المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الشجاعة (1) لا تحوز الأمة مكانة يهابها خصومها، وتقرُّ بها عين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(8)«رسَائِلُ الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌المروءة ومظاهرها الصّادقة

- ‌الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه

- ‌في مفاسد البغاء

- ‌كلمة في المسكرات

- ‌الشجاعة

- ‌المساواة في الإسلام

- ‌عِظَمُ الهمّة

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة

- ‌صدق اللهجة

- ‌فضيلة الإخلاص

- ‌الأمانة في العلم

- ‌القضاء العادل في الإسلام

- ‌الإنصاف الأدبي

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌المدنيَّة الفاضلة في الإسلام

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌صدق العزيمة أو قوة الإرادة

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم

- ‌كبر الهمّة في العلم

- ‌الدهاء والاستقامة

- ‌الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه

- ‌ضلالة فصل الدّين عن السّياسة

- ‌سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين

- ‌العزّة والتواضع

- ‌المداراة والمداهنة

- ‌الرفق بالحيوان

- ‌محاكاة المسلمين للأجانب

- ‌الاجتماع والعزلة

- ‌علّة إعراض الشبّان عن الزواج

- ‌النبوغ في العلوم والفنون

- ‌متى تكون الصّراحة فضيلة

- ‌رسائل الإصلاح

- ‌المكتبة العربية: رسائل الإصلاح

الفصل: ‌ ‌الشجاعة (1) لا تحوز الأمة مكانة يهابها خصومها، وتقرُّ بها عين

‌الشجاعة

(1)

لا تحوز الأمة مكانة يهابها خصومها، وتقرُّ بها عين حلفائها، إلا أن تكون عزيزة الجانب، صلبة القناة. وعزة الجانب وصلابة القناة لا ينزلان إلا حيث تكون قوة الجأش، والاستهانة بملاقاة المكاره، وذلك ما نسميه: شجاعة.

والشجاعة صنفان:

أحدهما: الإقدام على مواقع القتال، والثبات على مكافحة الأبطال، وهي الشجاعة الحربية.

وثانيهما: الإقدام على قول الحق، وإبداء النصيحة، ولو لذي جاه أو سلطان يكره أن يُؤْمر بمعروف، أو يُنْهى عن منكر، وهذا ما نسمّيه: شجاعة أدبية.

ولما كان الإسلام ديناً وسياسة، وكان من مقاصده العالية: إقامة دولة تسير بالناس على ما أمر الله، عني بتربية النفوس على كلتا الشجاعتين.

فبالشجاعة الحربية تحمى الأوطان من مهاجمة الأعداء، ويسود الأمن في البلاد.

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد السابع الصادر في شهر شعبان 1353 هـ.

ص: 33

ويالشجاعة الأدبية يكون الناس على بصيرة من الحق والباطل، والصواب والخطأ، فيقيمون الحق، ويرجعون إلى الصواب.

ومن الآيات الواردة في تربية الشجاعة الحربية قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].

ذكَّر المسلمين في هذه الآية بأن ما عسى أن يلاقوه من آلام الحروب، يلاقي خصومهم مثلها، فكأنه يقول لهم: لا ينبغي أن يكون خصومكم، وهم أشياع الباطل، أصبر على الآلام، وأثبت في مواقف الأخطار منكم، وأنتم حماة الحق، والدعاة إلى الخير، ولا سيما حماة ودعاة يرجون من نصر الله وجزيل مثوبته ما لا يرجوه أعداؤهم الغاوون المفسدون.

ربّى الإسلام بهذه الآية خلق الشجاعة في النفوس، فأخرج أمة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق، أو الاحتفاظ بالكرامة، خيراً من ألف حياة يقضيها صاحبها في هون، أو في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحأ، وكان أولئك الذين ربّاهم الإسلام، وبثَّ فيهم روح البطولة، يتشوقون إلى الإقدام، وينطقون في هذا الشأن بحكمة بالغة.

انظروا إلى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لخالد بن الوليد: "احْرِصْ على الموتِ توهَبْ لك الحياة" يريد بهذا: حثّه على اقتحام مواقع القتال، والخوض في غمراتها خوضَ من ينشد الموت. والحياة العزيزة والفزع من الموت لا يلتقيان بأرض حتى يلتقي البصر والعمى في عين واحدة.

ومما ينظر إلى معنى حكمة الصديق: قول الحصين بن الحمام:

تأخَّرْتُ أسْتَبْقي الحياةَ فلَمْ أَجِدْ

لنفسي حياةً مِثْلَ أنْ أتقدَّما

ص: 34

ولا يُعَدُّ الاستخقاف بالموت شجاعة في كل حال، بل الشجاعة: رباطة الجأش، والثبات في سبيل الدفاع عن حق، أو كرامة، فالمنتحر لحرمانه من شهوة، أو لوقوعه في بلاء، لا يسمّى شجاعاً، بل هو جدير - كما قال أرسطو - بأن يسمى: جباناً، بل أقول: إن انتحاره نشأ من ناحية استعظام فوات تلك الشهوة، أو حصول ذلك البلاء، حتى تخيله أشد ألماً من الموت. فالانتحار في الحقيقة أثرُ فَقْد الرجل لفضيلة الصبر على الشدائد، وما ينشأ عن فَقْدِ فضيلة لا يصح أن يسمى فضيلة أخرى.

وما زال الحكماء ينصحون الناس أن لا يقدموا على موقع خطر، إلا أن تكون فائدة الإقدام أكبر من خسارته، قال أبو الطيب المتنبي:

الرأيُ قبل شَجاعةِ الشُّجْعانِ

هُوَ أوّلٌ وهي المَحَلُّ الثّاني

وإذا هُما اجْتَمعا لنَفْسٍ حُرَّةٍ

حازَتْ من العَلْياءِ كُلَّ مكانِ

في الشباب شجاعة، وفي الشيوخ تجارب، فإذا صدرت شجاعة شباب الأمة عن آراء شيوخها الحكماء، فلا جَرَمَ أن يكون لها الموقف الحميد، والأثر المجيد.

يظهر أثر الشجاعة الأدبية في: إقامة شعائر الدين، وتقويم الأخلاق، وإصلاح السياسة، وانتظام المعاملات بين الناس.

فالشجاعة الأدبية هي التي تطلق لسان العالِم الأمين بوعظ جاهل غليظ القلب، أو مترف متشعب الأهواء، أو صاحب سلطان لا يحب الناصحين، يعظه ليؤدي طاعة يثقل عليه أداؤها، أو ليتعلق بفضيلة كان منقطعاً عنها، أو ليستقيم في سياسة انحرف عن رشدها، أو يعدل في قضايا جار في أحكامها، أو يحترم في معاملته حقوقاً أجحف بها.

ص: 35

والشجاعة الأدبية تدعو الرجل إلى أن يؤدي الشهادة على نحو ما علم، دون أن يهاب عند أدائها ذا جاه أو سطوة.

ولولا الشجاعة الأدبية يضعفها الله في قلوب كثير من الشهداء، لحرم كثيراً من الضعفاء حقوقاً يستولي عليها الأقوياء، ولا سبيل لخلاصها منهم غير القضاء العادل، قال تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].

ولا ينتظم العدل لقاضٍ، إلا أن تكون فيه شجاعة أدبية؛ إذ هي التي تساعده على أن يقضي للضعيف على القوي، كما فعل كثير من القضاة في قضايا كان المدعي فيها رجلاً من السوقة، والمدعى عليه أميراً، أو خليفة، فحكموا للسوقي على ذلك الأمير أو الخليفة، لا يخافون في الحق لومة اللائمين، أو عقوبة المستبدين.

ومما حدثنا به التاريخ: أن ابن بشير قاضي قرطبة نظر في قضية رفعها بعض التجار على الخليفة عبد الرحمن الناصر، فقضى للتاجر على الخليفة، وذهب إلى الخليفة يخبره بالحكم، ويهدده بالاستقالة من القضاء إن لم يقرن الحكم بالتنفيذ، قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

والشجاعة الأدبية تقف بالرجل في حدود ما يعلم، فيصدر فتواه في صراحة، لا يقول غير ما يعلم، ولا يرتكب طريق المواربة إرضاء لذي وجاهة أو سلطان.

يحدثنا التاريخ أن المأمون فتن الناس بمسألة: (خلق القرآن)، وأن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان المثال الكامل للشجاعة الأدبية، فلم يجبن

ص: 36

كما جبن غيره أمام السلطان، ولم يسلك كما سلك غيره طريق الإبهام في الجواب، بل قال: إن القرآن كلام الله قديم، واحتمل في سبيل ذلك السجن والضرب بالسياط.

وفي القديم وقف بعض رجال الدين في بعض الفتاوى موقف الرهبة من السلطان، وجاروه على الباطل بعلة اتقاء عقابه، فتجافاهم الناس، حتى زهد بعض طلاب العلم في الأخذ عنه، كما ترك أبو زرعة وأحمد بن حنبل الرواية عن أحد كبار الشيوخ إذ أجاب في فتنة خلق القرآن إلى ما دعي إليه من أن القرآن مخلوق، واعتذر عندما عاتبه أهل العلم على ذلك بأنه قال ما قال اتقاء عقوبة بدنية لايحتملها.

وأكبر ما يقوي الشجاعة الأدبية في النفوس: تعظيم أمر الله تعالى، وشدة الثقة بما وعد به أنصار الحق من العزة في الدنيا، والسعادة في الأخرى. ومن قرأ التاريخ، وقف على أسماء رجال كثير لم ينالوا رفعة في حياتهم، وذكراً جميلاً بعد مماتهم، إلا لأنهم كانوا يجهرون بكلمة الحق في وجوه الوجهاء أو الرؤساء، لا يصدهم عن الجهر بها خوف من مكرهم، ولا طمع فيما بأيديهم.

ص: 37