المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى

‌ص: باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى

ش: أي هذا باب في بيان حكم بيع الثمار قبل تناهيها وبدو صلاحها.

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، قال: أخبرني يونس بن يزيد، قال: حدثني نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الثمر واشتراؤه حتى يبدو صلاحه".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة (ح).

وحدثنا يزيد، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني عقيل، قالا جميعًا: عن ابن شهاب (ح).

وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام أنه قال:"لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء -هو الغداني- قال: أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام مثله، وزاد:"فكان إذا سئل عن صلاحها، قال: حتى تذهب عاهتها".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام:"أنه نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قال: قلت: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: طلوع الثريا".

ص: 454

ش: هذه سبع طرق صحاح:

الأول: عن نصر بن مرزوق، عن أبي زرعة

إلى آخره.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة (1) بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة.

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) من حديث موسى بن داود، ثنا عبد العزيز الماجشون، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه".

الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- ابن خالد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام.

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام:"نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه".

(1) البخاري (2/ 766 رقم 2087)، ومسلم (3/ 1166 رقم 1534)، وأبو داود (3/ 252 رقم 3367)، والترمذي (3/ 529 رقم 1226)، والنسائي (7/ 264 رقم 4519، وابن ماجه (2/ 746 رقم 2214).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 304 رقم 10396).

(3)

"المجتبى"(7/ 262 رقم 4520).

ص: 455

الخامس: عن نصر بن مرزوق

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال يحيى بن يحيى: أنا. وقال الآخرون-: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله ابن دينار، أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه".

السادس: عن محمد بن خزيمة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2) أيضًا: نا زهير بن حرب، قال: نا عبد الرحمن، عن سفيان.

ونا ابن مثنى، نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، كلاهما عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر

بهذا الإسناد.

وزاد في حديث شعبة: "فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته".

السابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني شيخ يحيى بن معين، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة بن المعتمر القرشي العدوي المدني، عن خاله عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير"(3) من حديث ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، عن ابن عمر:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع الثمار حتى يؤمن عليها العاهة، قيل: ومتى ذلك يا عبد الرحمن؟ قال: إذا طلعت الثريا".

قوله: "حتى يبدو صلاحه" وبدو صلاح الثمر يتفاوت بتفاوت الأثمار، فبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة ويظهر السواد في أسوده والبياض

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1166 رقم 1534).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1166 رقم 1534).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 300 رقم 10372).

ص: 456

في أبيضه، وكذلك العنب الأسود بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد، وأن ينحو أبيضه إلى البياض مع النضج، وكذلك الزيتون بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد، وبدو صلاح القثاء والفقوص أن ينعقد ويبلغ مبلغا يوجد له طعم، وأما البطيخ فإنه ينحو ناحية الاصفرار والطيب.

وروى أصبغ عن أشهب: بدو صلاح البطيخ أن يؤكل فقوصا، قال أصبغ: فقوصا قد تهيأ ليتسطح.

وأما الموز فروى أشهب وابن نافع عن مالك: أنه يباع إذا بلغ في شجره قبل أن يطيب، فإنه لا يطيب حتى ينزع.

وأما الجزر واللفت والفجل والثوم والبصل فبدو صلاحه إذا استقل ورقه وتم وانْتُفِعَ به، ولم يكن في قلعه فساد.

وقصب السكر إذا طاب ولم يكن كسره فسادًا والبر والفول والجلبان والحمص والعدس إذ يَبُس ذلك، والورد والياسمين وسائر الأنوار أن تتفتح كمامه ويظهر نَوْره، والقصيل والقصب والقرطم إذا بلغ أن يرعى دون فساد.

قوله: "حتى تذهب عاهتها" أي الآفة التي تصيبها فتفسدها، يقال: عاه القوم، وأعوهوا إذا أصابت ثمارهم وماشيتهم العاهة، وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: الإزهاء في ثمر النخل أن تبدو فيها الحمرة والصفرة، وهو بدو الصلاح، وبذلك ينجو من العاهة، وذلك بعد أن تطلع الثُّرَيَّا مع طلوع الفجر في النصف الأخير من شهر بابه الأعجمي، ويقال: طلوعها صباحا عند أهل العلم بها لاثني عشرة ليلة تمضي لأيار وهو بابه، وحينئذ يبدو صلاح الثمار بالحجاز، والثريا النجم المعروف، وهو تصغير ثروى. فافهم.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، قال: ثنا عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه".

ص: 457

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سليم بن حيان، قال: ثنا سعيد ابن ميناء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع الثمار حتى تُشْقِح، فقيل لجابر: فما تُشْقِح؟ [قال] (1): تحمر وتصفر، يؤكل منها".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري الثقة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): نا أحمد بن عثمان النوفلي، قال: ثنا أبو عاصم.

وحدثني محمد بن حاتم -واللفظ له- قال: ثنا روح، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، قال: ثنا عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سَلِيم -بفتح السين وكسر اللام- ابن حَيَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد إلياء آخر الحروف- ابن بسطام الهذلي البصري، عن سعيد بن ميناء المكي، عن جابر رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود (3): ثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سليم بن حيان، قال: حدثني سعيد بن ميناء، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "نهى رسول الله عليه السلام أن تباع الثمرة حتى تُشْقِح؟ قيل: وما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار، ويؤكل منها".

وأخرجه البخاري (4) ومسلم (5) أيضًا.

(1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1167 رقم 1536).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 553 رقم 3370).

(4)

"صحيح البخاري"(2/ 766 رقم 2084).

(5)

"صحيح مسلم"(3/ 1175 رقم 1536).

ص: 458

قوله: "حتى تُشْقِح" من الإشقاح والتشقيح أيضًا، يقال: اشقحت البسرة، وشَقَّحت إشقاحا وتشقيحا، والاسم الشُّقْحَة، وقد فسره في الحديث بقوله:"أن تحمر أو تصفر".

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن وربيع الجيزي، قالا: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبي الرجال، عن أمه عمرة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة".

ش: عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ الشيخين وأبي داود.

وخارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري، أبو ذر المدني، وقد ينسب إلى جده، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث.

وعن ابن معين: ليس به بأس.

وقال أبو داود: شيخ. روى له الترمذي والنسائي.

وأبو الرجال -بالجيم- محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري المدني، قال أبو داود والنسائي وابن حبان: ثقة. وروى له غير أبي داود والترمذي.

وأمه عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، ثقة تابعية، روى لها الجماعة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا الحكم، نا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال:"لا تبيعوا ثماركم حتى يبدو صلاحها، وتنجو من العاهة".

ص: حدثنا محمد بن سليمان الباغندي، قال: ثنا إبراهيم بن حميد الطويل، قال: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها".

(1)"مسند أحمد"(6/ 70 رقم 24452).

ص: 459

ش: محمد بن سليمان بن الحارث الباغندي الواسطي، قال الدارقطني: لا بأس به.

وإبراهيم بن حميد الطويل وثقة أبو حاتم الرازي وكتب عنه، وصالح بن أبي الأخضر اليمامي فيه مقال، فعن يحيى بن معين: بصري ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو زرعة والنسائي: ضعيف الحديث. وروى له الأربعة.

والزهري هو محمد بن مسلم، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري المدني، أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة.

والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا إبراهيم بن حميد الطويل، ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"لا تبيعوا الثمر حتى تطلع الثريا، ويبدو صلاحها".

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن يونس بن القاسم، قال: حدثني أبي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال:"نهى رسول الله عليه السلام بيع المحاقلة والمزابنة والمخاضرة والملامسة والمنابذة، قال عمر: فسَّر لي أبي في المخاضرة قال: لا ينبغي أن يُشترى شيء من ثمر النخل حتى يونع، يحمر أو يصفر".

ش: هذا إسناد صحيح ورجالة ثقات.

وأخرجه البخاري (2) نحوه. غير أنه ليس فيه قال عمر

إلى آخره.

و"المحاقلة" هي اكتراء الأرض بالحنطة هكذا جاء مفسرًا في الحديث، وهو الذي يسميه الزرَّاعون المحارثة.

(1)"المعجم الكبير"(5/ 130 رقم 4845).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 754 رقم 2039).

ص: 460

وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما.

وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر.

وقيل: هي بيع الزرع قبل إدراكه، وهي مفاعلة من الحقل وهو الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه، وقيل: هو من الحقل، وهي الأرض التي تزرع، ويسميه أهل العراق: القراح.

وفي "الموطأ"(1): "نهى رسول الله عليه السلام عن المزابنة والمحاقلة، والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل، والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة، وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: معنى قوله: "المحاقلة: كراء الأرض بالحنطة" أنه يؤول إلى بيع الحنطة بالحنطة، جزافًا بجزافٍ، أو جزافًا بمكيل.

وقال صاحب "العين": المحاقلة: بيع الزرع قبل بدو صلاحه، وقال سفيان: المحاقلة: بيع السنبل في الزرع بالحب.

وأما "المزابنة": فقال ابن الأثير: هي بيع الرطب في رءوس النخل، بالتمر، وأصله من الزَّبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه.

وفي "شرح الموطأ": المزابنة اسم لبيع رطب كل جنس بيابسه ومجهول منه بمعلوم، ولعله مأخوذ من الزبن وهو الدفع عن البيع الشرعي، وعن معرفة التساوي.

وقال ابن حبيب: الزبن والزبان هو الخطر والخطار، وقال مالك: "نهى رسول الله عليه السلام عن المزابنة، وتفسيرها: أنها كل شيء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده بيع بشيء من الكيل أو الوزن أو العدد، مثل أن يكون لرجل صبرة طعام حنطة أو تمر وشبه ذلك أو صبرة خبط أو نوى أو قصب أو عصفر أو كتان أو قزَّ لا يعلم كيل ذلك ولا وزنه ولا عدده، فيقول له رجل: كِل

(1)"الموطأ"(2/ 625 رقم 1295).

ص: 461

سلعتك هذه، أو زِنْ ما يوزن، أو اعدد ما يعدّ من ذلك، فما نقص من كذا فَعَلَيَّ غرمه وما زاد فلي، أضمن ما نقص على أن يكون لي ما زاد، فليس ذلك بيعا ولكنه مخاطرة أو قمار.

قال: ومن ذلك أن يكون له ثوب فيقول له رجل أضمن لك من ثوبك هذا كذا وكذا ظهارة، قدر كل ظهارة كذا أو يقول لرجل له جلود: أضمن لك من جلودك هذه نعالًا مائة، فما ينقص من ذلك كله فَعَلَيّ، وما زاد فلي، بما ضمنت لك، ومثله أن يقول لرجل له حب البان: اعصر حبك، فما نقص من كذا وكذا رطلا فعلي أن أعطيكه وما زاد فهو لي، أو يقول لرجل له خبط أو نوى أو غير ذلك: أبتاع منك هذا الخبط بخبط مثله، أو هذا النوى بكذا وكذا صاعًا من نوى مثله، أو في غير ذلك مثل هذا.

فهذا كله من المزابنة التي لا تصح ولا تجوز، وقال الشافعي: المزابنة الجزاف بالمكيل، والجزاف بالجزاف فيما لا يجوز بعضه ببعض متفاضلاً، يدًا بيدٍ ونحوه نقل عن أحمد، وقال أصحابنا: المزابنة: بيع الرطب على النخل بتمر مجزوز مثل كيله خرصًا وهو بيع فاسد، وقال الشافعي: يجوز فيما دون خمسة أوسق، وبه قال أحمد، وله في الخمسة قولان، وفي الزائد يبطل قولاً واحدًا.

قوله: "والمخاضرة" بالخاء والضاد المعجمتين، وهي بيع الثمار خاضرًا لم يبد صلاحها.

وقال أبو عمر: المزابنة عام؛ لأنها تطلق على اشتراء التمر بالتمر، وعلى اشتراء الزرع بالحنطة، وعلى بيع تمر حائط إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما بزبيب كيلا، وإن كان زرعا بكيلٍ طعاما، والمحاقلة خاص في الزرع، والمخاضرة خاص في الخضرة.

قوله: "والملامسة" وهي أن يقول إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المباع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه، نهى عنه؛ لأنه غرر، أو لأنه تعليق أو عدول عن الصيغة

ص: 462

الشرعية، وقيل: معناه أن يجعل اللمس بالليل قاطعا للخيار ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم، وهو غير نافذ، وقال مالك في "الموطأ" (1): والملامسة: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلاً ولا يعلم ما فيه.

قوله: "والمنابذة" وهي أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك فيجب البيع، وقيل: هي أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع فيكون البيع معاطاة من غير عقد ولا يصح، يقال: نبذت الشيء انبذه نبذا، فهو منبوذ إذا رميته وأبعدته.

وقال مالك (1): المنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما هذا بهذا.

وقال أصحابنا: كانت بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة بيوعا للجاهلية، فنهى رسول الله عليه السلام عن ذلك.

وبيع الحصاة أن تكون ثياب مبسوطة فيقول المبتاع للبائع: أي ثوب من هذه وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا، فيقول البائع: نعم.

فهذا كله وما كان مثله غرر وقمار.

قوله: "وحتى يونع" من أينع الثمر ويُونِع ويَنَعَ، يَيْنع وينع فهو مُونِع ويَانِع، إذا أدرك ونضج، وأَيْنَعَ أكثر استعمالا.

قوله. "يحمر أو يصفر" تفسير لقوله يونع.

ص: حدثنا إبراهيم بن محمد أبو بكر الصيرفي، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع الثمرة حتى تزهو، وعن العنب حتى يسود، وعن الحب حتى يشتد".

(1)"الموطأ"(2/ 666 بعد رقم 1346).

ص: 463

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى تزهو فقلت لأنس: وما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ ".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد، عن أنس، قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع ثمرة النخل حتى تزهو، قيل له: ما تزهو؟ قال: تحمر وتصفر".

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتبايعوا الثمار حتى تزهو، قلنا: يا رسول الله، وما تزهو؟ قال: تحمر أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ "

ش: هذه أربع طرق أخرى عن أنس، وهي أيضًا صحاح:

الأول: عن إبراهيم، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): أنا عبد الله بن عبد الرحمن الحرضي، أنا أبو بكر بن مقسم المقرئ، ثنا موسى بن الحسن، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا حميد، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، وعن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود".

الثاني: عن نصر بن مرزوق

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (2) ومسلم (3) من حديث إسماعيل، عن حميد، عن أنس، نحوه.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 301 رقم 10378).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 766 رقم 2085).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 1190 رقم 1555).

ص: 464

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) نحوه.

الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (2) ومسلم (3) من حديث مالك، عن حميد، عن أنس، نحوه.

وكذا أخرجه النسائي (4): عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك.

قوله: "حتى يزهو" وفي رواية: "حتى يزهى" يقال: زها النخل يزهو، إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يزهي إذا احمر واصفر، وقيل هما بمعنى الاحمرار والاصفرار، ومنهم من أنكر يزهو، ومنهم من أنكر يزهي.

وقال ابن حبيب: لثمرة النخل سبع درجات، الطلع ثم يتفتح الزهر عنه فيكون إغريضًا ثم يذهب عنه بياض الإغريض ويعظم حبَّه وتعلوه خضرة فيكون بلحًا، ثم تعلو الخضرة حمرة فيكون زهوًا، ثم يصفر فيكون بسرًا، ثم تعلو الصفرة كدرة وتنضج الثمرة فتكون رطبا، ثم ييبس فيكون تمرًا".

قوله: "حتى يزهو" غاية النهي، فإذا وقع الزهو، وقعت الإجازة على الإطلاق بخلاف ما قبل الزهو، فإنه نهى عن ذلك أيضًا مطلقا، ولم تجر في ذلك عادة واضحة، فوقع الاضطراب لذلك.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سعيد وأبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه".

(1)"مسند أحمد"(3/ 115 رقم 12159).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 766 رقم 2086).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 1190 رقم 1555).

(4)

"المجتبى"(7/ 264 رقم 4526).

ص: 465

ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح، ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري وسعيد هو ابن المسيب، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

والحديث أخرجه مسلم (1): حدثني أبو الطاهر وحرملة -واللفظ لحرملة- قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس [عن ابن شهاب](2) قال: حدثني سعيد ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر".

وأخرجه النسائي (3) أيضًا.

وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الفصل عن ستة من الصحابة رضي الله عنه، وهم: عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبو هريرة رضي الله عنهم.

ولما أخرج الترمذي (4) حديث ابن عمر في هذا الباب قال: وفي الباب عن أنس وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وجابر وأبي سعيد وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.

قلت: لم يَفُت الطحاوي ممن ذكرهم إلا حديث أبي سعيد.

وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطحاوي في هذا الباب على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وأما حديث أبي سعيد فأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده"(5): ثنا أبي، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، نا ابن هبيرة، عن حنش بن عبد الله، عن

(1)"صحيح مسلم"(3/ 168 رقم 1539).

(2)

ليس في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم".

(3)

"المجتبى"(7/ 263 رقم 4521).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 529 رقم 10227).

(5)

"مسند أحمد"(3/ 15 رقم 11126) وهو كما ترى من "مسند أحمد، وليس من زوائد ابنه عبد الله عنه. فالله

ص: 466

أبي سعيد الخدري -قال أبي: ليس مرفوعا- قال: "لا يصلح السلف في القمح والشعير والسلت حتى يفرك، ولا في العنب والزيتون وأشباه ذلك حتى يمجج، ولا ذهبا عينا بورق دينا، ولا ورق دينا بذهب عينا".

قوله: "حتى يمجج" من قولهم مَجَّج العنب يُمَجِّج إذا طاب وصار حلوا، ومنه الحديث:"لا تبع العنب حتلى يظهر مججه" أي بلوغه.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فزعموا أن الثمار لا يجوز بيعها في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري وابن أبي ليلي والشافعي ومالكا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يجوز بيع الثمار في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر.

وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: وإذا وقع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط الجد فلا خلاف في جوازه، وإن شرط التبقية فلا خلاف في منعه إلا ما روي عن يزيد بن أبي حبيب في العريَّة، وإن أطلق البيع فالمشهور عن مالك منعه، وبه قال الشافعي.

وروى ابن القاسم عن مالك في البيوع الفاسدة من "المدونة": جوازه ويكون مقتضاه الجذ وبه قال أبو حنيفة، ولا يباع الزرع إذا أفرك ولا الفول إذا اخضر، ولا الحمص ولا الجلبان إلا بشرط القطع؛ لأن المقصود منه اليبس، وإنما يؤكل اليسير أخضر كما يؤكل البلح، وعل هذا عندي حكم الجوز واللوز والفستق، فإن بيع الفول أو الحنطة أو العدس أو الحمص على الإطلاق قبل يبسه وبعد أن أفرك، فقال ابن عبد الحكم: يفسخ كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وروى يحيى عن ابن القاسم يفوت باليبس ويمضي.

وقال مالك في "المدونة": أكرهه، فإذا وقع وفات فلا أرى أن يفسخ، قال أبو محمد: معناه يفوت بالقبض، وروى محمد عن مالك: إن ترك لم أفسخه، وظاهره أنه يمضي بنفس العقد وإذا كانت النخل في جهة واحدة، فبدا الصلاح

ص: 467

في نخلة منها؛ جاز بيع ذلك الصنف كله، وكذلك إذا بدا صلاح نوع؛ جاز بيع سائر أنواع ذلك الجنس مما يقرب منه في بدو الصلاح، وإن لم يبد صلاح تلك الأنواع.

وقال مالك: لا يجوز بيع التين بطيب الباكور منه حتى يطيب أول تين العصير، ويكون طيبه متتابعا.

وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يباع الحائط، وإن لم يره إذا أزهى ما حوله، وكان الزمن قد أمنت فيه العاهة -يعني بطلوع الثريا- وقال ابن القاسم: أحب إلى أن لا يبيعه حتى يزهي؛ لنهيه عليه السلام عن ذلك، ولا أراه حراما، وقال أيضًا في "شرح الموطأ": ولا يباع جنس من الثمار ببدو صلاح جنس آخر، خلافا لليث بن سعد، وإذا بدا صلاح نخلة في حائط جاز بيعه وبيع ما حواليه من الحوائط مما يكون كحاله في التبكير والتأخير خلافًا لمطرف من أصحابنا وللشافعي، ولا خلاف أنه لا يجوز أن تفرد الحنطة في سنبلها بالشراء دون السنبل، وكذلك الجوز واللوز والباقلاء لا يجوز أن يفرد بالبيع دون قشره على الجزاف ما دام فيه، وأما شراء السنبل إذا يبس ولم ينقعه الماء فجائز، وكذلك الجوز والباقلاء، وقال الشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك.

وقال مالك: الأمر عندنا في بيع البطيخ والقثاء والخربز والجزر أن بيعه إذا بدا صلاحه حلال جائز، ثم يكون للمشتري ما نبت حي ينقطع ثمره ويهلك، وليس في ذلك وقت يوقت؛ وذلك أن وقته معروف عند الناس، وربما دخلته العاهة فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه.

ثم قال ابن زرقون: هذا قول مالك وأصحابه، وقال الشافعي والكوفيون وأحمد وإسحاق: لا يجوز بيع شيء من ذلك إلا بطَنَا بعد بطن، ولا يجوز بيع ما لم يخلق، ولا بيع ما خلق ولم تقدر على قبضه في حين البيع، ولا بيع ما خُلق وقُدر

ص: 468

عليه إذا لم ينظر إليه قبل العقد، وكذلك بيع كل مغيب في الأرض مثل الجزر والبصل.

وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: ما يباع من هذا فعلى ثلاثة أضرب:

ضرب تتميز بطونه ولا تتصل كشجر التين والنخيل والورد والياسمين والتفاح والرمان والجوز؛ فهذا الايباع ما لم يظهر من بطونه بظهور ما ظهر منها، وبدا صلاحه، وحكم كل بطن منها مختص به.

وضرب تتميز بطونه ويتصل كالقصيل والقصب والقرط بإطلاق العقد في هذا يتناول ما ظهر منه دون ما لم يظهر، ويكون خلفته لمن له أصله لأنه لم يبعه أصله، ولذلك لا يجوز له تبقيته إلى أن يبدو صلاحه، فإن شرط المبتاع خلفته فروى محمد عن أشهب عن مالك فيها روايتين:

إحداهما: أنه يجوز إذا كان لا يختلف وإن كان يختلف فلا أحب اشتراطها.

والثانية: أنه قال: ما هذا عندي بحسن؛ لأنها مختلفة.

وضرب لا تتميز بطونه ولكنه يتصل فيتقدر بالزمان كالمياه وألبان الغنم، وأما الموز فقال محمد بن سلمة يباع سنين كألبان الغنم يباع إذا ولدت شهرا أو شهرين، وأما الجميز فقال محمد عن مالك: إن كان نباته متصلا فهو مثل المقاتي، وإن كان منفصلا فلا خير فيه والسدر كذلك.

وفي "شرح الموطأ" وفي نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها دليل على جواز بيعها بعد ذلك في رءوس الأشجار وإن لم تصرم. وعك ذلك جماعة العلماء، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة: لا يجوز بيع الثمرة في رءوس الشجر قبل أن تصرم.

وفي "المحلى"(1) لابن حزم: فإذا سنبل الزرع لا يحل بيعه أصلا على القطع ولا على الترك إلا حتى يشتد، فإذا اشتد حل بيعه حينئذ، وروى ذلك عن

(1)"المحلى"(8/ 404 - 408).

ص: 469

الحسن وابن سيرين وعكرمة أيضًا، قال: ومنع أبو حنيفة ومالك والشافعي من بيع القصيل حتى يصير حبا يابسًا.

وقال سفيان الثورى وابن أبي ليلى: لا يجوز بيع القصيل لا على القطع ولا على الترك، واختلفوا إن ترك الزرع فزاد، فقال مالك: يفسخ البيع جملة.

وقال أبو حنيفة: للمشتري المقدار الذي اشترى ويتصدق بالزيادة، وروي عنه أنه رجع فقال: للمشتري المقدار الذي اشترى، وأما الزيادة فللبائع.

وقال الشافعي: البائع غير بين أن يدع له الزيادة فيجوز البيع والهبة معا أو يفسخ البيع. وقال أبو سليمان: الزيادة للمشتري مع ما اشترى.

وقال ابن حزم أيضًا: ويجوز بيع ما ظهر من المقاثي وإن كان صغيرًا جدًّا؛ لأنه يؤكل، ولا يحل بيع ما لم يظهر بعد من المقاثي والياسمين والموز وغير ذلك، ولا جزة ثانية من القصيل؛ لأن كل ذلك بيع ما لم يخلق، ولعله لا يخلق، وإن خلق فلا يدري أحد غير الله ما كميته ولا ما صفاته؛ فهو حرام بكل وجه، وبيع غرر وأكل مال بالباطل.

وأجاز مالك كل ذلك، وما نعلم له في تخصيص هذه الأشياء سلفًا ولا أحدًا قاله غيره قبله، ولا حجة، واحتج بعضهم باستئجار الطير، وهذا تحريف لكلام الله تعالى عن مواضعه، وأين الاستئجار من البيع، ثم أين اللبن المرتضع من القثاء والياسمين، وهم يحرمون بيع لبن شاة قبل حلبه، ولا يقيسونه على الطير، ثم يقيسون عليه بيع القثاء والموز والياسمين قبل أن يخلق.

ومن طريق سعيد بن منصور: ثنا هشيم، أنا يونس بن عبيد، عن الحسن:"أن كره بيع الرطب جزتين".

ومن طريق ابن أبي شيبة: نا شريك، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي والشعبي، قالا جميعًا:"لا بأس ببيع الرطاب جزة جزة".

ومن طريق وكيع، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة قال:"سألت عطاء عن بيع الرطبة جزتين، فقال: لا يصلح إلا جزة".

ص: 470

ومن طريق وكيع عن محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أنه كره بيع القصب والحناء إلا جزة، وكره بيع الخيار والحزبز إلا جنية".

ومن طريق وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن ابن أشوع والقاسم:"أنهما كرها بيع الرطاب إلا جزة". وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي سليمان وغيرهم.

وقال الشيخ محي الدين: في "الروضة"(1): فإذا باع ثمرة لا كمام لها كالتين والعنب والكمثرى جاز، سواء باعها على الشجرة أو على الأرض، ولو باع الشعير أو السلت مع سنبله جاز بعد الحصاد وقبله؛ لأن حباته ظاهرة، ولو كان للثمر أو الحب كمام لا يزال إلا عند الأكل كالرمان والعلس فكمثل، وأما ما له كمامان يزال أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل كالجوز واللوز والرانج فيجوز بيعه في القشر الأعلى مادام رطبا وبيع الباقلاء في القشر الأعلى فيه على هذا الخلاف، وادعى إمام الحرمين أن الظاهر فيه الصحة؛ لأن الشافعي أمر أن يشتري له الباقلاء الرطب.

وقال النووي: المنصوص في "الأم": أنه لا يصح بيعه، وقال صاحب "التهذيب" وغيره: هو الأصح. وقطع به صاحب "التنبيه" هذا إذا كان الجوز واللوز والباقلاء رطبا، فإن بقي في قشره الأعلى فيبس؛ لم يجز بيعه وجهًا واحدًا، وقيل: يصح. ويصح بيع طلع النخل مع قشره في الأصح، وأما ما لا يرى حبه في سنبله كالحنطة والعدس والسمسم فما دام في سنبلة لا يجوز بيعه مفردًا عن سنبله قطعًا، ولا معه على الجديد الأظهر، كبيع تراب الصاغة، وكبيع الحنطة في تبنها، فإنه لا يصح قطعًا.

وفي الأرز طريقان: المذهب أنه كالشعير فيصح بيعه في سنبله، وقيل: كالحنطة.

(1)"روضة الطالبين"(1/ 478).

ص: 471

ولا يصح بيع الجزر والثوم والبصل والفجل والسلعق في الأرض، ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع، ويجوز بيع القنبيط في الأرض لظهوره، وكذا نوع من السَّلجم يكون ظاهرًا.

ويجوز بيع اللوز في القشر الأعلى قبل انعقاد الأسفل.

وفي "الحاوي" في فقه أحمد: ويجوز بيع الزرع المسند في سنبله سواء كان الحب ظاهرًا كالشعير أو في عصفره كالحنطة، ويجوز بيع الباقلاء والجوز واللوز والفستق والبندق في قشرته والله أعلم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: هذه الآثار كلها عندنا ثابتة صحيح مجيئها، فنحن آخذون بها غير تاركين لها، ولكن تأويلها عندنا غير ما تأولها عليه أهل المقالة الأولى، واحتمل أن يكون أراد به بيع الثمار قبل أن تكون، فيكون بائعها بائعًا لما ليس عنده، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في نهيه عن بيع السنين.

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين".

قال يونس: قال لنا سفيان: "هو بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها".

حدثنا ربيع الجيزي وابن أبي داود، قالا: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا كهمس بن المنهال، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب:"قال نهى رسول الله عليه السلام عن بيع السنين".

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا ابن عفير، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريح، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر:"أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الثمر حتى يطعم".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله.

ص: 472

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن أبي البختري قال:"سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن بيع النخل، فقال: نهى رسول الله عليه السلام عن بيع النخل حتى يأكل منه، أو حتى يؤكل منه".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البختري الطائي يقول: "سألت ابن عباس عن السلَم، فقلت: إنا ندع أشياء لا نجد لها في كتاب الله عز وجل تحريمًا، فقال: إنا نفعل ذلك؛ نهى رسول الله عليه السلام عن بيع النخل حتى يؤكل منه".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا الفضل ابن فضالة، عن خالد:"أنه سمع عطاء بن أبي رباح عن الرجل يبيع ثمرة أرضه رطبا كان أو عنبا، يسلف فيها قبل أن تطيب، فقال: لا يصلح؛ إن ابن الزبير رضي الله عنهما باع ثمرة أرض له ثلاث سنين، فسمع بذلك جابر بن عبد الله الأنصاري، فخرج إلى المسجد فقال في أناس: منعنا رسول الله عليه السلام أن نبيع الثمرة حتى تطيب".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال:"سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن السلف في الثمر، فقال: نهى عمر رضي الله عنه عن بيع الثمر حتى يصلح".

فدلت هذه الآثار التي ذكرناها على الثمار المنهي عن بيعها قبل بُدُوِّ صلاحها ما هي، وأنها المبيعة قبل كونها المسلف عليها، فنهى عن ذلك رسول الله عليه السلام حتى تكون، وحتى يؤمن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلم فيها، أَوَلا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما لما سأله أبو البختري عن السلم في النخل كان جوابه له في ذلك ما ذكر في حديثه من النهي عن بيع الثمار حتى تطعم، فدل ذلك على أن النهي إنما وقع في الآثار التي قدمنا ذكرها في هذا الباب على بيع الثمار قبل أن تكون ثمارًا، ألا ترى إلى قول النبي عليه السلام:"أرأيت إن منع الله الثمرة. بما يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ".

ص: 473

فلا يكون ذلك إلا على البيع من ثمرة لم يكن أن تكون، وإنما الذي في هذه الآثار هو النهي عن السلم في الثمار في غير حينها، وهذه الآثار تدل على النهي عن ذلك، فاما بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، فإن ذلك عندنا جائز صحيح.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا في رواية وأحمد في قول، فإنهم قالوا: بيع الثمار على الأشجار بعد ظهورها جائز، وحججهم في ذلك إن شاء الله تعالى:

قوله: "فقالوا هذه الآثار

" إلى آخره جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الآثار المذكورة، بيان ذلك أن الأحاديث المذكورة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أحاديث صحيحة لا نزاع في صحتها ولا يتمكن أحد من ردها، ونحن آخذون بها غير تاركين لها، وإنما تأويلها عندنا على غير الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى، وهو أن المراد به بيع الثمار قبل كونها، وقبل أن تخلق، وذلك لأنه حينئذ يكون بائعًا لما ليس عنده، وقد نهى رسول الله عليه السلام عن ذلك وهو نهيه عن بيع سنين، وإنما نهى عن ذلك لأنه من المعلوم أن ثمرة السنة، والثانية والثالثة لم تخلق، فهي لو خلقت ولم يَبْدُ صلاحها لم يجز العقد عليها، فإذا لم تخلق فأولى أن لا يجوز، ووردت آثار أخرى دلت على الثمار المنهي [عن] (1) بيعها قبل بُدُوِّ صلاحها ما هي، وأنها هي التي تباع قبل كونها ويسلف عليها، فنهى رسول الله عليه السلام عن ذلك حتى تكون وتخلق ويؤمن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلف -وهو السلم- فيها، ومن الدليل على صحة ما أولنا من التأويل المذكور: قوله عليه السلام في حديث أنس رضي الله عنه، الذي هو من جملة حجج أهل المقالة الأولى: "أرأيت إن منع الله الثمر، بما يستحل أحدكم مال أخيه" فهذا يدل صريحًا على أن البيع كان قبل كون الثمار، وقبل أن تخلق، فإذا كان الأمر كذلك لم

(1) في "الأصل": "عنها".

ص: 474

يبق في الأحاديث المذكورة طريق إلى صحة استدلال أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وأما استدلالنا نحن فيما ذهبنا إليه من جواز بيع الثمار على الأشجار بعد ما ظهرت، فبأحاديث وأخبار يأتي ذكرها عن قريب، إن شاء الله تعالى.

ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن حميد بن قيس الأعرج المكي أبي صفوان القارئ الأسدي، عن سليمان بن عتيق الحجازي المكي -ويقال: ابن عتيك وهو وهم- عن جابر بن عبد الله.

وهذا على شرط مسلم.

وأخرجه مسلم (1): نا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، قالوا: نا سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر قال:"نهى النبي عليه السلام عن بيع السنين" وفي رواية ابن أبي شيبة: "عن بيع الثمر سنين".

وأخرجه أبو داود (2): أيضًا بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، كلاهما عن سفيان بن عيينة

إلى آخره، وفي آخره:"ووضع الجوائح".

وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة بن سعيد، نا سفيان، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيك -قال قتيبة: عتيك بالكاف، والصواب عتيق- عن جابر، عن النبي عليه السلام نهى عن بيع الثمر سنين.

قلت: معناه أن يبيع الرجل ثمرة حائطه سنين، وهو الذي يسمى أيضًا بيع المعاومة، وفيه دلالة على أن بيع الإنسان ما ليس عنده باطل.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1178 رقم 1536).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 254 رقم 3374).

(3)

"المجتبى"(7/ 266 رقم 4531).

ص: 475

الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج وإبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما عن عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري أبي عثمان المصري من رجال مسلم، عن كهمس بن المنهال السدوسي أبي عثمان البصري اللؤلؤي، قال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه، أدخله البخاري في كتابه "الضعفاء" يحول منه. وذكره ابن حبان في "الثقات" قال: وكان يقول بالقدر. روى له البخاري حديثًا واحدًا مقرونا بغيره.

وهو يروي عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال أبو بكر البزار: يقال: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديثا واحدًا، وهو ما حدثناه إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، عن قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي محمد بن سيرين: "سل الحسن ممن سمع الحديث في العقيقة، فسألته فقال: من سمرة رضي الله عنه" وقال الترمذي: قلت للبخاري في قولهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، قال سمع منه أحاديث كثيرة، وجعل روايته عنه سماعًا وصححها.

وأخرج حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم من مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الجُملي الكوفي الأعمى أحد مشايخ أبي حنيفة، عن أبي البختري -بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناه من فوق وكسر الراء- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي روى له الجماعة.

عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه مسلم (1): نا محمد بن مثنى، وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: "سألت ابن عباس

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1167رقم 1537).

ص: 476

عن بيع النخل، فقال: نهى رسول الله عليه السلام عن بيع النخل حتى يأكل منه -أو يؤكل- وحتى يوزن، فقلت: ما يوزن، فقال رجل عنده: حتى يحرز".

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغذاني، عن شعبة

إلى آخره.

قوله: "حتى يأكل منه" على صيغة المعلوم أي حتى يأكل البائع منه.

قوله: "أو حتى يؤكل منه" شك من الراوي.

وأخرج حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب ابن جرير، عن شعبة

إلى آخره.

وهذا أيضًا إسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق.

ص: والدليل على ذلك ما جاء عن رسول الله عليه السلام.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع".

حدثنا يزيد، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اشترى عبدًا ولم يشثرط ماله فلا شيء له، ومن اشترى نخلا بعد إبارها ولم يشترط الثمر فلا شيء له".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عكرمة بن خالد المخزومي، عن ابن عمر:"أن رجلاً اشترى نخلا قد أبرها صاحبها، فخاصمه إلى النبي عليه السلام فقضى رسول الله عليه السلام أن الثمرة لصاحبها الذي أبرها إلا أن يشترط المشتري".

قال أبو جعفر رحمه الله: فجعل النبي عليه السلام في هذه الآثار، ثمر النخل لبائعها إلا أن يشترط مبتاعها، فيكون له باشتراطه إياها ويكون بذلك مبتاعًا لها.

ص: 477

فقد أباح النبي عليه السلام ها هنا بيع ثمرة في رءوس النخل قبل بدو صلاحها، فدل ذلك أن المعنى المنهي عنه في الآثار الأُول هو خلاف هذا المعنى.

ش: أي الدليل على جواز بيع الثمار في أشجارها بعد ما ظهرت: ما جاء عن النبي عليه السلام من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وهو ما أخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، قال: "سمعت رسول الله عليه السلام

إلى آخره نحوه.

وأخرجه بقية الجماعة (2).

الثاني: عن يزيد أيضًا، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه

إلى آخره.

وأخرجه الدارمي في "مسنده"(3): عن عبد الله بن مسلمة، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة، عن عكرمة بن خالد المخزومي المكي، عن عبد الله بن عمر.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1173 رقم 1543).

(2)

البخاري (2/ 838 رقم 2250)، وأبو داود (3/ 268 رقم 3433)، والترمذي (3/ 546 رقم 1244)، والنسائي (7/ 297 رقم 4636)، وابن ماجه (2/ 746 رقم 2211).

(3)

"سنن الدارمي"(2/ 330 رقم 2561).

ص: 478

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال:"أيما رجل باع مملوكا له مال فماله لربه الأول، إلا أن يشترط المبتاع، وأيما رجل باع نخلا قد أينعت فثمرتها لربها الأول إلا أن يشترط المبتاع".

قوله: "من ابتاع نخلة" أي من اشترى نخلا، وذكر النخل ليس بقيد وإنما ذكرها لأجل أن سبب ورود الحديث كان في النخل، وهو الظاهر بدلالة قوله: "أن رجلاً اشترى نخلا قد أبَّرها صاحبها، فخاصمه إلى النبي عليه السلام

الحديث، وإما لأن الغالب في أشجارهم كان النخل. فافهم.

قوله: "بعد أن تؤبر" من التأبير وهو التلقيح (2)، يقال: أبَّرت النخلة -بالتشديد- وأبَّرتها -بالتخفيف- فهي مؤبرة ومأبورة.

قال القاضي: التأبير في النخل كالتذكير لها، وهو أن يجعل في طلعها أول ما يطلع من طلع فحل النخل أو يعلق عليه لئلا يسقط، وهو اللقاح أيضًا، وقال ابن حبيب: الإبار: شق الطلع عن الثمرة.

قوله: "بعد إبارها" بكسر الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وهو اسم من أَبَرَت النخلة، ومعناه ما ذكرنا.

ويستفاد من أحكام:

الأول: ما ذكره الطحاوي وهو أنه يدل علي جواز بيع الثمرة على رءوس النخل قبل بُدُوِّ صلاحها؛ وذلك لأنه عليه السلام جعل في هذه الآثار ثمر النخل للبائع عند عدم اشتراط المشتري، فإذا اشترط المشتري ذلك يكون له، ويكون المشتري مشتريا لها أيضًا.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 325 رقم 10548).

(2)

وقال في "عمدة القاري"(12/ 10): وهو التشقيق والتلقيح، ومعناه: شق طلع النخلة الأنثى، ليُذِرَّ فيه شيء من طلع النخلة الذكر. ونقل عن القرطبي قال: وإبار كل ثمر بحسبه، وبما جرت عاداتهم فيه. بما يثبت ثمره ويعقده، وقد يعبر بالتأبير عن ظهور الثمرة وعن انعقادها.

ص: 479

الثاني: استدلت به المالكية على كون الثمرة مع الإطلاق للبائع بعد الإبار إلا أن يشترط، وأنها قبل الإبار للمشتري.

قلت: إنما قالوا كذلك لأن مالكا يرى أن ذكر الإبار ها هنا لتعليق الحكم عليه ليدل على أن ما عداه بخلافه.

وقال أبو حنيفة: تعليق الحكم به إما للتنبيه به على ما لا يؤبر أو لغير ذلك، ولم يقصد به نفي الحكم عما سوى الحكم المذكور.

وقال القاضي عياض: الثمرة قبل الإبار تشبه الجنين قبل الوضع، وبعد الإبار تشبه الجنين بعد الوضع، فكما كانت الأجنة قبل وضعها للمشتري، وبعد وضعها للبائع، وجب أن يجري الثمر هذا المجرى، وأما إذا لم تؤبر، وثبت أنها للمشتري، فهل يجوز للبائع أن يشترطها؟ المشهور في المذهب عندنا: أن ذلك لا يجوز، وبالإجازة قال الشافعي، وتلخيص مآخذ اختلافهم في الحديث: أن أبا حنيفة استعمل الحديث لفظا ومعقولا، واستعمله مالك والشافعي لفظا ودليلا ولكن الشافعي يستعمل دلالته من غير تخصيص ويستعملها مالك مخصصة.

وبيان ذلك: أن أبا حنيفة جعل الثمرة للبائع في الحالين وكأنه رأى أن ذكر الإبار تنبيه على ما قبل الإبار، وهذا المعنى يسمي في الأصول معقول الخطاب، واستعمله مالك والشافعي على أن المسكوت عنه حكم غير حكم المنطوق وهذا يسميه أهل الأصول: دليل الخطاب.

الثالث: قال مالك: إذا لم يشترط المشتري الثمرة في شراء الأصل جاز له شراؤها بعد شراء الأصل، وهذا مشهور قوله، وعنه أنه لا يجوز له إفرادها بالشراء ما لم تطب. وهو قول الشافعي، والثوري وأهل الظاهر وفقهاء أصحاب الحديث.

وأبو حنيفة يراها إذا لم يشترطها المشتري قبل الإبار، وبعده إذا كانت قد ظهرت للبائع إلا أن عليه قلعها لحينه، وليس عليه تركها للجذاذ والقطاف فمتى اشترط بقاءها فسد عنده البيع.

ص: 480

وقال محمد بن الحسن: إلا أن يكون بدا صلاحها فيجوز له اشتراط بقاءها، وقد خالف ابن أبي ليلي هذا الحديث وقال: سواء أبرت أو لم تؤبر الثمرة للمشتري، اشترط أو لم يشترط.

وقال أبو عمر: وأما ابن أبي ليلى فإنه رد هذا الحديث جهلا به، وأما أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي فلا يفرقون بين المؤبر وغيره، ويجعلون الثمرة للبائع أبدًا إذا كانت قد ظهرت ولم يشترطها المبتاع قبل البيع.

الرابع: استدل به أشهب من المالكية على جواز اشتراط بعض الثمر، وقال: يجوز لمن ابتاع نخلا قد أبرت أن يشترط من الثمرة نصفها أو جزءًا منها، وكذلك في مال العبد؛ لأن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه، وما لم يدخل الربا في جميعه فأحرى أن لا يدخل في بعضه، وقال أبو عمر: قال ابن القاسم: لا يجوز لمبتاع النخل المؤبر أن يشترط منها جزءًا، وإنما له أن يشترط جميعها لا يشترط شيئًا منها.

الخامس: استدلت به أصحابنا على أن من باع رقيقا وله مال، أن ماله لا يدخل في البيع ويكون للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وعلى هذا يقتضي القياس أن لا تدخل ثياب بدنه كما لا يدخل اللجام والسرج والعذار في بيع الدابة؛ لأن العبد وما في يده لمولاه، ولكنهم استحسنوا في ثياب البذلة والمهنة وهي التي يلبسها في اليوم والليلة لتعامل الناس وتعازفهم.

وأما الثياب النفيسة التي لا يلبسها إلا عند العرض للبيع فلا تدخل في البيع؛ لانعدام التعارف في ذلك فبقي على أصل القياس، وكذا لو أعتق عبده على مال فماله لمولاه، وكذا لو أعتق مدبره أو أم ولده ولو كانت عنده فما كان له من المال وقت الكتابة يكون لمولاه، وما اكتسبه بعد الكتابة يكون له.

وقال أبو عمر: لا أعلم خلافا عن مالك وأصحابه أنه يجوز أن يشتري العبد وماله بدراهم إلى أجل، وإن كان ماله دراهم ودنانير وعروضًا، وأن ماله كله

ص: 481

تبع، وكان الشافعي يقول ببغداد في كتابه "البغدادي" كقول مالك، هذا حكاه عنه الحسن بن محمد الزعفراني، وهو قول أبي ثور أيضًا، وقال الشافعي بمصر في كتابه "المصري" -ذكره عنه الربيع والمزني والبويطي- لا يجوز اشتراط مال العبد إذا كان له مال فضة فاشتراه بفضة أو ذهب فاشتراه بذهب إلا أن يكون ثمنه خلاف الثمن، أو يكون عروضًا كما يكون في سائر البيوع، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن يباع العبد بألف درهم وله ألف درهم، حتى يكون مع الألف زيادة فيكون الألف بالألف وتكون الزيادة ثمنا للعبد، وقال أيضًا: قال الحسن والشعبي: مال العبد تبع له أبدا في البيع والعتق جميعًا، لا يحتاج مشتريه فيه إلى اشتراط، وهذا قول مردود بالسنة لا يُعَرَّج عليه.

وقال مالك والزهري وأكثر أهل المدينة: إذا أعتق العبد تبعه ماله، وفي البيع لا يتبعه فيه وهو لبائعه، وقال الشافعي بمصر والكوفيون: إذا أعتق العبد أو بيع؛ لم يتبعه ماله، ولا مال له ولا ملك إلا مجازًا أو اتساعًا لا حقيقة.

وقال القاضي عياض: قال الإِمام مالك: العبد يزول عن سيده على أربعة أوجه:

الأول: بعقد معاوضة كالبيع والنكاح، فالمال في ذلك للسيد إلا أن يشترط عليه، خلافا للحسن والزهري في قولهم: إن المال يتبع العبد في البيع، وهذا الحديث يرد عليهما.

الثاني: العتق وما في معناه من العقود التي تفضي [إلى](1) العتق وتسقط النفقة عن السيد كالكتابة، فالمال للعبد إلا أن يشترط؛ خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه للسيد في العتق.

الثالث: الكتابة فالمال فيها يتبع الرقبة وينتقل بانتقالها.

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 482

الرابع: الهبة والصدقة، وفيها قولان عندنا، والله أعلم.

ومن أحاديث هذا الباب التي فاتت الطحاوي رحمه الله: حديث عبادة بن الصامت، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.

أما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه ابن ماجه (1) بإسناده إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها إلا أن يشترط المبتاع، وقضى أن مال المملوك لمن باعه إلا أن يشترط المبتاع".

وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده"(2) فقال: وجدت في كتاب أبي، أنا الحكم بن موسى، قال: عبد الله: وحدثناه الحكم بن موسى، نا يحيى بن حمزة، عن أبي وهب، عن سليمان بن موسى، أنا نافعا حدثه، عن عبد الله بن عمر وعطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه السلام قال:"من باع عبدًا وله مال، فله ماله وعليه دينه إلا أن يشترط المبتاع، ومن أبر نخلا وباعه بعد تأبيره فله ثمرته، إلا أن يشترط المبتاع".

وأما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخرجه البيهقي في "سننه"(3) من حديث سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًا رضي الله عنه قال: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، قضى به رسول الله عليه السلام، ومن باع نخلا

" الحديث.

وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البيهقي أيضًا (4) مقتصرًا على قضية مال العبد من حديث الأنصاري، ثنا عبد الأعلى بن أبي المساور، ثنا عمران بن عمير، عن أبيه -وكان مملوكًا لابن مسعود- قال: "قال له عبد الله: ما لك

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 746 رقم 2213).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 309 رقم 14364).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 326 رقم 10552).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 326 رقم 10554).

ص: 483

يا عمير؟ لأني أريد أن أعتقك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أعتق عبدًا فماله للذي أعتق".

قلت: عبد الأعلى متروك، قاله الذهبي.

ص: فإن قال قائل: إنما أجيز بيع الثمر في هذه الآثار لأنه مبيع مع غيره وليس في جواز بيعه مع غيره ما يدل أن بيعه وحده كذلك؛ لأنا قد رأينا أشياء تدخل مع غيرها في البياعات ولا يجوز إفرادها بالبيع، من ذلك: الطرق والأفنية تدخل في بيع الدور، ولا يجوز أن تفرد بالبيع، فجوابنا له في ذلك أن الطرق والأفنية تدخل في بيع الدور وإن لم تشترط، والثمر لا يدخل في بيع النخل إلا أن يشترط، فالذي يدخل في بيع غيره لا باشتراط هو الذي لا يجوز أن يكون مبيعًا وحده، والذي لا يكون داخلا في بيع غيره إلا باشتراط هو الذي إذا اشترط كان مبيعًا، فلم يجز أن يكون مبيعًا مع غيره إلا وبيعه وحده جائز، ألا ترى أن رجلاً لو باع دارًا وفيها متاع أن ذلك المبتاع لا يدخل في البيع، وأن مشتريها لو اشترطه في شرائه الدار صار له باشتراطه إياه، ولو كان الذي في الدار خمرًا أو خنزيرًا باشتراطه في البيع فسد البيع، فكان لا يدخل في شرائه الدار باشتراطه في ذلك إلا ما يجوز له شراؤه وحده لو اشتراه، فكان الثمر الذي ذكرنا يجوز له اشتراطه مع النخل، فلم يكن ذلك إلا لأنه يجوز بيعه وحده أَوَلا ترى، أن النبي عليه السلام قد قال في هذا الحديث وقرنه مع ذكر النخل: "من باع عبدًا له مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فجعل المال للبائع إذا لم يشترطه المبتاع، وجعله للمبتاع باشتراطه إياه، فكان دلك المال لو كان خمرًا أو خنزيرًا فسد بيع العبد إذا اشترطه فيه، وإنما يجوز أن يشترط مع العبد من ماله ما يجوز بيعه وحده، فأما ما لا يجوز بيعه وحده فلا يجوز اشتراطه في بيعه؛ لأنه يكون بذلك مبيعا، وبيع ذلك الشيء لا يصلح، فذلك أيضًا دليل صحيح على ما ذكرنا في الثمار الداخلة في بيع النخل بالاشتراط، أنها الثمار التي يجوز بيعها على الانفراد دون بيع النخل؛ فثبت بذلك ما ذكرنا.

ص: 484

وهذا قول أن أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-.

وقد كان محمد بن الحسن يذهب إلى أن النهي الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الباب هو بيع الثمر على أن يترك في رءوس النخل حتى يبلغ ويتناهى، وحتى يجذ، وقد وقع البيع عليه قبل التناهي، فيكون المشتري قد ابتاع ثمرًا ظاهرًا، وما ينميه على نخل البائع بعد ذلك إلي أن يُجذ فذلك باطل، قال: فأما إن وقع البيع بعدما تناهى عظمه وانقطعت زيادته، فلا بأس بابتياعه واشتراط تركه إلى حصاده وجذاذه، قال: فإنما وقع النهي عن ذلك لاشتراط الترك؛ لمكان الزيادة، قال: وفي ذلك دليل على أن لا بأس بذلك الاشتراط في ابتياعه بعد عدم الزيادة، حدثني سليمان بن شعيب بهذا، عن أبيه، عن محمد.

وتأويل أبي حنيفة وأبي يوسف في هذا حسن عندنا. والله أعلم.

والنظر أيضًا يشهد له؛ لأنه إذا وقع البيع على الثمار بعد تناهيها على أن ترك إلى الحصاد فالنخل ها هنا مستأجرة لتكون الثمار فيها إلى وقت جذاذها عنها، وذلك لو كان على الانفراد لم يجز، فإذا كان مع غيره، فهو أيضًا كذلك.

ش: هذا سؤال وارد من جهة أهل المقالة الأولى على ما استدلت به أهل المقالة الثانية، فيما ذهبوا إليه من جواز بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، وتقريره أن يقال: إنما أجيز بيع الثمار في الأحاديث التي استدللتم؛ لأنها مبيعة مع غيرها، وليس شيء يدل على جواز بيعها بانفرادها؛ لأنه لا ملازمة بين جواز بيعها مع غيرها، وبين بيعها وحدها، والدليل على ذلك أنا وجدنا أشياء تدخل مع غيرها في البيع بالتبعية مع أن بيعها بانفرادها لا يجوز، وذلك كالطريق، وفناء الدار، فإن من باع دارًا يدخل فيه طريقها وفناؤها، ومع هذا لا يجوز بيع الطريق ولا الفناء بانفرادها.

والجواب عنه ظاهر غنيّ عن الشرح.

ص: 485

قوله: "في البياعات" بكسر الباء: جمع بياعة بمعنى البيع، والبياعة السلعة أيضًا، قاله الجوهري.

و"الأفنية" جمع فناء الدار -بكسر الفاء- وهو ما امتَدَّ من جوانبها.

قوله: "وحتى تُجَذّ" على صيغة المجهول من جذَّ الثمرة يجذها جذًّا إذا قطعها، والحذاذ بالفتح والكسر صرام النخل، وهو قطع ثمراتها، وبابه فَعَلَ يَفْعَلُ، كنَصَرَ يَنْصُر.

قوله: "بعدما تناهى عظمه" بكسر العين وفتح الظاء ويجوز بضم العين وسكون الظاء.

ثم تحقيق الخلاف في هذه المسألة بين أصحابنا وغيرهم أن بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره، وبيع الزرع في الأرض بشرط الترك لا يخلو إما أن يكون لم يبد صلاحه بعد بأن صار منتفعًا به بوجه من الوجوه، وإما أن يكون قد بدا صلاحه وكل ذلك يخلو من أن يكون بشرط القطع، أو مطلقا، أو بشرط الترك حتى يبلغ، فإن كان لم يبد صلاحه فباع بشرط القطع جاز، وعلى المشتري أن يقطع للحال، وليس له أن يترك من غير إذن البائع، ومن مشايخنا من قال: لا يجوز بيعه قبل بدو صلاحه، وهو خلاف ظاهر الرواية، ولو باع مطلقا عن شرط؛ جاز أيضًا عندنا، خلافا للشافعي، وأما إن بدا صلاحه فباع بشرط القطع، أو مطلقا، جاز أيضًا، وإن باع بشرط الترك، فإن لم يكن تناهى عظمه فالبيع فاسد بلا خلاف، وإن كان قد تناهى عظمة فكذلك فاسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يجوز استحسانا، لتعارف الناس على ذلك وتعاملهم، فلو اشترى مطلقا عن شرط، فترك فإن كان قد تناهي عظمه ولم يبق إلا النضج لم يبطل بشيء، سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه؛ لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حالة النضج، وإن كان لم يتناه عِظمه ينظر، إن كان الترك بإذن البائع جاز وطاب له الفضل، وإن كان بغير إذنه يتصدق بما زاد في

ص: 486

ذاته على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بجهة محظورة، فأوجبت خبثا فيها، فكان سبيلها التصدق، فإن استأجر المشتري من البائع الشجر للترك إلى وقت الإدراك، طاب له الفضل لأن الترك حصل بإذن البائع، ولكن لا تجب الأجرة؛ لأن هذه الإجارة باطلة؛ لأن جوازها ثبت على مخالفة القياس، لتعامل الناس، فما لم يتعاملوا فيه لا تصح فيه الإجارة، ولهذا لم تصح إجارة للأشجار لتجفيف الثياب، وإجارة الأوتاد لتعليق الأشياء عليها، وإجارة الكتب للقراءة، ونحو ذلك حتى لم تجب الأجرة.

ولو أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى فهي للبائع سواء كان الترك بإذنه أو بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع فيكون له، ولو حللها له الباع جاز أن اختلط الحادث بعد العقد بالوجود عنده حتى لا يعرف بنظر، إن كان قبل التخلية بطل البيع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز، فأشبه العجز عن التسليم بالهلاك.

وإن كان بعد التخلية لم يبطل؛ لأن التخلية قبض، وحكم البيع يتم ويتناهى بالقبض، والثمرة تكون بينهما لاختلاط ملك أحدهما بالآخرة اختلاطا لا يمكن التميز بينهما، فكان الكل مشتركا بينهما، والقول قول المشتري في المقدار؛ لأنه صاحب يد لوجود التخلية، فكان الظاهر شاهدًا له فكان القول قوله، ولو اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها دون بعض بأن أدرك البعض دون البعض بشرط الترك، فالبيع فاسد على أصلهما وأما على أصل محمد رحمه الله: فهو اختيار العادة، فإن كان صلاح المتأخر متقاربا جاز؛ لأن العادة في الثمار أن لا يدرك الكل دفعة واحدة، بل يتقدم إدراك البعض على البعض، يلحق بعضها بعضا، فصار كأنه اشتراها بعد إدراك الكل، ولو كان كذلك يصح الشراء عنده بشرط الترك، فكذا هذا.

وإن كان يتأخر إدراك البعض عن البعض تأخرًا فاحشًا كالعنب ونحوه؛ يجوز البيع فيما أدرك، ولا يجوز فيما لم يدرك، والله أعلم.

ص: 487

ص: وقد قال قوم أن النهي الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لم يكن منه تحريم ذلك، ولكنه على المشورة منه عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله، عن يونس بن يزيد، قال: قال أبو الزناد: كان عروة بن الزبير يحدث، عن سهل ابن أبي حثمة الأنصاري أنه أخبره، أن زيد بن ثابت كان يقول:"كان الناس في عهد رسول الله عليه السلام يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر العفن والرمان وأصابه مراق".

قال أبو جعفر رحمه الله: الصواب هو مراق وأصابه قشام عاهات يحتجون بها، والقشاب شيء يصيبه حتى لا يرطب، قال: فقال رسول الله عليه السلام لما كثرت عنده الحصومة في ذلك: فلا تبايعوا حتى يبدو صلاخ الثمر؛ كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم.

فدل ما ذكرنا أن ما روينا في أول هذا الباب عن رسول الله عليه السلام من نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إنما كان على هذا المعنى لا على ما سواه.

ش: أشار بهذا الجواب الآخر عن الأحاديث التي فيها النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهو أن قوما من العلماء قالوا: إن النهي الذي صدر من النبي عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ لم يكن ذلك على التحريم ولكنه على التشاور فيما بينهم؛ لأجل ما كانوا يختصمون إليه في كل وقت في ذلك، والدليل على ذلك ما قاله زيد بن ثابت رضي الله عنه في الحديث المذكور، فإنه يدل على أن نهيه عليه السلام عن ذلك كان على التشاور فيما بينهم؛ لقطع اختصامهم حين كثر ذلك عنده عليه السلام.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري شيخ النسائي وأبي بكر بن خزيمة، قال النسائي: ثقة. وعنه: صدوق، وعن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المؤذن، غمزه سعيد بن أبي مريم.

ص: 488

عن يونس بن يزيد الأيلي روى له الجماعة، عن أبي الزناد بالنون عبد الله بن ذكوان المدني روى له الجماعة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن سهل بن أبي حثمة واسمه عبد الله، أبو محمد المدني، صاحب النبي عليه السلام قال الواقدي: مات النبي عليه السلام وهو ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه.

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1) نحوه من حديث وهب الله بن راشد، عن يونس بن يزيد قال: قال أبو الزناد: كان عروة بن الزبير يحدث، عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره، أن زيد بن ثابت كان يقول:"كان الناس في عهد رسول الله عليه السلام يتبايعون الثمار، فإذا جَدَّ الناس وحضر تقاضيهم. قال المبتاع: إنه أصاب الثمر العفن الدمان، أصابه مراق، أصابه قشام؛ عاهات يحتجون بها -والقشام شيء يصيبه حتى لا يرطب- قال: فقال رسول الله عليه السلام لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فأما لا، فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر، كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم"، قال أبو الزناد: وأخبرني خارجة بن زيد: "أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أمواله حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر".

وأخرجه أبو داود (2): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عنبسة بن خالد، قال: حدثني يونس، قال: سألت أبا الزناد، عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وما ذكر في ذلك. فقال: كان عروة بن الزبير يحدث، عن سهل بن أبي حثمة، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:"كان الناس يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جدَّ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: قد أصاب الثمر الدمان، وأصابه قشام، وأصابه مراض؛ عاهات يحتجون بها، فلما كثرت خصومتهم عند النبي عليه السلام قال رسول الله عليه السلام كالمشورة يشير بها: فأما لا فلا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحها؛ لكثرة خصومتهم واختلافهم".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 301 رقم 10385).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 253 رقم 3372).

ص: 489

وأخرجه البخاري (1) أيضًا ولكن غير موصول، وأخرجه عن الليث معلقًا.

قوله: "في عهد رسول الله عليه السلام" أي في زمنه وأيامه.

قوله: "فإذا جدَّ الناس" أي فإذا قطع الناس ثمارهم.

قوله: "العفنُ" بالرفع فاعل لقوله: "أصاب الثمر" والثمر مفعولَه. والعفن بفتح العين والفاء: الفساد، والعفن -بفتح العين وكسر الفاء- من الصفات المشبهة، يقال: شيء عفن إذا كان بيِّن العفونة، وعَفِن الحبل -بالكسر- عَفَنًا إذا بلي من الماء.

قوله: "والدمان" بفتح الدال المهملة وتخفيف الميم وفي آخره نون، وهو فساد الثمر قبل إدراكه حتول يسود، من الدمن وهو السرقي، ويقال:"الدمال" باللام موضع النون، وقد قيد الجوهري وغيره "الدال" بالفتح، وقال الخطابي: بالضم. وكأنه أشبه؛ لأن ما كان من الأدواء فهو بالضم كالسُّعال، والزكام، قال الخطابي: ويروى بـ"الراء" موضع النون، ولا معنى له.

قلت: وقد وقع في بعض نسخ الطحاوي بالراء، وله وجه؛ لأن الدمار: الهلاك.

قوله: "وأصابه مراق" بضم الميم وتخفيف الراء وفي آخره قاف وهو آفة تصيب الزرع، قال الجوهري: المرق آفة تصيب الزرع.

قوله: "قال أبو جعفر رحمه الله: الصواب هو مراق" أشار بهذا أن المراق تفسير الدمان، وتقدير الكلام: أصاب الثمر العفن والدمان هو مراق، وقال البيهقي بعد أن روى الحديث المذكور: رواه البخاري فقال: وقال الليث، عن أبي الزناد

فذكره، وعنده مراض بدل مراق، وقال الأصمعي: أن تنشق النخلة أو ما يبدو طلعها عن عفص وسواد، قال: والقشام أن ينتفض ثمر النخل قبل أن يصير بلحًا، والمراض اسم لأنواع الأمراض.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 765 رقم 2081).

ص: 490

قلت: القُشام بضم القاف، والمُراض بضم اليم: داء يقع في الثمرة فتهلك، وقد أمرض الرجل إذا وقع في ماله العاهة.

قوله: "عاهات" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي المذكورات من العفن والدمان والمراق والقشام: عاهات، أي آفات وأمراض يحتجون بها، وهي جمع عاهة، وأصلها عوهة، ذكرها الجوهري: في الأجوف الواوي، وقال: العاهة الآفة، يقال: عِيه الزرع وإيف وأرض معيوهة، وأعاه القوم: أصابت ماشيتهم العاهة، وقال الأموي: أعوه القوم مثله.

قوله: "حتى لا يرطب" من الإرطاب، يقال: أرطب النخل: صار ما عليه رطبًا، وأرطب البسر: صار رطبًا.

***

ص: 491