الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل ينفي حمل امرأته أن يكون منه
ش: أي هذا باب في بيان الرجل الذي يقول لامرأته: حملك ليس مني. كيف يكون حكمه؟
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا نفى حمل امرأته أن يكون منه؛ لاعن القاضي بينها وبينه بذلك الحمل، وألزمه أمه، وأبان المرأة من زوجها.
واحتجوا في ذلك بحديثٍ يحدثه عبدةُ بن سليمان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله:"أن النبي عليه السلام لاعن بالحمل".
وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول مرةً وليس بالمشهور من قوله.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن أبي ليلى وعبيد الله بن الحسن ومالكًا وأبا عبيد وأبا يوسف في رواية؛ فإنهم قالوا: من نفى حمل امرأته؛ لاعن بينهما القاضي وألحق الولد بأمه.
واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن مسعود المذكور أخرجه الطحاوي ها هنا معلقًا، عن عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث إسماعيل بن حفص، ثنا عبدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله:"أن النبي عليه السلام لاعن بالحمل". وسيجيء مسندًا بأتم من هذا على وجوهٍ مختلفة.
قوله: "وأبان المرأة" أي: أبان القاضي، بمعنى: حكم بالبينونة بينهما.
واختلفوا في ذلك؛ فقال أبو حنيفة: لا تقع فرقة اللعان إلا بحكم حاكم.
وبه قال الثوري وأحمد.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 405 رقم 15123).
وفي مذهب مالك أربعة أقوال:
أحدها: أن الفرقة لا تقع إلا بالتعانهما جميعًا.
والثاني: وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ": أنها تقع بالتعان الزوج، وهو رواية أصبغ.
والثالث: قول سحنون أنه يتم بلعان الزوج مع سكوت المرأة.
والرابع: قول ابن القاسم يتم بلعان الزوج إن التعنت فحاصل مذهب مالك: أنها تقع بينهما بغير حكم حاكم ولا تطليق. وبه قال الليث والأوزاعي وأبو عبيد وزفر بن الهذيل، وعند الشافعي: تقع الفرقة بالتعان الزوج.
واتفق أبو حنيفة والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور؛ أن اللعان حكمه وسنته الفرقة بين المتلاعنين إما باللعان وإما بتفريق الحاكم على ما ذكرنا من مذاهبهم، وهو مذهب أهل المدينة ومكة والكوفة والشام ومصر.
وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة: إذا تلاعنا لم ينقص اللعان شيئًا من العصمة حتى يطلق الزوج.
قال: وأحب إليَّ أن يطلق.
قال الإشبيلي في "شرح الموطأ": هذا قول لم يتقدمه أحدٌ إليه.
قلت: حكى ابن جرير هذا القول أيضًا عن أبي الشعثاء جابر بن زيد.
ثم اختلفوا: هل الفرقة بين المتلاعنين فسخ أو تطليقة؛ فعند أبي حنيفة ومحمد وعبيد الله بن الحسن وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب: هي طلقة واحدة. وقال مالك: هي فسخ.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يلاعن يحمل لأنه قد يجوز أن لا يكون حملاً، لأن ما يظهر من المرأة مما يُتَوَهَّم به أنها حامل ليس يعلم أنه حمل على حقيقة، إنما هو توهم، فنفي المتوهم لا يوجب اللعان.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف -في المشهور عنه- ومحمدًا وأحمد -في رواية- وابن الماجشون من أصحاب مالك وزفر بن الهذيل، فإنهم قالوا: لا تلاعن يحمل وسواء عند أبي حنيفة وزفر بعد النفي لتمام ستة أشهر أو لأقل منها.
وعند أبي يوسف ومحمد وأحمد: إن ولدت لأقل من ستة أشهر ثم نفاه وجب عليه اللعان؛ لأنه حينئذٍ يُتَيَقَّن بوجوده عند النفي، ولأكثر منها احتمل أن يكون حمل حادث، وبه قال مالك، إلا أنه يشترط عدم وطئها بعد النفي.
ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن الحديث اللي احتجوا به عليهم حديث مختصر، اختصره الذي رواه فغلط فيه، وإنما أصله: "أن رسول الله عليه السلام لاعن بينهما وهي حامل فذلك عندنا لعان بالقذف لا لعان بنفي الحمل، فتوهم الذي رواه أن ذلك لعان بالحمل فاختصر الحديث كما ذكرنا، وأصل الحديث في ذلك:
ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: نا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:"بينا نحن عشية في المسجد إذ قال رجل: إنْ أحدنا رأى مع امرأته رجلاً، فإن قتله قتلتموه، وإن هو تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! لأسألن رسول الله عليه السلام، فسألَ فقال: يا رسول الله، إنْ أحدنا رأى مع امرأته رجلاً، فإن قتله قتلتموه، وإن هو تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! اللهم احكم؟ فأنزلت آية اللعان، قال عبد الله: فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به".
حدثنا يزيد، قال: ثنا حكيم بن سيف، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:"قام رجل في مسجد رسول الله عليه السلام ليلة الجمعة" فقال: أرأيتم إنْ وجد رجل مع امرأته رجلاً
…
" ثم ذكر نحوه. وزاد: "قال عبد الله: فابتلي به، وكان رجلاً من الأنصار، جاء إلى
رسول الله عليه السلام يلاعن امرأته، فلما أخذت امرأته تلتعن، قال لها رسول الله عليه السلام: مَهْ. فالتعنت، فلما أدبرت قال رسول الله عليه السلام: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا. فجاءت به أسود جعدًا".
حدثنا يزيد، قال: ثنا الحسن بن عمر بن شقيق، قال: ثنا جرير، عن الأعمش
…
فذكر بإسناده مثله.
فهذا هو أصل حديث عبد الله في اللعان، وهو لعان بقذف كان من ذلك الرجل لامرأته وهم حامل، لا بحملها.
ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به من حديث عبد الله المذكور.
بيانه: أن ذلك الحديث ليس على أصله؛ لأن راويه اختصره فغلط فيه، وإنما أصله:"أن رسول الله عليه السلام لاعن بينهما وهي حامل".
فذلك لا شك أنه لعان بالقذف وليس بنفي الحمل فتوهم الراوي الذي رواه أن ذلك لعان بنفي الحمل؛ لكون المرأة حاملاً وقت اللعان، فاختصر الحديث وقال:"لاعن النبي عليه السلام بالحمل".
وأصله ما أخرجه من حديث يزيد بن سنان القزاز من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يزيد، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد البصري ختن أبي عوانة وشيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله.
وأخرجه مسلم (1) بأتم منه: ثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة، وإسحاق ابن إبراهيم -واللفظ لزهير، قال إسحاق: أنا، وقال الآخران: ثنا- جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "إنا ليلة الجمعة في المسجد،
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1133 رقم 1495).
إذ دخل رجل من الأنصار، فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! والله لأسألن رسول الله عليه السلام، فلما كان من الغد، أتى رسول الله عليه السلام، فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ؟! فقال: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ
…
} (1) هذه الآيات، فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله عليه السلام فتلاعنا، فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم لَعَّن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فذهبت لتلتعن، فقال لها النبي عليه السلام: مَهْ. فأتت فَلَعَّنت، فلما أدبرا قال: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا، فجاءت به أسود جعدًا".
الثاني: عن يزيد، عن حكيم بن سيف الأسدي أبي عمرو الرقي شيخ أبي داود، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان الأعمش
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "إنا ليلة جمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار
…
" إلى آخره نحو رواية مسلم.
الثالث: عن يزيد، عن الحسن بن عمر بن شقيق البصري شيخ البخاري وأحمد وأبي يعلى، عن جرير بن عبد الحميد، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله
…
ثم ذكر نحوه.
وأخرجه البزار في "مسنده"(3): نا يوسف بن موسى، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "إني ليلة جمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار
…
" إلى آخره نحو رواية مسلم.
(1) سورة النور، آية:[6].
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 683 رقم 2253).
(3)
"مسند البزار"(4/ 317 رقم 1501).
وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (1).
قوله: "بَيْنَا نحن" أصله "بين" فزيدت فيه "الألف" لإشباع فتحة النون.
واعلم أن "بينا" و"بينما" ظرفان زمانيان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه "إذْ" و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا.
قوله: "عشية" نصب على الظرفية.
قوله: "اللهم احكم" وفي رواية مسلم: "اللهم افتح". قال الخطابي: معناه:
اللهم احكم أو بيِّن الحكم. والفتاح: الحاكم.
قوله: "فنزلت آية اللعان" وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
} (2) الآيات.
قوله: "أرأيتم" معناه: أخبروني.
قوله: "مَهْ" كلمة زجر، قيل: أصلها: ما هذا؟ ثم حذفت "الألفان" و"الذال" استخفافًا، تقال مكررة ومفردة، ومثله: بَهْ بُهْ.
قال ابن السكيت: هي لتعظيم الأمر، بمعنى بَخٍ بخٍ، وتقال بسكون الهاء فيهما والتنوين أيضًا.
وقال الجوهري: "مَهْ" كلمة بنيت على السكون، وهو اسم سُمِّي به الفعل، ومعناه: اكفف؛ لأنه زجر، وإن ثُنِّيَت نُوِّنت، فقلت: مَهٍ مَهٍ.
قوله: "أسود جعدًا" منصوبان على الحالية، وقال الهروي: الجعد في صفة الرجال يكون مدحًا ويكون ذمًّا، فإذا كان مدحًا فله معنيان:
أحدهما: أن يكون معصوب الخلق شديد الأسر.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 669 رقم 2068).
(2)
سورة النور، آية:[6].
والثاني: أن يكون شعره جعدًا غير سبط؛ لأن السبوطة كثرها في شعر العجم.
وأما الجعد المذموم فله معنيان:
أحدهما: القصير المتردد.
والثاني: البخيل.
ص: وقد رواه على ذلك غير ابن مسعود رضي الله عنه:
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: ثنا القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العَجْلاني وامرأته، وكانت حُبلى، فقال زوجها: والله ما قربتها مند عفرنا -والعفر أن يسقى النخل بعد أن تترك من السَّقْي بعد الإبار بشهرين- فقال رسول الله عليه السلام: اللهم بيِّن. فزعموا أن زوج المرأة كان حمش الذراعين والساقين أصهب الشعر، وكان الذي رميت به ابن السحماء.
قال: فجاءت بغلام أسود أجلى جعدٍ قطط عَبل الذراعين خَدْل الساقين.
قال القاسم: فقال ابن شداد بن الهاد: يا ابن عباس، هي المرأة التي قال رسول الله عليه السلام: لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمتها؟ فقال ابن عباس: لا، ولكن تلك المرأة كانت قد أعلنت في الإِسلام".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن القاسم، عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام، نحوه.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني أبي، أن القاسم بن محمد حدثه، عن ابن عباس، مثله. غير أنه لم يذكر سؤال عبد الله بن شداد
…
إلي آخر الحديث.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس: "أن رجلاً جاء إلى رسول الله عليه السلام فقال: ما لي عهد بأهلي منذ عفَّرنا النخل، فوجدت مع امرأتي رجلاً
-وزوجها نضوٌ، حمشٌ، سبط الشعر، والذي رُميت به إلى السواد جعدٌ قطط- فقال رسول الله عليه السلام: اللهم بيِّن. ثم لاعن بينهما، فجاءت به يشبه الذي رُميت به".
ش: أي قد روى الحديث المذكور على أصله الذي ذكرنا غير ابن مسعود من الصحابة، منهم: ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرج حديثه من أربع طرق:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- فيه مقال. عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، روى له الجماعة، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عباس.
وأخرجه ابن وهب في "مسنده": من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد
…
إلى آخره.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني أحد فقهاء المدينة، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عبد الله بن عباس.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث العقدي، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن القاسم، عن ابن عباس: "سمع رسول الله عليه السلام لاعن بين العجلاني وامرأته -وكانت حاملاً- فقال زوجها: والله ما قربتها منذ عفَّرنا. فقال رسول الله عليه السلام: اللهم بيِّن. فدعى الزوج حمش الذراعين والساقين أصهب الشعر،
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 407 رقم 15127).
وكان الذي رُميت به ابن السحماء، فجاءت بغلام أسود أكحل جعد عَبْل الذراعين خَدْل الساقين.
قال القاسم: فقال ابن شداد لابن عباس: هي المرأة التي قال رسول الله عليه السلام: لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها؟
فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة أعلنت في الإِسلام".
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس
…
مثله.
الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن ابن عباس.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه أحمد "مسنده"(1): ثنا روح بن عبادة، ثنا ابن جريج، أخبرني يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس:"أن رجلاً جاء رسول الله عليه السلام، فقال: يا رسول الله، ما لي عهد بأهلي منذ عفار النخل -قال: وعفارها أنها إذا كانت تؤبر تعفر أربعين يومًا لا تسقى بعد الإبار- فوجدت مع امرأتي رجلاً، وكان زوجها مصفرًّا حمشًا سبط الشعر، والذي رُميت به خَدْل إلى السواد، جعدٌ قططٌ، فقال رسول الله عليه السلام: اللهم بيِّن. فجاءت برجل يشبه الذي رُميت به".
قوله: "لاعن بين العجلاني" هو عويمر بن أبيض العجلاني الأنصاري، وهو الذي رمى زوجته بشريك بن سحماء، فلاعن رسول الله عليه السلام بينهما، وذلك في شعبان سنة تسع لما قدم من تبوك، واسم امرأته خولة بنت قيس.
(1)"مسند أحمد"(1/ 357 رقم 3360).
قوله: "منذ عفرنا" بالفاء، ويروى بالقاف وهو خطأ، ذكره ابن الأثير في باب العين المهملة بعدها الفاء، وقال: التعفير أنهم كانوا إذا أبَّروا النخل تركوها أربعين يومًا لا تُسقى لئلا ينتفض حملها، ثم تسقى، ثم تترك إلى أن تعطش، ثم تسقى.
وقد عفَّر القوم إذا فعلوا ذلك وهو من تعفير الوحشية ولدها، وذلك أن تفطمه عند الرضاع أيامًا ثم ترضعه، تفعل ذلك مرارًا ليعتاده.
قوله: "بعد الإِبَار" بكسر الهمزة وتخفيف الباء الموحدة، اسم من أَبَرْت النخلة فهي مأبورة، إذا أصلحتها، وكذلك أبَّرتها بالتشديد فهي مؤبرة.
قوله: "كان حمش الساقين" أي: دقيق الساقين، يقال: رجل حمش الساقين، وأحمش الساقين، أي: دقيقهما، ومنه حديث علي رضي الله عنه في هدم الكعبة:"كأني برجل أصعل أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تُهدم"(1).
ومنه حديث صفته عليه السلام: "في ساقيه حموشة"(2).
ومادته: حاء مهملة وميم وشين معجمة.
قوله: "أصهب الشعر" الصهوبة في الشعر حمرة يعلوها سواد، ورجل أصهب: الذي تعلو لونه صهبة، وهي كالشقرة.
قال الخطابي: المعروف أن الصهبة مختصة بالشعر.
قوله: "وكان الذي رُميت به" أي كان الرجل الذي رميت به امرأة العجلاني هو شريك بن السحماء -بسين وحاء مهملتين وألف ممدودة- وهي أُمُّه، وأبو عَبَدة -
(1) رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(5/ 137 رقم 9178) بنحوه.
وقال عبد الله بن أحمد في "العلل ومعرفة الرجال": حدثني أبي، قال: سمعت سفيان يقول: أصعل: صغير الرأس، أصمع: صغير الأذن. وانظر "فتح الباري"(3/ 461).
(2)
أخرجه الترمذي في "جامعه"(5/ 603 رقم 3645) وقال: حسن غريب من هذا الوجه صحيح.
وأحمد في "مسنده"(5/ 97 رقم 20955)، والحاكم في "مستدركه" (2/ 662 رقم 4196) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: حجاج لين الحديث.
بفتحتين- بن معتب بن الجد بن عجلان بن ضُبَيعة البلوي، وهو ابن عم معن وعاصم ابني عدي بن الجعد، قيل: إنه شهد مع أبيه أُحُدًا، وهو أخو البراء بن مالك لأمه.
وقال الكلبي: الذي شهد أُحدًا هو أبوه، وأما هو فلم يشهدها.
وقال ابن سعد: وكان شريك عند الناس بحال سوء بعد ولم يبلغنا أنه أحدث توبة ولا نزع.
قوله: "أجلى" الأجلى خفيف شعر ما بين النَّزْعَتين من الصُّدْغين، والذي انحسر الشعر عن جبهته.
وفي رواية البيهقي: "أكحل" بدل: "أجلى".
قوله: "جعد قَطط" أي جعد الشعر، وهو ضِدُّ السبط والقَطط الشديد الجعودة، وقيل: الحسن الجعودة، والأول أكثر.
وقال الجوهري: جعد قطط أي شديد الجعودة، وقد قَطِطَ شعره -بالكسر- وهو أحد ما جاء على الأصل بإظهار التضعيف، ورجل قط الشعر وقطط الشعر بمعنىً.
قوله: "عَبْل الذراعين" أي: غليظ الذراعين. قال الجوهري: رجل عَبْل الذراعين أي: ضخمهما. وهو بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة.
قوله: "خَدْل الساقين" الخدل: الغليظ الممتلئ الساق. قال الجوهري: امرأة خدلاء بَيِّنَة الخدل والخدالة وهي الممتلئة الساقين والذراعين، وكذلك الخِدلم -بالكسر- والميم زائدة.
قوله: "فقال ابن شداد بن الهاد" هو عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني من كبار التابعين وثقاتهم.
قوله: "قد أعلنت في الإسلام" من الإعلان في الأصل وهو إظهار الشيء، والمراد به أنها كانت قد أظهرت الفاحشة.
قوله: "ما لي عهد بأهلي مند عفرنا النخل" أراد أنه لم يجامعها من وقت تعفير النخل.
قوله: "وزوجها نِضْوٌ" بكسر النون وسكون الضاد المعجمة أي: مهزول.
قال الجوهري: النِّضْو -بالكسر- البعير المهزول، والناقة نِضْوة، وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة.
ويستفاد من حديث ابن عباس هذا أحكام:
الأول: فيه إثبات اللعان، وأجمع المسلمون على صحة حكم اللعان بين الزوجين إذا ادعى رؤية، وأما القذف المجرد فقد اختلفوا فيه، فقالت فرقة: لا لعان في القذف المجرد. وهو أحد قولي مالك وقول الليث وأبي الزناد وعثمان البتي ويحيى بن سعيد، وأن في هذا الحدُّ بكل حال، وقال الكوفيون والشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث باللعان في القذف المجرد، وروي عن مالك أيضًا.
واختلفوا إذا أقام الزوج البينة على زناها، فعند مالك والشافعي يلاعن.
وقال أبو حنيفة وداود: إنما اللعان لمن لم يأت بأربعة شهداء، فمن أتى بهم فلا لعان.
واختلفوا في اللعان بنفي الحمل، وقد ذكرناه.
الثاني: فيه دليل على جواز لعان الحامل في حال حملها.
الثالث: اختلف الناس إذا قذف الرجل امرأته بشخص بعينه هل يحدُّ له أم لا؟ وإن لاعن لزوجته فعند مالك يحدُّ الرجل؛ لأن الأصل إثبات الحد على القاذف، وإنما سقط عن الزوج بلعانه لأجل الضرورة إلى ذلك، وأنه لا يستغنى عن ذكر زوجته، وأما الزاني بها فلا ضرورة إلى ذكره، وهو غني عن قذفه فيبقى على الأصل في وجوب الحدِّ له.
وقال الشافعي: لا يحد الرجل إذا أدخله في لعانه وتعلق بأنه عليه السلام لم يحدّ الزوج لشريك، وقد سماه.
وقال القاضي: قال أصحابنا: لا حجة له فيه لوجهين:
أحدهما: أن شريكًا كان يهوديًّا.
والثاني: أن شريكًا لم يطلب حدَّه ولا قام بطلب عرضه، فلم يكن في ذلك تعلق.
قال القاضي: لا يصح قول من قال: إن شريكًا كان يهوديًّا وهو باطل، وهو شريك بن عَبَدَة بن معتب، وهو بلوي حليف الأنصار وهو أخو البراء بن مالك لأمه.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن كثير، عن مخلد بن حسين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك:"أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته، فرفع ذلك إلى رسول الله عليه السلام فقال: "ائتِ بأربعة شهداء؛ وإلا فحدٌّ في ظهرك، فقال: والله يا رسول الله إن الله يَعْلَمُ أني صادق. فجعل النبي عليه السلام يقول له: أربعة؛ وإلا فحدٌّ في ظهرك فقال: والله يا رسول الله إن الله يعلمُ إني لصادق -يقول ذلك مرارًا- فقال له: يا رسول الله، إن الله يعلم إني لصادق، ولَيُنزلنَّ الله عليك ما يُبرِّئ به ظهري من الجلد. فنزلت آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (1) قال: فدعن هلالاً، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين قال: ثم دُعيت المرأة تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قال رسول الله عليه السلام: وقِّفوها فإنها موجبة، قال: فتلكأت حتى ما شككنا أن سَتُقِرُّ، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على اليمين، فقال رسول الله عليه السلام: انظروا، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين، فهو لهلال بن أمية؛ وإن جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء، قال: فجاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين، فقال رسول الله عليه السلام: لولا ما سبق فيها من كتاب الله كان لي ولها شأن". قال: والقضيء العينيين: طويل شق العينين ليس بمفتوح العينين.
(1) سورة النور، آية:[6].
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: نا هشام، عن محمد، عن أنس ابن مالك:"أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال رسول الله عليه السلام: أنظروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين، فهو لهلال بن أمية؛ وإن جاءت به أكحل جعدًا حَمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فقال: فجاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن فهد بن سليمان.
عن محمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود.
عن مخلد -بفتح الميم- بن حسين الأزدي البصري، نزيل المِصيصة، قال العجلي: ثقة رجل صالح. روى له النسائي ومسلم في مقدمة كتابه.
عن هشام بن حسان الأزدي البصري، روى له الجماعة.
عن محمد بن سيرين.
عن أنس.
وأخرجه النسائي (1): أنا عمران بن يزيد، نا مخلد بن حسين الأزدي، ثنا هشام ابن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: إن أول لعان كان في الإِسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته فأتى النبي عليه السلام فأخبره بذلك، فقال له النبي عليه السلام: "أربعة شهداء، وإلا فحدٌّ في ظهرك -فردَّدَ ذلك عليه مرارًا- فقال له هلال: والله يا رسول الله إن الله عز وجل يعلم إني صادق، وليُنزلنَّ الله عليك ما يبرِّئ ظهري من الجلد، فبينما هم كذلك إذْ نزلت عليه آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
} (2) إلى آخر الآية فدُعي هلال، فشهد أربع شهادات
(1)"المجتبى"(6/ 172 رقم 3469).
(2)
سورة النور، آية:[6].
بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعيت المرأة لتشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين، فلما كان في الرابعة -أو الخامسة- قال رسول الله عليه السلام: وَقِّفُوها؛ فإنها موجبة، فتلكأت حتى ما شككنا أنها ستعترف؛ ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت على اليمين، فقال رسول الله عليه السلام: أنظروها؛ فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العَيْنين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به آدم جعدًا ربْعًا حمش الساقين، فهو لشريك بن السحماء، فجاءت به آدم جعدًا ربعًا حمش الساقين، فقال رسول الله عليه السلام: لو ما سبق فيها من كتاب الله لكان لي ولها شأن". قال الشيخ: والقضيء: طويل شعر العينين ليس بمفتوح العين، ولا جاحظهما.
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس.
وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: نا هشام، عن محمد، قال: سألت أنس بن مالك -وأنا أرى أنَّ عنده منه علمًا- فقال: "إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخًا لبراء بن مالك لأمه، فكان أول رجل لاعن في الإِسلام، قال: فلاعنها، فقال رسول الله عليه السلام: أبصروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين؛ فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء، فَأُنْبِئْتُ أنها جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين".
قوله: "وإلا فحد في ظهرك" أي: أربعة شهداء يشهدون على ما قلت، فيجب حد في ظهرك لأجل القذف.
قوله: "يقول له أريعة" أي: أربعة شهداء يأتي بهم؛ وإلا فحدٌّ.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1134 رقم 1496).
قوله: "وَقِّفُوها فإنها موجبةٍ" أي فإن الخامسة هى موجبة عذاب الله عز وجل؛ وذلك كما جاء في رواية أبي داود (1) في الحديث الطويل:
فقال رسول الله عليه السلام: "لاعنوا بينهما؛ فقيل لهلال: اشهد؛ فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة؛ قيل: يا هلال، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب
…
" الحديث.
قوله: "فتلكأت" أي توقفت وتباطأت؛ وقال صاحب "المطالع": أي ترددت وتجشمت عن المتقدم.
قوله: "قضيء العينين" أي فاسد العينين؛ قال ابن دريد في الجمهرة: يقال: قضئت عين الرجل إذا احمرت ودمعت، وقد قضئت القربة تقضَأ قضًا، فهي قضيئة، على وزن فعيلة، إذا عَفِنَت وتهافَتَت، قال ابن ولاد: وسقاء قضيء، إذا طال مكثه في مكان ففسد وبَلي. والقَضْء -مهموز مقصور- العيبُ.
قال ابن دريد: قَضِئَ حَسَبُ الرجل قَضَأً وقضوءًا، وقَضاءةً: إذا دخله عيب، وإن في حسبه لَقَضَأً، ولا تفعل كذا فإن فيه قضاءةً عليَّ.
وقال الهروي: قضئ الثوب إذا تَفَرَّزَ وتشقق. قال غيرُه: من طول البلى.
قلتُ: بابه من باب عَلِمَ يَعْلَمْ.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: فيه أن شرط وجوب اللعان عدم إقامة البينة؛ لأن رسول الله عليه السلام أمر هلال بن أمية بأن يأتي بأربعة شهداء؛ ليقيم عليها الحد؛ فلما عجز عن ذلك، ونزلت آية اللعان، شرط فيها عدم إقامة البينة بقوله:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (2) حتى لو أقام الزوج أربعة من الشهداء عليها بالزنا، لا يجب اللعان،
(1)"سنن أبي داود"(2/ 284 رقم 2256).
(2)
سورة النور، آية:[4].
ويقام عليها حدُّ الزنا؛ لأنه قد ظهر زناها بشهادة الشهود؛ ولو شهد أربعة أحدهم الزوج، فإن لم يكن من الزوج قذف مثل ذلك، تقبل شهادتهم، ويقام عليها الحد عندنا، وعند الشافعي لا تقبل شهادة الزوج.
الثاني: فيه إشارة إلى أن شرط وجوب اللعان إنكار المرأة وجود الزنا، حتى لو أقرت بذلك لا يجب اللعان، ويلزمها حدُّ الزنا، وهو الجلد إن كانت غير محصنة، والرجم إن كانت محصنة، وفهم ذلك من شهادة المرأة، إذْ لو أقرت لَحَدَّها النبي عليه السلام ولم يلاعن بينهما.
الثالث: فيه دليل أن شرط اللعان أن يكون بين الزوجين؛ لأن هلال بن أمية إنما قذف بالزنا امرأته، وأيضًا فإنه خُصَّ اللعان بالأزواج بقوله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (1) فعلى هذا إذا تزوج امرأة نكاحًا فاسدًا، ثم قذفها، لم يلاعنها؛ لعدم الزوجية، وقال الشافعي: يلاعنها إذا كان القذف بنفي الولد، وكذا لو طلق امرأته طلاقًا بائنًا، أو ثلاثًا، ثم قذفها بالزنا، لا يجب اللعان؛ ولو طلقها رجعيًّا ثم قذفها، يجب اللعان عندنا لعموم الآية، خلافًا للشافعي؛ ولو قذف امرأته بعد موتها لم يلاعن عندنا؛ وعند الشافعي يلاعن على قبرها؛ لأن الآية لم تفصل بين الحياة والموت؛ قلنا: خَصَّ الله اللعان بالأزواج، وقد زالت الزوجية بالموت.
الرابع: فيه أن يبدأ الحاكم بالرجل؛ لأنه القاذف الذي يدرأ الحدّ بشهادته عن نفسه، والذي بدأ الله به وأيمانه، فإن أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة ثم بالرجل، فينبغي له أن يعيد اللعان على المرأة فإن لم يُعد حتى فرق بينهما فسدت الفرقة.
الخامس: فيه سقوط الحد عن الرجل، وذلك لأجل أيمانه سقط الحد.
السادس: فيه بيان حدُّ اللعان؛ ثم قال أصحابنا: اللعان شهادات مُوكدة بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، وإنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانبها قائم مقام حد الزنا. وقال الشافعي: اللعان أيمان بلفظ الشهادة،
(1) سورة النور، آية [6].
مقرونة بالغضب أو اللعن. فكل من كان من أهل الشهادة واليمين، كان من أهل اللعان، ومن لا فلا عندنا؛ وكل من كان من أهل اليمين، فهو من أهل اللعان عنده، سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن، ومن لم يكن من أهل الشهادة ولا من أهل اليمين، لا يكون من أهل اللعان بالإجماع.
ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: نا أسدح.
وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قالا: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي "أن عويمر جاء إلى عاصم بن عدي، فقال: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أتقتلونه؟ سلْ يا عاصم رسول الله عليه السلام؛ فجاء عاصم فسأل رسول الله عليه السلام، فكرِه رسول الله عليه السلام المسألة وعابها؛ فقال عويمر: والله لآتينَّ النبي عليه السلام، فجاء وقد أنزل الله عز وجل خلاف قول عاصم، فسأل النبي عليه السلام فقال: قد أنزل الله عز وجل فيكم قرآنًا، فدعاهما فتلاعنا، ثم قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، ففارقها وما أمره رسول الله عليه السلام بفراقها، فجرت السنةُ في المتلاعين؛ فقال رسول الله عليه السلام: انظروا فإن جاءت به أحمر قصيرًا مثل وَحَرَة فلا أراه إلا وقد كذب عليها، إن جاءت به أسحم أعين ذا إليتين فلا أحسبه إلا وقد صدق عليها، قال: فجاءت به على الأمر المكروه".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، شيخ أبي داود والنسائي، عن أسد ابن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (1): ثنا يحيى بن موسى، قال: أنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن الملاعنة، وعن السنة فيها عن حديث سهل ابن سعد أخي بني ساعدة "أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله عليه السلام، فقال:
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2033 رقم 5003).
يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله، أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي عليه السلام: قد قضى الله فيك وفي امرأتك، قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله عليه السلام حتى فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي عليه السلام فقال: ذلك تفريق بين كل متلاعنين"، قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملاً، وكان ابنها يُدعى لأمه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله له، قال ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي في هذا الحديث أن النبي عليه السلام قال: إن جاءت به أحمر قصيرًا كأنه وحرة، فلا أُراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين ذا إليتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على المكروه من ذلك.
وأخرجه البخاري (1) أيضًا: عن إسماعيل، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي.
وأخرجه مسلم (2) أيضًا: عن يحيى بن يحيى، عن مالك نحوه.
وأخرجه أيضًا (2): عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد.
الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن محمد بن أبي ذئب، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي.
وأخرجه أبو داود (3): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2033 رقم 5002).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1129 رقم 1492).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 681 رقم 2245).
وعن عبد العزيز بن يحيى (1)، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه مختصرًا.
وعن أحمد بن صالح (2)، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد.
وعن أحمد بن عمرو (3)، عن ابن وهب، عن عياض بن عبد الله وغيره، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، وعن مسدد، ووهب بن بيان، وأحمد بن عمرو، وعمرو بن عثمان (4) كلهم، عن سفيان، عن الزهري، عن سهل.
وعن سليمان بن داود (5)، عن فليح، عن الزهري، عن سهل.
وأخرجه ابن ماجه (6) عن محمد بن عثمان العثماني، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد.
قوله: "إن عويمرًا" هو عويمر بن أبيض العجلاني، ووقع في رواية أبي داود عويمر بن أشقر العجلاني (7)، وقال الطبري: هو عويمر بن الحارث.
قوله: "جاء إلى عاصم بن عدي"، بن الجد بن العجلان العجلاني القضاعي.
قوله: "أرأيت رجلًا" أي أخبرني عن رجل.
قوله: "مثل وحرة" بفتح الواو والحاء المهملة والراء دويبة حمراء تلزق بالأرض، وقيل: هي الوزغة، وقيل: نوع من الوزغ يكون في الصحاري.
قوله: "فلا أراه" بضم الهمزة، أي فلا أظنه.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 682 رقم 2246).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 682 رقم 2247).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 683 رقم 2250).
(4)
"سنن أبي داود"(1/ 683 رقم 2251).
(5)
"سنن أبي داود"(1/ 683 رقم 2252).
(6)
"سنن ابن ماجه"(1/ 667 رقم 2066).
(7)
"سنن ابن ماجه"(1/ 681 رقم 2245) وقد تقدم.
قوله: "أسحم" بالسين والحاء المهملتين، وهو الأسود كون الغراب، يقال: ليل مظلم أسود أسحم، وللسحاب الأسود أسحم، وقال الشاعر: عماه كل أسحم مستديم.
قوله: "أعين" أي واسع العين، يقال: رجل أعين وامرأة عيناء، ويجمع على عِين، وفي الحديث "إن في الجنة لمجتمعًا للحور العين".
وها هنا فوائد:
الأول: أنه ذكر في هذا الحديث عويمر، وفي حديث أنس بن مالك: هلال بن أمية، وفي حديث عبد الله بن عباس: لاعن بين العجلاني وامرأته، وفي حديث عبد الله بن مسعود: وكان رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله عليه السلام فلاعن امرأته.
قال المهلب: الصحيح أن القاذف عويمر، والذي ذكر في حديث ابن عباس في قوله:"العجلاني" هو عويمر، وكذا في قول عبد الله بن مسعود: وكان رجلاً.
وهلال بن أمية خطأ وأظن غلطًا من هشام بن حسان؛ وذلك لأنها قصة واحدة، والدليل على ذلك توقفه عليه السلام فيها حتى نزلت الآية الكريمة، ولو أنهما قصتان لم توقف عن الحكم في الثانية بما أنزل عليه في الأولى.
قلت: كأنه تبع في هذا الكلام محمد بن جرير فإنه قال في "التهذيب": نستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلان.
وفيما قالاه نظر؛ لأن قصة هلال وقذفه زوجته بشريك ثابتة في "صحيح البخاري" في موضعين: الشهادات، والتفسير، وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، وكذا ذكره الطحاوي في روايته عن أنس، وقول المهلب: وأظنه غلطًا من هشام يردُّه كلام الترمذي، فإنه لما ذكر حديث هشام هذا قال: سألت محمدًا عنه وقلت: روى عباد بن منصور هذا الحديث عن عكرمة عن ابن عباس مثل حديث هشام، وروى أيوب عن عكرمة:"أن هلال بن أمية" مرسلاً، فأي الروايات
أصح؟ فقال: حديث عكرمة عن ابن عباس هو محفوظ ورآه حديثًا صحيحًا، وحديث عباد هذا رواه أبو داود عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس: "جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم من أرضه عشاءً، فوجد مع أهله رجلاً فرأى بعَيْنه وسمع بأذنه
…
" الحديث.
وقال أبو عمر: وروى جرير بن حازم، عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قذف هلال بن أمية امرأته قيل له: والله ليُجلدنّك رسول الله عليه السلام ثمانين، فقال: الله أعدل، وقد علم أني رأيت، فنزلت آية الملاعنة.
وقال ابن التين: الصحيح أن هلال لاعن قبل عُويمر.
وقال الماوردي في "الهادي": الأكثرون على أن قصة هلال اسبق من قصة عويمر.
وفي "الشامل" لابن الصباغ: قصة هلال تبيِّن أن الآية الكريمة نزلت فيه أولاً.
الثانية: في قوله: "كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتها" وهي أنه تدل على أن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع إلا بحكم حاكم؛ لأن فيه إخبارًا بأنه ممسك لها بعد اللعان، إذْ لو كانت الفرقة بين المتلاعنين وقعت قبل ذلك لاستحال. قوله:"كذبت عليها" وهو غير ممسك لها بحضرة سيدنا رسول الله عليه السلام ولم يكره.
قال الجصاص: فدل على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان إذْ غير جائز أن يقرّه رسول الله على الكذب ولا على استباحة نكاح قد بطل.
الثالثة: "في قوله جرت السنة في المتلاعنين" تأوله أي نافع المالكي على استحباب إظهار الطلاق بعد اللعان؛ والجمهور على أن معناه حصول بنفس اللعان أو بحكم الحاكم على الاختلاف المذكور فيه.
الرابعة: أن الملاعنة لا تكون إلا عند السلطان، وأنها ليست كالطلاق وهذا ما لا خلاف فيه، وكذلك لا خلاف أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع، واستحب جماعة أن يكون بعد العصر وفي أي وقت كان في المسجد الجامع أجزأ.
ص: فقد ثبث بما ذكرنا أن لا حجة في شيء من ذلك لمن يوجب اللعان بالحمل، فإن قال قائل: فإن في قول رسول الله عليه السلام: "إن جاءت به كذا فهو لزوجها لان جاءت به كذا فهو لفلان؛ دليلًا على أن الحمل هو المقصود إليه بالقذف واللعان، فجوابنا له في ذلك أن اللعان لو كان بالحمل إذن فكان منتفيًا في الزوج غير لاحق به أشبهه أو لم يشبهه، ألا ترى أنها لو كانت وضعته قبل أن يقذفها فنفى ولدها وكان أشبه الناس به أنه يلاعن بينهما ويفرق بينهما ويلزم الولد أمه، ولا يلحق بالملاعن لشبهه به، فلما كان الشبه لا يجب به ثبوت النسب ولا يجب بعدمه انتفاء النسب وكان في الحديث الذي ذكرنا أن رسول الله عليه السلام قال: "إن جاءت به كذا فهو للذي لاعنها" دل ذلك على أنه لم يكن بالعان نافيًا له؛ لأنه لو كان نافيًا له، إذًا لما كان شبهه به دليلًا على أنه منه، ولا بعد شبهه إياه دليل على أنه من غيره.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله فقال: إن امرأتي ولدَتْ غلامًا أسود ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة:"أن أعرابيًّا أتى النبي عليه السلام فقال: إن امرأتى ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرتُه، فقال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمرٌ، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله إنه عرقٌ نزعها، قال: فلعل هذا عرقٌ نزعه".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، وابن أبي ذئب، وسفيان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن رسول رسول الله عليه السلام مثله.
فلما كان رسول الله عليه السلام لم يُرخص له من نفيه لبُعْد شبهه منه، وكان الشبه غير دليل على شيء ثبت أن جعل النبي عليه السلام ولد الملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه دليل على أن اللعان لم يكن نفاه منه، فقد ثبت بما ذكرنا فساد ما احتج به الذين
يَرَوْن اللعان بالحمل، وفي ذلك حجة أخرى وهي أن في حديث سهل بن سعد، أن رسول الله عليه السلام قال:"انظروها فإن جاءت به كذا فلا أُراه إلا وقد صدق عليها".
فكان ذلك القول من رسول الله عليه السلام على الظن لا على اليقين، وذلك فما دلّ أيضًا أنه لم يكن جرى منه في الحمل حكم أصلاً، فثبت بذلك فساد قول من ذهب إلى اللعان بالحمل، وإنما احتججنا به لمن ذهب إلى خلافه في أول هذا الباب ممن أَبَى اللعان بالحمل، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول أبي يوسف في المشهور.
ش: أي فقد ثبت بما ذكرنا من هذه الأحاديث أن لا حجة في شيء منها لأهل المقالة الأولى الذين أوجبوا اللعان بالحمل.
قوله: "فإن قال قائل" سؤال يرد على قوله أن لا حجة في شيء من ذلك، وهو جواب ظاهر أن قوله دليلًا على أن الحمل اسم إن في قوله: فإن في قول رسول الله عليه السلام.
قوله: "ولا بُعد شبه إياه" بضم الباء وسكون العين بمعنى ضد القرب.
قوله: "وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي" إنما ذكره تأكيدًا للحجة.
قوله: "إن الشبه غير دليل على شيء إذ لو كان دليلًا على شيء كان يرخص للأعرابي أن ينفي ولده منه" فلما لم يرخص له بذلك مع بعد شبه الابن إياه دلَّ على أنه غير دليل على شيء، ودل أيضًا أن جعل النبي عليه السلام ولد للملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه كان دليلًا على أن اللعان لم يكن نافيًا له منه، فإذا كان كذلك ثبت فساد من يرى اللعان بالحمل.
فإن قيل: كيف ألحق النبي عليه السلام الولد بالملاعنة لما لاعن بينها وبين هلال بن أمية؟
فلو لم يكن اللعان بالحمل صحيحًا لما نفى نسبه منه؟
قلت: قد مر أن هلالًا لم يقذفها بالحمل بل بصريح الزنا وذكر الحمل، وبه نقول أن من قال لامرأته زنَيتِ وأنت حامل يلاعن؛ لأنه لم يعلق القذف بالشرط، ولأنه عليه السلام علم من طريق الوحي أن هناك ولدًا؛ ألا ترى أنه قال: إن جاء على صفة
كذا فهو لكذا، وإن جاء على صفة كذا فهو لكذا، ولا يعلم ذلك إلا بالوحي ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك فلا ننفي الولد.
فإن قيل: ذكر البيهقي حديث سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، أخبرني عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس:"ذكر المتلاعنان عند رسول الله عليه السلام، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلاً، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله عليه السلام فأخبر به بالذي وجد على امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرَّا قليل اللحم سَبِط الشعر، وكان الذي وجد عند أهله آدم خَدْلًا كثير اللحم جعدًا قططًا، فقال رسول الله عليه السلام: اللهم بيِّن، فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله عليه السلام، فقال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال رسول الله عليه السلام: لو رجمت أحدًا بغير بينة لرجمت هذه، فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإِسلام"، ثم قال البيهقي: هذه الرواية توهم أنه لاعن بينهما بعد الوضع، قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل، عن سليمان بن بلال، عن يحيى.
وأخرجه مسلم عن محمد بن رمح وعيسى بن حماد المصريان، عن الليث، عن يحيى بن سعيد.
وقول البيهقي: "هذه الرواية توهم" ليس كذلك؛ بل هي صريحة فيه، فإن كان اللعان فيه بالقذف ولا خلاف فيه، وإن كان بالحمل فبعد أن وضع وباتت حقيقة؛ فلا حجة فيه، وقال الطحاوي: ومذهب أبي حنيفة أنه إذا نفى حملها لا يلاعن؛ لأنه يجوز أن يكون حاملًا كما ذكرنا فيما مضى، ولهذا لو كانت له أمة حامل فقال لعبده: إذا كانت أمتي حاملاً فأنت حرّ، فمات أبو العبد قبل أن تضع، لا يرثه العبد في قول جميعهم، فقد لا يكون حملًا فلا يستحق العبد، وإنما نفى النبي عليه السلام الولد لأنه علم بالوحي وجوده؛ ولهذا قال: إن جاءت به كذا فهو لفلان
…
الحديث.
فإن قيل: أوجب الله النفقة للمطلقة الحامل بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1)، فكما ينفق عليها ما يغذي به ولدها قبل أن يضمه فكذا اللعان.
قلت: النفقة عليها بسبب العدة، إذ لو كانت للحمل لسقطت إذا كان للحمل مال بإرث أو غيره، ولو أوصى للحمل بمال لا ينفق على المطلقة من ذلك المال، ولو كانت المطلقة آيسة من الحمل تجب النفقة.
وقوله تعالى: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) غاية لوجوب النفقة يقضي به وجوبها عليه، وبعد الوضع يعلم حقيقة أنها كانت حاملاً.
وذكر ابن رشد في "القواعد" وضعًا آخر وهو: أن اللعان إذا مضى لا يمكن ردّه والنفقة يمكن ردّها.
وعن مالك: لا نفقة للمطلقة الحامل حتى تضع فيقضى لها بنفقة ما مضى، وهو قياس القول بأن اللعان لا يكون إلا بعد وضعه، إلا أنه مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
…
} (1) الآية.
فإن قيل: قضاؤه عليه السلام في دية شبه العمد بالخلْفات التي في بطونها أولادها دليل على أن الحمل يدرك.
قلنا: هن حوامل بغلبة الظن ظاهرًا لا تحقيقًا، فإن تبين ذلك الظاهر بوضعهن مضى الأمر وإلَّا ردَّهن وطَالَبَ بالحوامل، ولا يمكن ذلك في اللعان إذا مضى.
وقال الخطابي: وإنما ترد الجارية بعيب الحمل إذا قالت النساء: هي حبلى؛ لأن الردّ بالعيب يثبت بالشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة، والحدّ لا يجوز إثباته بالشبهة.
ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين صحيحين رجالهما كلهم من رجال "الصحيحين":
(1) سورة الطلاق، آية:[6].
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة.
الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن مالك بن أنس ومحمد ابن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب وسفيان الثوري؛ ثلاثتهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
وهذا الحديث أخرجه الجماعة:
فقال البخاري (1): حدثنا يحيى بن قزعة، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة:"أن رجلاً أتى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود. فقال: هل لك من إبل، قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرقه".
وقال مسلم (2): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى -واللفظ لحرملة- قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي.
وقال أبو داود (3): نا ابن أبي خلف، قال: نا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال:"جاء رجل إلى النبي عليه السلام من بني فزارة، فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: فما تراه؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق".
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2032 رقم 4999).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1137 رقم 1500).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 278 رقم 2260).
وقال الترمذي (1): نا عبد الجبار بن العلاء العطار وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال:"جاء رجل من بني فزارة إلى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال النبي عليه السلام: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم، إن فيها لورقًا، قال: أنَّى أتاها ذلك؟ قال: لعل عرقًا نزعها. قال: فهذا لعل عرقًا نزعه".
وقال النسائي (2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة
…
إلى آخره نحوه.
وقال ابن ماجه (3): نا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "إن أعرابيًّا" وفي رواية البخاري: "أن رجلا"، وفي رواية أبي داود والترمذي:"رجل من بني فزارة" والكل واحد، وهو ضمضم بن قتادة، ذكره عبد الغني بن سعيد في كتاب "الغوامض"، وقال فيه: ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل، وقال فيه أيضًا: فقدم عجائز من بني عجل فأخبرني أنه كان للمرأة جدة سوداء، ذكره المنذري، وقال إسناده غريب.
قلت: رواه أبو موسى المديني في كتابه "المستفاد بالنظر والكتابة" من طريق: عبد الغني بن سعيد، نا أبو إسحاق بن إبراهيم بن عمر الدمشقي، أبنا القاسم بن عيسى العصار، ثنا محمد بن أحمد بن مطهر، حدثني يحيي بن الغمر -وكان زوج بنت مطر بن العلاء- قال: أخبرني جدك، قال سمعته يحدث عن عمته قطبة بنت هرم بن قطبة: "أن مدلوكا حدثهم أن ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة
(1)"جامع الترمذي"(4/ 439 رقم 2128).
(2)
"المجتبى"(6/ 178 رقم 3478).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 645 رقم 2002).
له من بني عجل، فأوجس لذلك، فشكى إلى رسول الله عليه السلام فقال: هل لك من إبل، قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: فيها الأحمر والأسود وغير ذلك، قال: فأنى ذلك؟ قال: عرق نزع، قال: وهذا عرقه نزع، قال: فقدم عجائز من بني عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء". وقال أبو موسى: هذا إسناد عجيب، والحديث صحيح من رواية أبي هريرة، ولم يسمى فيه الرجل، وقال امرأة من بني فزارة.
قوله: "قال: حمر" بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر.
قوله: "إن فيها لورق" بضم الواو وسكون الراء جمع أورق.
والأورق المغبر الذي ليس بناصع البياض كون الرماد، ومنه سميت الحمامة ورقاء، وقال ابن الأثير: الأورق الأسمر، يقال: جمل أورق وناقة ورقاء، واللام فيه مفتوحة لأنها للتأكيد.
قوله: "فأنى ترى ذلك" أي من أين ترى ذلك.
قوله: "عرق نزعه" أي أصل أشبهه وأظهر لونه.
والعرق هنا الأصل من النسب، شبه بعرق الثمرة، يقال: معرق في النسب وفي اللؤم والكرم، وأصل النزع الجذب، كأنه جذبه لشبهه به، يقال منه: نزع ينزع، وهو ما شذ عن الأصل مما جاء على فَعَلَ يَفْعَلُ، فيما عينه من حروف الحلق أو لامه وأصله المطرد فعل يفعل، يقال: نزع الولد لأبيه ونزع إليه ونزعه أبوه، ونزع إليه، كله وارد.
ويستفاد من أحكام:
الأول: احتج به أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حَدَّ في التعريض ولا لعان؛ لأن النبي عليه السلام لم يلاعن على هذا الرجل المعرِّض حَدًّا، وقال مالك: يجب الحد بالتعريض.
الثاني: فيه دليل قاطع على صحة القياس والأعتبار بنظره من طريق واحدة قوية، وهو اعتبار الشبه الخلقي.
الثالث: قال يحيى: الذي فيه أن الولد يلحق الزوج وإن اختلفت ألوانهما، ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون.
الرابع: فيه تقديم حكم الفراش على اعتبار الشبه.
الخامس: فيه الزجر عن تحقيق ظن السوء، والله أعلم.
***