الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل يُطلِّق امرأته وهي حائض ثم يريد أن يطلقها للسُنَّة متى يكون له ذلك
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم من يطلق امرأته في حالة الحيض ثم يريد أن يطلقها طلاق السُنَّة، متى يكون له ذلك؟
ص: حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير قال:"سمعت عبد الرحمن بن أيمن يسأل عبد الله بن عمر عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض، فقال: فعل ذلك عبد الله بن عمر، فسأل عمر عن ذلك رسول الله فقال: مُرْهُ فليراجعها حتى تطهر ثم يطلقها، قال: ثم تلا: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) في قُبُلِ عدتهن".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه النبي عليه السلام، فقال: مُرْه فليراجعها، ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم قال: أنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنه قال:"طلقت امرأتي وهي حائض، فردَّها عليَّ رسول الله عليه السلام حتى طلقتها وهي طاهر".
حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر
…
ثم ذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير قال: "سألت ابن عمر عن رجل طلَّق امرأته وهي حائض، فقال: هل تعرف عبد الله بن عمر؟ قلتُ: نعم، قال:
(1) سورة الطلاق، آية:[1].
فإنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر رضي الله عنه النبي عليه السلام فذكر ذلك له، فقال: مُرْه فليراجعها. قلت: ويعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه! أرأيت إن عجز واستحمق". ولم يذكر أبو بكرة في حديثه هذا غير ما ذكرنا.
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: أنا شعبة، قال: أخبرني أنس بن سيرين، قال: سمعت ابن عمر يقول: "طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي الله عنه للنبي عليه السلام، فقال النبي عليه السلام: مُرْه فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها. فقيل: أحتسِب بها؟ قال: فمه! ".
حدثنا فهد، قال: ثنا النفيلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان، عن أنس بن سيرين قال:"سألت ابن عمر: كيف صنعت في امرأتك التي طلقت؟ فقال: طلقتها وهي حائض، فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه، فأتى رسول الله عليه السلام فسأله فقال: مُرْه فليراجعها، ثم ليطلقها عند طهرٍ. قال: فقلت: جُعلتُ فداك، اعتدت بالطلاق الأول؟ قال: وما يمنعني، وإن كنت أسأت واستحمقت؟! ".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصيب، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، قال: حدثني يونس -هو ابن جبير- قال: "سألت عبد الله بن عمر، قلت: رجل طلق امرأته وهي حائض؟ قال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ فقلت: نعم، قال: فإن عبد الله بن عمر طلق أمرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي عليه السلام فسأله، فأمره النبي عليه السلام أن يراجعها ثم يطلقها في عدتها".
ش: هذه ثمان طرق صحاح:
الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي روى له
الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن عبد الرحمن بن أيمن -ويقال: مولى أيمن- القرشي المخزومي المكي، وثقه ابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي.
وأخرجه مسلم (1): حدثني هارون بن عبد الله، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع:"كيف قال في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله عليه السلام، فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال له النبي عليه السلام: ليراجعها، فردها، وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، فقال ابن عمر: وقرأ النبي عليه السلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) لقبل عدتهن".
حدثني (3) هارون بن عبد الله، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن ابن عمر نحو هذه القصة.
وأخرجه أبو داود (4) والنسائي (5) أيضًا.
الثاني: عن فهد بن سليمان
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (6): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير -واللفظ لأبي بكر- قالوا: نا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي الله عنه للنبي عليه السلام فقال: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1098 رقم 1471).
(2)
سورة الطلاق، آية:[1].
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 1098رقم 1471).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 256 رقم 2185).
(5)
"المجتبى"(6/ 139 رقم 3392).
(6)
"صحيح مسلم"(2/ 1095 رقم 1471).
وأخرجه أبو داود (1): عن عثمان بن أبي شيبة ثنا عن وكيع، عن سفيان
…
إلى آخره.
والترمذي (2): عن هناد، عن وكيع.
والنسائي (3): عن محمود بن غيلان، عن وكيع.
وابن ماجه (4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع
…
إلى آخره.
الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشر، عن أبي بشر جعفر بن إياس بن أبي وحشية اليشكري روى له الجماعة عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه النسائي (5): أخبرني زياد بن أيوب، ثنا هشيم، أنا أبو بشر، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض، فردَّ عليه رسول الله عليه السلام حتى طلقها وهي طاهر".
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر.
وأخرجه أحمد (6) في "مسنده" نحوه.
الخامس: عن أبي بكرة بكّار
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (7): حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن ابن عُلية، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير قال: "قلت لابن عمر: رجل
(1) أبو داود (2/ 1095 رقم 1471).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 479 رقم 1176).
(3)
"المجتبى"(6/ 141رقم 3397).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 652 رقم 2023).
(5)
"المجتبى"(6/ 141 رقم 3398).
(6)
"مسندأحمد"(2/ 158 رقم 5228).
(7)
"صحيح مسلم"(2/ 1096 رقم 1471).
طلق امرأته وهي حائض؟ فقال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ فإنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي عليه السلام فسأله، فأمره أن يرجعها، ثم تستقبل عدتها، قال: فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض أتعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه؟! أو إن عجز واستحمق".
وأخرجه أبو داود (1) عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه الترمذي (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4).
السادس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (5): حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن أنس بن سيرين قال:"سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر عمر رضي الله عنه للنبي عليه السلام فقال: فليراجعها، قلت: تحتسب؟ قال: فمه؟! ".
وعن قتادة، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر قال:"مره فليراجعها، قلت: تحتسب؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق".
السابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي الكوفي، عن أنس بن سيرين.
وأخرجه مسلم (6): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا خالد بن عبد الله، عن عبد الملك،
(1)"سنن أبي داود"(2/ 256 رقم 2184).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 478 رقم 1175).
(3)
"المجتبى"(6/ 141 رقم 3399).
(4)
"سنن ابن ماجه"(6/ 212 رقم 3555).
(5)
"صحيح البخاري"(5/ 2011 رقم 4954).
(6)
"صحيح مسلم"(2/ 1097 رقم 1471).
عن أنس بن سيرين قال: "سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن امرأته التي طلق، قال: طلقتها وهي حائض، فَذُكِرَ ذلك لعمر، فذكره للنبي عليه السلام، فقال: فمره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت بتلك التي طلقت وهي حائض؟ قال: ما لي لا أعتد بها، أو إن كنت عجزت واستحمقت؟! ".
الثامن: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن يزيد بن إبراهيم العنبري، عن محمد بن سيرين عن يونس بن جبير
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض، فقيل له: احتسبت بها -يعني التطليقة؟ قال: فقال: فما يمنعني إن كنت عجزت واستحمقت؟! ".
وأخرجه البخاري (2): عن حجاج، عن يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر نحوه.
قوله: "يسأل عبد الله" جملة فعلية موضعها النصب على الحال.
وقوله: "يطلق امرأته" أيضًا جملة حالية.
وكذلك قوله: "وهي حائض".
قوله: "فعل ذلك" أي الطلاق في الحيض.
قوله: "في قبل عدتهن" تفسير لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3)، وقرئت:"لقبل عدتهن". وهما لا تختلفان في المعنى.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 58 رقم 17765).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2041 رقم 5023).
(3)
سورة الطلاق، آية:[1].
وروى مالك (1) عن عبد الله بن دينار: "سمعت ابن عمر قرأ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لقبل عدتهن".
وقال ابن جريج: "كان مجاهد يقرؤها هكذا".
وقال الواحدي في "تفسيره": عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: "طلق رسول الله عليه السلام حفصة، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
…
} (2) الآية وقيل له: راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنة".
وقال السدي: "نزلت في عبد الله بن عمر؛ وذلك أنه طلق امرأته حائضًا، فأمره رسول الله عليه السلام أن يراجعها".
وقال مقاتل: "نزلت في عبد الله بن عمر وعقبة بن عمرو المازني وطفيل بن الحارث بن المطلب وعمرو بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم".
وفي "تفسير ابن عباس" رضي الله عنهما قال عبد الله: "وذلك أن ابن عمر ونفرًا معه من المهاجرين كانوا يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود، فنزلت".
وقال الزجاج في "تفسيره": هذا خطاب للنبي عليه السلام والمؤمنون داخلون معه في الخطاب، ومعناه: إذا أردتم طلاق النساء كما قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (2) معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.
قوله: "فمه". استفهام، كأنه قال: فما يكون إن لم تحتسب بتلك التطليقة، قال القاضي عياض:"فمه" استفهام معناه التقرير، أي: فما يكون إن لم تحتسب بتلك التطليقة، أي هل يكون إلا ذلك، فأبدل من "الألف" "هاء" كما قالوا: مهما وإنما هي ما ما، أيْ: أيّ شيء.
(1)"الموطأ"(2/ 587 رقم 1221).
(2)
سورة المائدة، آية:[6].
قوله: "أرأيت إن عجز أو استحمق". كلاهما على صيغة المعلوم، وتروى:"أو استُحْمِق" على صيغة المجهول، والأول أولى ليزاوج عجز؛ فافهم.
وفيه حذف تقديره: أفيرتفع عنه الطلاق إن عجز أو استحمق، قال القاضي: معناه: إن عجز عن الرجعة وفَعَل فِعل الفجار أو فَعَل فِعْلَ الحمقى. وقيل: أرأيت إن عجز في المراجعة التي أُمر بها -يعني حين فاته وقتها بتمام عدتها، أو ذهب عقله فلم يمكنه بعد في الحالين مراجعة- أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة، فلا بد من احتسابه بذلك الطلاق الذي أوقعه على غير وجهه، كما لو عجز عن بعض فرائضه فلم يقضه، أو استحمق فضيعه، أكان يَسقُط عنه؟ فهذا إنكار كبير وحجة على مَنْ قال: لا يعتد به، وقائله راوي القصة وصاحب النازلة، وقد جاء مفسرًا في حديث آخر:"أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا؟! ".
قوله: "وما يمنعني". أي عن اعتداد تلك الطلقة.
قوله: "واستحمقت". أي فعلت فعل الحمقى، وحقيقة الحمق: وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه، يقال: استحمقته أي وجدته أحمق، فهو لازم ومتعدّ.
ويستنبط منه أحكام:
الأول: أن الطلاق في الحيض يحرم، ولكنه إن أُوقع لزم، وقد ذكر ابن عمر أنه اعتد بها. وقال عياض: ذهب بعض الناس ممن شذَّ أنه لا يقع الطلاق، وذكر في هذا الحديث أنه لم يعتد بها.
ورواية مسلم وغيره ها هنا أصح، وذكر بعض الناس أنه طلقها ثلاثًا.
وذكر مسلم (1) عن ابن سيرين "أنه أقام عشرين سنة يحدثه من لا يتهم أنه طلقها ثلاثاً حتى لقي الباهلي -وكان ذا ثبت- فحدثه عن ابن عمر أنه طلقها تطليقة".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1093 رقم 1471).
وقد نص مسلم (1) على أنها تطليقة واحدة من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1) كلامًا طويلًا في هذا الموضع، فملخصه أنه قال: من أراد طلاق امرأة له قد وطئها لم يحل له أن يطلقها في حيضها، ولا في طهر وطئها فيه، فإن طلقها طلقتين أو طلقة في طهر وطئها فيه أو في حيضها؛ لم ينفذ ذلك الطلاق، وهي امرأته كما كانت إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاث مجموعة فيلزم، فإن طلقها في طهر لم يطأها فيه فهو طلاق سُنَّة لازم كيف ما أوقعه، إن شاء طلقة واحدة، وإن شاء طلقتين مجموعتين، وإن شاء ثلاث مجموعة، وإن كانت حاملًا منه أو من غيره فله أن يطلقها حاملاً، وهو لازم، ولو إثر وطئه إياها، فإن كان لم يطأها قط فله أن يطلقها في حال طهرها وفي حال حيضها إن شاء واحدةً وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثًا، فإن كانت لم تحض قط أو قد انقطع حيضها طلقها أيضًا -كما قلنا في الحامل- متى شاء، وفيما ذكرنا اختلاف في ثلاثة مواضع:
أحدها: هل ينفذ الطلاق الذي هو بدعة مخالف لأمر الله تعالى أم لا ينفذ؟
والثاني: هل طلاق الثلاث بدعة أم لا؟
والثالث: صفة طلاق السُنَّة.
أما الأول: فقد اختلف الناس في الطلاق في الحيض إن طلق الرجل كذلك أو في طهر وطئها فيه، هل يلزم ذلك الطلاق أم لا؟ قال علي: ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع، وقد كذب مدعي ذلك، والخلاف في ذلك موجود، روينا من طريق عبد الرزاق (2) عن وهب بن نافع أن عكرمة أخبره أنه سمع ابن عباس يقول: "الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلال، ووجهان حرام؛ فأما الحلال: فأن
(1)"المحلى"(10/ 162 - 172).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(6/ 307 رقم 10950).
يطلقها من غير جماع أو حاملًا مستبينًا حملها، وأما الحرام: فأن يطلقها حائضًا أو حين يجامعها لا يدري أيشتمل الرحم على ولد أم لا؟ ".
ومن طريق ابن وهب: أخبرني جرير بن حازم، عن الأعمش أن ابن مسعود قال:"من طلق كما أمره الله فقد بين الله له، ومَنْ خالف فإنا لا نطيق خلافه".
وروى أيضًا بإسناده إلى ابن عمر أنه قال: في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر:"لا تعتد بذلك".
وبإسناده عن طاوس: "أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا عن غير جماع وإذا استبان حملها".
وبإسناده (1) عن خلاس بن عمرو: أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال:"لا يعتد بها".
قال علي: والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة غير رواية عن ابن عمر، وقد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان، زيد بن ثابت رضي الله عنهما:
إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب، عن ابن سمعان، عن رجل أخبره:"أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك وتعتد بعدها ثلاثة قروء".
والآخر: عن طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى ابن علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض: "يلزمه الطلاق، وتعتد ثلاث حيض سوى تلك الحيضة".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(6/ 311 رقم 10966).
قال علي: واحتجوا من الآثار بما روينا من طريق ابن وهب، نا ابن أبي ذئب، أن نافعًا أخبرهم، عن ابن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله عليه السلام فقال: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهير، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي واحدة".
ومن طريق مسلم (1): عن سالم، عن أبيه: فذكر طلاقه لامرأته وهي حائض، وقال في آخره:"فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها".
وبدا في معرض تلك الآثار من قول ابن عمر: "ما يمنعني أن أعتد بها" وفي بعضها: "فمه؟! أرأيت إن عجز واستحمق".
ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبًا إلى المدينة ونحن مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله عليه السلام قال: نعم".
وذكر بعضهم (2) رواية من طريق عبد الباقي بن قانع، عن أبي يحيى الساجي نا إسماعيل بن أميّة الذارع، ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله عليه السلام: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته".
قال علي: كل هذا لا حجة لهم فيه:
أما حديث أنس فموضوع بلا شك لم يروه أحد من أصحاب حماد بن زيد الثقات، إنما هو من طريق إسماعيل بن أميّة الذارع، فإن كان القرشي الصغير البصري وهو بلا شك، فهو ضعيف متروك، وإن كان غيره فهو مجهول لا يعرف من هو.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1095 رقم 1471).
(2)
"سنن الدارقطني"(4/ 20 رقم 54).
ومن طريق عبد الباقي بن قانع راوي كل كذبة، المنفرد بكل طامةٍ، وليس بحجة، لأنه تغيَّر بأخرة، ثم لو صح -ولم يصح قط- لكان لا حجة فيه لأنه كان معنى قوله: ألزمناه بدعته أي إثمها.
وأما خبر نافع فموقوف عليه وليس فيه أنه سمعه من ابن عمر؛ فبطل الاحتجاج به.
وأما ما روي عن ابن عمر: "فمه! أرأيت إن عجز أو استحمق" فلا بيان فيه أن تلك الطلقة عُدَّت له طلقة، والشرائع لا تؤخذ بلفظ لا بيان فيه، بل قد يحتمل أن يكون أراد الزجر عن السؤال عن هذا، والإخبار بأنه عجز واستحمق في ذلك.
وأما ما روي من قوله: "ما يمنعني أن أعتد بها"، وقوله:"وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" فلم يقل فيه أن رسول الله عليه السلام حسبها تطليقة ولا أنه عليه السلام هو الذي اعتد بها طلقةً، إنما هو إخبار عن نفسه، ولا حجة في فعله ولا في فعل أحد دون رسول الله عليه السلام.
وأما حديث ابن أبي ذئب الذي في آخره (1)"وهي واحدة" فهذه لفظة أتى بها ابن أبي ذئب وحده، ولا يقطع على أنها من كلام رسول الله عليه السلام، ويمكن أن تكون من قول مَنْ دونه عليه السلام والشرائع لا تؤخذ بالظنون، ثم لو صح يقينًا أنها من كلام رسول الله عليه السلام لكان معناه وهي واحدة أخطأ فيها ابن عمر، أو هي قضية واحدة لازمة لكل مطلق.
وأما الثاني وهو الاختلاف في هل الطلاق الثلاث مجموعة بدعة أم لا؟ فزعم قومٌ أنها بدعة، ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: لا يقع البتة؛ لأن البدعة مردودة.
وقالت طائفة: بل تُرد إلى حكم الواحدة المأمور بأن يكون حكم الطلاق كذلك.
وقالت طائفة: بل تقع كما هي، ويؤدب المطلق كذلك.
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 9 رقم 24).
وقالت طائفة: ليست بدعة ولكنها سُنَّة لا كراهة فيها.
واحتج من قال: إنها تبطل بحديثٍ أخرجه النسائي (1): عن محمود بن لَبِيد قال: "أُخْبر رسول الله عليه السلام عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ ".
قال النسائي: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير بن الأشج، عن أبيه، عن محمود بن لبيد.
وقال ابن حزم: خبر ابن لبيد مرسل ولا حجة في مرسل، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا.
واحتج من قال: إن الثلاث تجعل طلقة واحدة بما رواه مسلم (2) عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنه الثلاث بواحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".
وبما رواه عبد الرزاق (3) عن ابن جريج: أخبرني طاوس، عن أبيه:"أن أبا الصهباء قال لابن عباس: تعلم أنها كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر رضي الله عنه؟ قال: نعم".
وقال ابن حزم: ليس في شيء من هذا أنه عليه السلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صحَّ أنه عليه السلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره.
واحتج من قال: إنها معصية وأنها تقع بما رواه عبد الرزاق (4): عن يحيى بن
(1)"المجتبى"(6/ 142 رقم 3401).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1099 رقم 1472).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(6/ 392 رقم 11337).
(4)
"مصنف عبد الرزاق"(6/ 393 رقم 11339).
العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي العجلي، عن إبراهيم -هو ابن عبيد الله بن عبادة بن الصامت- عن داود، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:"طلق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله عليه السلام فذكر ذلك له، فقال له النبي عليه السلام: أما أتقى الله جدُّك؛ أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذَّبه وإن شاء غفر له".
ورواه بعض الناس (1) عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده قال:"طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله عليه السلام فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق أمنا ألفًا، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السُنَّة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه".
وبما رواه محمد بن شاذان (2)، عن معلى بن منصور، عن شعيب بن رزيق، أن عطاء الخراساني حدثهم، عن الحسن، قال: ثنا عبد الله بن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أُخريين عند القرئين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله عليه السلام فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السُنَّة
…
" وذكر الخبر وفيه "فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثاً كان لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين وتكون معصية".
وقال ابن حزم: أما حديث عبادة بن الصامت ففي غاية السقوط؛ لأنه من طريق يحيى بن العلاء -وليس بالقوي- عن عبيد الله بن الوليد الوصافي -وهو هالك- عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت وهو مجهول لا يعرف. ثم هو منكر جدًّا؛ لأنه لم يوجد قط في شيء من الآثار أن والد عبادة رضي الله عنه أدرك الإِسلام، فكيف جده؟! وهو محال بلا شك.
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 20 رقم 53).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 334 رقم 14732).
وأما حديث ابن عمر ففي غاية السقوط؛ لأنه عن شعيب بن رزيق الشامي، وهو ضعيف.
واحتج من قال: إن الثلاث مجموعة سُنَّة لا بدعة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1)، فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض.
وبما رواه مالك (2) عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث لعان عويمر العجلاني مع امرأته
…
وفي آخره أنه قال: "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله عليه السلام، قال: وأنا مع الناس عند رسول الله عليه السلام".
وقال ابن حزم: لو كان الطلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى لما سكت رسول الله عليه السلام عن بيان ذلك، فصح يقينًا أنها سُنَّة مباحة، ثم إن ابن حزم ذكر حججًا أخرى في ذلك من الأحاديث والأخبار وقال في آخره: لا نعلم عن أحد من التابعين -أن الثلاث معصية- صرَّح بذلك إلا الحسن، والقول بأن الثلاث سُنَّة قول الشافعي وأبي ثور وأصحابهما.
وأما الثالث وهو صفة طلاق السُنَّة: فقال ابن حزم: قد ذكرنا قول ابن مسعود (3) من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود "إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى"، ومثله عن قتادة وابن المسيب وإبراهيم النخعي، وهو قول الشافعي. وممن كره أن يطلقها أكثر من واحدة: الليث والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وعبد العزيز بن الماجشون والحسن بن حي وأبو سليمان وأصحابهم.
(1) سورة البقرة: آية: [230].
(2)
"موطأ مالك"(2/ 566 رقم 1177).
(3)
"المجتبى"(6/ 140 رقم 3394).
قلت: ها هنا مناقشات:
المناقشة الأولى: فيما ذكره من وجوه الرد فيما احتج به مَنْ يذهب إلى وقوع الطلاق في الحيض وفي الطهر الذي وطئها فيه بحديث ابن عمر الذي رواه عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر وغيره مما ذكرناه آنفًا.
فنقول في ذلك: كل ما ذكره من وجوه الرد فهو مردود بما رواه الدارقطني (1) بسند صحيح: ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا عبد الملك بن محمد أبو قلابة، ثنا بشر بن عمر، ثنا شعبة، عن أنس بن سيرين، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول:"طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي عليه السلام فسأله فقال: مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء، قال: فقال عمر: يا رسول الله، أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم".
وبنحوه أخرجه الطحاوي والبخاري (2)، وقد ذكرناه.
وبما رواه النسائي (3) بسند صحيح: عن سالم، أن عبد الله قال: "طلقت امرأتي الحديث
…
" وفيه: "وكان عبد الله طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله".
وبما رواه الدارقطني (4) بسند صحيح: "أن رجلاً قال لعمر: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك، فقال الرجل: فإن رسول الله عليه السلام أمر ابن عمر حين فارق امرأته أن يراجعها، فقال له عمر: إن رسول الله عليه السلام أمره أن يراجع امرأته بطلاق بقي له، وأنت لم تُبْق ما ترتجع به امرأتك".
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 5 رقم 6).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2011 رقم 4954).
(3)
"المجتبى"(6/ 138 رقم 3391).
(4)
"سنن الدارقطني"(4/ 7 رقم 17).
قال أبو الحسن: قال لنا البغوي: روى هذا الحديث غير واحد لم يذكروا فيه كلام عمر رضي الله عنه ولا أعلم روى هذا الكلام غير سعيد بن عبد الرحمن الجمحي.
وبما رواه أيضًا بسند صحيح (1): عن أبي غلاب قال: "قلت لابن عمر: أكنت اعتددت بتلك التطليقة؟ قال: وما لي لا أعتد بها! ".
وبسند صحيح أيضًا (2): عن جابر: "قلت لابن عمر: اعتددت بتلك التطليقة؟ قال: نعم".
وبسند جيد أيضًا (3): عن الشعبي "طلق ابن عمر امرأته واحدة وهي حائض، فانطلق عمر رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، ويحتسب بهذه التطليقة التي طلق أول مرة".
وبما رواه البيهقي (4) بسند صحيح: عن عبيد الله، عن نافع قال:"اعتد ابن عمر بالتطليقة، ولم تعتد امرأته بالحيضة".
المناقشة الثانية: في قوله: "وأما حديث ابن أبي ذئب
…
إلى آخره". فما ذكره ها هنا يرده ما رواه الدارقطني (5) عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام "قال: هي واحدة".
قال: فهذا نص في موضع الخلاف، وليس مما تقدم من الكلام شيء يصلح أن يعود عليه الضمير إلا الطلاق المتقدم.
وكذلك يرده ما رواه ابن وهب في "مسنده": أبنا ابن أبي ذئب، عن نافع
…
فذكر الحديث، وفيه قال ابن أبي ذئب في الحديث عن رسول الله عليه السلام:" وهي واحدة".
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 8 رقم 18).
(2)
"سنن الدارقطني"(4/ 10 رقم 28).
(3)
"سنن الدارقطني"(4/ 11 رقم 30).
(4)
"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 418 رقم 15179).
(5)
"سنن الدارقطني"(4/ 9 رقم 24).
قال: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان، سمع سالمًا يحدث، عن أبيه، عن النبي عليه السلام بذلك.
وقال عبد الحق الخزرجي: وكيف يكون ما قاله ابن حزم مُوَجِّهًا وفي الحديث: فقال رسول الله عليه السلام، قال: وحديث الدارقطني (1) يدفع قوله أيضًا؛ لأنه لم يورد فيه غير قوله عليه السلام: "هي واحدة".
وقوله: "ثم لو صح يقينًا
…
إلى أخره" كلام ساقط وتأويل بعيد يرده الحديث وسياق الكلام. فافهم.
المناقشة الثالثة: في قوله: "خبر ابن لبيد مرسل ولا حجة في مرسل". فنقول: لا نسلم ذلك؛ لأن شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل لما ذكره في "تاريخه" جعله من جملة الصحابة وقال (2): قال أبو نعيم: عن عبد الرحمن بن الغسِّيل، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد قال:"أسرع النبي عليه السلام حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ"، وقال ابن حبان البستي في كتاب "الصحابة": له صحبة. ولما ذكره الترمذي فيهم قال: رأى سيدنا رسول الله عليه السلام وهو غلام.
وقال عنه أبو عمر: "إن الشمس كسفت فخرج النبي عليه السلام وخرجنا حتى أتينا في المسجد، فأطال القيام
…
" الحديث.
قال أبو عمر: قول البخاري أولى يعني كونه ذكره في الصحابة، وقد ذكرنا من الأحاديث ما يشهد له، وهو أولى بأن يذكر في الصحابة من محمود بن الربيع فإنه أسنّ منه، وذكره مسلم في التابعين فلم يصنع شيئًا، ولا عَلِمَ منه ما عَلِمَ غيره.
وذكره في جملة الصحابة أيضًا جماعة منهم: أبو منصور الباوردي وأبو سليمان بن زبر وأبو يعلى الموصلي، وابن أبي خيثمة في "تاريخه" ويعقوب بن شيبة وأحمد بن حنبل وأبو أحمد العسكري وأبو القاسم البغوي وابن منده وأبو نعيم رحمهم الله.
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 10 رقم 27).
(2)
"التاريخ الكبير"(7/ 402 رقم 1762).
المناقشة الرابعة: في قوله: "ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا".
فنقول: يرد ذلك قول مالك بن أنس: "قلتُ لمخرمة: ما حدثت به عن أبيك سمعته منه؟ فحلف بالله: لقد سمعته".
وذكر ابن الطحان في كتابه "رجال مالك": قال محمد بن الحسن بن أنس: قال لي مالك: "لقيت مخرمة بالروضة، فقلت: أسألك برب هذه الروضة، أسمعت من أبيك شيئًا؟ قال: نعم".
وقال معن بن عيسى القزاز: مخرمة سمع من أبيه.
المناقشة الخامسة: في قوله: "ليس في شيء من هذا أنه عليه السلام علم بذلك فأقره
…
" إلى آخره.
فنقول: قول الصحابي: كان الأمر كذا على عهد رسول الله عليه السلام، أو: كنا نفعل كذا، يدل على أن ذلك الأمر كان شرعًا، على ما ذكره المحققون، ولكن الجواب عن حديث ابن عباس هذا ما ذكره الشافعي: فقال: يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا ثم نسخ.
وسيجيء ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
وقال ابن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول: أنت طالق أنت طالق كان في عهد النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر والناس على صدقهم وسلامتهم ولم يكن طريقهم الخداع، فكانوا يُصَدِّقُون بأنهم أرادوا الثالثة لا الثلاث، فلما رأى عمر رضي الله عنه أمورًا ظهرت وأحوالًا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث. وقال بعضهم: إنما ذلك في غير المدخول بها.
وإلى هذا ذهب جماعة من أصحاب ابن عباس رأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها؛ لأنها بالواحدة تبين.
وقوله: "ثلاثًا" كلام وقع بعد البينونة، فلا يعتد به، وقال بعضهم: المراد أنه كان المعتاد في زمن النبي عليه السلام تطليقة واحدة، وقد اعتاد الناس التطليق بالثلاث والمعنى: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثًا يوقع واحدة فيما قبل، إنكارًا لخروجهم عن السُنَّة.
وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن حديث ابن عباس -يعني هذا- بأي شيء ندفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عكرمة عن ابن عباس:"أنها ثلاث" قال: وإلى هذا نذهب.
وقال الخلال عن أحمد: كل أصحاب عبد الله رووا خلاف ما قال طاوس، ولم يروه عنه غيره.
وقال البيهقي: إنما ترك البخاري رواية هذا الحديث لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس أنه أجاز الطلاق الثلاث وأمضاه.
وقال ابن المنذر: فغير جائز أن يُظَن بابن عباس أنه يحفظ عن رسول الله عليه السلام ثم يفتي بخلافه.
المناقشة السادسة: في قوله: "وأما حديث عبادة بن الصامت ففي غاية السقوط
…
" إلى آخره.
فيه نظر من وجوه:
الأول: قوله في يحيى بن العلاء: ليس بالقوي. غير حسن؛ لأن أحمد قال فيه: كان كذابًا يضع الحديث.
وقال عمرو الفلاس والفسوي والأزدي متروك الحديث.
وقال ابن عدي: أحاديثه موضوعات.
وقال ابن حبان: يتفرد عن الثقات بالمقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به.
وقال الساجي وصالح بن محمد: منكر الحديث.
الثاني: في الإسناد من يصلح أن يكون علة وهو عبيد الله بن الوليد؛ لأن أبا عبد الرحمن وعمرو الفلاس قالا: هو متروك الحديث.
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات حتى بسبق إلى القلب أنه المتعمد لها، فاستحق الترك.
وقال أبو عبد الله النيسابوري: والنقاش يروي عن محارب أحاديث موضوعة وقال أبو داود: ليس بشيء، وكذا قال ابن معين.
الثالث: إذا قدرنا أن الوصافي ويحيى علة للحديث فقد وجدنا الدارقطني (1) لما روى هذا الحديث من طريق محمد بن عُيينة قال: ثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي وصدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم. وصدقة هذا حديثه مخرج في "صحيح مسلم" فكأن الوصافي لم يكن، وكذلك يحيى (2).
الرابع: حديث الدارقطني هذا يفهم منه غير الذي يفهم من حديث ابن حزم؛ وذلك أنه قال: عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده قال: "طلق بعض آبائي امرأته ألفًا
…
" الحديث.
فإن جد إبراهيم عبد الله، وقوله:"بعض آبائي" يحتمل أن اسمه عبادة ويحتمل أن يكون أبا لأمه أو جدًا لها، أو أبا أو جدًّا من الرضاعة، وما أشبه ذلك، [.....](3) ابن حزم من دخول الصامت أو أبيه في الحديث.
الخامس: سكوته عن حال إبراهيم بن عبيد الله [......](3) مشهورة عند غالب من ينظر في كتابه وليست كذلك؛ فإنا لم نجد من عرفها وكذلك أبوه وجده لم نر مَنْ [......](3) جملة. فافهم.
المناقشة السابعة: في قوله: وأما حديث ابن عمر ففي غاية السقوط.
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 20 رقم 53).
(2)
وقال الدارقطني عقبه: رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي -أي يحيى-.
(3)
طمس في "الأصل" وليست في "ح".
فنقول: إنما أعل ابن حزم هذا الحديث بشعيب بن رزيق الشامي، وقال: هو ضعيف وليس كذلك؛ فإن الدارقطني قال فيه لما سأله عنه البرقاني: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وكذلك ابن خلفون، وأخرج له الحاكم في "مستدركه" حديثًا وصحح سنده.
ثم إن هذا الحديث رواه الدارقطني (1) أيضًا ثم البيهقي (2)، ثم قال البيهقي: أتى عطاء الخراساني في هذا الحديث بزيادات لم يتابَع عليها وهو ضعيف في الحديث لا يقبل منه ما ينفرد به.
قلت: ليس هو كذلك؛ فإن عطاء هذا وثقه جماعة منهم: الطبراني ومحمد بن سعد وابن عبد البر والدارقطني ويحيى بن معين وأبو حاتم، وخرّج حديثه الجماعة كلهم.
الثاني: من الأحكام أنهم اختلفوا في معنى قوله عليه السلام: "مُره فليراجعها" فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها.
فسوَّى دم النفاس بدم الحيض.
وقال مالك: يجبر على الرجعة في الحيضة التي طلق فيها وفي الطهر بعده، وفي الحيض بعد الطهر، وفي الطهر بعد، ما لم تنقض العدة.
وقال أشهب: يجبر على الرجعة في الحيضة الأولي، خاصةً، فإذا طهرت منها لم يجبر على رجعتها.
وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يؤمر بالرجعة ولا يجبر، وحملوا الأمر في ذلك على الندب ليقع الطلاق على السُنَّة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها لا يجبر على رجعتها. وأجمعوا أنه إذا
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 31 رقم 84).
(2)
"سنن البيهقي"(7/ 334 رقم 14732).
طلقها في طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها ولا يؤمر بذلك وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سُنَّة.
الثالث: يستفاد منه أنه طلاق السُنَّة أن يكون في طهر، وهذا باب اختلفوا فيه؛ فقال مالك: طلاق السُنَّة أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يمسها فيه تطليقة واحدة، ثم يتركها حتى تنقضي العدة برؤية أول الدم من الحيضة الثالثة. وهو قول الليث والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: هذا حسنٌ من الطلاق.
وله قول آخر، قال: إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدةً من غير جماع، وهو قول الثوري وأشهب.
وزعم المرغناني أن الطلاق على ثلاثة أوجه عند أصحاب أبي حنيفة: حسنٌ، وأحسن، وبدعي؛ فالأحسن: أن يطلقها تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، والحسن: هو طلاق السُنَّة، وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار. والبدعي: أن يطلقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو ثلاثًا في طهر واحد، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيًا.
وقال عياض: اختلف العلماء في صفة طلاق السُنَّة فقال مالك وعامَّة أصحابه: هو أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تكمل عدتها.
وقاله الليث والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا أحسن الطلاق. وله قول آخر: أنه إن شاء يطلقها ثلاثًا طلقها في كل طهر مرة، وكلاهما عند الكوفيين طلاق سُنَّه. وقاله ابن مسعود.
واختلف فيه قول أشهب، فقال مثله مرة، وأجاز أيضًا ارتجاعها ثم يطلق ثم يرتجع ثم يطلق فيتم الثلاث.
وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس في عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة وإنما ذلك في الوقت.
الرابع: في قوله: "فليراجعها" دليل على أن الطلاق غير البائن لا يحتاج إلى رضى المرأة.
الخامس: فيه دليل أن الرجعة تصح بالقول، ولا خلاف في ذلك، وأما الرجعة بالفعل فقد اختلفوا فيه، فقال عياض: وتصح عندنا أيضًا بالفعل الحال محل القول الدال في العبارة على الارتجاع كالوطء والتقبيل واللمس؛ بشرط القصد إلى الارتجاع به، وأنكر الشافعي صحة الارتجاع بالفعل أصلاً، وأثبته أبو حنيفة وإن وقع من غير قصد.
وهو قول ابن وهب من أصحابنا في الواطيء بغير قصد.
السادس: استدل به أبو حنيفة أن مَنْ طلق امرأته وهي حائض فقد أثم وينبغي له أن يراجعها، فإن تركها تمضي في العدة بانت منه بطلاق، على ما يجيء عن قريب مستقصى إن شاء الله تعالى.
السابع: أن في قوله: ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل، أن طلاق الحامل طلاق سُنَّة أي وقت شاء من الحمل ما لم يقرب ويصير في حد المرض وهو قول كافة العلماء.
وقال الشافعي: ويكرر الطلاق عليها فيه متى شاء حتى يتم الثلاث على أصله.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجعل بين التطليقتين شهرًا.
وقال مالك ومحمد بن الحسن وزفر: لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تضع.
وفي "البدائع": وأما الحامل إذا استبان حملها فالأحسن أن يطلقها واحدة رجعية وإن كان قد جامعها وطلقها عقيب الجماع؛ لأن الكراهة في ذات القرء؛ لاحتمال الندامة لاحتمال الحبل، فمتى طلقها مع علمه بالحبل فالظاهر أنه لا يندم، وكذلك في ذات الشهر في الآيسة والصغيرة؛ الأحسن أن يطلقها واحدة رجعية وإن كان عقيب طهر جامعها فيه، وهذا قول أصحابنا الثلاثة.
وقال زفر: يَفْصِل بين طلاق الآيسة والصغيرة وبين جماعها بشهر.
الثامن: أن الظاهرية استدلوا بما روى (1) سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال:"طلقت امرأتي وهي حائض، فردَّها عليَّ رسول الله عليه السلام حتى طلقتها وهي طاهر" أن الرجل إذا طلق امرأته في حيضها لم ينفذ ذلك الطلاق، ولا يحل له أن يطلقها في حيضها. وهو مذهب الخوارج والرافضة أيضًا، وحُكي عن ابن عُلية أيضًا.
وأجمع أئمة الفتوى من التابعين وغيرهم على أن الطلاق في الحيض واقع ولكنه محرم؛ أمَّا وقوعه فلأمر رسول الله عليه السلام لابن عمر بمراجعة امرأته إذْ طلقها حائضًا، والمراجعة لا تكون إلا بعد لزوم الطلاق؛ لأنه لو لم يكن لازمًا ما قال له: راجعها؛ لأن مَنْ لم تطلق ولم يقع عليها طلاق لا يقال فيه: راجعها؛ لأنه محال أن يقال لرجل امرأته في عصمته لم يفارقها: راجعها.
وأما كونه محرمًا فلكون المطلق في الحيض مطلقًا لغير العدة؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) وقرئ: "فطلقوهن لقبل عدتهن" على ما مرَّ عن قريب، وكذا كان يقرأ ابن عمر وغيره.
وقال أبو عمر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار وجمهور علماء المسلمين وإن كان عندهم بدعة غير سنَّة فهو لازم عند جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال والجهل؛ فإنهم يقولون: إن الطلاق لغير السُنَّة غير واقع ولا لازم. وروي مثل ذلك عن بعض التابعين، وهو شذوذ لم يعرِّج عليه أهل العلم.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار وقالوا: مَنْ طلق امرأته وهي حائض فقد أثِم وينبغي له أن يراجعها؛ لأن طلاقه ذلك طلاق خطأ، فإن تركها تمضي في العدة بانت منه بطلاقٍ خطأ، ولكن يؤمر أن يراجعها ليخرجها بذلك من أسباب الطلاق الخطأ ثم يتركها حتى تطهر من هذه الحيضة ثم يطلقها
(1)"المجتبى"(6/ 141 رقم 3398).
(2)
سورة الطلاق، آية:[1].
طلاقًا صوابًا، فتمضي في عدةٍ من طلاق صواب، فإن شاء راجعها فكانت امرأته وبطلت العدة، وإن شاء تركها حتى تبين منه بطلاق صواب.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: شقيق بن سلمة وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي والثوري والمزني من أصحاب الشافعي؛ فإنهم قالوا: "مَنْ طلق امرأته
…
" إلى آخره. وهذا أيضًا قول أبي حنيفة.
وقال الكاساني في "البدائع": ولو طلق امرأته في حالة الحيض ثم راجعها، ثم أراد طلاقها ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت طلقها إن شاء.
وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة.
وذكر الكرخي أن ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة، وما ذُكِرَ في الأصل قول أبي يوسف ومحمد.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون منهم: أبو يوسف، فزعموا أنه إذا طلقها حائضًا لم يكن له بعد ذلك أن يطلقها حتى تطهر من هذه الحيضة، ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر منها.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سالمًا والليث بن سعد وعبد الملك بن جريج والزهري وعطاء الخراساني والحسن البصري ومالكًا وأبا يوسف والشافعي؛ فإنهم قالوا: إذا طلقها حال كونها حائضًا
…
إلى آخر ما قاله، والتحقيق فيما قال هؤلاء ما قاله أبو عمر: أن للحيضة الثانية والطهر الثاني وجودًا عندهم ها هنا؛ لأن المراجعة لا يكاد يُعلم صحتها إلا بالوطء؛ لأنه المبتغي من النكاح في الأغلب، فكان ذلك الطهر موضعًا للوطء الذي يستبقى به المراجعة، فإذا مسها لم يكن سبيل إلى طلاقها في طهر قد مس فيه؛ لإجماعهم على أن المطلق في طهر قد مس فيه ليس بمطلق للعدة كما أمر الله عز وجل فقيل له: دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهر، ثم طلِّق إن شئت قبل أن تمس.
وقد جاء هذا منصوصًا في الحديث عن ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض، فأمره رسول الله عليه السلام أن يراجعها، فإذا طهرت مسها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها". وبه قال مالك وأصحابه لا خلاف في ذلك عنهم، ولا يطلقها بعد طهرها من ذلك الدم الذي ارتجعها فيه بالقضاء، فإن فعل لزم، وقد قال بعض أصحابنا: إن الذي يمس في الطهر إنما نهي عن الطلاق فيه؛ لأنها لا تدري أعِدّة حامل تعتد أم عِدّة حائل؟
ص: وعارضوا الآثار التي رويناها في موافقة القول بما حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر أخبره: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي الله عنه لرسول الله عليه السلام، فتغيظ عليه رسول الله عليه السلام، ثم قال رسول الله عليه السلام: ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله.
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو صالح
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله عليه السلام، فسأل عمر عن ذلك رسول الله عليه السلام فقال: مُره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"ثم يتركها حتى تطهر ثم تحيض، ثم إن شاء طلق".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب وعبيد الله (ح).
وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب قال: ثنا حماد، عن أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، قال: أخبرني يحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا فهد وحسين بن نصر قالا: ثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير قال: ثنا موسى بن عقبة قال: حدثني نافع أن عبد الله بن عمر
…
ثم ذكر مثله.
حدثنا فهد وحسين بن نصر، قالا: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا موسى بن عقبة، قال: حدثني نافع، أن عبد الله بن عمر، ثم ذكر مثله.
فقد أخبر سالم ونافع، عن ابن عمر في هذه الآثار، أن رسول الله أمره أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض، فزاد على ما في الآثار الأُول، فهو أولى منها.
فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أي عارض هؤلاء الآخرون أحاديث ابن عمر التي رويناها في موافقة قول أهل المقالة الأولى بما روي عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه أخبره "أنه طلق امرأته وهي حائض .. الحديث" فإنه أخبر في حديثه هذا مثل ما في الأحاديث المذكورة، وزاد عليها؛ فوجب الأخذ بهذه الزيادة.
وكذلك رواه نافع عن ابن عمر بهذه الزيادة على ما يجيء، ولم تشتمل على هذه الزيادة رواية أبي الزبير وسعيد بن جبير ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين وأنس ابن سيرين التي ذُكرت في الفصل الأول، والأخذ بها أولى؛ لكونها من الثقات، ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد في قضية واحدة، وإنما ساق بعضهم لفظ النبي عليه السلام على وجهه، وحذف بعضهم ذكر الزيادة إغفالًا أو نسيانًا؛ فوجب استعماله بما فيه من زيادة ذكر الحيضة؛ إذ لم يثبت أن النبي عليه السلام قال ذلك مرةً عاريًا من غير ذكر الزيادة، وذكره مرةً مقرونًا بها، إذ كان فيه إثبات القول منه في حالين، وهذا مما
لا نعلمه، فغير جائز إثباته، وعلى تقدير أنه لو كان عليه السلام قد قال ذلك في حالين لم يخل أن يكون المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة والآخر متأخر عنه، فيكون ناسخًا له، أو يكون الخبر الذي لا زيادة فيه هو المتقدم، ثم ورد بعده ذكر الزيادة فيكون ناسخًا للأول بإثبات الزيادة، ولا سبيل إلى العلم بتاريخ الخبرين لا سيما وقد أشار الجمع من الرواة إلى قصة واحدة، فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين:
أحدهما: أن كل شيئين لا يعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معًا ولا يحكم بتقدم أحدهما على الآخر كالغرقى، والقوم يقع عليهم البيت، فكذلك هذان الخبران وجب الحكم بهما معًا؛ إذْ لم يثبت لهما تاريخ، فلم يثبت الحكم إلا مقرونًا بالزيادة المذكورة فيه.
والوجه الثاني: أنه قد ثبت أنه عليه السلام قد ذكر الزيادة وأثبتها وأمرنا باعتبارها بقوله مرةً: "فليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء"؛ لورودها من طرق صحيحة، فإذا كانت ثابتة في وقت، واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه حذف الزيادة، واحتمل أن تكون غير منسوخة؛ لم يجز لنا إثبات النسخ بالاحتمال، ووجب بقاء حكم الزيادة. فافهم.
وقال أبو داود: والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال أبو عمر: وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف فيما خالفه مَنْ هو أثبت منه.
وقال الشافعي: نافع أثبت في ابن عمر مِنْ أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه.
وكذلك رواه عطاء الخراساني عن الحسن، عن ابن عمر بهذه الزيادة.
وقال أبو عمر: وكذلك رواه علقمة عن ابن عمر.
وقال البيهقي: وكذلك رواه عمرو بن دينار مثل رواية سالم ونافع.
وقال البيهقي: وأكثر الروايات عن ابن عمر: "أن النبي عليه السلام أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك". فإن كانت الرواية عن سالم ونافع وابن دينار في أمره أن يراجعها حتل تطهر ثم تحيض ثم تطهر محفوظة؛ فقد قال الشافعي رحمه الله: يحتمل أن يكون إنما أراد بذلك الاستبراء أن يكون يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام، ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها الحمل هي أم الحيض؟ أو ليكون تطليقها بعد علمه يحمل وهو غير جاهل ما صنع، أو يرغب فيمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه حاملًا.
وقال غيره: عاقبه بتأخير الطلاق جزاءً بما فعله في المحرم عليه، وفي هذا نظر؛ لأن ابن عمر لم يكن ليعلم الحكم ولا تحقق التحريم فتعمد ركوبه، وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته.
وقيل: إن الطهر الذي بعد الحيض والحيضة قبله الموقع فيها الطلاق كالقرء الواحد، فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد، وهذا ليس هو طلاق السُنَّة.
وقيل: إنما أمره بالتأخير؛ لأن الطهر الذي يلي الحيضة الموقع الطلاق فيها ينبغي أن ينُهى عن الطلاق فيه حتى يطأ فيه فتتحقق الرجعة؛ لئلا يكون إذا طلق فيه قبل أن يمس كمن ارتجع الطلاق لا للنكاح، وفي هذا نظر؛ فإنه يوجب أن يُنهى عن الطلاق قبل الدخول؛ لئلا يكون نكح أيضًا للطلاق لا للنكاح.
وقيل: إنما نُهي عن الطلاق في هذا الطهر ليطول مقامه معها، والظن من ابن عمر أنه لا يمنعها حقها من الوطء حينئذٍ وتفويت ما في نفسه من الكراهية وأمسكها، ويكون ذلك حرصًا على ارتفاع الطلاق وحضًّا على استقرار الزوجية.
ثم إنه أخرج هذا الحديث بهذه الزيادة من ثمان طرق صحاح:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا نصرًا وإبراهيم بن أبي داود البرلسي.
وعقيل -بضم العين- ابن خالد الآيلي.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم أن أباه أخبره: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي الله عنه لرسول الله عليه السلام، فتغيظ منه رسول الله عليه السلام، ثم قال رسول الله عليه السلام: ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل.
وأخرجه النسائي (2): أخبرني كثير بن عُبيد، عن محمد بن حرب، ثنا الزبيدي قال:"سئل الزهري: كيف الطلاق للعدّة؟ فقال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي في حياة رسول الله عليه السلام وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله عليه السلام، فتغيظ وجه رسول الله عليه السلام في ذلك فقال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تحيض حيضة وتطهر، فإن بدا له أن يطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أنزل الله عز وجل قال عبد الله بن عمر: فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها".
الثاني: عن يزيد بن سنان الفراء، عن أبي صالح عبد الله بن صالح -شيخ البخاري- عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن ابن عمر نحوه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا روح، ثنا محمد بن أبي حفصة، ثنا ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك لعمر، فانطلق
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 324 رقم 14686).
(2)
"المجتبى"(60/ 138 رقم 3391).
(3)
"مسند أحمد"(2/ 61 رقم 5270).
عمر إلى رسول الله عليه السلام فأخبره، فقال رسول الله عليه السلام: ليمسكها حتى تحيض غير هذه الحيضة ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها طلقها كما أمره الله عز وجل وإن بدا له أن يمسكها أمسكها".
الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى
…
إلى آخره.
ورجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه البخاري (1): ثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر
…
إلى آخره نحوه.
ومسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن نافع
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "أن تطلق لها النساء" احتجت به الشافعية والمالكية أن الأقراء التي تعتد بها المرأة هي الأطهار؛ لأنه قال: "فإن شاء طلق -يعني- عند طهرها" ثم قال: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
ومعنى "لها" أي فيها، فثبت عليه السلام الطهر عنده.
قلت: لا نسلم أن "اللام" ها هنا بمعنى الظرف؛ لأن "اللام" تنصرف على معاني ليس من أقسامها ما يدل على كونها ظرفًا؛ لأن معانيها التي تستعمل على أوجه: "لام" الملك كقوله: له مال، و"لام" الفعل كقوله: له كلام وله حركة، و"لام" العلة كقولك: قام لأن زيدًا جاءه، وأعطاه لأنه سأله، و"لام" النسبة كقولك: له أخ وله أب، و"لام" الاختصاص كقولك: له علم وله إرادة، و"لام" الاستغاثة كقولك: يالَ بكر، ويالَ مضر و"لام" كي كقوله تعالى:{وَلِيَقْتَرِفُوا} (3)، و"لام" العاقبة كقوله تعالى:{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (4).
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2011 رقم 4953).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1093 رقم 1471).
(3)
سورة الأنعام، آية:[113].
(4)
سورة القصص، (8).
بل اللام ها هنا للاستقبال كما في قولهم: لثلاث بقين من الشهر أي مستقبلاً لثلاث، وقال الزمخشري في قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) يعني مستقبلات لعدتهن، وإنما قلنا ذلك؛ لأن اللام قد تكون لحال ماضية ولحال مستقبلة، ألا ترى إلى قوله -علية السلام-:"صوموا لرؤيته" يعني صوموا لرؤية ماضية، وقال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} (2)، يعني للآخرة، فاللام فيما نحن فيه للاستقبال كما ذكرنا، فإذا كان للاستقبال وليس في مقتضاه وجوده عقيب المذكور وإذا كان كذلك ووجدنا قوله عليه السلام لابن عمر فيه ذكر حيضة ماضية، الحيضة المستقبلة مفقودة، وإذْ لم تكن مذكورة وذلك في قوله:"مُره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهير، ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" فاحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الحيضة الماضية، فيدل ذلك على أن العدة إنما هي الحيض.
وجائز أن يريد حيضة مستقبلة إذ هي معلوم كونها على مجرى العادة، فليس الطهر حينئذٍ بأولى بالاعتبار من الحيض؛ لأن الحيض في المستقبل وإن لم يكن مذكورًا فجائز أن يراد به؛ إذ كان معلومًا كما أنه لم يذكر طهرًا لعدة الطلاق وإنما ذكر طهرًا قبله، ولكن الطهر لما كان معلومًا وجوده بعد الطلاق إذا طلقها فيه على مجرى العادة، جاز عندك رجوع الكلام فيه، وإرادته باللفظ، ومع ذلك فجائز أن تحيض عقيب الطلاق بلا فصل، فليس إذًا في اللفظ دلالة على أن المعتبر في الاعتداد به هو الطهر دون الحيض. فافهم.
الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك
…
إلى آخره.
(1) سورة الطلاق، آية:[1].
(2)
سورة الإسراء، آية:[19].
وأخرجه أبو داود (1): نا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله عليه السلام فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْه فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهير، ثم تحيض ثم تطهير، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ابن الخطاب، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم (2): نا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي، قال: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:"طلقت امرأتي على عهد رسول الله عليه السلام وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله عليه السلام فقال: مُرْه فليراجعها، وليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا ظهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها؛ فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. قال عبيد الله: قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتدتها".
وحدثني (3) زهير بن حرب قال: نا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمرُ النبي عليه السلام فأمره أن يرجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها؛ فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء".
السادس: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 255 رقم 2179).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1094 رقم 1471).
(3)
المرجع السابق.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، نا يحيى، عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:"طلقت امرأتي وهي حائض على عهد رسول الله عليه السلام، فأتى عمر رسول الله عليه السلام فقال: إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، قال: مُرْه فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإن شاء طلقها قبل أن يجامعها وإن شاء أمسكها؛ فإنها العدة التي قال الله تعالى".
السابع: عن أحمد البرقي، عن عمرو بن أبي سلمة التنيسي أبي حفص الدمشقي مولى بني هاشم نزيل تِنِّيس، روى له الجماعة.
عن زهير بن محمد التميمي العنبري أبي المنذر الخراساني روى له الجماعة.
عن يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي الأسدي المدني، وعبيد الله بن عمر، ثلاثتهم عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.
فحديث يحيى بن سعيد عن نافع أخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، ثنا يزيد بن هارون، نا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله عليه السلام فأمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها إن لم يُرْد إمساكها؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
وحديث عبيد الله بن عمر، عن نافع أخرجه مسلم (1) كما ذكرناه، وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه (3) أيضًا.
وحديث موسى بن عقبة عن نافع: أخرجه الدارقطني (4): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1094 رقم 1471).
(2)
"المجتبى"(6/ 137 رقم 3389).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 651 رقم 2019).
(4)
"سنن الدارقطني"(4/ 10 رقم 25).
موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته في عهد رسول الله عليه السلام تطليقة واحدة وهي حائض، فاستفتى عمر رسول الله عليه السلام
…
" ثم ذكر نحو الحديث المذكور.
الثامن: عن فهد بن سليمان وحسين بن نصر، كلاهما عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه الدارقطني (1) نحوه، وقد ذكرناه الآن.
ص: وأما وجهه من طريق النظر؛ فإنا وجدنا الأصل في ذلك أن الرجل نُهي أن يطلق امرأته حائضًا، ونُهي أن يطلقها في طهر قد طلقها فيه؛ فكان قد نهي عن الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه كما نُهي عن الطلاق في الحيض.
ثم رأيناهم لا يختلفون في رجل جامع امرأته حائضًا ثم أراد أن يطلقها للسُنَّة أنه ممنوع من ذلك حتى تطهر من هذه الحيضة التي كان الجماع فيها ومن حيضة أخرى بعدها، وجعل جماعه إياها في الحيضة كجماعه إياها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة، فلما كان حكم الطهر الذي بعد كل حيضة كحكم نفس الحيضة في وقوع الطلاق في الجماع، وكان مَن جامع امرأته وهي حائض فليس له أن يطلقها بعد ذلك حتى يكون بين ذلك الجماع وبين الطلاق الذي يوقعه حيضة كاملة مستقبلة؛ كان كذلك في النظر أنه إذا طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد بعد ذلك أن يطلقها، لم يكن له ذلك حتى يكون بين طلاقه الأول الذي طلقها إياه وبين طلاقه إياها الثاني حيضة مستقبلة.
فهذا وجه النظر عندنا في هذا الباب مع موافقة الآثار، وهو قول أبي يوسف رحمه الله.
ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، تقريره أن الأصل في هذا الباب أن الرجل منهي عن إيقاع الطلاق في الطهر الذي طلق امرأته فيه كما هو
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 10 رقم 25).
منهي عن إيقاعه في الحيض، ثم إنه إذا جامعها وهي حائض وأراد أن يطلقها للسُنَّة فإنه يمنع من الطلاق حتى تطهر من هذه الحيضة التي جامعها فيها ومن حيضة أخرى مستقبلة بعدها، فلم يعتبر الطهر الذي يعقب الحيضة التي كان فيها الجماع، فصار حكمه كحكم نفس الحيضة، فلما لم يكن لهذا المجامع في الحيض أن يطلقها للسُنَّة حتى يكون بين جماعه الذي وقع في الحيضة وبين الطلاق الذي يريد وقوعه حيضة كاملة مستقبلة؛ كان القياس على ذلك يقتضي للذي طلق امرأته وهي حائض ثم أراد بعد ذلك أن يطلقها أنْ لا يطلقها حتى يكون بين طلاقه الأول الذي قد أوقعه وبين طلاقه الذي يريد وقوعه حيضة مستقبلة. فافهم.
فهذا وجه النظر في هذا الباب، وهو الذي ذهب إليه أبو يوسف ومَنْ ذكرناهم معه فيما مضى.
ص: وفي منع النبي عليه السلام ابنَ عمر أن يطلق امرأته بعد الطلاق الأول حتى يكون بعد ذلك حيضة مستقبلة فتكون بين التطليقتين حيضة مستقبلة دليلٌ أن حكم الطلاق في السُنَّة ألا يجمع منه تطليقتان في طهر واحد، فافهم ذلك فإنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: هذه إشارة وتنبيه على فائدة تستنبط من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهي خفيّة لا تظهر إلا لمن له بصيرة نَفَّاذَة وقريحة وقَّادة؛ فلذلك نبه على ذلك بقوله: "فافهم"، وهذه الفائدة هي التي تستفاد من منع النبي عليه السلام عبد الله بن عمر أن يطلق امرأته بعد طلاقه الأول وهي حائض حتى يكون بعد الطلاق الأول حيضة مستقبلة، ففي هذا دليل على أن حكم الطلاق في السُنَّة ألا يجمع بين تطليقتين في طهر واحد.
فإن قيل: كيف يفهم ذلك من هذا الحديث؟
قلت: لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق غير محسوبة من العدة، فكان إيقاع الطلاق فيها كإيقاعه في الطهر الذي يليها، ثم إنه عليه السلام أمره ألا يطلق بعد ذلك حتى تكون حيضة مستقبلة، فظهر من هذا أنه لو طلقها قبل الحيضة المستقبلة يكون مُوقِعًا
تطليقتين في طهر واحد، فلو لم يكن هذا مكروهًا لما منعه عليه السلام أن يطلقها بعد الطلاق الأول قبل الحيضة المستقبلة فلما منع من ذلك علمنا أن إيقاع الطلقتين في طهر واحد مكروه بالمعنى الذي ذكرناه، فافهم؛ فإنه موضع يحتاج إلى دقة نظر.
قوله: "فإنه قول أبي حنيفة" أي فإن ما ذكرنا من الطلاق في السُنَّة ألا يجمع منه تطليقتان في طهر واحد قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله ثم اعلم أن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب في العدة كما ذكرنا، وهو مذهب أبي قلابة والزهري وقتادة والليث وشريح والشعبي وطاوس وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومالك بن دينار وجابر بن زيد ومحمد بن سيرين ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) بأسانيد جياد، وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقول: تعتد بتلك الحيضة. والله أعلم.
…
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 56).