الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل يشتري الثمرة فيقبضها فتصيبها جائحة
ش: أي هذا باب في بيان حكم الثمرة التي يشتريها الرجل فيقبضها، ثم تصيبها آفة.
والجائحة -بالجيم ثم الحاء-: من الجوح، يقال: جاحهم يجوحهم جوحًا إذا غشيهم بالجوائح وأهلكهم.
والجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مُبِيرَة: جائحة.
ص: حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي عليه السلام نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح".
حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام، بمثله.
ش: هذان طريقان صحيحان.
والمزني هو إسماعيل بن يحيى خال الطحاوي، وسفيان هو ابن عيينة، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي، وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث في باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله "أن النبي عليه السلام نهى عن بيع السنين" واقتصر على هذا هناك.
وكذا أخرجه مسلم (1) والنسائي (2).
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1172 رقم 1536).
(2)
"المجتبى"(7/ 294 رقم 4627).
وأخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي عليه السلام نهى عن بيع السنين ووضع الجوائح".
وقد ذكرنا أن بيع السنين هو أن يبيع ثمرة حائطه سنين، وهو الذي يسمي أيضًا بيع المعاومة.
و"الوضع" من وَضِعَ في البيع يُوضع وَضِعية، وهو أن تكون الخسارة من رأس المال.
والجوائح جمع جائحة وهي الآفة.
ص: قال أبو جعفر -رحمة الله-: فذهب قوم إلى أن معني هذه الجوائح التي أمر النبي عليه السلام بوضعها في الثمار يبتاعها الرجل فيقبضها، فتصيبها في يده جائحة فتذهب بثلثها فصاعدًا، قالوا: فذلك يبطل ثمنها عن المشتري.
قالوا: وما أصابها فأذهب بشيء منها دون ثلثها ذلك من مال المشتري، ولم يبطل عنه من ثمنه شيء.
قالوا: وهذا مثل الحديث المروي عن رسول الله عليه السلام، فذكروا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، لم يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، [بم] (1) تأخذ [مال] (2) أخيك بغير حق".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، فذكر بإسناده مثله.
قالوا: فقد بين هذا الحديث المعني الذي ذكرنا.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: مالكًا والشافعي -في القديم- وأحمد وأبا عبيد وطائفة من أهل الحديث، ولكن فيما بينهم اختلاف أيضًا، فقال مالك والشافعي -في
(1) في "الأصل": ثم. والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
في "الأصل": من. والمثبت من "شرح معاني الآثار".
قول-: الجائحة التي توضع عن المشتري: الثلث فصاعدًا، ولا تكون فيما دون الثلث جائحة، وقال أحمد وأبو عبيد والشافعي -في قول-: تحط الجائحة في الثمار عن المشتري قلَّت أو كثرت.
وقال ابن قدامة في "المغني"(1): الكلام في هذه المسألة على فصول:
الأول: أن ما تهلكة الجائحة من الثمار من ضمان البائع في الجملة، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث.
الثاني: أن الجائحة: كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح والبرد والجراد والعطش.
الثالث: أن ظاهر المذهب أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه.
وقال أحمد: إني لا أقول في عشر تمرات وعشرين تمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة فوق -الثلث أو الربع أو الخمس- توضع.
وعنه رواية أخري: أن ما كان دون الثلث فهو من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، لأنه لا بد أن يأكل الطائر، منها وتنثُر الريح، ويسقط منها، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بن هذا وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع، منها: الوصية وعطايا المريض.
وقال الأثرم: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، ودليله قوله عليه السلام في الوصية:"الثلث والثلث كثير" ووجه الرواية الأولى عموم الأحاديث، فإن النبي عليه السلام أمر بوضع الجوائح، ولم يفرق بين القليل والكثير، إذا ثبت هذا؛ فإنه إذا تلف شيء له قدر خارج عن العادة؛ وضع من الثمن بقدر الذاهب، وإن تلف الجميع بطل العقد ويرجع المشتري بجميع الثمن،
(1)"المغني"(4/ 233).
وإن تلف البعض وكان الثلث فما زاد؛ رجع بقسطه من الثمن، وإن كان دونه لم يرجع بشيء، وإن اختلفا في الجائحة أو في قدر ما أتلفت، فالقول قول البائع لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول قول الغارم.
وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: والذي يوضع من الجوائح عند ابن القاسم: كل ما لا يستطاع دفعه وإن علم به، والذي يستطاع دفعه إن علم به ليس بجائحة، كالسارق، وهو مذهب ابن نافع في "المدونة" وقال ابن القاسم في "المدونة": كل ما أصاب الثمرة بأي وجه كان فهو جائحة سارقًا كان أو غيره، وقال مطرف وابن الماجشون: لا تكون جائحة إلا ما أصاب الثمر من أمر السماء؛ من عفن أو برد أو عطش أو فساد بِحَرٍّ أو بَرْدٍ أو بكسر الشجر، وأما صنع الآدمي فليس بجائحة، وإذا كانت الجائحة من قبل العطش فقال مالك وابن القاسم في "الواضحة": يوضع قليل ذلك وكثيره؛ كانت تشرب مطرًا أو غيره، وأما الجائحة بكثرة المطر فهو نوع من العفن يوضع كثيره دون قليله، وكل مبيع يحتاج إلى بقائه في أصلة لانتهاء صلاحه وطيبه كثمرة النخل والعنب؛ إذا اشتري عند بدو صلاحه، وكثمرة التفاح والتين والبطيخ والورد والياسمين والفول فلا خلاف عندنا في وضع الجائحة فيه، وأما ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه ولا لبقاء نضارة كالتمر اليابس والزرع، فلا خلاف أنه لا توضع فيه جائحة، لأن تسليمه قد كمل، وهو كالصبرة الموضوعة في الأرض.
وأما ما يحتاج إلى بقائه في أصله لحفظ نضارته كالعنب يشترى بعد تمام صلاحه، وكالقصيل والقصب والقرط والبقول والأصول المغيبة، فروى ابن القاسم في "المدونة": إن اشترى التمر في رءوس النخل وقد طابت طيبًا بيِّنًا، فأصابتها جائحة، فليس على البائع شيء، لأنه مثل ما في الجرن.
وروي أصبغ، عن ابن القاسم: لا توضع في قصب السكر جائحة، لأنه لا يباع حتى يتم، وروى سحنون عن ابن القاسم في قصب السكر والخريز وسائر البقول
والقصيل الجائحة، وبه قال ابن عبد الحكم، وقال سحنون: إذا تناهى العنب وآن قطافه حتى لا يتركه تارك إلا لسوق يرجوه أو لشغل يعرض له لم توضع فيه جائحة، هذا في البيع.
وأما إن كان مهرًا في النكاح فقال ابن القاسم: لا جائحة فيه. وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة. وقال ابن زرقون أيضًا: وما بيع من الثمار كالتين والعنب والتمر واللوز والجوز والتفاح فيراعي في جائحته الثلث، فإن قصرت الجائحة عن الثلث لم يوضع عن المشتري شيء، وما كان من أنواع البقول والأصول المغيبة مما الغرض في أعيانها دون ما يخرج منها، ففيها روايتان: نفي الجائحة جملة، وإثباتها.
فإذا قلنا بإثباتها فيها، فروى ابن القاسم عن مالك: أن الجائحة توضع فيها قليلها وكثيرها، وإن كانت دون الثلث قال ابن القاسم: عن مالك في "المدونة": إلا أن يكون الشيء التافه، وروي عنه: أنه لا يوضع من جائحتها إلا ما بلغ الثلث.
وأما القثاء والبطيخ والقرع والباذنجان والفول والجلبان، فروى ابن القاسم وجميع أصحابنا: أن الثلث يعتبر في جائحتها، وقال محمد عن أشهب: المقاثي كالبقل يوضع قليل جائحتها وكثيرها، فإن كان المبيع من الثمار في عقد واحد أجناسًا: عنبًا وتينًا وسفرجلًا أو ياسمينًا ووردًا، فأصاب جنسًا منها جائحة دون سائرها: فروى ابن حبيب عن مالك: كل جنس معتبر بنفسه إن بلغت ثلثه وضعت، وإن لم تبلغه لم توضع. وروى محمد عن أصبغ: أن جائحة المصاب معتبرة بالجملة، سواء كان في حائط أو حوائط مختلفة، ولو أشتري حوائط كثيرة من جنس واحد فأصابت الجائحة حائطًا منها اعتبر ثلث الجملة، والله أعلم.
قال ابن حزم في "المحلى"(1): وأما قول مالك في الجوائح فإنه لا يعرف عن أحد قبله ما ذكرنا عنه من التقسيم بين الثمار والمقاثي، وبين البقول والموز، ولا يعضد
(1)"المحلى"(8/ 384 - 386).
قوله في ذلك قرآن ولا سنة، ولا رواية سقيمة أصلًا ولا قول أحد من السلف، ولا قياس ولا رأي له وجه، ولهم في تخصيص الثلث آثار ساقطة، وهي التي روينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، ثنا مطرف، عن أبي طوالة، عن أبيه، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا أصيب ثلث الثمرة فقد وجب على البائع الوضيعة".
قال عبد الملك: وحدثني أصبغ بن الفرج، عن السبيعي، عن عبد الجبار بن عمر، عن ربيعة الرأي:"أن رسول الله عليه السلام أمر بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدًا".
قال عبد الملك: وحدثني عبد الله بن موسي، عن خالد بن إياس، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله عليه السلام: "خمس من الجوائح: الريح، والبرد، والحريق، والجراد، والسيل".
قال علي: هذا كله كذب، عبد الملك مذكور بالكذب، والأول مرسل مع ذلك، والسبيعي مجهول، لا يدري أحد من هو، وعبد الجبار بن عمر ضعيف، وهو أيضًا مرسل؛ فسقط كل ذلك، وخالد بن إياس ساقط.
وذكروا أيضًا عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روينا من طريق عبد الملك بن حبيب: نا ابن أبي أويس، عن الحسين بن عبيد الله بن ضَمْرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"أنه كان يقضي بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمن فصاعدًا".
ومن طريق ابن حبيب أيضًا: حدثني الحزامي، عن الواقدي، عن موسى بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن سليمان بن يسار قال:"باع عبد الرحمن بن عوف من سعد بن أبي وقاص عنبًا له، فأصابه الجراد، فأذهبه -أو أكثره- فاختصما إلى عثمان بن عفان، فقضى على عبد الرحمن برد الثمن إلى سعد".
قال الواقدي: وكان سهل بن أبي حثمة وعمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وعلي بن الحسين وسليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح يرون الجائحة موضوعة عن المشتري إذا بلغت الثلث فصاعدًا.
قال علي: هذا كله باطل؛ لأن كله من طريق عبد الملك بن حبيب. ثم الحسين ابن عبد الله بن ضَمْرة مطرح متفق على أن لا يحتج بروايته؛ وأبوه مجهول، والواقدي مذكور بالكذب، والله أعلم.
قوله: "وهذا مثل الحديث المذكور عن رسول الله عليه السلام
…
" إلى آخره، إشارة إلى أن ما ذكر هؤلاء القوم من معنى الجوائح التي تصيب الثمرة وتبطل من الثمن ثلثه على ما ذكر مثل ما روي عنه عليه السلام من قوله: "إن بعت من أخيك تمرًا
…
" الحديث وذلك لأنه يدل على أن الرجل إذا باع من آخر ثمرًا ثم أصابته جائحة؛ فإنه لا يحل له أن يأخذ من المشتري شيئًا، فإن أخذ منه شيئًا يرده عليه، وهذا معنى ما روي من قوله عليه السلام: "أنه أمر بوضع الجوائح".
ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقتين صحيحتين:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلي المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1): حدثني أبو الطاهر، قال: نا ابن وهب، عن ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله عليه السلام قال: "إن بعت من أخيك ثمرًا- (ح).
ونا محمد بن عباد، قال: نا أبو ضمرة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك ثمرًا- فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا؛ بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟! ".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1190 رقم 1554).
وأخرجه البيهقي (1) من حديث ابن وهب وأبي عاصم، قالا: أنا ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟! ".
وقالت أهل المقالة الأولى: هذا الحديث قد بَيَّن المعني الذي ذكرنا في وضع الجوائح. وسيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله تعالى.
وقال ابن حزم: لا حجة في هذا الحديث لقول مالك ومن تبعه؛ بل هو حجة عليه، لأنه ليس فيه تخصيص ثلث من غيره، وكذا الحديث الأول.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما ذهب من ذلك من شيء -قَلَّ أو كثر- بعد أن يقبضه المشتري؛ ذهب من مال المشتري وما ذهب في يدي البائع قبل أن يقبضه المشتري بطل ثمنه عن المشتري.
وقالوا: ما في هذه الآثار المروية عن رسول الله عليه السلام التي ذكرتموها فمقبول صحيح على ما جاء، ولسنا ندفع من ذلك شيئًا؛ لصحة مخرجه، ولكنا نخالف التأويل الذي تأولها عليه أهل المقالة الأولى.
ونقول: إن معنى الجوائح المذكورة فيها: هي الجوائح التى يصاب الناس بها وتجتاحهم في الأرضين الخِرَاجية التي خراجها للمسلمين، فوضع ذلك الخراج عنهم واجب لازم؛ لأن في ذلك صلاحًا للمسلمين، وتقوية لهم في عمارة أرضهم، فأما في الأشياء المبيعات فلا؛ فهذا تأويل حديث جابر رضي الله عنه الذي في أول هذا الباب.
وأما حديث جابر الثاني فمعناه غير هذا المعني، وذلك أنه ذكر فيه البيع ولم يذكر فيه القبض، فذلك عندنا على البياعات التي تصاب في أيدي باعتها قبل قبض المشتري لها، فلا يحل للباعة أخذ ثمنها، لأنهم يأخذونها بغير حق، فهذا تأويل هذا الحديث عندهم.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 306 رقم 10411).
فأما ما قد قبضه المشترون وصار في أيديهم، فذلك كسائر البياعات التبم يقبضها المشتري لها فتحدث بها الآفات في أيديهم، فلما كان غير الثمار يذهب من أموال المشتري لها لا من أموال باعتها؛ فكذلك الثمار.
فهذا هو النظر وهو أولى ما حمل عليه هذا الحديث؛ لأنه قد روي عن رسول الله عليه السلام ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث (ح).
وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف (ح).
وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب (ح).
وحدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، قالوا: ثنا الليث، قالا جميعًا: عن بكير بن الأشج، عن عياض بن عبد الله، عن أي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"أصيب رجل في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك".
فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار، وفيهم باعتها، ولم يرده على الباعة بالثمن، إن كانوا قد قبضوا ذلك منه؛ ثبت أن الجوائح الحادثة في يد المشتري لا تكون مبطلة عنه شيئًا من الثمن الذي عليه للبائع.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: وهم جمهور السلف والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في الجديد وأبا جعفر الطبري وداود وأصحابه، فإنهم قالوا: ما ذهب من ذلك -أي من المبيع- الثمر الذي أصابته جائحة من شيء، سواء كان قليلاً أو كثيرًا بعد قبض المشتري إياه، فهو ذاهب من مال المشتري، والذي ذهب في يد البائع قبل قبض [المشتري](1) فذاك يبطل الثمن عن المشتري.
(1) في "الأصل": "مشتري" بدون ألف ولام.
قوله: "وقالوا: ما في هذه الأحاديث
…
" إلى آخره جواب عن الأحاديث التي رويت عن رسول الله عليه السلام في الجائحة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر.
وقوله: "ما" في محل الرفع على الابتداء، موصولة تتضمن معني الشرط، ولهذا دخلت "الفاء" في خبره، وهو قوله:"فمقبول".
قوله: "على البياعات" جمع بياعة، بمعني البيع.
قوله: "باعتها" جمع بائع، كالحاكة جمع حائك.
قوله: "فهذا هو النظر" أي هذا الذي أوَّلناه هو وجه النظر والقياس، وهذا هو أولى ما حُمِلَ عليه حديث جابر رضي الله عنه أعني حديثه الثاني الذي رواه ابن جريج عن أبي الزبير عنه.
وقوله: "لأن ما روي عن رسول الله عليه السلام إلى آخره دليل لما ذكره من التأويل الذي يقتضيه النظر.
وقد بَيَّن ذلك بقوله: "فلما كان رسول الله عليه السلام لم يبطل دين الغرماء
…
" إلى آخره.
ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من أربع طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث ابن يعقوب الأنصاري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عياض بن عبد الله ابن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1) بنفس هذا الإسناد: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب.
وقد ذكرنا في ترجمة الطحاوي أنه قد شارك مسلمًا في بعض مشايخه، منهم: يونس بن عبد الأعلى هذا.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1191 رقم 1556).
الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري عن الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم أيضًا (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن بكير، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال:"أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله عليه السلام: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك".
الثالث: عن الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث، عن بكير
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1)، عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن بكير
…
إلى آخره نحوه.
الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يحيى بن إسحاق البجلي أبي بكر السيلحيني -ويقال: السيلحوني، والسالحيني أيضًا، والسيلحين: قرية بالقرب من بغداد.
وأخرجه النسائي (2): عن قتيبة، عن الليث، عن بكير
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "أصيب رجل في ثماره" قيل: إنه هو معاذ بن جبل رضي الله عنه.
قوله: "ابتاعها" أي اشتراها.
قوله: "فلم يبلغ ذلك" أي الذي تصدق عليه.
وهذا الحديث يشتمل على أحكام:
الأول: فيه دلالة على أن الجائحة التي تحدث في يد المشتري لا تكون مبطلة
(1)"سنن أبي داود"(2/ 298 رقم 3469).
(2)
"المجتبى"(7/ 265 رقم 4530).
للثمن الذي عليه للبائع، ولا شيئًا منه؛ لأنه عليه السلام لم يحكم ببطلان دين الغرماء فيه بذهاب الثمار.
وقال ابن حزم: أخرج رسول الله عليه السلام هذا الرجل الذي أصيب في ثمار من ماله كله لغرمائه، ولم يسقط عنه لأجل الجائحة شيئًا، فدل ذلك أن الجائحة التي تحدث في يد المشتري لا تبطل شيئًا من الثمن.
فإن قيل: لا نُسَلِّم هذا الذي ذكرتم لأن الحديث الأول عام، والمقصود منه البيان بوضع الجوائح، وهذا الحديث حكم في عين، ولعله اشتراها بعد تمام طيبها وإمكان جِذاذها.
قلت: هذا ممنوع؛ لأن الحديث الأول قد ذكرنا أنه في الأرضيين الخَرَاجِيَّة وليس فيه شيء يدل على أنه في الأشياء المبيعات.
وأما الحديث الثاني فإن العبرة فيه لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ فافهم.
الثاني: فيه الحض على الصدقة على المديان ليقضي منها دينه.
الثالث: فيه أن الحر لا يباع في الدين، على ما كان في أول الإِسلام ثم نسخ بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1).
الرابع: فيه أنه لم يلزمهم بلزومه، ولا سوغه لهم، وهو حجة على من يذهب إلى خلاف ذلك.
الخامس: فيه أنه لم يسجنه عليه السلام، وهو حجة على شريح: في قوله: يسجن أبدًا حتى يؤدي، وإن ثبت عدمه.
السادس: فيه الحكم بأن يسلم للغرماء جميع ما يملكه، ويسوغه لهم الحاكم إن كان دينهم من جنسه، وإن كان غيره، باعه لهم الحاكم، وقسم ثمنه بينهم.
ص: فإن قال قائل: إن الثمار لا تشبه سائر البياعات، لأنها معلقة في رءوس النخل، لا تصل إليها يد من ابتاعها إلا بقطعه إياها، وسائر الأشياء ليست كذلك،
(1) سورة البقرة، آية:[280].
فما يكون مقبوضًا بغير قطع مستأنف فهو الذي يذهب من مال المشتري، وما كان لا يقبض إلا بقطع مستأنف فهو الذي يذهب من مال البائع.
قيل له: هذا الكلام فاسد من وجهين:
أما أحدهما: فإنا رأينا هذه الثمار إذا بيعت في رءوس النخل فذهبت بكمالها أو ذهب منها شيء في أيدي باعتها؛ ذهب ذلك من أموالهم دون أموال المشتري.
فكان ذهاب قليلها وكثيرها في ذلك سواء؛ لأنهم لم يقبضوها، فإذا قبضوها فذهب منها ما دون الثلث؛ فقد أجمع أنه ذاهب من مال المشتري؛ لأنه ذهب بعد قبضه إياه.
فلما استوي ذهاب قليله وكثيره في يد البائع، وكان قليلة إذا ذهب في يد المشتري ذهب من ماله؛ كان كثيره كذلك، وكان المشتري بتخلية البائع بينه وبين ثمر النخل قابضًا له، وإن لم يقطعه. فهذا وجه.
ووجه أخر: أنا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهي عن بيع الطعام حتى يقبض، وأجمع المسلمون على ذلك، وكانت الثمار في ذلك داخلة باتفاقهم، وأجمعوا أن المشتري لها لو باعها في يد بائعها كان بيعه باطلاً، ولو باعها بعد أن خلى البائع بينه وبينها ولم يقطعها كان بيعه جائزًا، فصار قابضًا لها بتخلية البائع بينه وبينها قبل قطعه إياها.
فثبت بذلك أن قبض المشتري للثمار في رءوس النخل هو بتخلية البائع بينه وبينها وإمكانه إياه منها، فإذا فعل ذلك به فقد صارت في يده وفي ضمانه وبريء منها البائع، فما حدث فيها من جائحة أتت عليها كلها أو على بعضها فهي ذاهبة من مال المشتري لا من مال البائع.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: هذا السؤال مع جوابه ظاهران غنيان عن الشرح.
قوله: "وكانت الثمار في ذلك داخلة باتفاقهم". قيل: لا نسلم أنها داخلة في ذلك؛ لأن المراد من بيع الطعام: هو الحنطة والثمار لا تدخل في ذلك، وأجيب بأن
هذا غير صحيح؛ لأن العلماء متفقون على أن المراد من الطعام في الحديث الذي نهي فيه عن بيعه حتى يقبض ما يتناول كل مقبوض.
وقال القاضي في شرح هذا الحديث: والمشهور عن مالك عمومه في جميع المطعومات وهو قول أبي ثور وأحمد في كل ما يقع عليه اسم مطعوم، وذهب الشافعي إلى عموم ذلك في أنواع المبيعات، ووافقه أبو حنيفة رضي الله عنه واستثني العقار وحده.
وقال آخرون: كل بيع يكون على الكيل أو الوزن -طعامًا أو غيره- فلا يباع حتى يقبض، وسيجيء التحقيق فيه في الباب التالي إن شاء الله تعالى.
***