الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: ما نهي عن بيعه حتى يقبض
ش: أي هذا باب في بيان ما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه إلا بعد القبض.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وعفان، قالا: ثنا شعبة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اشتري طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه".
حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبد بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا على بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عن رسول الله عليه السلام، مثله.
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن عبيد الله، عن نافع، ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يَسْتَوْفِيَه".
حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا على بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عمر وعمر بن محمد ومالك وغيرهم، أن نافعًا حدثهم، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفِيَه".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام، مثله.
قال مالك: "حتى يقبضه".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وغيره، عن
المنذر بن عبيد المدني، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه".
ش: هذه ثمان طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وعفان بن مسلم، كلاهما عن شعبة .... إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر يحدث، عن النبي عليه السلام أنه قال:"من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه".
قوله: " فلا يبيعه" نفي، فلذلك لم يجزم.
وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي بأسانيد مختلفة وألفاظ مبتاينة.
الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "من ابتاع طعامًا، فلا يبيعه حتى يقبضه ويستوفيه".
الثالث: عن علي بن معبد، عن يونس بن محمد بن مسلم البغدادي المؤدب -روى له الجماعة- عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الذي احتج به الأربعة.
وأخرجه البزار في "مسنده"(2): ثنا إبراهيم بن زياد الصائغ، ثنا يونس بن محمد، نا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب، عن النبي عليه السلام قال:"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه".
(1)"مسند أحمد"(2/ 79 رقم 5500).
(2)
"مسند البزار"(1/ 265 رقم 162).
الرابع: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني -روي له الجماعة- عن عبيد الله بن عمر
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يَسْتَوْفِيَه".
قوله: "فلا يبعه" نهي، فلذلك جزم.
الخامس: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني قارئ أهل المدينة، عن عبد الله بن دينار .... إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى وعلي بن حجر، قال يحيى: أنا إسماعيل بن جعفر، وقال علي: ثنا إسماعيل، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه".
السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وعمر بن محمد ابن زيد بن عبد الله بن عمر الخطاب، ومالك بن أنس، ثلاثتهم عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه ابن وهب في "مسنده".
السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب .... إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطأه"(2).
الثامن: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن عمرو بن الحارث
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1160 رقم 1526).
(2)
"موطأ مالك"(2/ 640 رقم 1311).
وغيره، عن المنذر بن عبيد المدني -وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والنسائي- عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه النسائي (1): أنا سليمان بن داود والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن المنذر بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر "أن رسول الله عليه السلام نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه".
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام قال:"من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه".
ش: إسناده صحيح.
وابن جريج هو عبد الملك، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي.
وأخرجه مسلم (2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: حدثني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان رسول الله عليه السلام يقول: "إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تَستوفِيَهُ".
ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن أبي حازم، عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يستوفِيَه".
ش: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه فيه مقال.
وابن أبي حازم هو عبد العزيز بن أبي حازم واسمه سلمة بن دينار المدني، روى له الجماعة.
(1)"المجتبى"(7/ 286 رقم 4604).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1163 رقم 1529).
والضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي أبو عثمان المدني الكبير، وثقه يحيى وأحمد، وروى له الجماعة سوي البخاري.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأبو كريب، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله -وفي رواية أبي بكر: من ابتاع".
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عصمة الجشُمي، عن حكيم بن حزام قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أُنبأ -أو ألم أُخْبَر- أنك تبيع الطعام؟ فلا تبعه حتى تستوفيه".
حدثنا ابن مرزوق، قال: أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن صفوان بن موهب، عن عبد الله بن محمد بن صيفي، عن حكيم بن حزام، عن رسول الله عليه السلام مثله، غير أنه قال:"حتى تقبضه".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز ابن رفيع، عن عطاء، عن حزام بن حكيم بن حزام، عن حكيم بن حزام قال:"كنت اشتري طعامًا فأربح فيه قبل أن أقبضه، فسألت النبي عليه السلام فقال: لا تبعه حتى تقبضه".
ش: هذه ثلاث طرق حسان جياد:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس روي له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عصمة الجشمي الحجازي، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي (2) وأخرج الحديث: أخبرني إبراهيم
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1162 رقم 1528).
(2)
"المجتبى"(7/ 276 رقم 4602).
ابن الحسن، ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء، عن عبد الله بن عصمة الجُشُمي، عن حكيم بن حزام، عن النبي عليه السلام، نحوه.
قوله: "ألَمْ أُئْبَا" على صيغة المجهول وكذا قوله: "أَلَم أُخْبَر" ومعناهما واحد.
الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن موهب الحجازي وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن محمد بن صيفي القرشي المخزومي وثقه ابن حبان، عن حكيم بن حزام
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن موهب، عن عبد الله بن محمد بن صيفي، عن حكيم بن حزام، أن النبي عليه السلام قال له:"ألم أُنْبَأ -أو: ألم أُخْبَر، أو: ألم يبلغني، أو كما شاء الله- أنك تبيع الطعام؟ قلت: بلي، قال: فإذا ابتعت طعامًا فلًا تبعه حتى تستوفيه".
وأخرجه النسائي أيضًا (2): عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج
…
إلى آخره نحوه.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن عبد العزيز ابن رفيع الأسدي المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن حزام بن حكيم بن حزام، عن أبيه حكيم بن حزام
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): أنا سليمان بن منصور، نا أبو الأحوص، عن عبد العزيز ابن رفيع، عن عطاء بن أبي رباح، عن حزام بن حكيم قال: قال حكيم بن حزام:
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 312 رقم 10459).
(2)
"المجتبى"(7/ 286 رقم 4602).
(3)
" المجتبى"(7/ 286 رقم 4603).
"ابتعت طعامًا من طعام الصدقة، فربحت فيه قبل أن أقبضه، فأتيت رسول الله عليه السلام فذكرت ذلك له، فقال: لا تبعه حتى تقبضه".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن من اشترى طعامًا لم يجز له بيعه حتى يقبضه، ومن اشترى غير الطعام حل له بيعه وإن لم يقبضه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وقالوا: لما قصد النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي إلى الطعام، دل ذلك أن حكم غير الطعام في ذلك بخلاف حكم الطعام.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عثمان البتي وسعيد بن المسيب، والحسن والأوزاعي وإسحاق ومالكًا في رواية وأحمد في قول، فإنهم قالوا: من اشترى طعامًا لم يجز له بيعه حتى يقبضه، ومن اشترى غير الطعام حل له بيعه وان لم يقبضه.
وتحقيق الخلاف أن مذهب عثمان البتي: جواز بيع كل شيء قبل قبضه سواء كان طعامًا أو غيره ومذهب غيره، ممن ذكرناهم على التفصيل المذكور، وهو مذهب الحكم بن عتيبة وحماد أيضًا، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقال ابن قدامة في "المغني": ومن اشتري ما يحتاج إلى قبض لم يجز بيعه حتى يقبضه، ولا أرى بين أهل العلم في هذا خلافًا، إلا ما حكي عن عثمان البتي، أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه.
قال ابن عبد البر: هذا قول مردود بالسنة، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه -في أظهر الروايتين- ونحوه قول مالك وابن المنذر.
وقال القاضي عياض في "شرح مسلم": اختلف الناس في جواز بيع المشتريات قبل قبضها، فمنعه الشافعي في كل شيء، وانفرد عثمان البتي فأجازه في كل شيء، ومنعه أبو حنيفة -رحمة الله- في كل شيء إلا العقار وما لا ينقل، ومنعه آخرون في سائر المكيلات والموزونات، ومنعه مالك في سائر المكيلات والموزونات إذا كانت طعامًا.
وقال أيضًا: اختلف العلماء فيما بيع من الطعام جزافًا هل هو مثل ما بيع على الكيل أو العد والوزن، يجوز بيعه قبل استيفائه ونقله أم لا؟ فمشهور
مذهب مالك جوازه؛ لأنه بتمام العقد صار في ضمان البائع، فخرج من النهي عن ربح ما لم يضمن، وبجوازه قال عثمان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وإسحاق.
وذهب الكوفيون والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود إلى منعه.
وقد بقي من الخلاف في أصل المسألة ما روي عن مالك: أن ذلك يختص فيما لا يجوز فيه التفاضل والطعام، رواه عنه ابن وهب، وإن كان قد ذكر غير واحد أن العلماء لم يختلفوا في منع ذلك في جميع الطعام، والمشهور عن مالك عمومه في جميع المطعومات، وهو قول أبي ثور وأحمد، في كل ما يقع عليه اسم مطعوم، وذهب الشافعي إلى عموم ذلك في أنواع المبيعات، ووافقه أبو حنيفة واستثني العقار وحده.
وقال آخرون: كل بيع على الكيل أو الوزن طعامًا أو غيره، فلا يباع حتى يقبض.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ذلك النهي قد وقع على الطعام وغير الطعام، وإن كان المذكور في الآثار التي ذكر ذلك النهي فيها هو الطعام.
واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"ابتعت زيتًا بالسوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ إليه، فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله عليه السلام نهانا أن نبيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم".
فلما أخبر زيد رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام بأن الزيت قد دخل فيما كان نهى عن بيعه قبل قبضه -وهو غير الطعام الذي كان ابن عمر علم من رسول الله عليه السلام النهي عن منعه بعد ابتياعه حتى يقبض، وعمل ابن عمر على ذلك، فأراد بيع الزيت قبل قبضه، لأنه ليس من الطعام، فقُبِلَ ذلك منه ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يكن ما كان سمع من رسول الله عليه السلام-مما ذكرناه عنه في أول هذا الباب من قصده إلى الطعام- بمانع
أن يكون غير الطعام في ذلك بخلاف الطعام، ثم أكد زيد بن ثابت رضي الله عنه الأمر في ذلك، فقال:"كان رسول الله عليه السلام ينهانا عن ابتياع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فجمع بذلك كل السلع، وفيها غير الطعام.
فدل ذلك على أنه لا يجوز بيع شيء ابتيع إلا بعد قبض مبتاعه إياه، طعامًا كان أو غيره، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقد علم من رسول الله عليه السلام قصده بالنهي عن بيع ما لم يقبض إلى الطعام ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"أما الذي نهى عنه رسول الله عليه السلام فبيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس برأيه: وأحسب كل شيء مثله".
فهذا ابن عباس لم يمنعه قصد النبي عليه السلام بالنهي إلى الطعام أن يُدخل في ذلك النهي غير الطعام.
وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مثل ذلك أيضًا:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر:"في الرجل يبتاع البيع فيبيعه قبل أن يقبضه، قال: أكرهه".
فهذا جابر رضي الله عنه قد سوى بين الأشياء المبيعة في ذلك، وقد عَلِمَ من رسول الله عليه السلام قصده -بالنهي عن البيع فيه حتى يُقبض- إلى الطعام بعينه، فدل ذلك على ما قد تقدم وصفنا لذلك.
ش: أي خالف القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم:
عطاء بن أبي رباح والثوري وابن عيينة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في الجديد، ومالكًا في رواية، وأحمد في رواية، وأبا ثور وداود، فإنهم قالوا: النهي المذكور في الأحاديث المذكورة قد وقع على الطعام وغيره، وهو مذهب ابن عباس أيضًا، ولكن أبا حنيفة قال: لا بأس ببيع الدور والأرضين قبل القبض، لأنها لا تنقل، ولا تحول وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال أبو حنيفة هذا الحكم -يعني عدم جواز البيع قبل القبض- في كل مبيع ينقل ويحول. وقال الشافعي: هو في
كل مبيع. وقال أبو حنيفة: أما المهر والجعل وما يؤخذ في الخلع من طعام أو غيره فيجوز بيعه قبل قبضه. قال: وما ملك بالشراء -أو بالإجارة- فلا يجوز بيعه قبل القبض إلا العقار وحده، ومنعه الشافعي في كل مبيع؛ عقارًا أو غيره، وهو قول الثوري وابن عيينة ومحمد بن الحسن.
وهو مذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن النهي المذكور عام يتناول الطعام وغيره، وإن كان المذكور -في الأحاديث التي ذكر فيها النهي المذكور- فيها هو الطعام، بحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، فإنه أخبر عن النبي بأن الزيت قد دخل في الذي نهي عليه السلام عن بيعه قبل القبض، والزيت غير الطعام الذي قد علم ابن عمر رضي الله عنهما من النبي عليه السلام النهي عن بيعه بعد الشراء قبل القبض.
ثم إن ابن عمر رضي الله عنهما قد عمل بما قال له زيد بن ثابت رضي الله عنه، والحال أن ما كان سمع منه عليه السلام ما قد تقدم ذكره في أول الباب من قصده إلى الطعام لم يكن مانعًا أن يكون غير الطعام في ذلك بخلاف الطعام.
ثم إن زيد بن ثابت رضي الله عنه قد أكد عموم النهي وتناوله للطعام وغيره بقوله: "كان رسول الله عليه السلام نهانا عن ابتياع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فقوله: "السلع" يتناول كل سلعة كانت، وهي أعم من أن تكون طعامًا أو غيره، فدل ذلك على أنه لا يجوز بيع شيء أشتراه الرجل إلا بعد قبضه؛ سواء كان طعامًا أو غيره، ويؤكد ما ذكرنا أيضًا قول ابن عباس:"أما الذي نهى عنه رسول الله عليه السلام: فبيع الطعام قبل أن يستوفى"، ثم قال برأيه:"وأحسب كل شيء مثله".
فكلامه هذا يدل على أن قصد النبي عليه السلام بالنهي إلى الطعام لم يمنع فيه أن يدخل في النهي المذكور غير الطعام؛ لأن ابن عباس قد علم منه عليه السلام ذلك القصد، ثم قال:"وأحسب كل شيء مثله".
وكذلك جابر بن عبد الله قد علم من رسول الله عليه السلام قصده بالنهي عن البيع قبل القبض إلى الطعام، ثم قال في الرجل يبتاع البيع فيبيعه قبل أن يقبضه قال:"أكرهه" فعمم في كلامه؛ لأن قوله: "يبتاع البيع" يتناول الطعام وغيره.
فدل هذا كله أن المراد من النهي عن البيع قبل القبض عامٌّ، يتناول الطعام وغيره، وإن كانت الأحاديث المذكورة قد عُيِّنَ فيها الطعام بالوجه الذي ذكرناه.
فإن قيل: دليل خطاب الأحاديث المذكورة في أول الباب يقتضي جواز بيع غير الطعام قبل القبض؛ لأن سائر المكيلات لو كان بيعها ممنوعًا قبل القبض لما خص الطعام بالذكر، فلما خصَّه؛ دل على أن ما عداه بخلافه.
قلت: الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك فيتناول سائر المطعومات من المكيلات وغيرها، والطعام يطلق على غير ما يؤكل أيضًا، فإنه أطلق على ماء زمزم على ما جاء في الحديث (1)"أنها طعام طعم وشفاء سقم" ولئن سَلَّمنا أن الطعام مقتصر على ما يطعم أو على الحنطة خاصة، ولكن ما ذكرنا من حديث زيد وغيره يدل على أن تعيين الطعام في الأحاديث المذكورة ليس المراد منه تخصيصه، بل حكم غيره مثل حكمه، لأن النهي لأجل أن فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه؛ لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض بطل البيع الأول، فينفسخ الثاني؛ لأنه بناءً على الأول، وقد "نهي رسول الله عليه السلام عن بيع فيه غرر" رواه مسلم (2)
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 147 رقم 9441)، والبزار في "المسند"(9/ 367 - 369 رقم 3946)، والطبراني في "الصغير"(1/ 186 رقم295).
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 621 رقم 5711): رواه البزار والطبراني في "الصغير"، ورجال البزار رجال الصحيح.
وأصل الحديث في "صحيح مسلم"(4/ 1919 رقم 2473)، و"مسند أحمد" (5/ 174 رقم 21565) دون لفظة:"وشفاء سقم".
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1153 رقم 1513).
والترمذي (1) وأبو داود (2) والنسائي (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ثم حديث زيد بن ثابت أخرجه بإسناد حسن جيِّد عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي الحمصي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق المدني، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبيد بن حنين المدني -روى له الجماعة.
وأخرجه أبو داود (4): ثنا محمد بن عوف الطائي، قال: نا أحمد بن خالد الوهبي، قال: نا محمد بن إسحاق
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه الدارقطني (5) والبيهقي (6) أيضًا.
فإن قلت: كيف قلت: إسناده جيد حسن وقد قال ابن حزم: حديث زيد بن ثابت هذا رواه أحمد بن خالد الوهبي وهو مجهول؟!
قلت: هذا كلام ساقط؛ لأن الوهبي رجل مشهور روى عنه أئمة حفاظ، وقد وثقه يحيى، واحتج به الأربعة.
قوله: "ابتعت زيتًا" أي اشتريت.
قوله: "فأردت أن أضرب على يده" أي أعقد به البيع لأن من عادة المتبايعين أن يضع أحدهما يده في يد الآخر عند عقد التبايع.
قوله: "حتى تحوزه إلى رحلك" أي حتى تضمه وتسوقه إلى منزلك، يقال: حازه يحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به.
ورحل الرجل: منزله ومسكنه.
(1)"جامع الترمذي"(2/ 532 رقم 1230).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 274 رقم 3376).
(3)
"المجتبى"(7/ 262 رقم 4518).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 304 رقم 3499).
(5)
"سنن الدارقطني"(3/ 13 رقم 36).
(6)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 314 رقم 10473).
وأما أثر ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس.
وأحْرجه البخاري (1) ومسلم (2): من حديث عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس يقول:"أما الذي نهى عنه رسول الله عليه السلام فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله".
ولفظ مسلم: أن رسول الله عليه السلام قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفِيَهُ قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله".
وأما أثر جابر رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وأخرجه عبد الرزاق (3)، عن ابن جريج
…
إلى آخره نحوه.
ص: فإن قال قائل: فكيف قصد بالنهي في ذلك إلى الطعام بعينه ولم يعم الأشياء؟!
قيل له: قد وجدنا مثل هذا في القرآن، قال الله عز وجل {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (4) فأوجب عليه الجزاء المذكور في الآية، ولم يختلف أهل العلم في قاتل الصيد خطأً أن عليه مثل ذلك، وأن ذكره العمد لا ينفي الخطأ، فكذلك ذكره الطعام في النهي عن بيعه قبل القبض لا ينفي غير الطعام، وقد رأينا الطعام يجوز فيه السَّلَم، ولا يجوز السَّلَم في العروض، فكان الطعام أوسع أمرًا في البيوع من غير الطعام؛ لأن الطعام يجوز السَّلَم فيه وإن لم يكن عند المُسَلَّم إليه،
(1)"صحيح البخاري"(2/ 751 رقم 2028).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1159 رقم 1525).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(8/ 43 رقم 14229).
(4)
سورة المائدة، آية:[95].
ولا يكون ذلك في غيره، فلما كان الطعام أوسع أمرًا في البيوع، وكثر جوازًا، ورأيناه قد نهى عن بيعه حتى يقبض، كان ذلك فيما لا يجوز السلم فيه أحرى أن لا يجوز بيعه حتى يقبض، فقصد رسول الله عليه السلام بالنهي الذي إذا نهى عنه دل نهيه على نهيه عن غيره، وأغناه ذكره له، عن ذكره لغيره، فقام ذلك مقام النهي إلى الذي لو عمَّ به الأشياء كلها.
ولو قصد بالنهي إلى غير الطعام أشكل حكم الطعام في ذلك على السامع، فلم يدر هل هو كذلك أم لا؟ لأنه قد يجد الطعام يجوز السَّلَم فيه، وليس هو بقائم حينئذ، ولشى يجوز ذلك في العروض، فيقول: كما خالف الطعام العروض في جواز السَّلَم فيه، وليس عند المسلم إليه، وليس ذلك في العروض، فكذلك يحتمل أن يكون مخالفًا له في جواز بيعه قبل أن يقبض، وإن كان ذلك غير جائز في العروض.
فهذا هو المعنى الذي له قصد النبي عليه السلام بالنهي عن بيع ما لم يقبض إلى الطعام خاصة.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم ادعيتم أن النهي المذكور في الأحاديث المتقدمة وقع على الطعام وغيره، وإن كان النهي فيها عن الطعام خاصة، ولو كان المراد هذا لم يكن النبي عليه السلام يقصد بالنهي إلى الطعام بعينه، ولَكَانَ يذكر شيئًا يعمّ الأشياء كلها، فلما لم يعمّ الأشياء، وقصد بالنهي إلى الطعام؛ دل أن غير الطعام يخالف الطعام فيه، فافهم.
وتقرير الجواب ما ذكره بقوله: "قيل له .... " إلى آخره، ملخصه أن تعيين الطعام بالذكر من قبيل تعيين العمد بالذكر في قوله تعالي:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (1) فإنهم اتفقوا على أن ذكر العمد في الآية ليس يقيد، بل حكم الخطأ فيه كالعمد، فكذلك الطعام ها هنا ليس بقيد، بل غير الطعام فيه كالطعام.
(1) سورة المائدة، آية:[95].
فإن قيل: قد ذكروا أن نزول الآية في العمد، والحقوا به الخطأ والنسيان تغليظًا، وها هنا كيف يلحق غير الطعام بالطعام؟
قلت: لما كان النهي عن بيع الطعام قبل قبضه معلَّلا بأن فيه غرر انفساخ البيع، فهذا المعنى يوجد في غير الطعام أيضًا، فيلحق به، مع ما جاء من الآثار الدالة على بيع الطعام وغير كما تقدم ذكره.
فإن قيل: لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسًا، وليس في المخطئ نصٌّ في إيجاب الجزاء، فكيف توجبون عليه الكفارة كالعامد؟!
قلت: ليس هذا قياس بل بالنص؛ لأنه لما استوى حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام، كان مقصودًا في ظاهر النهي بتساوي حال العامد والمخطئ، وليس ذلك قياسًا، كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي عليه السلام في بريرة ليس بقياس، وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة، وحكم الزيت بحكم السمن إذا مات فيه، ليس هو قياسًا على الفأرة والسمن؛ لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا، فإذا ورد في شيء منه كان حكمًا في جميعه.
قوله: "وقد رأينا الطعام
…
" إلى آخره دليل آخر يلحق غير الطعام بالطعام تأكيدًا لما ذكره من الجواب، وهو ظاهر.
قوله: "ولا يجوز السلم في العروض" ليس على الإطلاق ففي العروض التي يمكن ضبط صفتها ومعرفة مقدارها يجوز السلم فيها، كما عرف في موضعه.
ص: وفي ذلك حجة أخرى: أن المعني الذي حرم به على مشتري الطعام بيعه قبل قبضه، هو أنه لا يطيب له ربح ما في ضمان غيره، فإذا قبضه صار في ضمانه، فطاب له ربحه، فجاز أن يبيعه متى أحب، والعروض المبيمعة هذا المعنى بعينه موجود فيها، وذلك أن الربح فيها قبل قبضها غير حلال لمبتاعها؛ لأن النبي عليه السلام قد نهي عن ربح ما لم يضمن.
فلما كان ذلك قد دخل فيه الطعام وغير الطعام، ولم يكن الربح يطيب لأحد إلا بتقدم ضمانه، لما كان عنه ذلك الربح، فكذلك الأشياء المبيعة كلها ما كان منها يطيب الربح فيه لبائعه، فحلال له بيعه، وما كان منها يحرم الربح فيه على بائعه، فحرام عليه بيعه.
ش: أي وفي عموم النهي وتناوله الطعام وغيره حجة أخرى، حاصل ذلك أن بيع المبيع قبل قبضه يستلزم ربح ما لم يضمن، وقد نهي رسول الله عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على ما نبينه الآن إن شاء الله تعالى. بيان ذلك أن المبيع ما لم يقبض هو في ضمان البائع، حتى إذا هلك يهلك من ماله دون مال المشتري، فإذا باعه المشتري قبل قبضه يكون فيه ربح ما في ضمان غيره، فلا يطيب له ذلك، فإذا قبضه دخل في ضمانه، حتى إذا هلك يهلك من ماله دون مال البائع، فإذا باعه بعد القبض يكون فيه ربح ما في ضمان نفسه، فيطيب له ذلك على أي وجه كان.
ثم هذا المعني يستوي فيه الطعام وغيره من العروض والسلع، فدل ذلك أن النهي عن بيع ما لم يقبض يتناول الطعام وغيره، وقد أجاب بعض المالكية عن هذا فقال: إن النهي عن ربح ما لم يضمن محمول على بيع الخيار، وأن يبيع المشتري قبل أن يختار، أو هو محمول على الطعام، ثم يخص عمومه إذا حملته على بيع الخيار وأن يبيع المشتري قبل أن يختار، أو هو محمول على الطعام ثم يخص عمومه إذا حملناه على الطعام بإحدي طريقتين:
إما دليل الخطاب في قوله: "نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى" فدل أن ما عداه بخلافه.
أو يخص بما ذكره ابن عمر رضي الله عنهما من أنهم كانوا يبيعون الإبل بالدراهم ويأخذون عنها ذهبًا، أو بالذهب، ويأخذون عنها دراهم وأضاف إجازة ذلك إلى النبي عليه السلام وهذا إجازة ربح ما لم يضمن في العين، ونقيس عليه ما سوى الطعام ونخص به النهي عن ربح ما لم يضمن، ويحمل قول ابن عمر من منع بيع الطعام
الجزاف حتى يؤوه إلى رحالهم؛ على الاستحباب، والرواية التى فيها ذكر ضربهم، وهو أنهم كانوا يضربون على عهد النبي عليه السلام إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحركوه، تحمل على أنه فعل ذلك حماية للذريعة وعلى أنهم اتخذوا ذلك غيبة ممنوعة.
وقال هؤلاء أيضًا: إن الملك ينتقل بنفس العقد بدليل أن المبيع لو كان عبدًا فأعتقه المشتري قبل القبض عتق، وإذا ثبت الملك جاز التصرف، ما لم يكن فيه إبطال حق لغيره.
والجواب عن ذلك أن ما ذكر كله فاسد:
أما الأول: فلأن نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن عامّ، وحمله على بيع الخيار تحكم ليس فيه دليل.
وأما الثاني: فممنوع؛ لأن تعليق الخبر بالاسم لا يدل على نفيه ما عداه، وقد قلنا أن تنصيص الطعام بالذكر ليس لأجل التعيين والتقييد، وأنه لا ينافي أن يكون غير الطعام في ذلك كالطعام.
وأما الثالث: فلأن أخذ الذهب عن الدراهم، أو أخذ الدراهم عن الذهب ليس مما نحن فيه؛ لأنه لا يقصد به الربح حتى يدل على إجازة ربح ما لم يضمن، وإنما يراد به الاقتضاء والاقتصاص، والنقود مخالفة لغيرها من الأشياء، وبعضها ينوب عن بعض، وللحاكم أن يحكم على من أتلف على إنسان مالاً بأيهما شاء، لأنهما كالنوع الواحد في هذا المعني.
وأما الرابع: فلأن العتق إتلاف، وإتلاف المشتري عين المبيع يقوم مقام القبض، فافهم.
وأما حديث النهي عن ربح ما لم يضمن فأخرجه أبو داود (1): ثنا زهير بن حرب، نا إسماعيل -هو ابن علية- عن أيوب السختياني، حدثني عمرو بن
(1)"سنن أبي داود"(2/ 305 رقم 3504).
شعيب، حدثني أبي، عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
وأخرجه الترمذي أيضًا (1): عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل .. إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (2) أيضًا.
وأخرجه الطحاوي في الباب الذي يأتي، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ص: وقد جاءت أيضًا آثار أخر عن رسول الله عليه السلام بالنهي عن بيع ما لم يقبض، لم يقصد فيها إلى الطعام ولا إلى غيره:
حدثنا أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا محمد بن بشار بندار، قال: ثنا حبان بن هلال، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، أن يعلى بن حكيم أخبره، أن يوسف بن ماهك أخبره، أن عبد الله بن عصمة أخبره، عن حكيم بن حزام أخبره قال:"أخد النبي عليه السلام بيدي، فقال إذا ابتعت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه".
حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: ثنا يعلى بن حكيم بن حزام: "أن أباه سأل النبي عليه السلام فقال: إني اشتريت بيوعًا فما يحل لي؟ قال: إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه".
قال أبو جعفر: فبهذا نأخد، وهو قول أبي حنيفه وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله؛ غير أن أبا حنيفة قال: لا بأس ببيع الدور والأرضين قبل قبض مشتريها إياها، لأنها لا تنقل ولا تحول، وسائر البياعات ليست كذلك والنظر في هذا عندنا: أن تكون العروض وسائر الأشياء في ذلك سواء على ما ذكرنا في الطعام.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 535 رقم 1234).
(2)
"المجتبى"(7/ 295 رقم 4630).
ش: هذا بيان حجة أخرى في عدم جواز البيع قبل القبض، سواء كان طعامًا أو غيره، بيان ذلك: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه روى عن النبي عليه السلام أنه قال له: "إذا ابتعت شيئًا، فلا تبعه حتى تقبضه".
فقوله: "شيئًا" أعم من الطعام وغيره، والنبي عليه السلام لم ينص فيه على الطعام ولا على غيره، بل عمم الحكم، فاقتضى أن لا يجوز البيع قبل القبض مطلقًا، إلا أن أبا حنيفة استثنى من ذلك بيع الدور والأرضين، فقال بجواز بيعها قبل القبض، لأنها لا تنقل ولا تحول بخلاف غيرها.
والنظر في ذلك له: أن الامتناع فيما ينقل ويحوَّل لعارض الغرر، وهو غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه، ولا يتوهم هلاك العقار، فلا يتحقق الغرر، فبقي حكمه على حكم الأصل.
وذكر في "البدائع" قول أبي يوسف مع أبي حنيفه في جواز بيع الدور والأرضين قبل القبض، وذكر قول زفر والشافعي مع محمد في عدم الجواز مطلقًا؛ لعموم النهي، وهو اختيار الطحاوي أيضًا أشار إليه بقوله:"فبهذا نأخذ".
ثم إنه أخرج حديث حكيم بن حزام المذكور من طريقين:
الأول: عن أبي حازم عبد الحميد بن عبد العزيز البصري أحد الأئمة الحنفية الكبار، قال ابن الجوزي: كان عالمًا ورعًا، ثقة، قدوة في العلوم، غزير الفضل والدين، ولي القضاء بالشام والكوفة والكرخ من مدينة السلام وله مصنفات كثيرة، ذكره صاحب "الهداية" في كتاب الرهن، وهو يروي عن محمد بن بشار البصري الملقب بندار، والبندار: الحافظ كان بندارًا في الحديث، وهو شيخ الجماعة، رووا عنه.
وهو يروي عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي ثقة، روى له الجماعة.
وهو يروي عن أبان بن يزيد العطار البصري، عن أحمد: ثبت في كل المشايخ، روي له الجماعة غير ابن ماجه.
وهو يروي عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، روي له الجماعة.
وهو يروي عن يعلى بن حكيم الثقفي البصري، ثقة، روى له الجماعة سوى الترمذي.
وهو يروي عن يوسف بن مَاهَك بن بهزاد الفارسي المكي، روى له الجماعة.
وهو يروي عن عبد الله بن عصمة الجشمي الحجازي، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي.
وهو يروي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
وأخرجه ابن حزم (1) من طريق قاسم بن أصبغ، ثنا أحمد بن زهير بن حرب، ثنا حبان بن هلال، ثنا همام بن يحيى، نا يحيى بن أبي كثير، أن يعلى بن حكيم حدثه، أن يوسف بن مَاهَك حدثه، أن حكيم بن حزام حدثه، أنه قال:"يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رجل أشتري هذه البيوع، فما يحل لي منها مما يحرم على؟ قال: يا ابن أخي إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه".
ورواه أيضًا (1) من طريق خالد بن الحارث الهجيمي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني رجل من إخواننا، حدثني يوسف بن ماهك، أن عبد الله بن عصمة الجشمي حدثه، أن حكيم بن حزام حدثه
…
فذكر هذا الخبر، ثم قال: وعبد الله بن عصمة متروك.
قلت: هو ثقة، وثقه ابن حبان كما ذكرناه.
وأخرجه الطبراني (2) أيضًا: ثنا على بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عمار الموصلي، ثنا سالم بن نوح، ثنا عمرو بن عامر، عن عامر الأحول، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، أن حكيم بن حزام قال:"يا رسول الله، إني أبيع بيوعًا كثيرة، فما يحل منها مما يحرم علي؟ فقال: لا تبيعن ما لم تقبض".
(1)"المحلى"(8/ 519).
(2)
"المعجم الكبير"(3/ 196 رقم 3107).
الطريق الثاني: عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن يعلى بن حكيم بن حزام، عن أبيه.
وأخرجه الترمذي (1): عن قتيبة، عن هشيم، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام.
ثم قال: وقد روى يحيى بن أبي كثير هذا الحديث عن يعلى بن حكيم، وعن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، عن النبي عليه السلام.
…
(1)"جامع الترمذي"(3/ 534 رقم 1232).