المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: خيار البيعين حتى يتفرقا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: خيار البيعين حتى يتفرقا

‌ص: باب: خيار البيعين حتى يتفرقا

ش: أي هذا باب خيار المتبايعين إلى أن يتفرقا، والبيِّع -بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة على وزن السيد والضيِّق- بمعنى البائع وهو من الصفات المشبَّهة.

وقال ابن الأثير: والمراد من البيعين: البائع والمشتري، ويقال لكل واحد منهما: بيع وبائع.

قلت: نعم المراد منهما البائع والمشتري، ولكن هذا من قبيل العمرين والقمرين، فافهم.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة (ح).

وحدثنا إبراهيم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان (ح).

وحدثنا أبو بكرة، قال: قال ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان (ح).

وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قالوا جميعًا: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن النبي عليه السلام قال:"كل بيِّعيْن فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، أو يكون بيع خيار".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، وربَّما قال: أو يكون بيع خيار".

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بيِّعين بالخيار ما لم يتفرقا، أو يكون بيع خيار".

ش: هذه ست طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما

إلى آخره.

ص: 400

وأخرجه النسائي (1): أنا عمر بن يزيد، عن بهز بن أسد، ثنا شعبة، ثنا عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله عليه السلام: "كل بيِّعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار".

وأخرجه بقية الجماعة أيضًا (2).

الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.

وأخرجه البخاري (3): من حديث سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "كل يبيعن لا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار".

الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار.

وأخرجه النسائي (4) أنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار".

الرابع: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.

وأخرجه مسلم (5): ثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قال يحيى: أنا، وقال الآخرون: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، أنه

(1)"المجتبى"(7/ 251 رقم 4479).

(2)

البخاري (2/ 744 رقم 2007)، ومسلم (3/ 1163 رقم 1531)، وهو عند بقية الجماعة من طرق أخرى وألفاظ متغايرة.

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 744 رقم 2007).

(4)

"المجتبى"(7/ 251 رقم 4480).

(5)

"صحيح مسلم"(3/ 1163 رقم 1531).

ص: 401

سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله عليه السلام: كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار".

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم وهو أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، وعن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه البخاري (1): عن عارم، عن حماد بن زيد

إلى آخره نحوه سواء.

السادس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن الوليد بن قيس السكوني، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه النسائي (2): أنا عمرو بن علي، ثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يكون خيارًا".

قوله: "كل بيعين" كلام إضافي مبتدأ تضمن معنى الشرط؛ فلذلك فصلت الفاء في جوابه -أعنى الخبر- وهو قوله: "فلا بيع بينهما"، والبيع صفه مشبهة وقد ذكرناه، و"حتى" ها هنا للغاية، بمعنى إلى والمعنى: كل متبايعين من الناس لا بيع بينهما حاصل إلى أن يتفرقا، إما بالأقوال أو بالأبدان على الاختلاف كما سنقرره إن شاء الله.

قوله "أو يكون بيع خيار" عطف على قوله "حتى يتفرقا" والمعنى: كل بيعين [فلا بيع بينهما](3) حاصل إلا في صورتين: إحداهما عند التفرق إما بالأقوال وإما بالأبدان، والأخرى: عند وجود شرط الخيار لأحد المتبايعين، بأن يشترط أحدهما الخيار ثلاثة أيام أو نحوها، وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والشافعي وأبو ثور وآخرون.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 742 رقم 2003).

(2)

"المجتبى"(7/ 248 رقم 4466).

(3)

تكررت في "الأصل".

ص: 402

وقالت طائفة: معنى هذا الكلام: أن يقول أحد المتبايعين بعد تمام البيع لصاحبه: اختر إنفاذ البيع أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع، تم البيع بينهما وإن لم يتفرقا، هذا قول الثوري والأوزاعي وسفيان بن عيينة وعبيد الله بن الحسن وإسحاق، وروي ذلك أيضًا عن الشافعي، وكان أحمد بن حنبل يقول: هما بالخيار أبدًا؛ قالا هذا القول أو لم يقولا حتى يتفرقا بأبدانهما من مكانهما.

وفي "شرح الموطأ": معنى هذا الكلام على مذهب مالك: إلا أن يشترط الخيار مدة مقدرة فيقضي في ذلك بالواجب، فكأنه قال: لا خيار لهما بعد التفرق إلا في البيع الذي يشترط فيه الخيار، ومعناه على تأويل ابن حبيب: أن كل واحد منهما بالخيار في المجلس إلا بيع الخيار، وذلك أن يقول أحدهما اختر الإمضاء أو الرد، فيختار، فينقطع بذلك الخيار، فمعناه عندهم: أن عقد البيع على الخيار إلا أن يوقف على قطع الخيار بعده، والأول أظهر؛ لأن بيع الخيار إذا أطلق في الشرع فإنه يفهم منه إثبات الخيار لا قطعه، ومدة الخيار الثابت بالشرط مختلفة باختلاف المبيع بقدر ما يحتاج إليه من مدة النظر إلى المبيع والاختيار والسؤال عنه، مع سرعة استحالة المبيع وإبطائها، ففي "المدونة": هو في الدار الشهر ونحوه، وقال ابن الماجشون في "الواضحة": والشهرين قال مالك في "المدونة": في الرقيق الخمسة أيام والجمعة.

وقال ابن القاسم: والعشرة الأيام. قال محمد: وأفسخه في الشهر، وروى ابن وهب أن مالكًا أجازه في الشهر وأباه ابن القاسم وأشهب.

وأما الدابة في "المدونة": يجوز أن يشترط ركوب اليوم وشبهه ولا بأس أن يشترط السير عليها البريد والبريدين ما لم يتباعد، وقال عبد الحق: يشترط الخيار في الدابة اليوم واليومين والثلاثة.

وأما الفاكهة كالبطيخ والرمان والتفاح، فقال ابن القاسم في "المدونة": إن كان الناس ييسرون في مثل هذا نفعه من الخيار بقدر الحاجة، وقال عياض في قوله:"إلا بيع الخيار" وقوله: "أو يكون بيع خيار": هذا أصل في جواز بيع الخيار

ص: 403

المطلق والمقيد، ولا خلاف فيه على الجملة، واختلف هل يجوز إذا أطلق وإذا قيد؟

وهل البائع والمشتري سواء في اشتراطه؟ وهل له حدٌّ لا يتعدى أم لا حد له إلا ما ضرباه، أم حده مقدار ما تختبر فيه السلعة؟

فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا حدَّ له لا يُتعدى، لكن يجوز أن يضرب لكل سلعة في الأصل مقدار ما تختبر فيه، فالثوب اليوم واليومين، والعبد إلى الجمعة، وروي عنه في ذلك شهر، والدابة تركب اليوم وشبهه الدار الشهر ونحوه، قال الداودي: وقيل الشهران والثلاثة، وحكى عنه الخطابي: في الضيعة السنة، قال بعض أصحابنا: وهذا قول مالك في "الموطأ" في حديث "البيعين بالخيار" ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به، وأن هذا اللفظ راجع إلى قوله في آخر الحديث:"إلا بيع الخيار" وهو أولى ما يؤول على مالك لا سواه، قال أصحابنا: وهذا إذا كان خيارهما للاختبار، وإن كان خيارهم للشورى فمقدار ما يُشاور فيه، وعلى هذا المعنى تترتب عند أصحابنا مدة الخيار في طولها وقصرها، وهذا يصح كله في المشتري، وأما خيار البائع فهو أيضًا بمقدار ما يحتاج فيه الخيار في أخذ الرأي والمشاورة، فإن ضرب من الأجل أبعد مما تقدم بكثير فسخ عند مالك البيع، وأجاز الثوري اشتراط عشرة أيام في الخيار للمشتري، ولا يجوز اشتراطه للبائع، فإن شرطه فسد البيع، وأجاز الأوزاعي اشتراط الخيار شهرًا وأكثر، وروي مثله لمالك، ونحوه قول ابن أبي ليلى والعنبري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد وإسحاق وأبي ثور وفقهاء أصحاب الحديث وداود: أن الشرط لازم إلى الوقت الذي شرطاه.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وزفر والأوزاعي في أحد قوليه إلى أن الخيار لا يعدو ثلاثة أيام، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن زاد فسد البيع، وحجتهم حديث منقذ بن حبان، وحديث المصراة وفيها ذكر ثلاثة أيام.

وقال الشافعي: ولولا ما جاء ما فيه زاد ساعة، وكذلك اختلفوا إذا أطلقا الخيار وتبايعا عليه ولم يسميا مدة، فعند مالك أن البيع جائز ويضرب للسلعة مقدار ما تختبر فيه كما لو ضرباه وبيناه.

ص: 404

وقال إسحاق وأحمد: يجوز البيع ويلزم الشرط وله الخيار أبدًا حتى يرد أو يأخذ.

وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي: البيع جائز والشرط باطل ويسقط الخيار.

وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري والشافعي: البيع فاسد. قال أبو حنيفة: إلا أن يجيزه في الثلاث فيجوز، ولا يجوز بعد الثلاث، وقال صاحباه: يجوز متى أجازه، وقال الشافعي: لا يجوز وإن أجازه في الثلاث.

وقال الطبري: البيع صحيح والثمن حال ويوقف، فإما أجاز في الحين أورد.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا -أو ما لم يفترقا- فإن صدقا وبيَّنا بورك لها في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما.

ش: إسناد صحيح، وأبو الخليل صالح بن أبي مريم الضبعي البصري روى له الجماعة، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهامشي المدني البصري ولد على عهد النبي عليه السلام فحنكة النبي عليه السلام، روى له الجماعة.

وحكيم به حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي الأسدي القرشي من مسلمة الفتح، وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإِسلام، وكان من المؤلفة قلوبهم، عاش مائة وعشرين سنة: ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإِسلام، وتوفي سنة أربع وخمسين أيام معاوية رضي الله عنه، وحزام بالزاي المعجمة.

والحديث أخرجه مسلم (1): نا ابن مثنى، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل

إلى آخره نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1164 رقم 1532).

ص: 405

وأخرجه البخاري (1) وأبو داود (2) الترمذي (3) والنسائي (4).

قوله: "فإن صدقا" أي البيعان إن صدقا في قولهما وبَيَّنَا ما في المبيع والثمن من العيب إذا كان بيع العرض بالعرض؛ لأن كلًا منهما مبيع من وجه وثمن من وجه.

وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": يريد به بعض الباعة لا كلهم إذ قد يتبايعان العرض بالعرض، فيكون على كل واحد منها أن يبين ما في عَرَضِه ولا يكتم شيئًا من عيوبه، وأن يبين ما عليه أن يبيِّنه من ثمنه إن كان باعه مرابحة وقد يبيع أحدهما عَرَضًا بثمن إلى أجل فلا يكون على المبتاع أن يبين شيئًا؛ لأن الثمن في ذمته، وإنما يكون ذلك على البائع.

وقال أبو الوليد: وقد يكون عليه أن يبين حال ذمته إن كانت خربة لا تفي بالثمن عنه الأجل، فحمل الحديث على عمومه أولى.

قلت: إن مال الله غادٍ ورائح فمن أين يعلم عدم القدرة على الوفاء عند الأجل؟!

قوله: "وكتما" أي أخفيا ما في المبيع والثمن من العيوب.

قوله: "محقت" أي محيت وبطلت بركة بيعهما، لأجل شؤم الكذب والكتمان.

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا هشام بن حسان، عن أبي الوضيء، عن أبي برزة [أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية، فنام معها البائع، فلما أصبح قال: لا أرضاها، فقال أبو برزة: إن](5) النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا في خباء شعر".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 732 رقم 1973).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 273 رقم 3459).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 548 رقم 1246).

(4)

"المجتبى"(7/ 24 رقم 4457).

(5)

ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 406

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء، قال:"نزلنا منزلا، فباع صاحب لنا من رجل فرسًا، فأقمنا في منزلنا يومنا وليلتنا، فلما كان الغد قام الرجل يسرج فرسه، فقال له صاحبه: إنك قد بعتني، فاختصما إلى أبي برزة، فقال: إن شئتما قضيت بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وما أراكما تفرقتما".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن صالح، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن هشام بن حسان، عن أبي الوضيء عباد بن نسيب، تابعي ثقة، وثقه يحيى وغيره، وكان يلي شرطة علي رضي الله عنه.

يروي عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه.

وأخرجه الطبراني: نا إدريس بن جعفر العطار، نا عثمان بن عمير، نا هشام بن حسان، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء، عن أبي برزة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن جميل بن مرة الشيباني البصري، وثقه النسائي.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، قال: ثنا حماد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء اسمه عباد بن نسيب، قال: "غزونا غزوة لنا، فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسًا بغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل، فقام إلى فرسه ليسرجه وندم فأبي الرجل وأخذه بالبيع، فأبي الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي عليه السلام، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر

(1)"سنن أبي داود"(3/ 273 رقم 3457).

ص: 407

فقالوا له هذه القصة، قال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله عليه السلام، قال رسول الله عليه السلام: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، قال هشام بن حسان: حدث جميل أنه قال: ما أراكما افترقتما".

وقال الطحاوي: في "مشكل الآثار": قد كان بعض من يذهب إلى أن الخيار يجب للمتبايعين بعد عقد البيع يحتج بهذا الحديث وبما كان من أبي برزة فيه من قوله "وما أراكما تفرقتما" وهذا لا يصح لأنهما قد قاما بعد البيع فإنه يعلم أن كل واحد منها قد قام إلى ما لا بد له منه من حاجة الإنسان، ومن قيام إلى صلاة يكون بذلك تاركًا لما كان فيه مشتغلًا بما سواه، مما لو وقع مثله في صرف تصارفاه قبيل القبض لفسد الصرف، فكذلك لو كان الخيار واجبًا في البيع بعد عقده لقطعته هذه الأشياء، فدل ذلك أن المّفرق عند أبي برزة لم يكن التفرق بالأبدان، والحديث اختلف أيضًا بالروايتين عن أبي برزة كما ذكرنا، ولم تكن إحداهما أولى من الأخرى فلم يكن لأحد أن يحتج بأحدهما إلا احتج عليه مخالفه بالآخر منهما، وليس في واحدٍ منها ما يوجب أن التفرق المذكور في الحديث هو التفرق بالأبدان.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"البيعان بالخيار حتى يتفرقا -أو ما لم يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يدور بينهما فضل وتمحق بركة بيعهما".

قال همام: فسمعت أبا التياح يقول: سمعت هذا الحديث عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي عليه السلام بمثل هذا.

ش: هذا طريق آخر في حديث حكيم بن حزام، وهو صحيح، عن أبي بكرة بكار بن قتيبة، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن همام بن يحيى

إلى آخره.

ص: 408

وأخرجه البخاري (1): نا إسحاق، أنا حبان، نا همام، أنا قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، أن النبي عليه السلام قال:"البيعان بالخيار حتى يتفرقا -قال همام: وجدت في كتابي- بخيار -ثلاث مرار- فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحا، ويمحقا بركة بيعهما".

قوله: "قال همام: فسمعت أبا التياح

" إلى آخره إشارة إلى أن همام بن يحيى قد روى هذا الحديث عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام.

وقال مسلم (2): نا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا همام، عن أبي التياح، قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث، عن حكيم بن حزام، عن النبي عليه السلام بمثله.

ص: حدثنا محمد بن بحر بن مطر، قال: ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: ثنا أيوب بن عتبة، عن أبي كثير الغبري، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار".

ش: أبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- هاشم بن القاسم الليثي البغدادي شيخ أحمد وابن المديني ويحيى بن معين، ثقة ثبت، روى له الجماعة.

وأيوب بن عتبة اليمامي أبو يحيى قاضي اليمامة، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف.

وعن يحيى: ليس بشي. قال البخاري: هو عندهم لين، وقال النسائي: مضطرب الحديث. وقال الدارقطني: يترك. وقال مرة: يعتبر به شيخ. وقال العجلي: يكتب حديثه.

وأبو كثير الغبري اليمامي الأعمى، قيل: اسمه يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أذينة. وقيل ابن غفيلة، وثقه أبو حاتم وأبو داود

(1)"صحيح البخاري"(2/ 744 رقم 2008).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1164 رقم 1532).

ص: 409

والنسائي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، والغُبَري -بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى غُبَر بن غنم بن حُبَيِّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل.

وحبيب -بضم الحاء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء.

والحديث أخرجه البزار في "مسنده": نا زيد بن أخرم الطائي، نا أبو داود، نا أيوب بن عتبة، عن أبي كثير، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". وهذا الحديث قد روي عن أبي هريرة من غير وجه.

وأخرجه أبو داود (1) والترمذي (2) بغير هذا اللفظ.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ كل واحدٍ منها ما رضى من البيع".

ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.

وأخرجه النسائي (3): أنا عمرو بن علي، نا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن نبي الله عليه السلام قال:"البيعان بالخيار حتى يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى ويتخايران ثلاث مرات".

وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": قوله في هذا الحديث: "ويأخذ كل واحد منها ما رضي من البيع" يدل على أن الخيار الذي للمتبايعين إنما هو قبل انعقاد البيع بينها من قول أحدهما لصحابه قد بعتك، وقول الآخر: قد قبلت منك، في الحال الذي يكون لكل واحد منهما أن يأخذ ما رضي من البيع ويترك بعضه وذلك قبل عقد البيع، فيكون البيع ينعقد بينه وبين صاحبه فيما يرضاه منه لا فيما سواه مما

(1)"سنن أبي داود"(3/ 273 رقم 3458).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 551 رقم 1248).

(3)

"المجتبى"(7/ 251 رقم 4481).

ص: 410

لا يرضاه، إذا لا خلاف بين القائلين في هذا الباب بأن الافتراق المذكور في الحديث هو بعد البيع بالأبدان، أنه ليس للمبيع أن للمبتاع أن يأخذ ما رضي به من البيع ويترك بقيته؛ إنما له عنده أن يأخذه كله أو يدعه كله، والله أعلم. انتهى.

وهذا كما قد رأيت قد أخرج الطحاوي حديث هذا الباب عن خمسة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر وحكيم بن حزام وأبو برزة وأبو هريرة وسمرة بن جندب رضي الله عنهم.

وفي الباب عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وجابر وعبد الله بن عمرو.

أما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي محمد حفص بن غيلان، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان، عن رسول الله رضي الله عنه:"من اشترى بيعًا فوجب له فهو بالخيار ما لم يفارقه صاحبه، إن شاء أخذه، فإن فارقه فلا خيار له".

وأما حديث أنس فأخرجه البيهقي (2) أيضًا من حديث علي بن عاصم، أنا الحذاء، عن أبي قلابة، قال أنس:"مرَّ رسول الله عليه السلام على أهل البقيع، فقال: يا أهل البقيع فاشرأبوا، فقال: يا أهل البقيع، لا يفترقن بيعان إلا عن رضا".

قلت: علي واهٍ.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فأخرجه البيهقي أيضًا (3): من حديث يحيى بن أيوب، وابن وهب -واللفظ له- أنا ابن جريج، أن أبا الزبير حدثه، عن جابر:"أن النبي عليه السلام اشترى من أعرابي حِمْل خَبط، فلما وجب البيع قال له النبي عليه السلام: اختر، فقال له الأعرابي: عمرك الله بَيِّعًا".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 270 رقم 10220).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 271 رقم 10227).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 270 رقم 10222).

ص: 411

قلت: رواه ابن عيينة (1)، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن طاوس مرسلًا قال:"ابتاع النبي عليه السلام قبل النبوة من أعرابي بعيرًا أو غيره فقال له النبي عليه السلام: اختر، فنظر الأعرابي إليه فقال: عمرك الله ممن أنت؟ فلما كان الإِسلام جعل النبي عليه السلام بعد البيع الخيار". وهذا على الاختيار لا على الوجوب، وقد أجاب الطحاوي عن ما رواه أبو الزبير عن جابر بأنه عليه السلام إنما خير ذلك الأعرابي ليكون له ثواب من أقال نادمًا بيعته.

وأما الحديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود (2): نا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله عليه السلام قال:"المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله".

وأخرجه الترمدي (3) والنسائي (4) أيضًا، والطحاوي أيضًا في كتابه "مشكل الآثار".

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فأختلف الناس في تأويل قول رسول الله عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"، فقال قوم: هذا على الافتراق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا وانقطع خيارهما.

وقالوا: الذي كان لهما من الخيار هو ما كان للبائع أن يبطل قوله للمشتري: قد بعتك هذا العبد بألف درهم قبل قبول المشتري، فإذا قبل المشتري فقد تفرق هو والبائع وانقطع الخيار.

(1) رواه البيهقي أيضًا في "سننه الكبرى"(5/ 270 رقم 10224، 10225).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 273 رقم 3456).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 550 رقم 1247).

(4)

"المجتبى"(7/ 251 رقم 4483).

ص: 412

وقالوا: هذا كما ذكر الله عز وجل في الطلاق، فقال:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (1) فقالوا: الزوج إذا قال للمرأة قد طلقتك على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قبلت، فقد بانت، وتفرقا بهذا القول، وإن لم يتفرقا بأبدانهما، قالوا: فكذلك إذا قال الرجل للرجل: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا بذلك القول وإن لم يتفرقا بأبدانها. وممن قال بهذا القول وفسر بهذا التفسير: محمد بن الحسن رحمه الله.

ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف العلماء في تأويل التفرق المذكور في الآثار المذكورة، وقد افترقوا ثلاث فرق، وأشار إلى ما قال أهل المقالة الأولى بقوله:"فقال قوم" وأراد بهم: إبراهيم النخعي والثوري في رواية، وربيعة الرأي ومالكا وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن؛ فإنهم قالوا: المراد من قوله عليه السلام: "ما لم يتفرقا" هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما بعد ذلك خيار، ويتم به البيع، ولا يقدر المشتري على رد البيع إلا بخيار الرؤية، أو خيار العيب، أو خيار الشرط إن شرطه.

قوله: "وقالوا: الذي كان لهما" أي قال هؤلاء القوم: الذي كان للبائع والمشتري هو ما كان للبائع أن يبطل قوله الذي خاطب به المشتري، وهو قوله: قد بعتك هذا العبد بألف مثلًا قبل قبول المشتري ذلك، فهذا هو الذي له أن يبطله، فأما إذا قبل المشتري ذلك فقد تفرق هو والبائع، وانقطع الخيار.

قوله: "وقالوا: هذا كما ذكر الله

" إلى آخره إشارة إلى انهم أيدوا تأويلهم بما ذكر الله عز وجل في الطلاق حيث قال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (1) فإن التفرق ها هنا بالأقوال بلا خلاف، فإن الزوج إذا قال لامرأته: قد طلقتك على كذا وكذا، فقالت المرآة: قد قبلت، فقد بانت وتفرقا بذلك، وإن لم يحصل الافتراق بأبدانها، فكذلك في البيع كما ذكرنا.

(1) سورة النساء، آية:[130].

ص: 413

وقال عياض: لم يأخذ مالك بهذا الحديث -يعني حديث: "ما لم يتفرقا" واعتذر أصحابه عن مخالفته إياه -مع أنه رواه بنفسه- بمعاذير منها: أنهم قالوا: لعله حمل التفرق ها هنا على التفرق بالأقوال فيكون معنى قوله: "المتبايعان" أي المتساومان، فكأنهما بالخيار ما داما يتساومان حتى يفترقا بالإيجاب والقبول، فيجب البيع وإن لم يفترقا بالأبدان.

قالوا: والافتراق بالأقوال تسمية غير مستنكرة، وقد قال تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (1) يعني المطلق، والطلاق لا يشترط فيه فرقة الأبدان، واستدلوا على هذا بما وقع في الترمذي (2) والنسائي (3) وأبي داود (4) من قوله:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" ولا وجه لحمل الاستقالة على الفسخ؛ لأن ذلك بعيد من مقتضاها في اللسان، ولأنه أيضًا إذا قال أحدهما لصاحبه: اختر، فاختار، وجب البيع، ولا فرق بين هذا الالتزام الثاني، والالتزام الأول؛ لأن المجلس لم يفترقا عنه، فإذا وجب بالقول الثاني وجه بالقول الأول.

واعتذر آخرون بأن قالوا: العمل إذا خالف الحديث وجب الرجوع إلى العمل؛ لأن من تقدم لا يُتَّهمون بمخالفة هذا الحديث الظاهر، إلا أنهم علموا الناسخ له فتركوه لأجله.

وقال آخرون: لعل المراد به الاستحباب على قبول استقالة أحد المتبايعين بالفسخ وتكون الإقامة في المجلس سنة بهذا الحديث وبعد الافتراق في المجلس تفضلا واستحبابا.

(1) سورة النساء، آية:[130].

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 550 رقم 1247).

(3)

"المجتبى"(7/ 251 رقم 4483).

(4)

"سنن أبي داود"(2/ 294 رقم 3456).

ص: 414

قلت: ولقد شنع بعض المتعصبين على أبي حنيفة رضي الله عنه في هذا المقام، منهم البيهقي؛ فإنه حكى عن ابن المديني، عن سفيان، أنه حدث الكوفيين بحديث "البيعان بالخيار" قال: فحدثوا به أبا حنيفة فقال: أن هذا ليس بشيء، أرأيت إن كان في سفينة، قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال.

قلت: هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الركبان وشحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من ورعه المشهور، ولقد حكى الخطيب في "تاريخه" أن الخليفة في زمنه أرسل إليه يستفتيه في مسألة، فأرسل إليه بجوابها، فحدثه بعض من كان جالسًا في حلقته بحديث يخالف فتياه فرجع عن الفتيا، وأرسل الجواب إلى الخليفة على مقتضى الحديث، ويحتمل أن تكون الآفة من بعض رواة هذه الحكاية، ولم يعين ابن عيينة من حدثه بذلك، بل قال: حدثونا. وعلى تقدير صحة الحكاية؛ لم يرد بقوله: "ليس بشيء" الحديث، وإنما أراد ليس هذا لاحتجاج بشيء، يعني تأويله بالتفرق بالأبدان، فلم يَرُدَّ الحديث بل تأوله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال كقوله تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (1) ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة، وتأول المتبايعين بالمتساومَيْن على ما هو معروف من مذهب الحنفية، ومذهبه هو قول طائفة من أهل المدينة وإليه ذهب مالك وربيعة والنخعي على ما ذكرناه، ورواه عبد الرزاق عن الثوري أيضًا والله أعلم.

ص: وقال عيسى بن أبان: الفرقة التي تقطع الخيار المذكور في هذه الآثار هي الفرقة بالأبدان، وذلك أن الرجل إذا قال للرجل: قد بعتك عبدي بألف درهم فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارق صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل، قال: ولولا أن هذا الحديث جاء، ما علمنا ما يقطع بما للمخاطب من قبول المخاطبة التي خاطب بها صاحبه وأوجب له بها البيع، فلما جاء هذا

(1) سورة النساء، آية:[130].

ص: 415

الحديث علمنا أن افتراق أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يقطع قبول تلك المخاطبة، وقد روى هذا التفسير عن أبي يوسف رحمه الله.

قال عيسى: وهذا أولى ما حمل عليه تأوبل هذا الحديث؛ لأنا رأينا الفرقة التي لها حكم -فيما اتفقوا عليه- هي الفرقة في الصرف، فكانت تلك الفرقة إنما يجب بها فساد عقد متقدم ولا يجب بها صلاحه، وكانت هذه الفرقة المروية عن رسول الله عليه السلام في خيار المتبايعين، إذا جعلناها على ما ذكرنا فسد بها ما كان تقدم من عقد المخاطب، وإن جعلناها على ما قال الذين جعلوا الفرقة بالأبدان يتم بها البيع بخلاف فرقة الصرف، ولم يكن لها أصل فيما اتفقوا عليه؛ لأن الفرقة المتفق عليها إنما يفسد بها ما تقدمها، إذا لم يكن تم حتى كانت، فأولى الأشياء بنا أن نجعل هذه الفرقة المختلف فيها كالفرقة المتفق عليها؛ فيجب بها فساد ما قد تقدمها ما لم يكن تم حتى كانت، فثبت بذلك ما ذكرنا.

ش: هذا بيان مقالة الفرقة الثانية وهم: أبو يوسف وعيسى بن أبان وآخرون.

وعيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى الإِمام الكبير تفقه على الإِمام محمد بن الحسن، وكان ولي قضاء البصرة، وصنف التصانيف، وكان حسن الحفظ للحديث، وقال الذهبي: ما علمت أحدًا ضعفه ولا وثقه.

قلت: إذا سلم من الطعن يكون ثقة؛ لأن الأصل هو العدالة (1).

قوله: "وذلك أن الرجل إذا قال

" إلى آخره إشارة إلى بيان معنى قول عيسى بن أبان: الفرقة التي تقطع الخيار: هي الفرقة بالأبدان، وإنما فسر بذلك احترازًا عما فسره أهل المقالة الثالثة؛ فإنهم قالوا أيضًا: إن المراد من الفرقة هي الفرقة بالأبدان، ولكن فسروها بغير تفسير عيسى بن أبان، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وباقي الكلام ظاهر.

(1) في هذا الكلام نظر، وهو عين ما أُنكر على ابن حبان في إدخال الرواة في ثقاته، والمعوَّل في توثيق الراوي ليس بأصل ظاهر في العدالة بالإِسلام فقط ولكن ينضم إليها الحفظ والضبط والإتقان كما هو معلوم في علم الجرح والتعديل. والله أعلم.

ص: 416

ص: وقال آخرون: هذه الفُرقة المذكورة في هذا الحديث هي الفرقة بالأبدان، فلا يتم البيع حتى تكون، فإذا كانت تم البيع، واحتجوا في ذلك بأن الخبر أطلق ذكر متبايعين فقال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، قالوا: فهما قبل البيع متساومان، فإذا تبايعا صارا متبايعين، فكان اسم التبايع لا يجب لها إلا بعد العقد، فثم يجب لهما الخيار.

ش: أي قال قوم آخرون: وأراد بهم سعيد بن المسبب والزهري وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والأوزاعي والليث بن سعد وابن أبي مليكة والحسن البصري وهشام بن يوسف وابنه عبد الرحمن وعبد الله بن الحسن القاضي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد وأبا سليمان ومحمد بن جرير الطبري وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: الفرقة المذكورة في هذا الحديث هي التفرق بالأبدان، فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان.

وقال ابن حزم (1): إلا أن الأوزاعي قال كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما إلا بيوعًا ثلاثًا: المغنم، والشركاء في الميراث يتقاومونه، والشركاء في التجارة يتقاومونها، قال الأوزاعي: وحدُّ التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه، وقال عياض: قال الليث: هو أن يقوم أحدهما.

وقال الباقون: هو افتراقهما عن مجلسهما أو مقامها.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه: "أنه كان إذا بايع رجلاً شيئًا فأراد أن لا يقيله قام يمشي ثم رجع" قالوا: وهو قد سمع من النبي عليه السلام قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فكان ذلك عنده على التفرق بالأبدان، وعلى أن البيع يتم بذلك، فدل ما فكرنا على أن مراد النبي عليه السلام كان كذلك أيضًا.

ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن المراد من التفرق هو التفرق بالأبدان، بما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(1)"المحلى"(8/ 355).

ص: 417

أخرجه مسلم (1): ثنا زهير بن حرب وابن أبي عمر، كلاهما عن سفيان -قال زهير: نا سفيان بن عيينة- عن ابن جريج، قال أملى عليّ نافع، سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله عليه السلام: "إذا تبايع المتبايعان بالبيع، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب" زاد ابن أبي عمر في روايته: قال نافع: "فكان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله؛ قام يمشي هنيهة ثم رجع إليه". انتهى.

قالوا: وهو أي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد سمع من النبي عليه السلام قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، فكان معنى ذلك عنده على التفرق بالأبدان، وعلى أن البيع لا يتم إلا بذلك، حتى كان قبل التفرق لكل منهما الفسخ.

وقال عياض: هذا يدل على أخذ ابن عمر بالحديث، وأن التفرق بالأبدان.

ص: واحتجوا في ذلك بحديث أبي برزة الذي قد ذكرناه عنه في أول هذا الباب، وبقوله للرجلين اللذين اختصما إليه:"ما أراكما تفرقتما" فكان ذلك التفرق عنده هو التفرق بالأبدان، ولم يتم البيع عنده قبل ذلك التفرق.

ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون أيضًا بحديث أبي برزة المذكور في هذا الباب، وفيه:"وما أراكما تفرقتما" فهذا يدل على أن التفرق بالأبدان، وأن البيع لا يتم قبل ذلك، ولو كان التفرق بالأقوال لحكم عليه السلام بتمام البيع بين ذينك الرجلين اللذين اختصما عنده، فحيث قال:"ما أراكما تفرقتما" دل أن المراد من التفرق هو التفرق بالأبدان، وقد مَرَّ الجواب عن ذلك عند ذكر الحديث، فافهم.

ص: فكان من الحجة عندنا على أهل هذه المقالة لأهل المقالتين الأولين: أن ما ذكروا من قولهم لا يكونان متبايعين إلا بعد أن يتعاقد البيع، وهما قبل ذلك متساومان غير متبايعين، فذلك إغفال منهم لسعة اللغة، لأنه قد يحتمل أن يكونا سميا متبايعين لقربهما من التبايع، وان لم يكونا تبايعا، وهذا موجود في اللغة، قد

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1163 رقم 1531).

ص: 418

سمي إسحاق أو إسماعيل عليهما السلام ذبيحا؛ لقربه من الذبح وإن لم يكن ذبح، فكذلك يطلق على المتساومين اسم المتبايعين إذا قربا من البيع وإن لم يكونا تبايعا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يسوم الرجل على سوم أخيه، وقال: لا يبيع الرجل على بيع أخيه" ومعناهما واحد، فلما سمى رسول الله عليه السلام المساوم الذي قرب من البيع متبايعا، وإن كان ذلك قبل عقده البيع، احتمل أيضًا أن يكون كذلك المتساومان سماهما متبايعين لقربهما من البيع، وإن لم يكونا عقدا عقدة البيع، فهذه معارضة صحيحة.

ش: هذا جواب عن ما قاله أهل المقالة الثالثة، من قولهم: الخبر أطلق ذكر المتبايعين فقال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا

" إلى آخره، تقريره أن يقال: إن الذي ذكروه من أن المتبايعين قبل أن يتعاقدا البيع متساومان مُسَلَّم، وأنه وإن دلَّ على مدَّعاكم؛ ولكن عندنا من الدليل على خلافه، وهو أن المتبايعين يحتمل أن يكونا سميا بذلك لقربهما من التبايع أن لم يكونا تبايعا حقيقة؛ لأن الشيء إذا قرب إلى الشيء يأخذ حكمه، ومثل هذا كثير في لغة العرب، ألا ترى أنه قد أطلق على إسحاق أو على إسماعيل -على اختلاف المفسرين فيه- ذبيح لا بكونه قد ذبح حقيقة، إنما أطلق عليه لكونه قد قرب من الذبح، فكذلك يكون إطلاق اسم المتبايعين على المتساومين لقربهما من البيع فيكونان متبايعان والدليل على ذلك إطلاق النبي عليه السلام على لفظ السوم لفظ البيع، حيث قال: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه" وقال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه" ومعناهما واحد، فلما أطلق رسول الله عليه السلام على المساوم الذي قد قرب من البيع وكان ذلك قبل عقده البيع، احتمل أيضًا أن يكون كذلك المتساومان أطلق عليهما اسم المتبايعين لقربهما من البيع وإن لم يكونا عقدا عقد البيع فهذا الذي ذكرناه معارضة صحيحة.

فإن قيل: قد قال ابن حزم: وأما قولهم كما سمي الذبيح ولم يذبح فما سماه الله تعالى قط ذبيحًا، ولا صح قط ذلك عن رسول الله عليه السلام وإذا كان هكذا فإنما هو قول مطلق عامي لا حجة فيه، وإنما أطلق ذلك من أطلق مسامحة، أو لأنه حمل

ص: 419

الخليل عليه السلام السكين على حلقه، وهذا فعل يسمى من فعاله ذبحًا، وما نبالي عن هذه التسمية؛ لأنها لم تأت قط في قرآن ولا في سمة، فلا تقوم بها حجة.

قلت: هذه مكابرة من ابن حزم وعدم معرفة بدلالات المعاني من الألفاظ؛ لأنا لم ندع أن الله تعالى سمي ذبيحًا أو ثبت عن رسول الله عليه السلام أنه سمى ذبيحًا، ولكن ضرب هذا تمثيلًا لإطلاق اسم الشيء على الشيء باعتبار قربه منه، وهذا باب واسع شائع ذاع في العربية ولا ينكر إلا العامي وهو ناقص في كلامه فلم يفهمه؛ لأن قوله: "وإن أطلق ذلك

" إلى آخره يؤيد ما ذكره من أن الشيء يطلق على الشيء باعتبار قربه منه، وإن لم يكن حقيقةً ذلك الشيء. فافهم.

ص: وأما ما ذكروا عن ابن عمر رضي الله عنهما من فعله الذي استدلوا به على مراد رسول الله عليه السلام في الفرقة، بأن ذلك قد يحتمل عندنا ما قالوا ويحتمل غير ذلك، قد يجوز أن يكون ابن عمر أشكلت عليه تلك الفرقة التي قد سمعها من رسول الله عليه السلام ما هي؟ فاحتملت عنده الفرقة بالأبدان على ما ذكره أهل المقالة الأولى، واحتملت عنده الفرقة بالأبدان على ما ذكره أهل المقالة التي ذهب إليها عيسى، واحتملت عنده الفرقة بالأقوال على ما ذهب إليه الآخرون، ولم يحضره دليل يدله أنه بأحدها أولى منه مما سواه عنها، ففارق بائعه ببدنه احتياطًا.

ويحتمل أيضًا أن يكون فعل ذلك لأن بعض الناس يرى أن البيع لا يتم إلا بذلك، وهو يرى أن البيع يتم بغيره، فأراد أن يتم البيع في قوله وقول مخالفه حتى لا يكون لبائعه نقض البيع عليه في قوله ولا قول مخالفه.

ش: هذا جواب عن ما ذكره أهل المقالة الثالثة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من فعله في البيع: "أنه إذا بايع رجلاً شيئًا فأراد أن لا يقيله قام يمشي ثم رجع". على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرقة، بيان ذلك، أن يقال: إن الاستدلال به لا يتم؛ لأنه يحتمل ذلك ما قالوا، ويحتمل غير ذلك، بيانه أنه قد يجوز أن تكون الفرقة التي سمعها من النبي عليه السلام أشكلت عليه ولم يتحقق ما هي فاحتملت أن تكون الفرقة

ص: 420

بالأبدان على ما فسره أهل المقالة الأولى، واحتملت أن تكون على ما ذكره عيسى بن أبان، واحتملت أن تكون الفرقة بالأقوال على ما فسره أهل المقالة الأخيرة، ولم ينتصب عنده دليل على ترجيح واحد من هذه المعاني على البقية، فلأجل ذلك فارق بائعه ببدنه؛ احتياطًا ليخرج بذلك من الشبهة، ويحتمل أيضًا أن يكون قد فعل ذلك ليكون بيعه على وجه لا يكون فيه خلاف، فإن بعض الناس قد ذهبوا أن البيع لا يتم إلا بذلك، وهو قد يرى أنه يتم بغيره، ففعل ذلك ليكون بيعه تامًّا في قوله وقول مخالفه، حتى لا يكون لبائعه سبيل في نقض البيع عليه عند الكل، فإذا كان كذلك فبذا يدفع الاستدلال به على الخصم.

ص: وقد روي عنه ما يدل على أن رأيه كان في الفرقة بخلاف ما ذهب إليه من ذهب أن البيع يتم بها، وذلك أن سليمان بن شعيب قد حدثنا، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:"ما أدركت الصفقة حيًّا، فهو من مال المبتاع".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب

فذكر بإسناده مثله.

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حيًّا فهلك بعدها أنه من مال المشتري؛ فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التي تكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بتلك الأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع، حتى يهلك من ماله إن هلك، فهذا الذي ذكرنا أدل على مذهب ابن عمر في الفرقة التي شمعها من النبي عليه السلام مما ذكروا.

ش: هذا جواب آخر عن ما ذكروه من فعل ابن عمر المذكور، تقريره أن يقال: إن ما ذكرتم عن ابن عمر رضي الله عنه من فعله الذي استدل به على مراد رسول الله عليه السلام في الفرقة يعارضه ما روي عنه مما يدل على أن رأيه كان في الفرقة بخلاف ذلك، بيانه أنه قال:"ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع" فهذا يدل على أنه قد كان

ص: 421

يذهب فيما أدركت الصفقة حيا فهلك بعدها أنه من مال المشتري، ويدل أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل التفرق بالأبدان الذي يكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بتلك الأقوال من ملك البائع إلى ملك المشتري، حتى إنه إذا هلك يهلك من مال المشتري، وقد اعترض ابن حزم ها هنا باعتراض ساقط، وقال: هذا من عجائبهم لأنهم أول مخالف لهذا الخبر، فالحنفيون يقولون: بل هو من البائع ما لم يره المبتاع أو يسلم إليه البائع، والمالكيون يقولون: بل إن كان غائبًا غيبة بعيدة فهو من البائع، فمن أعجب ممن يحتج بخبر هو عليه لا له؟! ويجاهر هذه المجاهرة، وما في كلام ابن عمر هذا شيء يخالف ما صح عنه من أن البيع لا يصح إلا بتفرق الأبدان، فقوله: ما أدركت الصفقة إنما أراد البيع التام بلا شك، ومن قوله المشهور عنه أنه لا بيع يتم البتة إلا بتفرق الأبدان، أو بالتخيير بعد العقد. انتهى.

قلت: لا نسلم أنهم أول مخالف لهذا الخبر؛ لأن الحنفية إنما يقولون: يهلك المبيع من مال البائع إذا منعه بعد العقد عن تسلم المشتري، وأما إذا تم العقد وأخل بينه وبن المشتري فهلك المبيع، فإنه يهلك من مال المشتري، وذلك لأن التخلية بمنزلة القبض حقيقة، وقوله: "وما في كلام ابن عمر هذا شيء يخالف ما صح عنه

" إلى آخره. غير صحيح، لأن قوله هذا يعارض فعله ذاك صريحًا على أن فعله ذاك قد يحتمل الاحتمالات المذكورة.

وقوله: "هذا يدل على أن الفرقة بالأقوال" فهذا يكون دالًا على أن الفرقة التي سمعها من النبي عليه السلام، هي الفرقة بالأقوال لا بالأبدان. فافهم.

ثم إنه أخرج الأثر المذكور من طريقين صحيحين:

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 422

وهذا أخرجه البخاري (1) تعليقًا ولفظه: وقال ابن عمر: "ما أدركت الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من المبتاع".

وأخرجه الدارقطني (2) موصولاً من طريق الأوزاعي نحو رواية الطحاوي.

والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه ابن حزم أيضًا (3) من طريق ابن وهب، وفي روايته:"ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع".

و"الصفقة" البيعة، سميت بذلك لأنهم كانوا يضربون الأيدي على الأيدي عند البيع، ومنه يقال:"صفقة رابحة" و"صفقة خاسرة" يقال: "صفقت له بالبيع والبيعة صفقا" أي ضربت يدي على يده.

قوله: "من مال المبتاع" أي المشتري، وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": ولا يكون من المبتاع إلا ما قد وقع ملكه، فالصفقة عليه.

ص: وأما ما ذكروه عن أبي برزة فلا حجة لهم فيه أيضًا عندنا، لأن ذلك الحديث إنما هو فيما رواه حماد بن زيد عن جميل بن مرة: أن رجلاً باع صاحبه فرسًا، فباتا في منزل، فلما أصبحا قام الرجل يسرج فرسه، فقال له: قد بعتني، فقال أبو برزة: إن شئتما قضيت بينكما بقضاء رسول الله عليه السلام، قال رسول الله عليه السلام: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وما أراكما تفرقتما".

ففى هذا الحديث ما يدل على أنهما قد كانا تفرقا بأبدانهما؛ لأن فيه أن الرجل قام يسرج فرسه، فقد تنحى بذلك من موضع إلى موضع، فلم يراع أبو برزة ذلك،

(1)"صحيح البخاري"(2/ 751 قبل رقم 2031).

(2)

"سنن الدارقطني"(3/ 53 رقم 215).

(3)

"المحلى"(8/ 383).

ص: 423

وقال: ما أركما تفرقتما، أي لما كنتما متشاجرين، أحدكما يدعي البيع والآخر ينكره، لم تكونا تفرقتما الفرقة التي يتم بها البيع، وهي خلاف ما قد تفرقا بأبدانهما.

ثم بعد هذا فقد وجدنا عن رسول الله عليه السلام ما يدل على أن البيع يملكه المشتري بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن رسول الله عليه السلام قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" فكان ذلك دليلاً على أنه إذا قبضه حل له بيعه، وقد يكون قابضا له قبل افتراق بدنه وبدن بائعه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه" وسنذكر هذه الآثار في موضعها من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة (ح).

وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب على المنبر يقول: "كنت أشتري التمر فأبيعه بربح الآصع، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فَكِلْ، فكان من ابتاع طعاما مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه فاكتاله وقبضه ثم فارق بائعه فكلٌّ قد أجمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة الكيل، وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق، وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالا يحل له بيعه، فقد كان ذلك الاكتيال منه وهو له مالك.

وإذا اكتاله اكتيالا لا يحل له بيعه فقد كاله وهو غير مالك له.

فثبت بما ذكرنا وقوع ملك المشتري في البيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

ش: أي ثم بعد ما ذكرنا من الدلائل الدالة على أن المراد من التفرق هو التفرق بالأقوال لا بالأبدان، قد وجدنا في الأحاديث عن النبي عليه السلام ما يدل على أن المشتري يملك المبيع بالقبول من غير شرط التفرق بالأبدان، وهو في قوله عليه السلام:"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" على ما يأتي إن شاء الله تعالى،

ص: 424

ففيه دليل صريح على أن المشتري إذا قبض المبيع يحل له بيعه، ولا يتصور أن يحل له ذلك إلا إذا ملكه، وهذا يدل على أنه يملكه بالقبول من غير اشتراط التفرق بالأبدان، والقبض قد يكون قبل افتراق بدنه وبدن بائعه، ولا يلزم أن يكون بعد افتراقهما، فدل ذلك أن البيع يتم بالإيجاب والقبول من غير اشتراط التفرق بالأبدان.

وأن قوله عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" هو التفرق بالأقوال؛ وإلا يلزم التضاد بين الآثار. فافهم.

قوله: "حدثنا يونس

" إلى آخره ذكره تأكيدًا لما قاله من أن المبيع يملكه المشتري بالقبول دون التفرق بالأبدان، وهو ظاهر.

وأخرجه عن طريقين فيهما عبد الله بن لهيعة الذي تكلم فيه ولكن لا يضره ذلك لأنه إنما يخرج له إما في المتابعات وإما في الشواهد على أنا قد ذكرنا غير مرة أن أحمد بن حنبل وثقه وأثنى عليه غاية الثناء، وحدث عنه بكثير.

الطريق الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن موسى بن وردان المصري القاضي، مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، مدني الأصل، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. روى له البخاري في غير "الصحيح" واحتجت به الأربعة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، نا عبد الله بن لهيعة، حدثني موسى بن وردان، سمعت سعيد بن المسيب يقول:"سمعت عثمان ابن عفان رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر: كنت ابتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع، وأبيعه بربح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عثمان إذا اشتريت فاكتل وإذا بعت فكل".

(1)"مسند أحمد"(1/ 62 رقم 4440).

ص: 425

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المصري كاتب لهيعة بن عيسى قاضي مصر، عن عبد الله بن لهيعة، عن موسى بن وردان

إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1) نا محمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا الحسن بن موسى، قال ابن لهيعة: نا موسى بن وردان، قال: سمعت سعيد بن المسيب، قال: سمعت عثمان بن عفان يقول على المنبر: "كنت ابتاع التمر واكتال في أوعيتي، ثم أهبط به إلى السوق، فأقول فيه كذا وكذا، فآخذ ربحي وأخلي بينهم وبينه، فبلغ ذلك النبي عليه السلام، فقال: إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل".

قوله: "الآصُع" بمد الهمزة وضم الصاد: جمع صاع، ويجيء على أصوع أيضًا وهو الأكثر، وقد تبدل الهمزة من الواو، وقد قيل: إن الآصع اصله الأصوع الذي هو جمع صاع، فَنُقِلت الواو إلى ما قبل الصاد، فصار أوصعًا، ثم قلبت الواو ألفا فصار آصعًا، فيكون فيه قلبان قلب "الواو" من وضعه وقلبها "ألفا". فافهم.

قوله: "اكتل" أمر من اكتال يكتال، وكذلك قوله:"كِلْ" أمر من كال يكيل، كباع يبيع الأمر منه بيع، فالاكتيال له والكيل عليه.

ص: وأما من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأقوال تملك بعقود في أبدان وفي أموال وفي منافع وفي أبضاع، فكان ما تملك به من الأبضاع هو النكاح، فكان يتم بالعقد لا بفرقه بعد العقد، وكان ما تملك به المنافع هو الإجارات، فكان ذلك أيضًا مملوكا بالعقد لا بفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك الأموال المعقودة بسائر العقود من البيوع وغيرها، تكون مملوكة بالأقوال لا بفرقه بعدها؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك.

وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

(1)"مسند البزار"(2/ 33 رقم 379).

ص: 426

ش: وجه النظر والقياس ظاهر، وهو قياس العقود من البيع ونحوه على العقود التي تكون بالمنافع كالإجارات وبالأبضاع كالأنكحة، فكما لا يشترط فيهما الفرقة بالأبدان بعد العقد؛ فكذلك لا يشترط في عقود البيع، والجامع كون كل منهما عقدا يتم بالإيجاب والقبول وقد اعترض ابن حزم اعتراضا تافها، حاصله: أن القياس باطل، ثم لو صح لكان هذا منكم عين الباطل؛ لأن النكاح فيه إباحة فرج كان محرمًا ملك رقبته، ولا يجوز فيه اشتراط خيار أصلاً ولا تأجيل، وأنتم تجيزون الخيار المشروط في البيع والتأجيل ولا ترونه قياس أحدهما على الآخر.

والإجارة إباحة منافع بعوض لا تملك به الرقبة بخلاف البيع.

قلت: القياس في الحقيقة تشبيه حكم بحكم شيء آخر دون التشبه على العموم والجامع ها هنا في صفة خاصة وهو تملك الأبضاع في النكاح بمجرد العقد بدون الاحتياج إلى التفرق وذلك مثل تملك المنافع فيقاس على ذلك تملك الأموال بعقد البيع بمجرد وجوب العقد بدون الاحتياج إلى التفرق فهذا هو وجه هذا القياس الذي خفي على ابن حزم حتى تصدى به إلى الاعتراض الذي طعن به علينا.

***

ص: 427