الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه
(1)
بين أيدينا حِكَم رائعات، وعِظاتٌ بالغات، وتاريخ عظمائنا مملوء بالهمم الكبيرة، والمساعي الخطيرة، وقد أتى علينا مع هذا النور الساطع والتاريخ المجيد حين من الدهر، ونحن عن طريق السعادة والمنعة غافلون، وعن العمل للحياة الصالحة نائمون، جهلٌ بعد علم، تقاطعٌ بعد ائتلاف، بطالةٌ بعد نشاط، صَغائرٌ بعد شمم، خمولٌ بعد نباهة شأن. كذلك كنّا، حتى جاءنا من صروف الليالي ما نبهنا من سباتنا، فنهضنا نبحث عن وسائل تقدمنا، ونجاري الأمم العاملة والأمل يملأ ما بين جوانحنا، نهضة مباركة، ولكن نفوسنا خالطها من الانحراف عن سبيل الرشد ما خالطها، فأصبحنا في حاجة إلى أن نشغل جانباً من أوقاتنا في تقويمها.
حقّ علينا أن نبحث عن علل انحراف هذه النفوس حتى نعرف طريق علاجنا، فنزيح أو نخفف مرضًا لو خلينا سبيله، لسرى إلى نفوس كثيرة، وعاقنا أن نسير إلى السعادة كيف نشاء.
* علل الانحراف:
النواحي التي يأتي من قبلها هذا الانحراف كثيرة، وجماعها: الجهل،
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الثاني- الصادر عن شهر ربيع الأول 1349 هـ.
والدعايات الباطلة.
وإليك البيان:
ينحرف الناشئ عن الدين متى شبَّ على الجهل بحقائقه. وفريق من أبنائنا غير قليل لا يتعرفون الإسلام من وجهه الصحيح، وإنما ينتزعون صورته من مظاهر يرون عليها طوائف من المسلمين، ولم تكن هذه المظاهر من الإسلام في كثير ولا قليل، فليس بعيداً أن يشهد الشاب شيئاً من البدع المزرية؛ كضرب الدفوف في المساجد، أو تحت رايات يحملها أحداث باسم الدين لهوًا ولعبًا، فيخالها من تعاليم الإسلام، ويسوء اعتقاده في هدايته.
ونحن نعلم أن بعض البلاد الداخلة تحت سلطان غير إسلامي، قد تقام فيه حفلات مشهودة، يكلف فيها بعض الجهلة من المنتمين إلى طرق المتصوفة أن يحضروها بأزيائهم الخاصة، وتقوم كل طائفة بأعمال يمتازون بها عَمَّنْ سواهم، وقد يكون في هذه الأزياء والأعمال ما لا صلة له بالدين، ولا بما ترضى عنه العقول السليمة، فتتناولهم من أجل هذه المظاهر الألسنُ بالازدراء، ولا شك أن شبابنا كبعض المخالفين الذين يشهدون هذه الحفلات، قد يسبق إلى أذهانهم أن نسبة ما يعمل باسم الدين إلى الدين صحيحة، فيتجافون عنه، وهو منه براء.
فمظاهر البِدَع والمحدَثات من وسائل إضعاف العقيدة في نفوس أبنائنا، ومن أصعب العقبات التي تحول بين المخالفين وبين قبولهم للدين الحق بسهولة.
وإذا كان في المتجافين عن الدين من قرؤوا جانباً من الكتب المعزوة إليه، فعلة انحرافهم فيما يظهر أنهم لم يدرسوا تعاليمه خالصة مما أضيف
إليها من مزاعم وآراء، ولم يبلغوا من قوة العلم أن يفرقوا بين الشرع الخالص، وما يوضع بجانبه من أشياء لا تدخل في الصميم. ونحن نعلم أن في كثير من المؤلفات أحاديث موضوعة، وقصصًا مزعومة، وآراء لا تستند إلى أصول معقولة، ومن الذي ينكر أن في بعض الكتب أحاديث مصنوعة، وقصصاً مختلفة، وأن في مؤلفات بعض أصحاب الأهواء والمستضعفين في العلم آراء سقيمة، وأقيسة عقيمة؟.
كان لهذه الكتب أثر سيء في نفوس بعض نشئنا، وقد اتخذ بعض من خفَّ في العلم وزنهم من هذه الكتب وسيلة إلى الطعن في علماء الإسلام، فذهبوا يلتقطون هذه الآراء السخيفة، ولا يتقون الله في نسبتها إلى علماء الشريعة ليضعوا من شأنهم، مع أن أهل العلم من قبلهم، قد نقدوها بأنظار راجحة، وطرحوها من حساب الشريعة بالحجة الساطعة، وجعلوا تبعتها على أصحابها وحدهم، وأي طائفة من طوائف أهل العلم لا يوجد بينهم ذو رأي ضعيف، أو ذوق عليل؟! بل العالِم الراسخ قد تصدر عنه آراء تدفعها أصول العلم الذي رسخت فيه قدمه، ويردها عليه من هو أقل منه نباهة، وأدنى في العلم منزلة.
أما الفريق الذين ينكرون أشياء من صميم الدين، فلم يجئهم الجحود من ناحية البحث الدقيق، والنظر القائم على قوانين المنطق الصحيح، وإنما سبقت إليهم في التعليم، أو في الجلوس ببعض الأندية آراء، فتقبلوها، وتراءت لهم شبه، فاعتنقوها. والآراء الفاسدة والشبه المغوية تربي في النفوس الضعيفة أذواقًا سقيمة، ويكون لهذه الأذواق الحكم العاجل، حتى إذا أنكرت حقاً، خيّل إلى أصحابها أن إنكارهم صادف محزاً، وظلوا في جهالتهم يتخبطون.
فقطع يد السارق أو السارقة - مثلاً - قد تُنازع في حكمته بعض الأذواق الخاصة.
ولكن الأحكام إنما يراعى فيه المصالح العامة، وفي قطع يد هذا الصنف من المجرمين مصلحة سنأتي على بيانها في مقام غير هذا.
ولا ننسى بعد هذا أن ما بلغه الغربيون من التقدم في العلوم والفنون، قد جعل لهم في القلوب إكباراً، وبلغ هذا الإكبار في بعض النفوس الصغيرة أن يفوه أحد الغربيين بكلمة يطعن بها في حقيقة من حقائق الإسلام، فيتلقوها منه بمتابعة، ويحسبوها طعنا صائباً، ولا سيما الكلمات التي تصدر من طائفة يخرجون في زي الكتاب أو الفلاسفة؛ إذ يقع في أوهام الغافلين أنه نتيجة نظر لا يعرف غير البحث والدليل، ويفوتهم أن في هؤلاء الكتاب من لا يزال في أسر تقاليده وعواطفه، وفيهم من يكون بارعاً في ناحية من العلم، قاصرَ النظر في ناحية أخرى، وها نحن أولاء نقرأ نتائج أبحاثهم في موضوعات إلهية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو لغوية، فنرى فيهم من يتبع الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وكان على نشئنا أن يعتبروا بالمناقشات التي تدور بين علمائهم أنفسهم؛ فإنها شاهد صدق على أن من علمائهم أو فلاسفتهم من يعتمد الرأي لمجرد الشبهة، ولا يبالي أن يسميه علماً، وهو لا يرتبط بعد بالحجة، أو ما يشبه أن يكون حجة.
ومن الطرق المضلّة عن السبيل: أن بعض الداعين إلى غير الإسلام، قد وجدوا من موسريهم خزائن مفتحة الأبواب، وأيدياً تفيض عليهم الأموال بغير حساب، ومن الميسور أن يتصل هؤلاء الدعاة ببعض البائسين من نشئنا الذين لم ينفذ الإيمان إلى سويداء قلوبهم، فيشتروا ضمائرهم أو ألسنتهم بشيء من حطام هذه الحياة، وربما أتوهم من ناحية الشهوات، ففتحوا لهم
أبواباً، وجعلوا ثمن تمكينهم منها الانسلاخ عن الدين، فلا يبالون أن ينسلخوا منه؛ إذ لم يدخل بعد في قلوبهم، حتى يكون أعزّ عليهم من كل ما تهوى أنفسهم.
ومن الذي لا يعلم أن معاهد تقام في أوطاننا باسم العلم، أو العطف على الإنسانية، والغايةُ منها: صدفُ النفوس عن صراط الله السوي؟ دل على هذا كتب يدرسونها في هذه المعاهد، وهي كما قرأنا نبذًا منها محشوة بالطعن في الإسلام، والحط من شأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
وهذا القس "زويمر" نفسه ينبهنا على أن المدارس التي يقوم بها جماعات التبشير إنما تجعل وسيلة إلى تحويل المسلمين عن دينهم القويم، فقال في مقال تحت عنوان:(حركة التبشير في العالم الإسلامي) بعد أن ذكر ما يعترضهم من المصاعب في داخل أفريقية: "ومن استطاع التغلب على هذه الصعوبة بالالتجاء إلى الوسائل المعروفة؛ كالمتاجرة مع الأهالي، وفتح المدارس لأبنائهم، وما مائل ذلك".
وقد رأينا لهذه المدارس التي تفتح في سورية ومصر وغيرها من البلاد آثاراً محزنة.
فكم من فتى مسلم بعث به إليها، فتخرج منها وهو يحمل من التنكر لقومه وشريعتهم مثل ما يحمله خصومهم المحاربون.
ثم إن بعض الناشئين في مهد إسلامي قد أصيبوا بما يشوّه فطرهم، وأرادوا ألا يكون هذا التشويه مقصورًا على أنفسهم، فاجتهدوا في أن ينقلب الناس منقلبهم، ويعملوا على شاكلتهم، فكان لهم في الاستخفاف بالعقائد الصحيحة والشريعة الحكيمة حركات طائشة، ولولا هداية القرآن، ووقوف
فريق من أهل العلم في وجوههم، لاستدرجوا خلقاً كثيراً.
نذكر بمنتهى الأسف: أن من هذا الصنف من يقضي نصيباً من حياته في الدفاع عن الإسلام حتى يتبوأ مقعد الدعاة المصلحين، ثم لا يلبث أن يرى بضاعة الازدراء بالدين نافقة، فيثور عليها مع الثائرين، ويسرع إلى لمز الرجال الذين رفعوا لواءه، وقد كان يطنب في تمجيدهم. وفي أمثال من يكون على هذا النعت خطر على النشء كبير؛ إذ الثقة التي أحرزها من قبل قد تجعلهم يسيغون أقواله بما تحمل من أقذاء وسموم، فيبلغ مأربه دون أن يفقد مكانته. ثم إن انحرافه عن الدين بعد أن كان من أنصاره قد يلقي في نفوس المستضعفين أن هذا الذي قضى زمناً في مظاهرة الدين لم يتجاف عنه إلا بعد أن بَصُرَ بالحجة، واستبان له أنه كان على غير هدى، وصغار العقول لا يشعرون بأن في الناس من يطوي في نفسه حاجة يستطيع أن يلبس لها ثوب الرياء أمدًا غير قصير، حتى إذا رأى قضاءها في ذم ما كان يَحْمَد، ومحاربة ما كان يَنْصُرُ، وجد في استعداده ما يساعده على أن يظهر في أي لباس شاء.
* آثار الانحراف:
دلّت المشاهدة على أن الناشئ الذي يصاب بمرض الريْب أو الجحود، لا يمكث أن ينحط في المآثم، وينبذ الأدب الرفيع والعمل الرشيد وراء ظهره، وإذا رأيناه يتجنب إثمًا، فبالمقدار الذي يتقي به لومة لائم، أو طائلة قانون، وإذا عمل حسناً، فلينال مدحاً وإطراء، أو ليصل إلى عاجل من المنافع المادية أكبر، وإن ناشئاً يعتقد أنه متى استتر عن أعين الناس، لم يبق له فيما يفعل من رقيب، ولا يناله على ما يأتي من جزاء، لا يتحامى في غالب أمره أن يعتدي على نفس أو عرض، أو نسب أو مال الاعتداءَ الذي يشين وجه المدنية، ويحدث
في نظام الجماعة وهناً.
ودلت التجارب على أن زائغ العقيدة، متى ملك جاهاً أو سلطة، فتن الأمة في دينها، وانتهك حرمات شريعتها، ولم يخلص النظر في إصلاح أمرها، ولاقى منه المؤمنون اضطهاداً، والجاحدون وأصحاب الأهواء مناصرة وإقبالاً، فيكون داعياً عمليًا إلى الخروج على الدين، فتموت الفضيلة والغيرة على الحقوق العامة، وينقطع حبل اتحاد الأمة إرباً.
* دواء الانحراف:
حَتمٌ علينا أن نسعى إلى أن يكون التعليم المديني شاملاً، فما من ناشئ إلا يتلقى منه مقدارًا يكفي لإنارة عقله وطمأنينة نفسه، ونقبل بعد هذا على كتب الدراسة، فنتخير منها ما هو حسن الوضع، نقي من كل ما ليس بشرع، وبهذا نأمن من أن يكون في نشئنا من ينحرف عن الدين جهلاً بحقائقه.
وإذا نحن سرنا في تقرير أصول الدين وأحكامه على طريقة إقامة الحجة، وبيان الحكمة، خففنا شر الصنف الذي ينكر أموراً من الدين بعلة أنها لا توافق المعقول، أو لا تتحقق بها المصلحة.
وإنما يستعان على جعل التعليم عاماً بعناية أولي الأمر ونصحهم في تدبير شؤون الأمة؛ حيث يقررونه في سائر المدارس، ويقومون عليه كما يقومون في سائر العلوم، ومما يسر الأمة أن ترى من ولاة أمورها بتعليم الدين الذي هو ملاك سعادة أبنائها في الدنيا قبل الآخرة.
ومن واجب أهل العلم - بعد هذا -: أن يرقبوا حركة الثائرين على الدين، ويكونوا على بصيرة مما يكتبونه في الصحف، أو يحضرون به في النوادي؛ ليقَوِّموا أوده، وينبهوا على خطره، حتى يستبين أمره، وتتضح أمام الناشئين
طريقة قرع الشبهة بالحجة، وصرع الباطل بقوة الحق، وكذلك يفعل العلماء الراسخون، والكتاب المخلصون.
وحقَّ على من يبغي السعادة لابنه، أو لقريب وكّلَ إليه أمره، ألا يُلْقي به إلا حيث يأمن على إيمانه وطهارة نفسه، ولا يذهب به الطمع في متاع الدنيا إلى الاستهانة بأمر العقيدة؛ فإنها الأساس الذي تقوم عليه الحياة الطيبة، والشرف الأصيل.
فإذا اشتدت عناية أولي الأمر بالتعليم المديني في المدارس على اختلاف أقسامها وفنونها، وأرهف أهل العلم أقلامهم في حماية الشريعة ممن يتساقطون على الطعن فيها، أو المكر في تأويلها، وأخذ الآباء بهدي الله، فصانوا أبناءهم عن المدارس المنشأة للصدِّ عن السبيل، خسرت تجارة الرهط الذين يجهلون على الحق والفضيلة، وتهيأت لنا أسباب نهضة علمية اجتماعية نجني ثمراً لذيذاً من نتائجها، وتحمد الأجيال القابلة عاقبتها.