في بيئة عفاف وحكمة، وتتولاه يد التربية الحازمة بالتنبيه لمواقع الهَنات، فتكون سيرته كالسبيكة الخالصة لا يجد فيها الناقد مغمزاً. وليس على وجه المعمورة اليوم أمة استوفت خصال الكمال، وبلغت في رقيها المدني أن يفتح الناقد الألمعي فيها عينه، فلا يرى إلا أعمالاً مرضية، أو عادات مقبولة، فإذا وجد في الأفراد من يُفَضَّل ببراءته من العيوب جملة، فإن الأمم تُفَضَّل بغلبة خيرها على شرها، ورجحان محامدها على مذامها، وإذا وجد في الأفراد من يأذن لك أساتذة التربية في أن تقتدي بسيرته على الإطلاق، فليس في الأمم أمة يقول الرجل الحكيم لشعبه الناهض: خض خوضها في كل واد، وشابهها مشابهةَ الغراب للغراب.
هذه حقيقة قد تغيب عن أذهان فئة من الشعوب الآخذة في النهوض، فإذا رأوا أمة ذات معارف وسطوة، تهافتوا على محاكاتها في غير تدبر واحتراس، وربما سبقوا إلى ما يعدّ من سقط متاعها، ومستهجن عاداتها، فصبّوا هممهم في تقليدها فيه، فزادوا شعبهم وهناً على وهن، وكانوا كالعثرات تعترضه، فتعوقه عن السير، أو تجعل سيره في الأقل بطيئاً.
(1) مجلة "نور الإِسلام" - العدد السادس من المجلد الثالث، الصادر في شهر جمادى الثانية 1351 هـ - القاهرة.
ومتى أكثر في الشعب أمثال هؤلاء الذين لا يميزون في محاكاتهم السيئة من الحسنة، فقد الشعب هدايته الدينية، وتجردَ من مميزاته القومية، ولا يفلح شعب نكث يده من الدين الحق، ولا يعتز شعب نظر إلى قوميته بازدراء.
وقد تعرض ابن خلدون في "مقدمته" لهذه المحاكاة من حيث إنها طبيعة اجتماعية، فقال:"إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها، وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب"، ثم قال:"ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها، وأشكالها، بل هو في سائر أحواله"، ثم قال:"وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زيُّ الحامية وجندِ السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم، حتى إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغالب عليها، يسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير؛ كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله".
وهذا الذي قرره ابن خلدون طبيعة من طبائع الأمم الضعيفة حيث توجد بجوار أمة قوية، ولكنها طبيعة عرفت علتها، فيمكن لزعماء الأمة الضعيفة أن يعالجوا العلة، فتسْلم الأمة من هذه الطبيعة، ويمكنها أن تتحفظ من الاقتداء بالغالب، إلا فيما كان من وسائل الرقي والسيادة.
يذكر ابن خلدون: أن العلة في هذا التقليد إمّا ما وقر في صدر الأمة من تعظيم الغالب، وإما ما تغالط به من أن غلب الغالب ليس بعصبية، ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من المذاهب والعوائد، وكلتا العلتين إنما تتفشى في الأمة الملقى حبلُها على عاتقها، تمشي على غير بصيرة، ولا تقصد إلى غاية نبيلة. فإذا قيض الله للأمة المغلوبة رجالاً يعالجون ما عساه أن يطغى في صدرها من تعظيم شأن الغالب، أو يوقظونها إلى ما تغالط به من أن غلب الغالب بما انتحله من المذاهب والعوائد، أنقذوها من عماية التقليد الذي تتجرد به من الآداب الدينية، والمميزات القومية. والناشئ الذي يدرس تاريخ الإِسلام، وما كان لرجاله من مجد شامخ، وسلطان كريم، لا يكبر في عينه سلطان الغالب إلى أن ينحدر في التشبه به في كل حال.
يذكر الكتّاب والخطباء تقليد المسلمين للأجانب، ومنهم المسرفون في الدعوة إلى التقليد، ومنهم الراشد.
وإليك كلمة تعرض عليك الرأي الذي يقف عند حدود الدين، ويرعى حق القومية، ويقدر المصالح، ويحرص على أن لا يفوت الأمة منها مثقال ذرة.
* محاكاة المسلمين للأجانب تظهر في خمسة وجوه:
أحدها: محاكاتهم فيما يشتمل على مصلحة دنيوية، ولا يخالف حكماً شرعياً، أو أدباً دينياً، وهذا مما تأذن الشريعة في الأخذ به، ويتأكد العمل به على قدر ما فيه من مصلحة، وليس من المعقول أن تنهى الشريعة عما فيه خير لمجرد أن قوماً من غير المسلمين سبقوا إليه. ويدخل في هذا: مجاراتهم في العلوم والصنائع، ووسائل الدفاع، والمرافق التي يخف بها جانب عظيم من عناء
هذه الحياة.
ومن شواهد هذا: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق حول المدينة المنورة، وقد أشار به سلمان الفارسي، وهو من مكايد الفرس في حروبها.
وفي أوربا اليوم نظم إدارية نزنها بقاعدة: رعاية المصالح، فنرى إجراءها في بلادنا من قبيل إصلاح الإدارة.
كنت أرسلت من "برلين" برقية لصديق لي في "جنيف"، فجاءني خطاب من إدارة البرقيات يقول لي: لم نهتد إلى معرفة المبعوث إليه بالبرقية، وبعد ساعات وصلتني برقية من تلك الإدارة تقول فيه: اهتدينا إلى معرفة صاحبك بعد، وأبلغناه البرقية. فمن ذا ينكر فائدة مجاراة الأجانب في مثل هذه النظم المريحة للنفوس؟!
وأذكر من أبيات للأستاذ محمد بن عبد الكريم المقيلي في الرد على من أنكر تعلم علم المنطق قوله:
دليلاً على شيء بمذهبِ أهلِهِ
…
خُذِ العلم حتى من كَفُورٍ ولا تُقِمْ
ولا أسوق في هذا الوجه محكاتهم في بعض أخلاق انتظمت بها مدنيتهم، وارتفعت بها على كثير من البلاد درايتهم؛ كالصبر على المكاره، والإقدام على العظائم، وقوة رابطة الاتحاد والتعاون بين أفرادهم وجماعاتهم؛ فإن الإِسلام قد أرشد إلى جميع الأخلاق التي تزدهر بها المدنية، وتستحكم بها عرا السيادة، فإذا ظهر المسلمون بخلق عظيم، فإنما يقتبسونه من حكمة دينهم، وسيرة عظمائهم.
ثانيها: محاكاتهم في شيء من شعائر دينهم، وهذه المحاكاة إن كانت عن رضا، دلت على نبذ الإِسلام، ولا سيما محاكاة تقع منه مرة بعد أخرى، فإن
قامت قرينة على أنه يقصد الاستهزاء بمن يقلدهم، فهي سفاهة وعصيان، فالذين يرسلون أبناءهم لمدارس أجنبية تحتم على كل تلميذ الاشتراك في القيام بشعائرها الدينية، إنما يلقون بأفلاذ أكبادهم في حفرة من النار.
وقد وصل ببعضهم الشغف بالانحطاط في هوى الأجانب، والانغماس في التشبه بهم: أن اقترح - في غير خجل - قلبَ هيئة المساجد إلى هيئة كنائس، وتغيير الصلوات ذات القيام والركوع والسجود إلى حال الصلوات التي تؤدَّى في الكنائس، وهذا الاقتراح شاهد على أن في الناس من يحمل تحت ناصيته جبينًا هو في حاجة إلى أن توضع فيه قطرة من الحياء.
ثالثها: محاكاتهم في شيء لم يكن من شعائر دينهم، ولكنه مما نهى عنه الإِسلام على وجه الحرمة؛ كتقليدهم في اختلاط الرجال بالنساء، ورقص الفتيان مع الفتيات، أو نهى عنه على وجه الكراهة؛ كتقليدهم في تناول الطعام باليد الشمال (1)، أو إطالة بعض الأظفار، والمحاكاةُ التي توقع في محرم، فسوقٌ عن أمر الله، والتي توقع في مكروه يخسر بها صاحبها قسطاً من ثواب الله.
هذا إذا كانت المحاكاة عن مجرد هوى، فإن كانت عن اعتقادِ أن ما يفعله الأجنبي أحكم وأليق، زلزلت أصل الإيمان، والتحقت بمحاكاته فيما هو من شعائر ملته، وعلى هذا الوجه يجري حكم استبدال قوانينهم الوضعية بأحكام الشريعة الغرّاء؛ نحو: القوانين المبيحة لما حرم الله من الربا.
ومن الأمراض التي سرت إلى المسلمين على طريق التقليد للأجانب:
(1) ليس من الصعب على من يريد المحافظة على أدب إسلامي أن يعوّد يسراه قطع اللحم ونحوه بالسكين، ويعوّد يمناه تناوله بالشوكة، وقد عزم على هذا قوم يعز عليهم أن يستخفوا بأدب ديني، فوجدوه أمراً ميسوراً.
موبقة الانتحار، فقد يتخيل صغير العقل حيث يقع في بلاد أن الانتحار طريق يصح أن يسلك للتخلص من البلاء، متكئًا في هذا الخيال على أن كثيراً من رجال الدول أم الأمم الغالبة يرتكبونه وسيلة إلى الخلاص من مكاره تصيبهم، أو مكاره يخشون إصابتها.
ومن هذا الباب: محاكاتهم في إغلاق محالّ التجارة في يوم الأحد أو السبت، فقد ثبت أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قصد إلى صوم يوم السبت والأحد؛ ليخالف أهل الكتاب في جعلهما يومي عيد؛ لأن صوم اليوم يبعده من أن يكون عيداً.
نقرأ في "سنن أبي داود": أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد، يتحرى ذلك، ويقول:"إنهما يوما عيد الكفار، وأنا أحب أن أخالفهم".
وأخرج الإمام أحمد، والنسائيُّ:"أنه ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد".
فإغلاق المسلم لمحل تجارته يوم الأحد أو السبت يناقض قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صوم هذين اليومين؛ لأن إغلاق محلّ التجارة أو الصناعة في يوم معين لا يلتزمه إلا مَن شأنُه أن يعتقد أن ذلك اليوم حقيق بأن يتخذ عيداً.
ومن محكاتهم فيما يحرمه الشرع، وينبذه العقل: إنشاء مكتب يستأذنه فاسدات الأخلاق في التجارة بأعراضهن، فلا يجد في صدره حرجًا أن يأذن لهن، وقد تيقظ كثير من رجال دولتنا الرشيدة إلى ما في هذه المحاكاة من شر مستطير، فأخذوا يجاهدون في تطهير البلاد من الخبائث، وسيلقون على هذا الجهاد شكراً صادقاً، وذكراً طيباً، وما عند الله خير وأبقى.
رابعها: محاكاتهم فيما لم يتعرض له الدين بنهي خاص، ولكن رعاية جلب المصالح، أو درء المفاسد تقضي بترك هذه المحاكاة، والمصالح كالمفاسد تتفاوت في شدتها، فيفصل الحكم على حسب هذه التفاوت.
ومن أمثلة هذا النوع: اتخاذ بعض الأزياء الظاهرة في الاختصاص بهم؛ كالقبعة؛ فإنَّ وضعَ المسلم لها على رأسه بين قوم مسلمين يدل على ميله، وترجيحه لجانب من اختصوا بلبسها، ويوقع في اعتقاد الناظرين إليه أنه من طائفة المخالفين، والمسلم المطمئن لدينه يتحامى ما يدل على أنه يميل إلى غير أمته أكثر مما يميل إلى أمته، ويتألم من أن يصفه أحد بأنه من قوم غير مسلمين. وقد حاول بعض المفتونين بتقليد الغالب فيما لا أثر له في قوة سلطانه أن يحملوا أبناء المسلمين في مصر على لبسها، فخاب سعيهم، ولم يكن جند صلاح الدين الأيوبي الذي انتصر على جيوش الأوربيين في حطين حيث كانت الواقعة الفاصلة، يرضى بأن يتخذ في شعاره القبعات، ولم ينفع أعداءه المنهزمين أن كان على رأس كل واحد منهم قبعة!.
ويدخل في هذا القبيل: اتخاذ نحو الملابس وأثاث البيوت من مصنوعاتهم، وفي المصنوعات القومية ما يغني غناءها، وفي الإقبال على المصنوعات القومية فتح باب عظيم من أبواب الثروة العامة؛ وارتقاءُ الشعوب على قدر يسارها.
ومما يثير الأسف البالغ: أن يقتصر المسلم في رسائله، أو عند ذكر الحوادث على ما يؤرخ به المسيحيون، وهو التاريخ القائم على ميلاد المسيح عليه السلام وقد فشت هذه المحاكاة حتى أصابت أقلاماً شأنها أن تنهى عن مثل هذا التشبيه. وفي الاعتماد على التاريخ الهجري محافظة على ذكرى مبدأ
علو الإِسلام وظهوره على الدين كله. وكان صاحبنا العلامة أحمد تيمور باشا -رحمه الله تعالى- يقتصر في مراسلاته على التاريخ الهجري معتمداً هذا الاقتصار، حتى في مخاطبة الجمعيات أو الشركات الأجنبية.
خامسها: محاكاتهم في أمور لم يَرِدْ فيها عن الشارع نهي خاص، ولم تكن في نفس موافقتهم فيها مصلحة أو مفسدة، ولا تلقي على صاحبها شبهة الانتماء إلى ملتهم. ولا حرج في هذه المحاكاة إلا من جهة الاحتفاظ بالتقاليد القومية، فصغار النفوس أو العقول يسارعون إلى التخلي عن المعروف بين قومهم، ويستبدلون به المعروف بين الأمم الأجنبية، ولا داعي لهم إلى هذه المحاكاة إلا الافتتان بكل شأن من شؤون أولي الشوكة والسلطان. أما أولو الأحلام الراجحة، فلا ينتقلون عن المعهود في بيئتهم إلا إلى ما هو أفضل، ولا يفضل عرف على عرف لمجرد أنه يجري بين قوم لهم القوة والغلبة.
ومن أمثلة هذا: محاكاتهم في لون خاص يلتزمونه في حفلات خاصة، فليس للّون الخاص في الحفلات مصلحة أو مدخل في نهوض القوم، وإنما هي عادة جرت بينهم، وألفتها أذواقهم، فماذا لم يعتد قوم مسلمون التزام في مثل تلك الحفلات، وأبوا تقليد الأجانب في هذا العرف، دلوا بهذه الإباية على الاعتزاز بقوميتهم، ونبهوا على أنهم لا يريدون أن يكونوا أتباعاً حتى فيما لا يقدمهم خطوة، ولا يسد من حاجاتهم خلّة.
فإن خطر على بال أحد أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعر رأسه موافقة لأهل الكتاب، قلنا: كان عليه الصلاة والسلام بين فريقين: عبّاد الأوثان، وأهل الكتاب، وأهل الكتاب أقربُ إلى الدين الحنيف من عباد الأوثان، فهم بالموافقة يومئذٍ أحق من عباد الأوثان، ولكن بعد أن دخل عباد الأوثان في الإِسلام،
وأصبح فرق الشعر شعار فريق كبير من المسلمين، عاد صلى الله عليه وسلم ففرق شعر رأسه، وكان الفرق آخر حالتيه.
وإن تعجب، فعجب لذلك الذي وضعت صولة الغالب على بصيرته غشاوة، فقام يدعو المسلمين إلى تقليد الأجانب بدون قيد ولا استثناء، وذهب يذكر في وجه هذا التقليد المطلق غاية هي العمل لاتحاد العالم. ولا نطيل في وصف انحراف هذا الرأي، فإن العالم في حاجة إلى الاتحاد في معرفة واجبات الإنسانية، وفي احترام الأقوياء لحقوق الضعفاء، ومتى ظفر بهذا الاتحاد، لم يضره اختلاف شعوبه في بعض مظاهر الحياة. ثم ما بال هذا الكاتب يسعى لاتحاد العالم من ناحية دعوة المسلمين إلى موافقة الغربيين في كل شيء، ولم ينظر نظر المتدبر الرصين فيدعو الغربيين إلى موافقة المسلمين في آداب هي أشد انطباقاً على ما تقتضيه الإنسانية، وترتضيه الأذواق السليمة؟!.
هذه كلمة نوجهها إلى الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه؛ لعلهم يجدون فيها تحقيق الفرق بين محاكاة الأجنبي المحمودة، ومحاكاته المنبوذة، فيسلكوا طريقاً وسطاً يكفل لهم سعادتي الأولى والآخرة، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].