الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم
(1)
في الدنيا لذة وخير، وفي الدنيا ألم وشر، وفي النفوس طبيعة الارتياح والرغبة فيما فيه لذة أو خير، وطبيعة النفور والخوف مما فيه ألم أو شر، وعلى حال الرغبة والرهبة تقوم فضيلة الشجاعة، ورذيلة الجبن.
ذلك أن الإنسان يخاف أن يقع في ألم، أو يرغب في إدراك لذة، فيبتغي الوسيلة إلى التخلص من الألم، أو الوصول إلى اللذة.
فالشجاع يخاف من العار الذي يلحقه من احتمال الضيم، أو يرغب في أن يدرك مجداً شامخاً، أو ثناء فاخرًا، فيلقي بنفسه في مواقع الدفاع، لا يلوي جبينه عن طعان أو نضال.
ويخاف الجبان الموت، أو يرغب في نعيم عاجل، أو زينة، فيقعد مع القواعد، ولا يهمه أن تزدريه كل عين، أو يذمه كل لسان.
إذا ما الفتى لم يبغ إلا لباسَه
…
ومطعَمَهُ فالخَيْرُ مِنْهُ بعيدُ
وليس كل إقدام على الموت شجاعة، وإنما الشجاعة: الإقدام في المواطن التي ينبغي فيها الإقدام؛ كمواقف الدفاع عن النفس، أو العرض،
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد العاشر، الصادر في شهر جمادى الأولى 1357 هـ.
أو الدين، أو المستضعفين من الناس، فليس بالشجاع ذلك الذي يحمل السلاح، ويلبس ظلام الليل؛ ليسفك دماً معصوماً، أو ينهب مالاً بغير حق، وإنما هو سفه الرأي، وقسوة القلب، يلتقيان، فيلدان بغياً وفساداً في الأرض. وعلماء الأخلاق يسمون مثل هذا الإقدام: جراءة وتهوراً.
وليس بالشجاعة ذلك الذي يفاجئه مكروه من نحو مرض أو خيبة أمل، فيسودّ في عينه وجه الحياة، ويرتكب جريمة الانتحار؛ فإن إِقدام المنتحر على الموت إنما هو أثر ضعف النفس، وفقد العزم الذي يُعِدُّه عظماء الرجال لما يعرض لهم من الشدائد. ومن هنا قال أرسطو في كتاب "الأخلاق": إن الإقدام على الانتحار خليق بأن يسمى: جبناً، دون أن يسمى: شجاعة.
وإذا كان الإقدام على الموت ونحوه قد يسمى: تهوراً، وقد يسمى: جبناً، فالشجاعة إنما هي الإقدام الصادر عن روية وحكمة.
ينظر حكيم الرأي إلى ما قد يلحقه في مواطن الدفاع من نحو مصيبة الموت، ويزنه بما يلحقه عند الإحجام من نحو الذل والهوان، فيبدو له أن الإحجام لا يمنع من الموت.
ومَنْ لم يَمُتْ بالسَّيْفِ ماتَ بغيره
…
تنوَّعَتِ الأسبابُ والمَوْتُ واحِدُ
وان العار والهوان يمكن اتقاؤهما بالإقدام والثبات، فيكون الإقدام في نظره أرجح من الإحجام، قال قطري بن الفجاءة:
وما للمرءِ خيرُ في حياةٍ
…
إذا ما عُد من سَقَطِ المتاعِ
وقد يعتدي على الرجل طائفة من عشيرته أو قومه، فينظر إلى اللذة التي قد يدركها بالانتقام منها، ويقيسها بالضرر الذي يلحقه من هذا الانتقام، فيبدو له أن لذة الانتقام عرض زائل، وأن في الإقدام على حربهم توسيعاً
لثلمة العداوة، وتقليلاً لعدد أنصاره، داضاعة لخصلة من أعظم خصال الشرف، وهي الحلم، فيؤثر هنا الإحجام على الإقدام.
قومي هُمُ قَتلوا أمَيْمَ أخي
…
فإذا رَميْتُ يُصيبني سَهْمي
وليس من شرط الشجاعة أن لا يجد الرجل في نفسه الخوف من الهلاك جملة، بل يكفي في شجاعة الرجل أن لا يعظم في نفسه الخوف حتى يمنعه من الإقدام، أو يرجع به إلى انهزام.
قال هشام بن عبد الملك لمسلمة: يا أبا سعيد! هل دخَلك ذعر قط لحرب أو عدوّ؟ قال مسلمة: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يغشني فيها ذكر سلبني رأي، قال هشام: هذه هي البسالة!.
وقد يتوهم متوهِّم أن الجبان يحب نفسه أكثر مما يحب الشجاع نفسه، والواقع أن الشجاع شديد الحب لنفسه، وشدة الحب لنفسه هي التي تحمله على أن يركب الأخطار، ويخوض غمرات الحروب؛ ليكسبها الشرف أو السعادة، قال ابن الحسين:
وحبُّ الجبانِ النفْسَ أورَثه التُّقى
…
وحبُّ الشجاعِ النَّفْسَ أَوْرَثَهُ الحَرْبا
يحرص الجبان على الحياة؛ ليتمتع بما يصل إليه من مطعوم أو زينة، ويحرص الشجاع على الحياة؛ ليتمتع بما يكسب من شرف وعزة، وهذه الحياة هي التي توهب للشجاع عندما يخوض غمار الحرب بثبات وعزم، كما قال الصدّيق لخالد بن الوليد:"احرص على الموت، توهب لك الحياة".
وهذه الحياة هي التي وجدها الحصين بن الحمام في الإقدام، فقال:
تأخَّرْتُ أسْتبقي الحياةَ فلَمْ أَجِدْ
…
لنَفْسي حياةً مِثْلَ أنْ أتقدَّما
يتفاضل الناس في الشجاعة، فمنهم من يقدم على مواقع الخطر، ويخوض عبابها ثابتَ الجنان، حتى يفوز بالظفر، أو يلاقي مصرعه.
قال السريّ الرفاء في سيف الدولة:
وأغرَّ يأنفُ أن يَصُدَّ عن الوَغى
…
حتّى يُذِلَّ معاطِساً وأُنوفا
وقال المعتمد بن عباد:
ما سِرْتُ قَطُّ إلى القتا
…
لِ وكان من أملي الرجوع
وقال أبو تمام في مدح محمد بن حميد:
فأثْبتَ في مُستَنقَعِ الموتِ رِجْلَهُ
…
وقال لها مِنْ تحتِ أخْمُصِكِ الحَشْرُ
وهذا المصنف من الأبطال هم الذين يفخرون، أو يمدحون بأن الطعن لا يقع في ظهورهم قط، وإذا طُعنوا، ففي وجوههم، أو صدورهم، قال الحصين بن الحمام:
ولسْنا على الأعقابِ تدمى كُلومُنا
…
ولكنْ على أقدامِنا تُقْطَرُ الدِّما
ومن أهل هذه الطبقة: أولئك الذين يصفونهم في مواقع الخطوب بطلاقة المحيا، أو ابتسام الثغر، أو ابتهاج القلب، قال ابن الحسين:
تمر بك الأبطالُ كَلْمى هزيمةً
…
ووجْهُكَ وَضَّاحٌ وثغرُك باسمُ
وقال ابن هانح:
كأنَّ لواءَ الشَّمْسِ جعفَرٍ
…
رأى القِرْنَ فازدادَتْ طلاقتُه ضِعفا
وقد يحدثونك عن قوة شجاعة القوم، فيصفونهم بأنهم يلذَّون ذكر المنايا، ويطربون لأحاديث الحروب:
يثْني حديثُ الوغى أعطافَهم طَرَباً
…
كان ذِكْرَ المنايا بينَهم غَزَلُ
ومن ثقة الرجل بشجاعته: أن يقارع خصومه مجابهة، ويأنف أن يقارعهم على وجه المخاتلة، قال بعض مادحي سيف الدولة:
إذا حاول الأقرانُ في الرَّوعِ خَتْلَهُ
…
أبرَّ عليهم مُقدِماً لا مُخاتِلا خَتْلَهُ
ويبالغ بعض الأبطال في عدم المبالاة بالموت، فيدخل مواقع القتال دون أن يقي بدنه بنحو درعِ أو مِغْفَرِ (1)، وهو قادر على وقايته؛ كما قال المعتمد بن عباد:
قد رمتُ يومَ نزالِهم
…
أن لا تحصِّنَني الدروعُ
وبرزت ليس سوى القميـ
…
ـصِ على الحشا شيءٌ دفوعُ
ويعدّون من تناهي القوم في الشجاعة: أن يدعوهم إلى الحرب داع، فينهضوا لها من غير أن يسألوا داعيهم عن وجهة الحرب، ولا عن الباعث عليها، قال وداك بن نمير المازني:
إذا استُنْجِدوا لم يَسْألوا من دَعاهُمُ
…
لأيةِ حَرْبٍ أَمْ بأَيِّ مكانِ
وتعد هذه الطاعة البالغة من قبيل الشجاعة المحمودة، متى كانت إجابةً لدل عرفوه بصدق اللهجة، وحكمة الرأي.
وليس من لباب الشجاعة، ولا من قشورها: أن يسرع الرجل إلى مواقع الخطوب جاهلاً بما يلاقيه عندها من شدائد، حتى إذا شاهد طرفاً من أهوالها، أو وقعت عليه شرارة من نارها، لاذ بالفرار، ورجع إلى أهله بغير قلب.
(1) المغفر: زرد ينسج من الدروع قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
ومن ظنَّ ممن يلاقي الحروبَ
…
بأنْ لا يُصابَ فقَدْ ظَنَّ عَجْزا
ولا ينقص من قدر الشجاع أن يقتل وهو يخوض في غمار الحروب.
قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد:
فتىً ماتَ بين الطَّعْنِ والضَّرْبِ ميتةً
…
تقومُ مَقامَ النَّصْرِ إنْ فاتَه النَّصْرُ
ولا ينقص من قدره أن يثبت في موقف الدفاع حتى يقع في أسر. وقع هشام بن عبد العزيز قائد جيش السلطان محمد بن عبد الرحمن الأندلسي أسيراً في يد العدو، فاستقصره السلطان، ونسبه إلى الطيش، فاعتذر عنه الوليد بن عبد الرحمن بن غانم، ومما قال في الاعتذار عنه: إن هاشماً قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، حتى مُلك مقبلًا غير مدبر، مُبليًا غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه!.
والشأن فيمن يعيش في نعيم وزينة أن يكون أشد الناس كراهة للحروب، فإذا أنبتت بيئات الترف فتى يزدري النعيم والزينة، ويطمح بهمته إلى الشرف الصميم، كان فضله في الشجاعة أظهر، وإقدامه أدعى إلى الإعجاب به، ولذلك ترى الأدباء إذا أرادوا أن يجعلوا إعجابك بشجاعة الممدوح أبلغ، أشاروا إلى أن النعمة والزينة لا تذهب برجوليته، ولا تقعد به عن حماية الشرف والكرامة، قال الحطيئة:
إذا همَّ بالأعداءِ لم يَثْنِ عزمَهُ
…
كعابٌ عليها لؤلؤٌ وشُنوفُ
حَصانٌ لها في البيتِ زيٌّ وبهجةٌ
…
ومشيٌ كما تمشي القَطاةُ قَطوفُ
وقال كثير في عبد الملك بن مروان:
إذا ما أرادَ الغزوَ لم يثْنِ عَزْمَهُ
…
حَصانٌ عليها نَظْمُ درٍّ يَزينُها
نهتْه فلمّا لم ترَ النهيَ عاقَه
…
بكتْ فبكى مما شجاها قَطينُها
قد يعرف الجبان فضل الشجاعة، ولكن الشجاع أعرف بقدرها، وأدرى بقيمة قِرْنه المطبوع عليها، وربما طاعنه مضطرًا إلى طعانه، والأسف يملأ ما بين جوانحه، قال بشر في القصيدة التي وصف فيها مقاتلته للأسد:
وقلتُ له يَعزُّعليَّ أَنّي
…
قتلتُ مُناسِبي جَلداً وقَهْرا
ولكن رمتُ أمْراً لم يَرُمْهُ
…
سِواكَ فلمْ أَطِقْ يا ليثُ صَبْرا
ويعجبني من تشطير الأستاذ محمود قبادو التونسي لهذه القصيدة قوله:
(وقلتُ له يعزُّ عليَّ أَنِّي)
…
أراك معفَّرًا شَطْرًا فَشَطْرا
وأستحيي المروءة أن تَراني
…
(قتلتُ مُناسبي جَلداً وقَهْرا)
وللشجاعة الفضل الأكبر في حماية شرف الفرد أو الجماعة، قال عمر ابن براقة الهمداني:
متى تجمعِ القلبَ الذَّكيَّ وصارِماً
…
وأَنفاً حمياً تجتنِبْكَ المظالمُ
وقال حسان بن ثابت يصف قوماً حرموا فضيلة الشجاعة، فوقعوا في ذلٍّ وصَغار:
كرِهوا الموتَ فاستبيحَ حِماهُم
…
وأقاموا فِعْلَ اللئيمِ الذّليلِ
وكم من شرف قوم سقط إلى الثرى، وإنما سقط على أيدي أناس خالط قلوبهم الجبن، واشتد بهم الحرص على متاع هذه الحياة، حتى خيل إليهم أن قعودهم عن الدفاع حزم وروية، قال ابن الحسن:
يرى الجبناءُ أن الجبنَ حَزْمٌ
…
وتلك خديعةُ الطَّبْعِ اللئيمِ
وللقرآن الكريم أبلغ الكلم في تصوير حال الجبناء، فانظروا إليه إذ يصفهم ويريكم كيف يذوقون موتات الفزع المرة بعد الأخرى، فيقول:{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]، ويريكم كيف يظهر أثر الجبن في أبصارهم إذ يقلبونها وهم في ذهول من أدركه الموت، فيقول:{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19].
ومن أبدع ما ورد عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم في تمجيد الأبطال الذين يركبون البحر للدفاع عن الحق: أن شبههم بالملوك على الأسرّة.
ولفضل الشجاعة في الذود عن الشرف والكرامة، جاء الفخر بالموت في مواقف الدفاع دون الموت على الفراش، قال عبد الله بن الزبير في خطبة تأبينه لأخيه مصعب:"إنا والله لا نموت إلا قتلاً: قَعْصاً بالرماح، وتحت ظلال السيوف".
وخلاصة الحديث: أن الأمة لا تحتفظ بعظمتها إلا أن تسود فيها الشجاعة، وأن عظمتها على قدر من تخفق عليهم رايتها من ذوي البطولة، فكان حقاً علينا أن نعنى في تربية أبنائنا بخلق الشجاعة الموصولة بالحكمة، حتى يروا العظائم صغائر، ويقتحموا الخطوب بعزائم لا يعرف التردد ولا الوهن طريقها.