المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: المطلقة طلاقا بائنا ماذا لها على زوجها في عدتها - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: المطلقة طلاقا بائنا ماذا لها على زوجها في عدتها

‌ص: باب: المطلقة طلاقًا بائنًا ماذا لها على زوجها في عدتها

؟

ش: أي هذا باب في بيان ما يجب على الرجل لامرأته إذا طلقها طلاقًا بائنًا.

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا المغيرة وحصين وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود وسيار ومجالد، عن الشعبي قال:"دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة، فسألتها عن قضاء رسول الله عليه السلام، فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله عليه السلام في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم".

وقال مجالد في حديثه: "يا بنت قيس، إنما النفقة والسكنى على من كانت له الرجعى".

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثتني فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو ابن حفص المخزومي طلقها ثلاثًا، فأمر لها بنفقة، فاستعملتها وكان النبي عليه السلام بعثه نحو اليمن، فانطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه في نفرٍ من بني مخزوم إلى النبي عليه السلام وهو في بيت ميمونة، فقال: يا رسول الله، إن أبا عمرو بن حفص طلق فاطمة ثلاثًا، فهل لها نفقة؟ فقال النبي عليه السلام: ليس لها نفقة ولا سكنى. وأرسل إليها أن تنتقل إلى أم شريك، ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانتقلي إلى ابن أم مكتوم، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا بحر بن نصر، قال: قُرئ على شعيب بن الليث: أخبرك أبوك، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة أنه قال: "سألت فاطمة بنت قيس فأخبرتني:

ص: 94

أن زوجها المخزومي طلقها، وأنه أبى أن ينفق عليها، فجاءت إلى رسول الله عليه السلام، فأخبرته، فقال رسول الله عليه السلام: لا نفقة لك، انتقلي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا الليث

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا روح بن الفرج، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن أبي الزبير المكي:"أنه سأل عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص عن طلاق جده أبي عمرو؛ فاطمة بنت قيس، فقال له عبد الحميد: طلقها البتة، ثم خرج إلى اليمن، ووكل عياش بن أبي ربيعة، فأرسل إليها عياش بعض النفقة فسخطتها، فقال لها عياش: ما لك علينا من حق ولا مسكن، فهذا رسول الله عليه السلام فسليه، فسألت رسول الله عليه السلام عن ما قاله، فقال: ليس لك نفقة ولا مسكن ولكن متاع بالمعروف، اخرجي عنهم. فقالت: أخرج إلى بيت أم شريك؟ فقال لها النبي عليه السلام: إن بيتها يوطأ، انتقلي إلى بيت عبد الله بن أم مكتوم، فهو أقل أعمى".

حدثنا روح، قال: ثنا يحيى قال: حدثني الليث، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس نفسها

بمثل حديث الليث عن الزبير حرفًا بحرف.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة:"أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائبٌ، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت إلى رسول الله عليه السلام، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، واعتدي في بيت أم شريك".

ص: 95

حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو سلمة: أن فاطمة بنت قيس حدثته، عن رسول الله عليه السلام، مثله سواء.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله، قال: حدثني الليث

فذكر بإسناده مثله وزاد: "فأنكر الناس عليها ما كانت تُحدِث من خروجها قبل أن تحل".

حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس:"أنها كانت تحت رجل من بني مخزوم، فطلقها البتة، فأرسلت إلى أهله تبتغي النفقة، فقالوا: ليس لك علينا نفقة، فبلغ ذلك رسول الله عليه السلام، فقال: ليس لك عليهم النفقة وعليك العدة، فانتقلي إلي أم شريك، ثم قال: إن أم شريك يدخل عليها إخوتها من المهاجرين فانتقلي إلى ابن أم مكتوم".

حدثنا ربيع المؤذن وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن فاطمة بنت قيس:"أنها استفتت النبي عليه السلام حين طلقها زوجها، فقال لها النبي عليه السلام: لا نفقة لك عنده ولا سكنى، وكان يأتيها أصحابه، فقال: اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه أعمى".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عاصم بن ثابت أن فاطمة بنت قيس أخبرته -وكانت عند رجل من بني مخزوم فأخبرته-: "أنه طلقها ثلاثًا، وخرج إلى بعض المغازي وأمر وكيلاً له أن يعطيها بعض النفقة، فاستقلتها، فانطلقت إلى إحدى نساء النبي عليه السلام، فدخل النبي عليه السلام وهي عندها، فقال: يا رسول الله هذه فاطمة بنت قيس، طلقها فلانٌ، فأرسل إليها ببعض النفقة فردتها، وزعم أنه شيء تطوَّل به، قال: صدق،

ص: 96

وقال النبي عليه السلام: انتقلي إلى أم شريك فاعتدي عندها، ثم قال: إن أم شريك يكثر روادها ولكن انتقلي إلى عبد الله بن أم مكتوم؛ فإنه أعمى، فانتقلت إلى عبد الله، فاعتدت عنده حتى انقضت عدتها".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن أي الجهم، قال:"دخلت أنا وأم سلمة على فاطمة بنت قيس، فحدثت أن زوجها طلقها طلاقًا بائنًا وأمر أبا حفص بن عمر أن يرسل إليها بنفقتها خمسة أوساق، فأتت النبي عليه السلام، فقالت: إن زوجي طلقني ولم يجعل لي السكنى ولا النفقة. فقال: صدق، فاعتدي في بيت ابن أم مكتوم. ثم قال: إن ابن أم مكتوم رجل يغشى، فاعتدي في بيت ابن فلان".

حدثنا فهد قال: حدثني محمد بن سعيد قال: أنا شريك، عن أبي بكر بن صُخَيْرة، قال:"دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس، وكان زوجها قد طلقها ثلاثًا، فقالت: أتيت النبي عليه السلام فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن فاطمة بنت قيس، عن رسول الله عليه السلام

نحوه.

ش: هذه ستة عشر طريقًا كلهم صحاح:

الأول: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هُشَيْم بن بشير بن مغيرة، عن مقسم الضَّبِّي الكوفي الفقيه الأعمى روى له الجماعة.

وحُصَين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السُّلَمي الكوفي روى له الجماعة.

وأشعث بن سوَّار الكندي الكوفي روى له مسلم متابعةً والأربعة.

وإسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي روى له الجماعة.

وداود بن أبي هند روى له الجماعة.

ص: 97

وسيَّار -بالياء آخر الحروف المشددة- أبو الحكم العنزي الواسطي روى له الجماعة.

ومُجَالد -بضم الميم والجيم- بن سعيد الكوفي، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف واهي الحديث. وقال النسائي: ثقة. وعنه: ليس بالقوي.

روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره.

سبعتهم عن عامر الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية الصحابية أخت الضحاك بن قيس.

وأخرجه مسلم (1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا هشيم، قال: أنا سيَّار وحُصين والمغيرة وأشعث ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد وداود كلهم، عن الشعبي قال:"دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله عليه السلام عليها، فقالت: طلقها زوجها البتة، قالت: فخاصمته إلى رسول الله عليه السلام في السكنى والنفقة، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت أم مكتوم".

قوله: "فقالت: طلقني زوجي البته". وفي رواية مسلم: "طلقها زوجها" قالوا: هذا هو الصحيح الذي جاءت به الرواية من الحفاظ، واسم زوجها أبو عمرو بن حفص على ما يأتي في الطريق الثاني.

وقوله: "البتة" وتفسرها رواية أخرى: "يا رسول الله، طلقني ثلاثًا".

قوله: "في بيت ابن أم مكتوم" واسمه عمرو بن قيس، وقيل: زياد بن الأحمر، وقيل: عبد الله، وهو مؤذن النبي عليه السلام، واسم أم مكتوم: عاتكة.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: أن المبانة ليس لها النفقة والسكنى، وفيه الخلاف على ما يأتي.

الثاني: أن المرأة غير واجب عليها أن تحتجب من الأعمى.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1114 رقم 1480).

ص: 98

فإن قيل: قد روى نبهان، عن أم سلمة قالت:"دخل عليَّ رسول الله عليه السلام، وأنا وميمونة جالستان، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: احتجبا منه. فقلنا: يا رسول الله، أليس بأعمى؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ "(1).

ففي هذا دليل على أنه واجب على المرء أن يحجب امرأته عن الأعمى، ويشهد له قوله تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (2).

قلت: نبهان مجهول، لم يرو عنه غير ابن شهاب، روى عنه حديثين، أحدهما هذا، والآخر حديث "المكاتب إذا كان معه ما يؤدي وجب الاحتجاب منه"(3).

وهذان الحديثان لا أصل لهما، وحديث فاطمة بنت قيس حديث صحيح الإسناد، والحجة به لازمة، وحديث نبهان لا تقوم به حجة.

وقال أبو داود بعد أن ذكر حديث نبهان عن أم سلمة: وهذا لأزواج النبي عليه السلام خاصة.

الثالث: فيه إشارة إلى جواز إخراج المعتدة من بيتها الذي طلقت فيه إذا آذت وفحشت على أهل الدار، قال الله تعالى:{وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (4) قال ابن عباس: هو النشوز وسوء الخلق.

وقيل: هو أن تأتي فاحشةً فتخرج لإقامة الحد.

(1) أخرجه أبو داود في "السنن"(2/ 462 رقم 4112)، والترمذي في "الجامع"(5/ 102 رقم 2778) وأحمد في "المسند"(6/ 296 رقم 26579).

(2)

سورة النور، آية:[31].

(3)

أخرجه بنحوه أبو داود في "السنن"(2/ 414 رقم 3928)، والترمذي في "الجامع"(؟؟؟؟)، والنسائي في "السنن الكبرى"(2/ 198 رقم 5030)، وابن ماجه في "السنن"(2/ 842 رقم 2520)، وأحمد في "المسند"(6/ 289 رقم 26516).

(4)

سورة الطلاق آية: [1].

ص: 99

وقيل: الفاحشة: بذاؤها على أهل زوجها.

الرابع: فيه جواز استفتاء المرأة وسماع المفتي كلامها.

الثاني: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه أبو داود (1): عن محمود بن خالد، عن الوليد، عن أبي عمرو -هو الأوزاعي- عن يحيى، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس إلى آخره نحوه.

قوله: "أن أبا عمرو بن حفص" هكذا قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة.

وكذا قال مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة.

وكذا الزهري، عن أبي سلمة.

وعن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سلمة.

وقال شيبان وأبان العطار، عن يحيى: أن أبا حفص بن عمرو، فقلَبَ، والمحفوظ ما قالت الجماعة. وذكر الدولابي، عن النسائي: أن اسم أبي عمرو هذا: أحمد.

وقال القاضي: الأشهر في اسمه: عبد الحميد.

وقيل: اسمه كنيته.

قوله: "فانطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه" إنما مشى خالد بن الوليد في هذا الأمر؛ لأن أبا عمرو بن حفص كان ابن عم خالد بن الوليد رضي الله عنهما.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 696 رقم 2286).

ص: 100

قوله: "إلى أم شريك" هي أم شريك بنت دودان العامرية ويقال: الأنصارية، ويقال: الدوسية، يقال: اسمها غزية، ويقال: غزيلة، ويقال: هي التي وهبت نفسها للنبي عليه السلام.

قوله: "إن أم شريك يأتيها المهاجرون" فيه دلالة على جواز زيارة الرجال للمرأة إذا أمنوا عليها. فإن قيل: كيف أجاز رسول الله عليه السلام لأم شريك أن تجتمع بالرجال؛ ولم يجز ذلك لفاطمة بنت قيس حتى قال لها: "فانتقلي إلى ابن أم مكتوم" مع أن كلاً منهما عورة؟

قلت: لأنه عليه السلام علم أن أم شريك من الستر والاحتجاب بحال ليست عليه فاطمة بنت قيس، ولعل فاطمة من شأنها أن تقعد فضلاً لا تحترز كاحتراز أم شريك، ويحتمل أن تكون فاطمة ليست من القواعد وأم شريك من القواعد فليس عليها جناح ما لم تتزين بزينة، فهذا كله فرق بين أم شريك وفاطمة، ولاختلاف الحالتين أمر فاطمة أن تصير إلى ابن أم مكتوم الأعمى حيث لا يراها هو ولا غيره من الرجال في بيته.

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا حسين بن محمد، قال: ثنا شيبان، عن يحيى -وهو ابن أبي كثير- قال: أخبرني أبو سلمة: "أن فاطمة بنت قيس -أخت الضحاك بن قيس- أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة. فانطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه في نفرٍ، فأتوا رسول الله عليه السلام في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص

(1)"صحيح مسلم"(2/ 114 رقم 1480).

ص: 101

طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله عليه السلام: ليست لها نفقة، وعليها العدة. وأرسل إليها: أن لا تسبقيني بنفسك. فأمرها أن تنتقل إلى أم شريك، ثم أرسل إليها: إن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانطلقي إلى ابن أم مكتوم؛ فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فانطلقت إليه، فلما مضت عدتها أنكحها رسول الله عليه السلام أسامة بن زيد بن حارثة".

الرابع: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن عمران بن أبي أنس المصري العامري، عن أبي سلمة عبد الله، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه مسلم: نا قتيبة بن سعيد، قال: نا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة قال: "سألت فاطمة بنت قيس

" إلى آخره نحوه سواء.

الخامس: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه البيهقي (1): من حديث الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة:"سألت فاطمة فأخبرتني أن زوجها المخزومي طلقها، فأبى أن ينفق عليها، فجاءت إلى رسول الله عليه السلام فأخبرته، فقال: لا نفقة لكِ، واذهبي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده؛ فإنه أعمى، تضعين ثيابك عنده".

السادس: عن روح بن الفرج القطان أيضًا، عن يحيى بن عبد الله بن بكر القرشي المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد المصري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، عن طلاق جده أبي عمرو، فاطمة بنت قيس

إلى آخره.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 471 رقم 15491).

ص: 102

وعبد الحميد هذا ذكره ابن حبان في الثقات. وجده هو أبو عمرو زوج فاطمة بنت قيس، وقد ذكرناه عن قريب.

قوله: "فاطمةَ بنت قيس" نصب؛ لأنه مفعول لمصدر المضاف إلى فاعله، أعني قوله:"عن طلاق جده".

قوله: "ووكل عياش بن أبي ربيعه" أي: وكّل أبو عمرو لما خرج إلى اليمن عياش بن أبي ربيعة عمرو القرشي المخزومي الصحابي.

قوله: "فسخطتها" أي: فسخطت فاطمة بعض النفقة الذي أرسله عياش، وتأنيث الضمير باعتبار النفقة؛ لأن المضاف يكتسب من المضاف إليه حكمه من التسخط وهو الكراهية للشيء وعدم الرضا به، وجاء سَخَطَ مثل سَقَمَ، وسُخْط مثل سُقْم.

قوله: "فسليه" أصله: اسأليه فخفف بحذف الهمزتين.

قوله: "إن بيتها يوطأ" من وطئ برجله على، كذا وأراد أن بيتها يدخله ناس كثير.

وقوله: "أقل واطئةً" أي أقل من حيث الأرجل الواطئة، ويجوز أن تكون الواطئة هنا مصدر مثل الكاذبة أي أقل وطئًا، وأراد به قلة دخول الناس فيه.

واعلم أن أبا القاسم البغوي روى في "معجمه" في ترجمة ابن أبي حفص: ثنا وهب بن بقية، أبنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن عبد الحميد، عن أبي عمرو وكانت تحته فاطمة بنت قيس فطلقها، فأتت النبي عليه السلام فقال:"لا نفقة لك" انتهى.

فهذا يدل ظاهرًا أن عبد الحميد روى هذا الحديث عن جدِّه أبي عمرو بن حفص المذكور.

وطريق الطحاوي المذكور ساكت عن هذا، وإنما فيه سؤال أبي الزبير عنه عبد الحميد وإخبار عبد الحميد إياه بالقضية فقط.

ص: 103

السابع: عن روح بن الفرج أيضًا، عن يحيى بن عبد الله بن بكير أيضًا، عن الليث بن سعد أيضًا، عن عبد الله بن يزيد القرشي المخزومي المدني المقرئ الأعور مولى الأسود بن سفيان روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس نفسها

إلى آخره.

إنما قال: "نفسها" بالتأكيد ليدل على أن أبا سلمة روى هذا الحديث عن فاطمة بدون واسطة بينهما، بخلاف الطريق الذي قبله؛ فإن عبد الحميد المذكور فيه لم يرو عن نفس فاطمة، وأخبر بالقضية لأبي الزبير المكي حين سأله.

قوله: "حرفًا بحرف" يعني: من غير اختلاف كلمة ولا تغيير لفظ من حديث الليث عن أبي الزبير المذكور في الطريق السابق.

الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب .... إلي آخره.

وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس:"أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله عليه السلام، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة. فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حللتِ فآذنيني، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا يهم خطباني. فقال رسول الله عليه السلام: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد. فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة. فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت".

التاسع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- ابن خالد

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1114 رقم 1480).

ص: 104

الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه الطبراني مختصرًا (1): ثنا محمد بن عبد الرحيم بن نمير المصري، ثنا سعيد بن نفير، نا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس:"أنها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها ثلاث تطليقات، فجاءت رسول عليه السلام، فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم".

وأخرجه مسلم (2): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا حجين قال: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة

إلي آخره نحوه.

العاشر: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه البيهقي (3): من حديث عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة، أن فاطمة بنت قيس -وهي أخت الضحاك بن قيس- أخبرته:"أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص، فطلقها ثلاثًا، فأمر وكيله لها بنفقة، فرغبت عنها، فقال: مالك علينا من نفقة. فجاءت رسول الله عليه السلام، فسألته عن ذلك، فقال لها: صدق. وجعلها إلى ابن أم مكتوم، فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل".

وأخرجه أبو داود (4): ثنا يزيد بن خالد الرملي، قال: ثنا الليث، عن عقيل،

(1)"المعجم الكبير"(24/ 366 رقم 910).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1114 رقم 1480).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 427 رقم 15494).

(4)

"سنن أبي داود"(1/ 697 رقم 2289).

ص: 105

عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته:"أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها ثلاث تطليقات، فزعمت أنها جاءت رسول الله عليه السلام، فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق حديث فاطمة في خروج المطلقة من بيتها قال عروة: وأنكرت عائشة على فاطمة بنت قيس".

قال أبو داود: وكذلك رواه صالح بن كيسان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري.

الحادي عشر: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة، عن فاطمة.

وأخرجه مسلم (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس

إلي آخره نحوه.

الثاني عشر: عن ربيع المؤذن صاحب الشافعي، وسليمان بن شعيب الكيساني، كلاهما عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن القرشي المدني خال ابن أبي ذئب، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن ابن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري المدني، كلاهما عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه الطبراني (2): نا حفص بن عمرو السدوسي، ثنا عاصم بن علي، نا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن ويزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي، وكان يرزقني طعامًا فيه سيء، وكنت امرأة ليس لي أحد؛

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1114 رقم 1480).

(2)

"معجم الطبراني الكبير"(24/ 368 رقم 914).

ص: 106

فقلت: والله لئن كانت لي نفقة فلأطلبنها، فأتيت النبي عليه السلام، فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه أعمى".

الثالث عشر: عن روح بن الفرج القطان، عن أحمد بن صالح المصري المعروف بابن الطبري الحافظ المبرز وشيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الرزاق بن همام -صاحب المصنف- عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الرحمن بن عاصم بن ثابت الحجازي، عن فاطمة بنت قيس.

وأخرجه النسائي (1): أنا عبد الحميد بن محمد، ثنا مخلد، قال: ثنا ابن جريج، عن عطاء، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عاصم: "أن فاطمة بنت قيس أخبرته -وكانت عند رجل من بني مخزوم- أنه طلقها ثلاثًا، وخرج عنها إلى بعض المغازي، وأمرَ وكيلَه أن يعطيها بعض النفقة، فتقالَّتها، فانطلقت إلى بعض نساء النبي عليه السلام، فدخل رسول الله عليه السلام وهي عندها، فقالت: يا رسول الله هذه فاطمة بنت قيس، طلقها فلان، فأرسل إليها ببعض النفقة، فردتها، وزعم أنه شيء تطوَّل به. قال: صدق. قال النبي عليه السلام: فانتقلي إلى أم كلثوم فاعتدي عندها. ثم قال: إن أم كلثوم امرأة يكثر عوادها، فانتقلي إلي عبد الله بن أم مكتوم فإنه أعمى. فانتقلت إلى عبد الله، فاعتدت عنده، حتى انقضت عدتها، ثم خطبها أبو الجهم ومعاوية بن أبي سفيان، فجاءت رسول الله عليه السلام تستأمره فيهما، فقال: أما أبو الجهم فرجل أخاف عليك قسقاسته العصا وأما معاوية فرجلٌ أملق من المال، فتزوجت أسامة بن زيد بعد ذلك".

قوله: "تطوَّل به" أي: تفضل به وتبرع من غير وجوب شيء عليه.

قوله: "قسقاسته" وقع في أصل الحافظ المنذري بخطه بالقافين والشينين المعجمتين.

وقال صاحب "النهاية" والهَرَوي: بالقافين والسينين المهملتين وهو الصواب، ومعناه: تحريكه العصا عند الضرب، يقال: قسقس الرجل في مَشْيه إذا أسرع.

(1)"المجتبى"(6/ 207 رقم 3545).

ص: 107

الرابع عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي بكر بن أبي الجهم، وهو أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم القرشي العدوي وقد ينسب إلى جده، واسم أبي الجهم صُخَيْر، ويقال: عبيد بن حذيفة بن غانم، وثقه يحيى، وابن حبان وروى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وأخرجه ابن ماجه (1) مختصرًا: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي الجهم صُخَيْر العدوي، قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: "إن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله عليه السلام سكنى ولا نفقة".

قوله: "رجل يُغشَى" بضم الياء آخر الحروف وسكون الغين وفتح الشين المعجمتين -أي يُقْرَب، وأراد أنه يأتي إليه ناس كثير، وهذه الرواية تخالف سائر الروايات، فإن في سائر الروايات المأمور لها بالسكنى للاعتداد عنده: ابن أم مكتوم، وعلله بأنه أعمى، وفي هذه الرواية المأمور لها عدم السكنى عنده، والانتقال إلى ابن فلان وهو مجهول، والله أعلم.

الخامس عشر: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي بكر بن أبي الجهم صُخَيْر

إلي آخره.

وأخرجه الطبراني (2): نا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، أنا شريك، عن أبي بكر بن صخير قال: "دخلت أنا وأبو سلمة

" إلي آخره نحوه سواء.

السادس عشر: عن فهد أيضًا، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار البصري، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله -بالتصغير- بن عبد الله -بالتكبير- بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة، عن فاطمة بنت قيس.

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 656 رقم 2035).

(2)

"معجم الطبراني الكبير"(24/ رقم 930).

ص: 108

وذكر أبو مسعود الدمشقي أن حديث عبيد الله هذا مرسل. والله أعلم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار فقلدوها، وقالوا: لا تجب النفقة ولا السكنى إلا لمن كانت عليها الرجعة.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وعمرو بن دينار وطاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشعبي وأحمد بن حنبل وإسحاق وإبراهيم -في رواية- وأهل الظاهر، فإنهم قلدوا هذه الأحاديث المذكورة، وقالوا: لا نفقة ولا سكنى إلا للمطلقة طلاقًا رجعيًا، والمبتاتة لا نفقة لها ولا سكنى.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل مطلقة فلها في عدتها السكنى حتى تنقضي عدتها، وسواء كان الطلاق بائنًا أو غير بائن، فأما إذا كان بائنًا فإنهم يختلفون في ذلك.

فقال بعضهم: لها النفقة أيضًا مع السكنى، حاملاً كانت أو غير حامل.

وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

وقال بعضهم: لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: حماد بن أبي سليمان وشريحًا القاضي وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح وعثمان وعبد الله بن الحسن وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي ومالكًا وأبا عبيد.

ولكنهم اختلفوا أيضًا، فقال حماد وشريح والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح: كل مطلقة لها السكنى والنفقة، حاملاً كانت أو غير حامل.

وهو معنى قوله: "فقال بعضهم: لها النفقة أيضًا مع السكنى

" إلي آخره، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو مذهب عمر بن الخطاب

ص: 109

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وقال عبد الرحمن بن مهدي ومالك والشافعي وأبو عبيد: المطلقة لها السكنى بكل حال، والنفقة إن كانت حاملاً.

وهو معنى قوله: "وقال بعضهم: لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً".

وعن عطاء وقتادة: المبتوتة إذا كانت حبل لها النفقة حتى تضع حملها.

وكذا عن عروة وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن.

وعن ربيعة: إذا قض لها بالنفقة لحملها ثم ظهر أنها غير حامل ردت ما أخذت من النفقة.

ص: واحتجوا في دفع حديث فاطمة بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق قال: "كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فذكروا المطلقة ثلاثًا، فقال الشعبي: حدثتني فاطمة بنت قيس أن رسول الله عليه السلام قال لها: لا سكنى لك ولا نفقة. قال: فرماه الأسود بحصاةٍ، فقال: ويلك، أتحدث بمثل هذا؟! قد رُفِعَ ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا عليه السلام بقول امرأةٍ لا ندري لعلها كذبت، قال الله تعالى: {تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا

} (1) الآية".

ش: أي احتج الذين قالوا: المطلقة -أي مطلقة كانت- لها النفقة والسكنى في دفع حديث فاطمة بنت قيس بحديث الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي الزبيري الكوفي، قال

(1) سورة الطلاق، آية:[1].

ص: 110

العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو زرعة وابن خراش: صدوق، روى له الجماعة، عن عمار بن رزيق -بتقديم الراء على الزاي المعجمة- الضبي التميمي أبي الأحوص الكوفي، قال يحيى وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم والنسائي: لا بأس به. روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن الأسود بن يزيد روى له الجماعة.

والشعبي اسمه عامر بن شراحيل.

وأخرجه مسلم (1): نا محمد بن عمرو بن جبلة، قال: نا أبو أحمد، قال: نا عمار بن رُزيق، عن أبي إسحاق قال:"كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله عليه السلام لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك، تحدث بمثل هذا؟! قال عمر: لا نترك كتاب الله تعالى وسنة نبينا عليه السلام لقول امرأة لا ندري حَفِظَتْ أم نَسِيَتْ، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. (2) ".

وأخرجه أبو داود (3): نا نصر بن علي، قال: أنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق قال:"كنت في المسجد الجامع مع الأسود، فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأةٍ لا ندري أحفظت أم لا؟ ".

وأخرجه النسائي (4): أنا أبو بكر بن إسحاق، نا أبو الجواب الأحوص بن جواب، نا عمار -هو ابن رزيق- عن الشعبي، عن فاطمة بن قيس

فذكر

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1114 رقم 1480).

(2)

سورة الطلاق، آية:[1].

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 698 رقم 2291).

(4)

"سنن أبي داود"(6/ 902 رقم 3549).

ص: 111

الحديث: "فحصبه الأسود، وقال: ويلك، لِمَ تفتي بمثل هذا؟! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لها: إن جئت بشاهدين يَشْهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) " انتهى.

وهذا صريح إنكار من عمر بن الخطاب بحضرة من أصحاب رسول عليه السلام فلم ينكر ذلك عليه مُنْكِر؛ فدل ذلك أن مذهبهم في ذلك كمذهبه، وكذلك أنكره من الصحابة أسامة بن زيد، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وكذا أنكره من التابعين سعيد بن المسيب والأسود بن عبد الرحمن وغيرهم -على ما يجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى.

فقد ظهر من هؤلاء السلف النكير على فاطمة في روايتها لهذا الحديث، ومعلوم أنهم كانوا لا ينكرون روايات الأفراد بالنظر والقياس، فلولا أنهم قد علموا خلافه من سنة النبي عليه السلام ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها، وقد استفاض خبر فاطمة في الصحابة، فلم يعمل به أحدٌ منهم إلا شيئًا روي عن ابن عباس؛ رواه الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن ابن عباس:"أنه كان يقول في المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها: لا نفقة لهما وتعتدان حيث شاءتا"(1).

فإن قيل: قال البيهقي (2): روى هذا الحديث يحيى بن آدم عن عمار بن رزيق، ولم يقل فيه:"وسنة نبينا" ثم حكى عن الدارقطني أن يحيى بن آدم أحفظ من الزبيري وأثبت منه، ثم قال: قال الشافعي رحمه الله: ما نعلم في كتاب الله ذكر نفقة، إنما في كتاب الله ذكر السكنى.

قلت: لا معارضة بين رواية يحيى بن آدم وبين رواية الزبيري حتى يرجح يحيى عليه؛ لأن الزبيري ما خالفه بل وافقه وزاد عليه قوله: "وسنة نبينا" وهو إمام

(1) يأتي إن شاء الله.

(2)

"سنن البيهقي"(7/ 475).

ص: 112

حافظ، قال محمد بن بشار: ما رأيت رجلاً أحفظ من الزبيري. فهذه زيادة مِنْ ثقة فوجب أن تقبل.

وقال مسلم (1) عقيب حديث الزبيري: ثنا أحمد بن عبدة، ثنا أبو داود، ثنا سليمان بن معاذ، عن أبي إسحاق بهذا الإِسناد نحو حديث أبي أحمد عن عمار بن رزيق بقصته.

فهذا شاهد لحديث الزبيري.

وأيضًا فالحديث رواه أشعث، عن الحكم، وحماد عن إبراهيم عن الأسود، عن عمر نحوه.

فرواية أشعث هذا تشهد له أيضًا وهو يصلح للمتابعة؛ لأن العجلي وثقه، ووثقه ابن معين في رواية، وروى له مسلم في المتابعات. وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه".

وتشهد له أيضًا ثلاثة أوجه: وجهان أخرجهما ابن أبي شيبة (2): ثنا وكيع، نا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: قال عمر رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة رسوله لقولة امرأة". وقال أيضًا (3): ثنا جرير، عن مغيرة: ذكرت لإبراهيم حديث فاطمة، فقال: قال عمر رضي الله عنه "لا ندع كتاب ربنا وسنة رسوله لقول امرأة، لا ندري حفظت أو نسيت، وكان عمر رضي الله عنه يجعل لها السكنى والنفقة".

والوجه الثالث: أخرجه عبد الرازق في "مصنفه"(4): عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا، فجئت إلى

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1114 رقم 1480).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 137 رقم 18663).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 136 رقم 18659).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(7/ 24 رقم 12027).

ص: 113

النبي عليه السلام فسألته، فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا، لها النفقة والسكنى. قال فذكرت ذلك لإبراهيم".

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1): أنا أبو خليفة، نا محمد بن كثير العبدي، أنا الثوري

فذكره.

وإذا ثبت هذه الزيادة وهي قوله: "وسنة نبينا". وهي حديث مرفوع عندهم فالظاهر إنما أراد بسنة نبينا: النفقة، وأراد بالكتاب: السكنى، وأما نقله عن الشافعي:"ما نعلم في كتاب الله ذكر نفقة" غير مسلَّم؛ لأن قوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (2) إيجاب للنفقة؛ لأنها إذا حبست لحقه ولم ينفق عليها فقد ضارَّها وضيق عليها.

فإن قيل: المراد إيجاب السكنى؛ إذ التضييق إنما هو في المكان.

قلت: هذا حمل الكلام على التكرار إذ السكنى مذكورة أولاً بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (2). وفيما قلنا إثبات فائدة أخرى؛ ولأن منع النفقة تضييق، ومنع السكنى ليس بتضييق؛ إذ الواجب أن تقيم في مكان واحد، فإذا منعها منه تقيم حيث شاءت وذلك توسعة. ذكره القدوري في "التجريد"، وقد تكلم ابن حزم ها هنا كلامًا ساقطًا ليس فيه شيء حتى يجاب عنه.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن الشعبي، عن فاطمة، عن النبي عليه السلام:"أنه لم يجعل لها حين طلقها زوجها سكنى ولا نفقة. فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: قد رفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا عليه السلام لقول امرأة، لها السكنى والنفقة".

(1)"صحيح ابن حبان"(10/ 63 رقم 4250).

(2)

سورة الطلاق، آية:[6].

ص: 114

ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق.

ومحمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود، وسفيان هو الثوري، وسلمة بن كهيل الكوفي، والشعبي هو عامر بن شراحيل.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثوري، نحوه.

وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه"(2) عن أبي خليفة، عن محمد بن كثير، عن الثوري

إلي آخره نحوه.

فإن قيل: قد قال ابن حزم: هذا مرسل؛ لأن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر بسنتين.

قلت: مراسيل النخعي صحيحة إلا حديثين كذا قال ابن معين، وليس هذا الحديث منهما.

وقال صاحب "التمهيد": مراسيل النخعي صحيحة، ثم ذكر بسنده عن الأعمش. قلت للنخعي:"إذا حدثتني حديثًا فأسنده، فقال: إذا قلت: عن عبد الله فاعلم أنه عن غير واحد، وإذا سميت لك أحدًا فهو الذي سميت".

قال أبو عمر: في هذا ما يدل على أن مراسيله أقوى من مسانيده، وقال في موضع آخر: مراسيله عن ابن مسعود وعمر رضي الله عنه صحاح كلها، وأما ما أرسل منهما أقوى من الذي أسند. حكاه يحيى القطان وغيره (3).

(1)"مصنف عبد الرزاق"(7/ 24 رقم 12027) وقد تقدم قريبًا.

(2)

"صحيح ابن حبان"(10/ 63 رقم 4250) وقد تقدم.

(3)

في هذا نظر؛ لأن قول إبراهيم "فهو عن غير واحد" قد يكونا اثنين وقد تكون فيهما جهالة أو ضعف. وقال البخاري في "القراءة خلف الإِمام" بعد حديث إبراهيم عن عبد الله: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فمه نتنًا" قال: هذا مرسل لا يحتج به. ونقل العلامة مغلطاي في شرحه لسنن ابن ماجه "الإعلام"(4/ ق101 - أ) عن الشافعي قال: لم يقبل منه؛ لأنه لم =

ص: 115

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عمر وعبد الله أنهما كانا يقولان:"المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة".

وكان الشعبي يذكر عن فاطمة بنت قيس عن النبي عليه السلام: "أنه ليس لها نفقة ولا سكنى".

ش: هذا مرسل صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا.

والأعمش هو سليمان.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم، عن عمر وعبد الله رضي الله عنهما قالا:"لها السكنى والنفقة".

ص: حدثنا نصر بن مرزوق وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس:"أن زوجها طلقها ثلاثًا، فأتت النبي عليه السلام فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، قال: فأخبرت بذلك النخعي فقال: قال عمر رضي الله عنه وأخبر بذلك فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول رسول الله عليه السلام لقول امرأة لعلها وهمتْ؛ سمِعتُ رسول الله عليه السلام يقول: لها السكنى والنفقة".

ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات قد تكرر ذكرهم.

وحماد الثاني هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة رضي الله عنه.

وأخرجه ابن حزم (2) من حديث حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، فقال إبراهيم: إن

= يلق واحدًا منهما. وحسم ذلك كله الحافظ الناقد الإِمام الذهبي في "الميزان"(1/ 75) فقال: استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 136 رقم 18654).

(2)

"المحلى"(10/ 297).

ص: 116

عمر رضي الله عنه أُخْبِر بقولها، فقال:"لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول رسول الله عليه السلام لقول امرأة لعلها أوهمت، سمعت النبي عليه السلام يقول: لها السكنى والنفقة".

وأخرجه القاضي إسماعيل: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الشعبي:"أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها بائنًا، فقال رسول الله عليه السلام: لا نفقة لك ولا سكنى. قال: فأخبرت بذلك النخعي فقال: إن عمر رضي الله عنه أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آيةً من كتاب الله وقول رسول الله عليه السلام لقول امرأة لعلها أوهمت، سمعتُ رسول الله عليه السلام يقول: لها السكنى والنفقة". انتهى.

وقضية يكون مثل عمر بن الخطاب يقول فيها: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لها السكنى والنفقة"، لا يجوز ترك قوله لقول امرأة من آحاد الصحابيات يخالف قول عمر بن الخطاب مع موافقة مثل عبد الله بن مسعود إياه فيما قاله، ولو لم يكن لابن مسعود أيضًا علم من رسول الله عليه السلام يوافق ما رواه عمر لما وافقه ولما ذهب إلى مذهبه؛ لأن هذا الباب لا مجال للرأي فيه. وألله أعلم.

ص: حدثنا نصر، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود:"أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود قالا في المطلقة ثلاثًا: "لها السكنى والنفقة".

قالوا: فهذا عمر رضي الله عنه قد أنكر حديث فاطمة هذا ولم يقبله.

ش: إسناده صحيح.

والخصيب هو ابن ناصح الحارثي، وأبو عوانة: الوضاح اليشكري، والأعمش هو سليمان.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن حفص بن غياث ومحمد بن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر:"المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 136 رقم 18653).

ص: 117

قوله: "قالوا" أي الذين ذهبوا إلى أن المطلقة -أي مطلقة كانت- لها السكنى والنفقة.

ص: وقد أنكره أيضًا عليها أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن قال:"كانت فاطمة بنت قيس تحدث عن رسول الله عليه السلام أنه قال لها: اعتدي في بيت ابن أم مكتوم".

وكان محمد بن أسامة بن زيد قد أنكر من ذلك، يقول:"كان أسامة إذا ذكرت فاطمة رضي الله عنهما من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده".

فهذا أسامة بن زيد قد أنكر من ذلك أيضًا ما أنكره عمر بن الخطاب.

ش: أي وقد أنكر الحديث المذكور أيضًا على فاطمة أسامة بن زيد بن حارثة؛ وذلك لأنه كان إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده، فلو لم يكن عنده علم من النبي عليه السلام يخالف ما ذكرته فاطمة لما كان ينكر عليها، ولا رماها بما كان في يده حين تذكر من ذلك شيئًا.

وأخرج ما روي عن أسامة بإسناد صحيح.

عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، وثقه الخطيب وابن حبان.

عن شعيب بن الليث، روى له مسلم وأبو داود والنسائي.

عن الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له المجاعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، روى له الجماعة

إلى آخره.

ومحمد بن أسامة بن زيد بن حارثة الضبي المدني، وثقه ابن سعد وابن حبان، وروى له الترمذي.

ص: 118

وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): ثنا حُمام بن أحمد، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا مطلب، نا أبو صالح -هو عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد- نا جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال:"كان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة عن ذلك [شيئًا] (2) من ذلك -يعني عن انتقالها في عدتها- رماها بما في يده". ثم قال ابن حزم: وهذا ساقط؛ لأن روايه عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف جدًّا.

قلت: لا نسلِّم ذلك؛ لأن يحيى بن معين كان يوثقه، وروى عنه البخاري في الصحيح على الصحيح ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله. وقال أبو زرعة: لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب وكان حسن الحديث، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

ولئن سلَّمنا ما قاله فهذا شعيب بن الليث في طريق الطحاوي تابعه في ذلك. والله أعلم.

ص: وقد أنكرت ذلك أيضًا عائشة رضي الله عنها: حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد وسليمان بن يسار تذاكرا، أن يحيى بن سعيد بن العاص طلَّق ابنة عبد الرحمن بن الحكم فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة إلى مروان وهو أمير المدينة: أن اتق الله واردد المرأة إلى بيتها، فقال مروان -في حديث سليمان-: إن عبد الرحمن غلبني، وقال -في حديث القاسم-: أما بلغك حديث فاطمة بنت قيس؟ فقالت عائشة: لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة بنت قيس: فقال مروان: إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر".

(1)"المحلى"(10/ 294 - 295).

(2)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "المحلى".

ص: 119

ش: أي وقد أنكرت حديث فاطمة بنت قيس عائشة أيضًا كما أنكره عمر وأسامه رضي الله عنهم.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة روى له الجماعة

إلى آخره.

وأخرجه رزين في كتابه من حديث القاسم بن محمد وسليمان بن يسار: "أن يحيى بن سعيد [بن] (1) العاص طلق امرأته ابنة عبد الرحمن بن الحكم ثلاثاً، فانتقلها أبوها، فأرسلت عائشة إلى أخيه مروان -وكان واليًا على المدينة- تقول له: اتق الله وارددها إلى بيتها تعتد فيه؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2). قال مروان للرسول: قل لها: يقول لكِ: إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني -أو قال: إن أباها قد غلبني- وقال: أَوَمَا بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟! فقالت عائشة رضي الله عنهما: لا يضرك ألا تذكر حديثها، فبلغ ذلك مروان فقال: إن كان بك شر فحسب ما بين هذين من الشر، أما لفاطمة ألا تتقي الله في قولها: لا سكنى ولا نفقة؟ ".

قوله: "إن يحيى بن سعيد بن العاص" هو يحيى بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميَّة القرشي الأموي أبو أيوب -ويقال: أبو الحارث- المدني أخو عمرو بن سعيد الأشدق ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة.

قوله: "ابنة عبد الرحمن بن الحكم" هو أخو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، كما جاء في رواية رزين:"فأرسلت عائشة إلى أخيه مروان وكان واليًا على المدينة" وكان عبد الرحمن بن الحكم شاعرًا مجيدًا.

(1) ليست في "الأصل".

(2)

سورة الطلاق، آية:[1].

ص: 120

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن يحيى بن سعيد

فذكر بإسناده مثله.

ش: أخرجه مالك في "موطإه"(1): عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار أنه سمعهما يذكران:"أن يحيى بن سعيد بن العاص طلَّق بنت عبد الرحمن بن الحكم البتة، فانتقلها عبد الرحمن بن الحكم، فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان بن الحكم -وهو يومئذٍ أمير المدينة- فقالت: اتق الله واردد المرأة إلى بيتها، فقال مروان -في حديث سليمان-: إن عبد الرحمن غلبني، وقال مروان -في حديث القاسم-: أو ما بلغكِ شأن فاطمة بنت قيس؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان: إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر".

وأخرجه أبو داود (2) عن القعنبي، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وأخرجه البخاري (3) ومسلم (4) عنه مختصرًا.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "ما لفاطمة من خير حين تذكر هذا الحديث -تعني قولها: لا نفقة ولا سكنى".

فهذه عائشة رضي الله عنها أيضًا لم تر العمل بحديث فاطمة أيضًا.

ش: إسناده صحيح.

وأخرجه البخاري (5): [ثنا محمد بن بشار](6)، نا غندر، ثنا شعبة، عن

(1)"موطأ مالك"(2/ 579 رقم 1206).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 699 رقم 2295).

(3)

"صحيح البخاري"(5/ 2039 رقم 5015).

(4)

"صحيح مسلم"(2/ 1120 رقم 1481).

(5)

"صحيح البخاري"(5/ 2039 رقم 5016).

(6)

ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح البخاري".

ص: 121

عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت:"ما لفاطمة، ألا تتقي الله -تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة".

قوله: "فهذه عائشة

" إلى آخره أراد أن عائشة رضي الله عنها أيضًا لم تر العمل بحديث فاطمة بنت قيس؛ لأن قولها هذا على سبيل الإنكار عليها كما كان عمر وأسامة رضي الله عنها لم يريا العمل به.

وقال القاضي إسماعيل: وإذا كان هذا الإنكار كله وقع في حديث فاطمة بنت قيس، فكيف يجعل أصلاً؟!

ص: وقد صرف ذلك سعيد بن المسيب إلى خلاف المعنى الذي صرفه إليه أهل المقالة الأولى:

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال:"قلت لسعيد بن المسيب: أين تعتد المطلقة ثلاثًا؟ فقال: في بيتها، فقلت له: أليس قد أمر رسول الله عليه السلام فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، فقال: تلك امرأة أفتنت الناس واستطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها رسول الله عليه السلام أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وكان رجلاً مكفوف البصر".

فكان ما روت فاطمة بنت قيس عن رسول الله عليه السلام من قولها: "لا سكنى لك ولانفقة" لا دليل فيه عند سعيد بن المسيب أن لا نفقة للمطلقة ثلاثًا ولا سكنى؛ إذ كان قد صرف ذلك إلى المعنى الذي ذكرناه عنه.

ش: أي قد صرف معنى حديث فاطمة بنت قيس سعيدُ بن المسيب إلى خلاف المعنى الذي صرفه إليه أهل المقالة الأولى الذين قالوا: لا نفقة ولا سكنى للمطلقة ثلاثًا. حاصل ذلك: أن سعيد بن المسيب أيضًا لم يعمل بحديث فاطمة، ألا ترى أنه قال: تعتد في بيتها حين سأله ميمون بن مهران الجزري؟

ص: 122

أخرجه عن أبي بشر: عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير روى له الجماعة، عن عمرو بن ميمون أبي عبد الرحمن الرقي روى له الجماعة، عن أبيه ميمون بن مهران أبي أيوب الجزري وثقه النسائي، وقال أحمد: أوثق من عكرمة. وروى له الأربعة.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا جعفر بن برقان، قال: ثنا ميمون بن مهران قال: "قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب، فقلت: لفاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، قال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس؛ لأنها كانت لَسِنَة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى".

قوله: "أفتنت الناس" وفي رواية أبي داود: "فتنت" بدون الهمزة، وكلاهما لغة، والأكثر بدون الهمزة.

قوله: "على أحمائها" جمع "حم" وهم أقارب الزوج، وأصله حمو، وفي الحديث:"ألا حموها الموت" وفي رواية "ألا إن الحمو الموت" كذا بضم الميم وسكون الواو، وهذا كما قال: الأسد: الموت، أي في لقائه الموت، أو لقاؤه مثل الموت لما فيه من الغرر المؤدي إلى الموت، وكذلك الخلوة بالحمو وقيل: معناه: فليمت ولا يفعله، وقيل: لعله إنما قال: "الحمو الموت" لما فيه من أحرف الموت؛ فإن فيه الحاء والميم، وهما من الحِمَام الذي هو الموت، وهو ضعيف، والآخال: أقارب المرأة، والصهر تجمع الأصهار والأختان.

قوله: "فكان مما روت فاطمة

" بلى آخره تفسير لقوله: "وقد صرف ذلك سعيد بن المسيب

" إلى آخره.

وقوله: "لا دليل فيه" خبر كان.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 699 رقم 2296).

ص: 123

قوله: "إذا كان قد صرف" أي حين كان سعيد بن المسيب صرف ذلك أي معنى حديث فاطمة إلى المعنى الذي ذكرناه عنه، وهو قوله:"تلك امرأة أفتنت الناس" وإنما قال: هذا حين عارضه ميمون بن مهران بحديث فاطمة بنت قيس حين قال له سعيد بن المسيب: "تعتد في بيتها" وأراد أن السبب في أمر رسول الله عليه السلام فاطمة بالانتقال إلى بيت ابن أم مكتوم إنما كان لكونها قد استطالت بلسانها على أحمائها، فأمرها بالانتقال؛ فأمرها بالنقلة لأنها كانت لَسِنة أي طويلة اللسان، وقال الله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1). وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تأويله: أن تستطيل على أهلها فيخرجوها، ولما كان سبب النقلة من جهتها؛ كانت بمنزله الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعًا، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى.

فإن قيل: ليست النفقة كالسكنى، لأن السكنى حق الله تعالى لا يجوز تراضيهما على إسقاطها، والنفقة حق لها ولو رضيت بإسقاطها لسقطت.

قلت: لا فرق بينهما من الوجه الذي وجب قياسًا عليها، وذلك أن السكنى فيها معنيان:

أحدهما: حق الله تعالى؛ وهو كونها في بيت الزوج.

والآخر: حق لها وهو ما يلزم في المال من أجرة البيت إن لم يكن له، ولو رضيت بأن تعطي هي الأجرة من مالها وتسقطها عن الزوج جاز فمن حيث نفي حق في المال قد استويا.

فإن قيل: قال ابن حزم: هذا مرسل، لا ندري مَنْ أخبر سعيد بن المسيب فهو ساقط.

قلت: اعتراض ابن حزم ساقط؛ لأن مراسيل سعيد بن المسيب كلها صحاح ومراسيله مسانيد، وقال شمس الأئمة: والحسن وسعيد بن المسيب وغيرها من أئمة

(1) سورة الطلاق، آية:[1].

ص: 124

التابعين كان كثيرًا ما يروون مرسلاً، حتى قال: أكثر ما رواه سعيد بن المسيب مرسلاً إنما سمعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ولهذا قال عيسى بن أبان: المرسل أقوى من المسند؛ لأن من اشتهر عنده حديث فإن سمعه بطرق طوى الإسناد؛ لوضوح الطريق عنده وقطع الشهادة بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سمعه بطريق واحد لا يتضح الأمر عنده على وجه لا يبقى له فيه شبهة، فيذكره مسندًا على قصد أن يحمله ما تحمل عنه.

وقال الشافعي: لا أقبل من المراسيل إلا مراسيل سعيد بن المسيب فإني تتبعتها ووجدتها مسانيد.

فإن قيل: فعلى ما ذكرت ينبغي أن يجوز النسخ بالمراسيل كما يجوز من الإخبار بالمشهور عندكم.

قلت: إنما لم نجوِّز ذلك؛ لأن قوة المرسل من هذا الوجه بنوع من الاجتهاد، فيكون نظير قوة ما ثبت بطريق القياس، والنسخ بمثله لا يجوز.

ص: وقد حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن فاطمة بنت قيس أخبرته، أن رسول الله عليه السلام قال:"اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث به من خروجها قبل أن تحل".

فهذا أبو سلمة يخبر أيضًا أن الناس قد أنكروا ذلك على فاطمة، وفيهم أصحاب رسول الله عليه السلام ومن لحق بها من التابعين؛ فقد أنكر عمر وأسامة وسعيد بن المسيب مع من سمَّينا معهم حديث فاطمة بنت قيس هذا، ولم يعملوا به، وذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام فلم ينكر ذلك عليه منكِرٌ، فدلَّ تركهم النكير في ذلك عليه؛ أن مذهبهم فيه كمذهبه.

ص: 125

ش: أشار بهذا إلى أن أبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني الذي هو أيضًا من كبار التابعين، قد أخبر إنكار الناس على فاطمة ما قالت، وقولها ذلك، والحال أن فيهم جماعة من الصحابة والتابعين.

أخرجه عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة.

وأخرجه البيهقي (1) من حديث الليث، عن عقيل

إلى آخره نحوه.

وقد ذكرنا فيما مضى قوله: "فقد أنكر عمر وأسامة وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم

" إلى آخره. يعني إذا كان الأمر كذلك فقد أنكر مثل عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد من الصحابة ومثل سعيد بن المسيب من التابعين حديث فاطمة بنت قيس المذكور ولم يعملوا به.

والحال أن إنكار عمر رضي الله عنه كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليه أحد منهم ذلك، فدلَّ ذلك أن مذهبهم في هذا الحكم كمذهب عمر رضي الله عنه؛ فصار كالإجماع بينهم على ذلك.

ص: فقال الذين ذهبوا إلى حديث فاطمة وعملوا به: إن عمر رضي الله عنه إنما أنكر ذلك عليها؛ لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قول الله عز وجل:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (2)؛ فهذا إنما هو في المطلقة طلاقًا لزوجها عليها فيه الرجعة، وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت: إن رسول الله عليه السلام قال لها: "إن النفقة والسكنى لمن كانت عليه الرجعه" فما ذكر الله عز وجل في كتابه من ذلك إنما هو في المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة، وفاطمة فلم تكن عليها رجعة، فما روي من

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 432 رقم 15265).

(2)

سورة الطلاق، آية:[6].

ص: 126

ذلك فلا يدفعه كتاب الله عز وجل ولا سنة نبيه عليه السلام، وقد تابعها على ذلك منهم عبد الله بن عباس والحسن.

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس (ح).

وحدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن:"أنهما كانا يقولان في المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها: لا نفقة لهما، وتعتدان حيث شاءتا".

قالوا: وإن كان عمر وعائشة وأسامة قد أنكروا على فاطمة ما روت عن النبي عليه السلام وقالوا بخلافه؛ فهذا ابن عباس قد وافقها على ما روت في ذلك، فعمل به، وتابعه على ذلك الحسن رحمه الله.

ش: هذا إيراد ومعارضة بالمثل:

بيان الأول: أن إنكار عمر رضي الله عنه على فاطمة، لكونها خالفت عنده كتاب الله وهو قوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) فهذا في حق المطلقة الرجعية، وفاطمة لم تكن كذلك، إنما كانت مبانة، فلا يدفع كتاب الله ما روته في ذلك ولا سنة النبي عليه السلام.

وبيان الثاني: أن يقال: إنكم إذا ادعيتم مخالفة عمر وعائشة وأسامة رضي الله عنهم لفاطمة بنت قيس، فيما روته عن النبي عليه السلام وعملهم بخلافه، فنحن أيضًا ندعي موافقة عبد الله بن عباس والحسن البصري إياها فيما روته عن النبي عليه السلام وعملهما به، وهو معنى قوله: "قالوا: وإن كان عمر

" إلى آخره.

وأخرج ذلك عن ابن عباس، من طريق صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن الحجاج بن أرطاة النخعي، فيه مقال؛ فقال الدارقطني: لا يحتج به.

(1) سورة الطلاق، آية:[6].

ص: 127

عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.

وأخرج عن الحسن من طريق عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور أيضًا، عن هشيم بن بشير أيضًا، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، روى له الجماعة، عن الحسن البصري.

وأخرجهما البيهقي في "سننه"(1).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة والحسن، قال: سمعتهما يقولان في المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها: "ليس لهما سكنى ولا نفقة".

ص: فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة أن ما أخذ به عمر رضي الله عنه في دفع حديث فاطمة حجة صحيحة؛ وذلك أن الله عز وجل؛ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) ثم قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3). وأجمعوا أن ذلك الأمر هو المراجعة، ثم قال:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (4)، ثم قال:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (3)، يريد في العدة، فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة على ما أمره الله عز وجل ثم راجعها ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه ووجبت عليها العدة التي جعل الله عز وجل لها فيها السكنى وأمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله عز وجل دين هذه المطلقة للسنة التي لا رجعة عليها وبين المطلقة للسنة التي عليها الرجعة، فلما جاءت فاطمة بنت قيس فروت عن النبي عليه السلام أنه قال لها: "إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة؛ خالفت بذلك كتاب الله عز وجل نصًّا؛ لأن كتاب الله تعالى قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة رسول الله عليه السلام؛ لأن عمر رضي الله عنه

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 425 رقم 15283).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 137 رقم 18669).

(3)

سورة الطلاق، آية:[1].

(4)

سورة الطلاق، آية:[6].

ص: 128

قد روى عن رسول الله عليه السلام خلاف ما روت فخرج المعنى الذي منه أنكر عليها عمر ما أنكر؛ خروجًا صحيحًا؛ وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً لما ذكرنا وبيَّنا.

ش: هذا جواب عن الإيراد والمعارضة المذكورين، تقريره: أن الله تعالى قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) بعد قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1)، وأجمعوا أن المراد من ذلك الأمر هو المراجعة، والمعنى أنه يحدث له ندم فلا ينفعه؛ لأنه قد طلق ثلاثًا، وفي غير الثلاث يبدو له فيراجعها، ثم قال:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (1) وهو يشتمل البائن والرجعي؛ لأن قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) قد تضمن البائن، ثم قال:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (2) وجب ذلك للجميع من البائن والرجعي، ثم قال:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (2) فيه نهي للزوج عن إخراجها، ونهي لها عن الخروج، وفيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة؛ لأن بيوتهن التي نهى الله عن إخراجهن منها هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق، فأمر بتبقيتها في بيتها ونسبها إليها بالسكنى كما قال:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وإنما كانت البيوت للنبي عليه السلام، ولهذه الآية قال أصحابنا: لا يجوز له أن يسافر بها حتى يشُهد على رجعتها، ومنعوها من السفر في العدة، ثم إن الله تعالى لم يفرق في ذلك بين المطلقة التي لا رجعة عليها وبين المطلقة التي عليها الرجعة، وقد تضمنت الآية الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من ثلاثة أوجه:

أحدها: السكنى لما كانت حقًّا في مال قد أوجبها الله بنص الكتاب، إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذ كانت السكنى حقًّا في مال وهي بعض النفقة.

(1) سورة الطلاق، آية:[6].

(2)

سورة الأحزاب، آية:[33].

ص: 129

والثاني: قوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} (1) والمضارة تقع في النفقة كهي في السكنى.

والثالث: قوله: {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (1) والتضييق قد يكون في النفقة أيضًا، فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها، فإذا كان الأمر كذلك، فقد جاءت فاطمة بنت قيس فروت عن النبي عليه السلام أنه قال لها:"إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة، فقد خالفت بذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قلنا: إنه جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وأما السنة فلأن عمر رضي الله عنه قد روى عن النبي عليه السلام خلاف ما روت هي، حيث قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لها السكنى والنفقة" أي للمبتوتة، وقد مرَّ ذكره فيما مضى، وكذلك روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: "المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة".

رواه الدارقطني من حديث حرب بن أبي العالية، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام، وحرب بن أبي العالية حديثه في صحيح مسلم.

وأخرج له أيضًا الحاكم في "مستدركه" ويكفيه توثيقًا رواية مسلم له، فإذا ثبت هذا؛ ظهر أن ما أنكر عليها عمر رضي الله عنه هو إنكار صحيح وبطل بذلك حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً، ولا يعمل به إلا مَنْ خالف الكتاب والسنة، والله أعلم.

ص: فقال قائل: لم يجيء تخليط حديث فاطمة إلا مما رواه الشعبي عنها، وذلك أنه هو الذي روى عنها:"أن رسول الله عليه السلام لم يجعل لها السكنى ولا النفقة".

قال: وليس ذلك في حديث أصحابنا الحجازيين، فأغفل في ذلك أو ذهل عنه؛ لأنه لم يرو ما في هذا الباب بكماله كما رواه غيره، فتوهم هو أنه جمع كل ما روي في هذا الباب فتكلم على ذلك فقال: ما حكينا عنه مما وصفنا، وليس كما توهم؛ لأن الشعبي أضبط مما يظن وأوثق وأتقن، وقد وافقه على ما روى من قد ذكرنا في أول هذا الباب ما يغنينا ذلك عن إعادته في هذا الموضع، ويقال: إن حديث مالك عن عبد الله بن يزيد الذي لم يذكر فيه "لا سكنى لك" قد رواه الليث بن سعد، عن

ص: 130

عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة، عن فاطمة، بمثل ما رواه الشعبي عنها، فما جاء عن الشعبي في هذا تخليط، وإنما جاء التخليط ممن روى عن أبي سلمة عن فاطمة فحذف بعض ما فيه وجاء ببعض، فأما أصل الحديث فكما رواه الشعبيي رحمه الله.

ش: أراد بهذا القائل الشافعي: فإن عنده المبتوتة لها السكنى وليست لها النفقة إلا إذا كانت حاملاً، فلأجل هذا قال: لم يجئ تخليط حديث فاطمة بنت قيس من رواية الشعبي؛ انما قال كذلك لأن رواية الشعبي عن فاطمة تخبر بأن المبتوتة ليس لها السكنى ولا النفقة فهي في الظاهر حجة عليه لكونه يرى لها السكنى دون النفقة، ويرى لها النفقة أيضًا إذا كانت حاملاً، وقد سرد الطحاوي هذا الكلام مفسرًا في كتابه "الأحكام" حيث قال: وذكر الشافعي فيما ذكره لنا الربيع عنه هذا، وأن معنى حديث فاطمة الذي ذكرنا يرجع إلى المعنى الذي كان يذهب إليه في المطلقات المبتوتات غير الحوامل؛ لا نفقة لهن في عددهن على من طلقهن، وأن لهن السكنى عليهم إلى انقضاء عددهن، وقال: قول رسول الله عليه السلام لفاطمة في حديثها الذي ذكرناه يعني حديث مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة، عن فاطمة:"لا نفقة لك" أي لأنك غير حامل، وانتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم لبذائك الذي صرت به من أهل الفاحشة التي أباح الله عز وجل بها إخراج المطلقات اللاتي تكون منهن، فقال: وإنما جاء تخليط هذا الحديث عن فاطمة غير ما رواه عنها الشعبي، لأنه روى عنها أن رسول الله عليه السلام قال:"لا نفقة لك ولا سكنى"، وأما ما روى عنها الحجازيون فموافق لقولنا وغير خارج عن مذهبنا الذي ذكرناه، يعني أن لها السكنى دون النفقة.

قال الطحاوي: ولم يكن القول في ذلك كما ذكر، ولا كان أصل حديث فاطمة إلا كما رواه الشعبي عنها؛ لإتقانه وضبطه ولفضل حفظه، ولتقدمه في العلم وعلو مرتبته فيه، ولأنه قد وافقه على ذلك غير واحد من أهل الحجاز منهم: عبد الله بن عبد الله وقبيصة ومحمد بن عبد الرحمن وأبو سلمة فقد وافقه

ص: 131

على ذلك إلا أن مالكًا وإن كان لم يرو ذلك إلا عن عبد الله عن أبي سلمة إلا كما أشرنا إليه وكما ذكرناه عنه، فإن الليث قد رواه عنه عن عبد الله عن أبي سلمة كما رواه الشعبي عن فاطمة سواء، ووافقه على ذلك يحيى بن أبي كثير مع جلالته وعلمه وفضل حفظه وإتقانه وعلو مرتبته، حتى لقد قال أيوب السختياني فيه ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المنقري، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: سمعت أيوب السختياني فيه يقول: "ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير" فقدمه على الناس جميعًا.

ووافق يحيى على ذلك الحارث بن عبد الرحمن خال: ابن أبي ذئب -وهو رجل من أهل العلم صحيح الرواية- فروى عن أم سلمة عن فاطمة عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب مثل الذي رواه الشعبي، عن فاطمة، عن رسول الله عليه السلام فيه.

قوله: "وليس كما توهم". أي هذا القائل، والباقي ظاهر.

ص: وكان من قول هذا المخالف أيضًا أن قال: ولو كان أصل حديث فاطمة كما رواه الشعبي لكان موافقًا لمذهبنا أيضًا؛ لأن معنى قوله: "لا نفقة لك" لأنك غير حامل، "ولا سكنى لك" لأنك بذية، والبذاء هو الفاحشة التي قال الله:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) وذكر في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أنه سئل عن قوله: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) فقال: الفاحشة المبينة أن تفحش على أهل الرجل وتؤذيهم".

قال: ففاطمة حرمت السكنى ببذائها، والنفقة لأنها غير حامل. قال: وهذا حجة لنا في قولنا: إن المبتوتة لا تجب لها النفقة إلا أن تكون حاملاً.

(1) سورة الطلاق، آية:[1].

ص: 132

ش: أراد من المخالف هذا هو الشافعي؛ لأنه أشار به إلى القائل في قوله: "فقال قائل" وكان المراد من هذا القائل هو الشافعي.

وتحقيق هذا الكلام أن الشافعي أجاب في كتبه حين اعترض عليه بأن استدلالك بحديث فاطمة بنت قيس على ما ذهبت إليه من وجوب السكنى دون النفقة للمبتوتة؛ ليس بحجة لك وإنما هو حجة عليك؛ لأن فيه عدم وجوب السكنى والنفقة جميعًا، وأنت أوجبت السكن دون النفقة، وفيه عدم النفقة للمبتوتة مطلقًا وأنت قلت: إذا كانت حاملًا فلها النفقة بجوابين:

أحدهما: بطريق المنع، وهو قوله: لم يجئ تخليط حديث فاطمة إلا مما رواه الشعبي، وقد ردَّه الطحاوي كما ذكرناه.

والآخر: بطريق التسليم، وهو أنه قال: ولئن سلَّمنا أن أصل الحديث مثل ما رواه الشعبي فهو أيضًا موأفق لمذهبنا؛ لأن معنى قوله: "لا نفقة لك" إلى آخره. فهذا جواب بعد التسليم بهذا التأويل الذي ذكره، وهو ظاهر.

وقوله: "بذية" أي في لسانها فحش، يقال فلان بذئ اللسان إذا كان في قوله فحش، والبذاء -بفتح الباء وبالمد- مصدر، من قولك: بذوت على القوم وأبذيت بذاءً.

وقال الشافعي: والبذاء هو الفاحشة التي قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) واستدل على ذلك بما روي عن ابن عباس: "الفاحشة المبينة أن تفحش على أهل الرجل وتؤذيهم" رواه الشافعي في كتبه (2).

وأخرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن عمرو بن أبي عمرو ميسرة المخزومي المدني مولى المطلب، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس.

(1) سورة الطلاق، آية:[1].

(2)

"الأم"(5/ 153، 340).

ص: 133

وأخرجه البيهقي (1) من حديث سليمان بن بلال

إلى آخره.

وقال: قال الشافعي: سنة رسول الله عليه السلام في حديث فاطمة يدل على ما تأول ابن عباس، وهو البذاء.

ص: قيل له: لو خُرِّج معنى حديث فاطمة من حيث ذكرت لوقع الوهم على عمر وعائشة وأسامة رضي الله عنهم، ومن أنكر ذلك على فاطمة معهم، وقد كان ينبغي أن يُنزل أمرهم على الصواب حتى يعلم يقينًا ما سوى ذلك، فكيف ولو صَحَّ حديث فاطمة لكان قد يجوز أن يكون معناه على غير ما حملته أنت عليه؛ وذلك أنه قد يجوز أن يكون النبي عليه السلام حرمها السكنى لبذائها كما ذكرت ورأى أن ذلك هو الفاحشة التي قال الله عز وجل.

وحرمها النفقة لنشوزها ببذائها التي خرجت به من بيت زوجها؛ لأن المطلقة لو خرجت من بيت زوجها في عدتها لم تجب لها نفقة حتى ترجع إلي منزله، فكذلك فاطمة منعت من النفقة لنشوزها الذي به خرجت من منزل زوجها، فهذا معنىً قد يجوز أن يكون النبي عليه السلام أراده إن كان حديث فاطمة صحيحًا، وقد يجوز أن يكون أراد ما وصفت أنت، وقد يجوز أن يكون أراد معنىً غير هذين مما لا يبلغه علمنا، ولا نحكم على رسول الله عليه السلام أنه أراد في ذلك معنى بعينه دون معنى، كما حكمت أنت عليه؛ لأن القول عليه بالظن حرام كما القول بالظن على الله حرام، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في الفاحشة المبينة غير ما قال ابن عباس:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر:"قال في قول الله عز وجل {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) قال: خروجها من بيتها فاحشة مبينة".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 432 رقم 15262).

(2)

سورة الطلاق، آية:[1].

ص: 134

وقد قال آخرون: إن الفاحشة المبينة أن تزني فتخرج ليقام عليها الحد، فمن جعل لك أن تثبت ما روي عن ابن عباس في تأويل هذه الآية، وتحتج به على مخالفك وتدع ما قال ابن عمر؟!

ش: أي قيل لهذا المخالف، وأراد به الجواب عن ما قاله الشافعي وهو ظاهر.

وأبين من ذلك ما قال الطحاوي في كتابه "الأحكام": فأما ما ذهب إليه الشافعي من إبطال النفقة على فاطمة؛ لأنها كانت غير ذات حمل فإنما تأول ذلك في حديثها ولم نجده منصوصًا وقد تأوله غيره على غير ما تأوله عليه، فتأوله على أنها إنما منعت بالبذاء الذي كان فيها الواجب به عليها الخروج من منزلها، وصار ذلك بالخروج الذي لزمها بالعمل الذي كان منها نشوزًا، فحرمت النفقة بذلك النشوز، كما نقول في المطلقة المستحقة للنفقة إذا نشزت بالخروج من منزل زوجها: لم يكن لها عليه نفقة ما كانت كذلك.

فلم يكن أحد التأويلن اللذين ذكرناهما في حديث فاطمة أولى من الآخر به.

ثم عدنا إلى النفقة على المطلقات الحوامل اللاتي لا رجعة عليهن لمن طلقهن فقال: قائلون من أهل العلم: أمره عز وجل إلى أولات الأحمال بالإنفاق عليهن إذ كُنَّ كذلك؛ دليل على أنهن إذا لم يَكُنَّ كذلك فلا نفقة لهن.

فإن قيل: قول الطحاوي: فإنما ذلك تأويل في حديثها ولم نجده منصوصًا؛ فيه نظر؛ لأن عبد الرازق روى في "مصنفه "(1): عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: لا أرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة بنت قيس يسألها، فأخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص المخزومي

" فذكر الحديث، "وأنه طلقها ثلاث تطليقات إذ خرج إلى اليمن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام قالا: والله ما

(1)"مصنف عبد الرزاق"(7/ 20 رقم 12024).

ص: 135

لها نفقة إلا أن تكون حاملاً، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام فقال: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً، واستأذنته في الانتقال فأذن لها".

قلت: قال ابن حزم: هذه اللفظة: "إلا أن تكوني حاملًا" لم تأت إلا من هذه الطريق، ولم يذكرها أحد ممن روى هذا الخبر عن فاطمة غير قبيصة، وعلة هذا الخبر أنه منقطع، لم يسمعه عبيد الله بن عبد الله لا من قبيصة ولا من مروان، فلا ندري ممن سمعه، ولا حجة في منقطع.

قوله: "فهذا معنىً قد يجوز" أشار به إلى ما ذكره من قوله: فكذلك فاطمة منعت من النفقة لنشوزها الذي خرجت به من منزل زوجها.

قوله: "ما وصفت أنت" خطاب للشافعي، وحاصله أن هذا الحديث يحتمل معاني كثيرة، وتعيين الشافعي المعنى الذي أوله تَحَكُّم؛ لأنه ترجيح بلا مرجح.

فإن قيل: حديث ابن عباس الذي ذكره هو الذي يرجح ما ذكره.

قلت: منع الطحاوي ذلك بقوله: "وقد روي عن ابن عمر في الفاحشة المبينة غير ما قال" أي غير ما قال هذا المخالف وهو الشافعي رحمه الله، يعني إذا رجحت تأويلك بما رويته عن ابن عباس من تفسير الفاحشة المبينة، نعارضك بما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال:"الفاحشة المبينة هي خروجها من بيتها".

أخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، روى له الجماعة -عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة،

عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ

(1)"مصنف" ابن أبي شيبة " (4/ 189 رقم 19206) ولفظه غير ذلك وفيه هذا اللفظ منسوب إلى الشعبي في الأثر الذي يلي هذا.

ص: 136

بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) قال: "خروجها من بيتها فاحشة".

قوله: "فمن جعل لك

" إلى آخره. إشارة إلى أن ترجيح الشافعي ما تأوله بما روي عن ابن عباس، وترك ما روي عن ابن عمر أيضًا تحكم؛ لأن ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بلا مرجح لا يسمع على أنه قد روي عن [غيرهما] (2) أيضًا في تفسير الفاحشة غير ما ذكراه، أشار إليه بقوله: "قال آخرون" أي جماعة آخرون وهم: الحسن البصري وزيد بن أسلم وحماد بن أبي سليمان؛ فإنهم قالوا: إن الفاحشة المبينة: أن تزني المعتدة فتخرج ليقام عليها الحدّ.

وقتادة؛ فإنه قال: هي النشوز، فإذا فعلت حلَّ إخراجها.

والضحاك فإنه قال: هي عصيان الزوج.

والطبري فإنه قال: هي كل معصية.

ص: وقد روي عن فاطمة بنت قيس في حديثها معنىً غير ما ذكرنا؛ وذلك أن أبا شعيب البصري صالح بن شعيب حدثنا، قال: ثنا محمد بن المثنى الزَّمن، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس قالت:"قلت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني وهو يريد أن يقتحم عليَّ، فقال: انتقلي عنه".

فهذه فاطمة تخبر في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام إنما أمرها أن تنتقل حين خافت زوجها.

ش: أشار بهذا إلى أنه قد روي في سبب انتقال فاطمة بنت قيس من بيتها في عدتها، وفي قوله عليه السلام:"لا سكنى لك" معنىً غير المعاني المذكورة، وهو أن زوجها كان يريد أن يقتحم عليها، فأعلمت بذلك رسول الله عليه السلام فأمرها بالانتقال خوفًا عليها من اقتحام زوجها عليها، أي من دخوله عليها.

(1) سورة الطلاق، آية:[1]

(2)

ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

ص: 137

يقال: اقتحم النهر أي دخله، ويقال: اقتحم الإنسان الأمر العظيم وتقحمه إذا رمى بنفسه فيه من غير رَوِيَّة وتثبت.

وأخرج الحديث المذكور بإسناد صحيح، عن صالح بن شعيب بن أبان الزاهد البصري نزيل مصر، عن محمد بن المثنى بن عبيد الحافظ المعروف بالزَّمِن شيخ الجماعة، عن حفص بن غياث

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1) عن محمد بن مثنى، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا هشام، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس قالت:"قلت: يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثًا وأخاف أن يقتحم عليَّ، قال: فأمرها فتحولت".

قال ابن حزم (2): قوله: "فأمرها فتحولت" ليس من كلام النبي عليه السلام ولا من كلام فاطمة؛ لأن نصّه: "قال: فأمرها فتحولت" يصح أنه من كلام عروة، ولا يخلو هذا الخبر من أن يكون لم يسمعه عروة عن فاطمة فيكون مرسلاً، ويوضح ذلك أنه حدثنا به يونس بن عبد الله بن مغيث، قال: ثنا محمد بن أحمد بن خالد، ثنا أبي، نا محمد بن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن هشام ابن عروة، عن أبيه قال:"قالت فاطمة بنت قيس: يا رسول الله، إني أخاف أن يقتحم عليَّ، فأمرها أن تتحول".

فإن كان هذا هو أصل هذا الخبر فهو منقطع، ولا حجة في منقطع.

أو يكون عروة سمعه من فاطمة فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله عليه السلام قال: إنما آمرك بالتحول من أجل خوفك أن يقتحم عليك، وإذا لم يقل عليه السلام هذا فليس يحل لمسلم يخاف النار أن يقول أنه عليه السلام إنما أمرها بالتحول من أجل ذلك؛ لأنه إخبار عن النبي عليه السلام بما لم يخبر به عن نفسه.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1121 رقم 1482).

(2)

"المحلى"(10/ 300).

ص: 138

قلت: كل ما ذكره تنقضه رواية الطحاوي؛ لأنه صرَّح فيها بأنه عليه السلام قال لها: "انتقلي" فافهم.

ص: فقال قائل: وكيف يجوز هذا وفي بعض ما قد رويت في هذ الباب أنه طلقها وهو غائب -أو طلقها ثم غاب- فخاصمت ابن عمه في نفقتها، وفي هذا أنها كانت تخافه، فأحد الخبرين يخبر أنه كان غائبًا، والخبر الآخر يخبر أنه كان حاضرًا فقد تضاد هذان الخبران؟

قيل له: ما تضادَّا؛ لأنه قد يجوز أن تكون فاطمة لمَّا طلقها زوجها خافته على الهجوم عليها، فسالت النبي عليه السلام فأفتاها بالنقلى، ثم غاب بعد ذلك ووكل ابن عمِّه بنفقتها، فخاصمت حينئذٍ في النفقة وهو غائب، فقال لها رسول الله عليه السلام:"لا سكنى لكِ ولا نفقة" فاتفق معنى حديث عروة هذا ومعنى حديث الشعبي وأبي سلمة ومَنْ وافقهما على ذلك عن فاطمة.

فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث هشام بن عروة يخبر أن زوج فاطمة بنت قيس قد طلقها وهو حاضر، وفي حديث الشعبي وأبي سلمة وغيرهما أنه طلقها وهو غائب، وبين الخبرين تضاد.

والجواب ظاهر، وحاصله أنه طلقها وهو حاضر ثم غاب، والدليل عليه رواية أبي الزبير المكي "أنه سأل عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص عن طلاق جده أبي عمرو فاطمة بنت قيس، فقال له عبد الحميد: طلقها البتة ثم خرج إلى اليمن"، فهذا صريح في أنه طلقها وهو حاضر ثم سافر بعد الطلاق، بل رواية داود بن أبي هند وسيار ومجالد عن الشعبي تنوه بأنه إنما سافر بعد الطلاق، وبعد مخاصمة فاطمة إياه إلى رسول الله عليه السلام حيث صرح الشعبي في روايته وقال:"دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله عليه السلام عليها فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله عليه السلام في السكنى والنفقة".

ص: 139

فإن قيل: قد صرح بذلك في رواية بأنه طلقها وهو غائب، حيث قال مالك عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير

" الحديث.

قلت: قوله: "وهو غائب" جملة اسمية وقعت حالًا، ولكنها من الأحوال المنتظرة، تقديره: طلقها البتة والحال أنه يريد الغياب في السفر لا أنه طلقها وهو غائب حقيقة، ونظير هذه الحال نظير قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} (1) ما يريد الدخول ما كانوا محلقين، وإنما معناه: مقدرين التحليق، فكذلك ها هنا معناه: طلقها وهو مقدر السفر والغياب، ولولا هذا التقدير لم يندفع التعارض. فافهم.

قوله: "ووكل ابن عمه" أي وكل زوج فاطمة وهو أبو عمرو بن حفص بن عمر ابن عمه وهو عياش بن أبي ربيعة المخزومي رضي الله عنه.

ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المطلقة طلاقًا بائنًا وهي حامل من زوجها أن لها النفقة على زوجها، وبذلك حكم الله لها في كتابه فقال:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2)، فاحتمل أن تكون تلك النفقة جعلت على المطلق؛ لأنه يكون عنها ما يغذي الصبي في بطن أمه، فيجب ذلك عليه لولده كما يجب عليه أن يغذيه في حال رضاعه بالنفقة على من ترضعه وتوصل الغذاء إليه، ثم يغذيه بعد ذلك بما يغذى به مثله من الطعام والشراب، فيحتمل أيضًا إذا كان حملا في بطن أمه أن يجب على أبيه غذاؤه بما يغذى به مثله في حاله تلك من النفقة على أمه؛ لأن ذلك يوصل الغذاء إليه.

ويحتمل أن تكون تلك النفقة إنما جعلت للمطلقة خاصة لعلة العدة لا لعلة الولد الذي في بطنها، فإن كانت النفقة على الحامل إنما جعلت لها لمعنى العدة؛ ثبت قول الذين قالوا: للمبتوتة النفقة والسكنى حاملاً كانت أو غير حامل.

(1) سورة الفتح، آية:[27].

(2)

سورة الطلاق، آية:[6].

ص: 140

وإن كانت العلة التي لها وجبت النفقة هي الولد فإن ذلك لا يدل على أن النفقة واجبة لغير الحامل، فاعتبرنا ذلك لنعلم كيف الوجه فيما أشكل من ذلك، فرأينا الرجل يجب عليه أن ينفق على ابنه الصغير في رضاعه حتى يستغنى عن ذلك، وينفق عليه بعد ذلك ما ينفق على مثله ما كان الصبي محتاجًا إلى ذلك، فإن كان غنيًّا بمال له قد ورثه من أمه أو قد ملكه بوجه سوى ذلك من هبة أو غيرها لم يجب على أبيه أن ينفق عليه من ماله، وأنفق عليه مما ورث أو مما وهب له، فكان إنما ينفق عليه من ماله لحاجته إلى ذلك، فإذا ارتفع ذلك لم يجب عليه الإنفاق عليه من ماله، ولو أنفق عليه الأب من ماله على أنه فقير إلى ذلك بحكم القاضي له عليه، ثم علم أن الصبي قد كان وجه له مال قبل ذلك بميراث أو غيره، كان للأب أن يرجع بذلك المال الذي أنفقه في مال الصبي الذي وجب له بالوجه الذي ذكرنا.

وكان الرجل إذا طلق امرأته وهي حامل، فحكم القاضي لها عليه بالنفقة فأنفق عليها حتى وضعت ولدًا حيًّا وقد كان له أخ من أمه مات قبل ذلك فورثه الولد وأمه حامل به لم يكن للأب -في قولهم جيعًا- أن يرجع على ابنه بما كان أنفق على أمه بحكم القاضي لها عليه بذلك إذا كانت حاملًا به، فثبت بذلك أن النفقة على المطلقة الحامل هي لعلة العدة التي هي فيها من الذي طلقها، لا لعلة ما هي به حامل منه.

فلما كان ما ذكرناه ثبت أن كل معتدة من طلاق فلها من النفقة مثل ما للمعتدة من الطلاق إذا كانت حاملًا قياسًا ونظرًا على ما ذكرناه مما وصفنا وبيَّنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر حاصله: أن المطلقة إذا كانت حاملاً تجب لها عليه النفقة بنص القرآن ولكن لا يخلو من أن تكون مستحقة للحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته؛ فلو كانت مستحقة للحمل لوجب أنه إذا كان للحمل مال أن ينفق عليها من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه.

ص: 141

فلما اتفق الجميع على أن الحمل لو كان له مال كانت نفقة أمه على الزوج لا في مال الحمل؛ دل على أن وجوب النفقة متعلق بكونها محبوسة في بيته؛ فإذا كانت العلة ذلك ثبت أن كل معتدة من طلاق لها النفقة مثل ما للمعتدة من الطلاق إذا كانت حاملاً؛ قياسًا ونظرًا.

وأيضًا كان يجب أن يكون في الطلاق الرجعي نفقة الحامل في مال الحمل إذا كان له مال كما أن نفقته بعد الولادة في ماله، فلما اتفق الجميع على أن نفقتها في الطلاق الرجعي لم تجب في مال الحمل وجب مثله في البائن.

فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة؟

قلت: لأن مدة الحمل قد تطول وقد تقصر فأراد بذلك إعلامنا وجوب النفقة.

فإن قيل: ما حكم المتوفى عنها زوجها في هذا الباب؟

قلت: لا يخلو إما أن تكون حاملاً أو لم تكن، فإن لم تكن فاتفق العلماء كلهم على أن لا نفقة لها ولا سكنى، وإن كانت حاملاً ففيه اختلاف بين الصحابة ومَنْ بعدهم؛ فقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وشريح وأبو العالية والشعبي وإبراهيم: نفقتها في جميع المال.

وقال ابن عباس وعبد الله بن الزبير والحسن البصري وسعيد بن المسيب: لا نفقة لها في مال الزوج بل هي على نفسها.

واختلف فقهاء الأمصار أيضًا، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد وزفر: لا سكنى لها ولا نفقة لها في مال الميت، وإن كانت حاملاً فلها السكنى إن كانت الدار للزوج، وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بنفسها حتى تنقضي عدتها، وإن كانت في بيت بكرى فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج.

هذه رواية ابن وهب أيضًا، وقال ابن القاسم عن مالك: لا نفقة لها في مال الزوج الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت، وان كان على الميت دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء، وتباع للغرماء بشرط السكنى على المشترى.

ص: 142

وقال الثوري: إن كانت حاملاً؛ أنفق عليها من جميع المال حتى تضع، فإذا وضعت أنفق على الصبي من نصيبه.

وروى المعافى عن الثوري: إن نفقتها من حصتها.

وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل: لا نفقة لها، وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال، فإذا ولدت كان ذلك في حظ ولدها، وإن لم تلد كان ذلك دينًا يُتبع به.

وقال الحسن بن صالح: للمتوفى عنها زوجها النفقة من جميع المال.

وقال الشافعي: لها السكنى والنفقة. وعنه: لا سكنى ولا نفقة.

وقال ابن حزم (1): وأما المتوفى عنها الحامل، فطائفة قالت: إن كانت وارثةً فمن نصيبها حاملاً كانت أو غير حامل، وإن لم تكن وارثة فمن نصيب ذي بطنها إن كان وارثًا، فإن لم يكونا وارثين فمن مال نفسها إن كان لها مال وإلا فهي أحد فقراء المسلمين، فإن مات ذو بطنها قبل أن يخرج حيًّا ردَّت ما أنفق عليها من نصيبه إلى الورثة.

وتفسير قولنا: إن لم يكن وارثًا أن تكون أسلمت بعد موت زوجها وهو كافر فيكون هو مسلمًا بإسلام أمه ولا يرث كافرًا مسلم. وهذا قولنا.

وقالت طائفة: إن كان المال كثيرًا أنفق عليها من نصيبها، فإن كان قليلاً فمن جميع المال.

وقالت طائفة: نفقتها من جميع المال.

وقالت طائفة: إن كانت وارثة أو لم تكن نفقتها عليها من مالها إن كان لها مال، ومن سؤلها إن كان لا مال لها من ميراثها ولا من ميراث ذي بطنها ولا من جميع المال.

(1)"المحلى"(10/ 288 - 289).

ص: 143

فالقول الأول كما روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال:"نفقة المتوفى عنها الحامل من نصيبها".

وكذا روي عن ابن عباس وعطاء والحكم بن عتيبة وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وعامر الشعبي، ثم قال: وبه يقول أبو حنيفة وأحمد وأبو سليمان وجميع أصحابهم، وهو أحد قولي الشافعي وأحد قولي سفيان.

والقول الثاني: كما روينا من طريق سعيد بن منصور، نا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم النخعي، قال في المتوفى عنها زوجها "كان أصحابنا يقولون: إن كان المال كثيرًا أنفق عليها من نصيبها، وإن كان قليلًا أنفق عليها من جميع المال.

والقول الثالث: انقسم القائلون به أقسامًا؛ فقالت طائفة: إن ورثت فمن نصيب ذي بطنها، وإن لم ترث فمن جميع المال.

وطائفة قالت: نفقة الحامل المتوفى عنها من جميع المال.

وقالت طائفة: لها النفقة من رأس المال حاملاً كانت أو غير حامل ما كانت في العدة.

والقول الرابع: كما روينا [من](1) طريق عبد الرازق، عن ابن جريج، قال: سئل ابن شهاب عن المتوفى عنها على مَنْ نفقتها؟ فقال: "كان ابن عمر يرى نفقتها حاملاً كانت أو غير حامل من جميع المال الذي ترك زوجها".

وكذا روي عن علي وابن مسعود وشريح وقتادة وحماد بن أبي سليمان والمغيرة وإبراهيم والحسن وعطاء بن أبي رباح.

ثم قال: وهو قول أيوب السختياني وابن أبي ليلى والحسن بن حي وأبي عبيد، وأحد قولي سفيان، وأحد قولي الشافعي.

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 144

وقال مالك: لا ينفق عليها من نصيبها ولا من نصيب ذي بطنها ولا من جميع المال حتى تضع ولا ينصف الغرماء من ديونهم حتى تضع.

ص: وقد روي ذلك عن عمر وعبد الله رضي الله عنهما. وقد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي:

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب قال:"المطلقة ثلاثًا لها النفقة والسكنى".

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن المغيرة، عن إبراهيم مثله.

ش: أي قد روي وجوب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وقد مرَّت روايتهما فيما مضى في هذا الباب، وكذا روي عن سعيد بن المسيب وإبراهيم بن يزيد النخعي.

أما ما روي عن سعيد، فأخرجه بإسناد صحيح، عن روح بن الفرج القطان، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمرو الأسدي الجزري، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عنه.

وأما ما روي عن إبراهيم، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي بشر عبد الملك ابن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم.

وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن شبابة، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن شريح قال:"المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 137 رقم 18661).

ص: 145

وأخرج أيضًا (1) عن وكيع، عن المسعودي، عن الحكم أن شريحًا قال:"المطلقة ثلاثًا لها النفقة والسكنى".

وعن وكيع أيضًا (2) عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم قال:"المطلقة ئلاثًا لها السكنى والنفقة".

وأخرج عبد الرزاق (3) عن الثوري، عن حماد بن أبي سليمان قال:"للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة".

وأخرج ابن حزم (4) من طريق إسماعيل بن إسحاق، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حميد، عن الحسن بن صالح بن حيي، عن السدي، عن الشعبي في المطلقة ثلاثًا قال:"لها النفقة والسكنى". والله أعلم.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 137 رقم 18664).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 137 رقم 18665).

(3)

وأخرجه في "المحلى"(10/ 288) بإسناده عن الثوري به.

(4)

"المحلى"(10/ 288).

ص: 146