المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرجل يقول لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: الرجل يقول لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق

‌ص: باب: الرجل يقول لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق

؟

ش: أي هذا باب في بيان الطلاق المعلق وقوعه بليلة القدر، بأن قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟

ص: حدثنا محمد بن حميد وفهد، قالا: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا أسمع- عن ليلة القدر، فقال: هي في كل رمضان".

قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا: أنها في كل رمضان.

فقال قوم: هذا دليل على أنها قد تكون في أوله، وفي أوسطه، كما تكون في آخره.

وقد يحتمل قوله: "في كل رمضان" هذا المعنى، ويحتمل أنها في كل رمضان يكون إلى يوم القيامة، مع أن أصل الحديث موقوف، كذلك رواه الأثبات عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر مثله، ولم يرفعه.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق الهمداني

فذكر بإسناده مثله.

وقد رَوَى هذا الحديث أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، بلفظٍ غير هذه اللفظ:

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير قال:"سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن عن ليلة القدر، فقال: هي في رمضان كله".

فإن كان هذا هو لفظ هذا الحديث؛ فقد ثبت به أن معنى قوله: "هي في كل رمضان" يريد أنها في كل الشهر.

ش: إسناد حديث فهد بن سليمان صحيح.

وسعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري وما بعده كلهم من رجال الجماعة.

ص: 213

وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي.

وأخرجه أبو داود (1): نا حميد بن زنجويه النسائي، ثنا سعيد بن أبي مريم، نا محمد بن جعفر بن أبي كثير

إلى آخره نحوه سواء.

قوله: "وأنا أسمع" جملة اسمية وقعت حالاً.

قوله: "عن ليلة القدر" سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في السنة؛ لقول تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (2) ويقال: سميت بذلك لعظم قدرها وشرفها.

قوله: "ففي هذا" أي في هذا الحديث أنها -أي ليلة القدر- في كل رمضان.

قوله: "فقال قوم" وهم: الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة:"هذا دليل" -أي هذا الحديث يدل على أن ليلة القدر قد تكون في العشر الأول من رمضان، وقد تكون في العشر الأوسط منه، كما تكون في العشر الأخير منه.

وقال أبو عمر بن عبد البر (3): مذهب أربعة من الصحابة رضي الله عنهم: أنها في كل رمضان، وهم: ابن عمر، وأبو ذر، وأبو هريرة، وابن عباس.

وهو قول الحسن.

وذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: أنا حجاج، قال: أنا حماد بن سلمة، قال: أنا ربيعة بن كلثوم قال: "سأل رجل الحسن -وأنا عنده- فقال: يا أبا سعيد: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، إنها ليلة فيها يفرق كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها، وقد قال الله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (4)، وقال:

(1)"سنن أبي داود"(2/ 53 رقم 1387).

(2)

سورة الدخان، آية:[41].

(3)

"التمهيد"(2/ 208).

(4)

سورة البقرة، آية:[185].

ص: 214

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (1)، وهذا يدل على أنه لا بد أن تكون في رمضان كله. والله أعلم.

قوله: "وقد يحتمل قوله: في كل رمضان

" إلى آخره. أشار الطحاوي: بهذا الكلام إلى أن هذا الحديث لا يدل قطعًا على أن ليلة القدر تكون في رمضان كله؛ لأن هذا اللفظ يحتمل معنيين.

الأول: هو ما ذكره هؤلاء القوم.

والثاني: أن يكون معناه: أنها تكون في كل رمضان يكون إلى يوم القيامة.

ومثل هذا الاحتمال يدفع الدلالة القطعية على المدعى، على أن أصل هذا الحديث موقوف على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كذلك رواه الحفاظ الأثبات عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا.

وقال البيهقي: رواه سفيان وشعبة، عن أبي إسحاق موقوفًا.

وذكر المنذري أن أبا داود ذكر أن سفيان وشعبة روياه موقوفًا على ابن عمر، لم يرفعاه إلى النبي عليه السلام.

وأخرجه الطحاوي موقوفًا أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا عليه.

وحديث سفيان عن أبي إسحاق أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال:"ليلة القدر في كل شهر رمضان".

قلت: إن كان الطحاوي يريد بقوله: مع أن أصل الحديث موقوف وَهْن استدلال القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه؛ فليس ذلك بشيء؛ فإن الموقوف مما تحتج

(1) سورة الدخان، آية:[3].

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 325 رقم 9528).

ص: 215

يه طائفة من أهل العلم، على أن الأثبات وإن كانوا قد رووه موقوفًا فإنه في الحقيقة مرفوع؛ فإن هذا مما لا يدخل فيه الرأي، بل هو محمول على السماع. فافهم.

قوله: "وقد روى هذا الحديث أبو الأحوص

" إلى آخره. إشارة إلى أن رواية أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي مما يرجح الاحتمال الثاني. في قوله: "هي في كل رمضان" وهو أن المعنى: أن ليلة القدر في كل الشهر فحينئذٍ يدل الحديث قطعًا على مدعى هؤلاء القوم.

وإسناده صحيح.

وعدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري.

واعلم أن ها هنا أقوال:

الأول: قول أبي حنيفة ومن معه قد ذكرناه.

الثاني: قول طائفة ذهبوا إلى أنها متنقلة، تكون في سنة في ليلة، وتكون في سنة أخرى في ليلة، وهكذا. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي ذلك عن الثوري أيضًا.

قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل تنتقل في رمضان كله.

الثالث: قول طائفة ذهبوا إلى أنها متعينة لا تنتقل أبدًا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها، وعلى هذا قيل: في السنة كلها. وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه، وروي عن أبي حنيفة أيضًا.

الرابع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تكون في شهر رمضان في ليلة واحدة لا تتقدم ولا تتأخر. وهو قول أبي يوسف ومحمد، وسيجيء الكلام فيه مستقصىً إن شاء الله تعالى.

الخامس: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في العشر الأوسط والأواخر، ولكن غير معروفة العين.

ص: 216

السادس: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في العشر الأواخر ولكن غير معروفة العين.

روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وإليه ذهب عروة.

السابع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تختص بأوتار العشر. وروي ذلك عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.

الثامن: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تختص بأشفاع العشر.

التاسع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الثالثة والعشرين أو السابعة والعشرين.

روي ذلك عن ابن عباس.

العاشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تُطلب في ليلة سبعة عشر وإحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين. وحكي ذلك عن علي وابن عباس وإبن مسعود رضي الله عنهم.

الحادي عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة الثالثة والعشرين. وهو قول كثير من الصحابة.

الثاني عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة الرابعة والعشرين. وهو محكي عن بلال وابن عباس والحسن البصري وقتادة رضي الله عنهم.

الثالث عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة السابعة والعشرين. وهو قول جماعة من الصحابة، وهو المشهور بين الناس.

الرابع عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة السابعة عشرين، وهو يحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضًا.

الخامس عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة التاسعة عشر. وحكي ذلك أيضًا عن ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما.

السادس عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في آخر ليلة من الشهر.

السابع عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها كانت في زمن النبي عليه السلام خاصةً، وأنها قد رفعت، لقوله عليه السلام حين تلاحى الرجلان:"فرفعت".

ص: 217

والصحيح بقاؤها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة، واستدلالهم غير صحيح؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه عليه السلام قال:"فرفعت فعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في السبع والتسع"؛ وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.

ص: وقد روي عن النبي عليه السلام خلاف ذلك:

حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنى سليمان ابن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام سئل عن ليلة القدر فقال: تحروها في السبع الأواخر من رمضان".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني الزهري، عن حديث سالم بن عبد الله، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "التمسوا ليلة القدر في السبع الأواخر".

حدثنا يزيد بن سنان وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام، مثله.

حدثنا يزيد، قال: ثنا القعنبي، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام، مثله.

حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام، مثله.

ش: أي قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما روي من أنها في كل رمضان.

وأخرجه من ست طرق صحاح، ورجالها رجال الصحيح ما خلا مشايخ الطحاوي.

ص: 218

وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك، والزهري هو محمد بن مسلم، وعُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، وابن شهاب هو الزهري، والقعنبي عبد الله بن مسلمة بن قعنب.

وهذا الحديث أخرجه البخاري (1) ومسلم (2)، من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه مسلم (2) أيضًا: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر".

وأخرجه أبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك، نحوه.

وأخرجه البخاري (4) أيضًا: من حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: أن رسول الله عليه السلام قال: "إن أناسًا منكم رأوا ليلة القدر في السبع الأول، وإن أناسًا رأوها في السبع الأواخر، فالتمسوها في السبع الأواخر".

وأخرجه مسلم أيضًا (5) نحوه، من حديث يونس، عن ابن شهاب.

وأخرجه عبد الرزاق (6): عن معمر وابن جريج، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي عليه السلام قال:"التمسوا ليلة القدر في العشر الغوابر في السبع الغوابر".

وأخرجه البيهقي (7) من حديث مالك والليث ويونس، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أُرِي رجل في المنام أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان، فقال

(1)"صحيح البخاري"(2/ 709 رقم 1911).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 822 رقم 1165).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 53 رقم 1385).

(4)

"صحيح البخاري"(6/ 2565 رقم 6590).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 823 رقم 1165).

(6)

"مصنف عبد الرزاق"(4/ 247 رقم 7681).

(7)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 310 رقم 8327).

ص: 219

رسول الله عليه السلام: "أسمع رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر".

قوله: "تحروها" أي اطلبوها، أي احرصوا على طلب ليلة القدر، واجتهدوا فيه في السبع الأواخر.

فإن قيل: ما تقول في الاختلاف الذي جاء في هذا الباب؟

فإن ابن عمر رضي الله عنهما قد روى عنه عليه السلام أنه قال: "تحروها في السبع الأواخر من رمضان"، وجاء في حديث أبي سعيد "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، والتمسوها في كل وتر، والتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، وجاء في حديث أبي بن كعب:"أنها ليلة سبع وعشرين"، وفي حديث ابن عباس:"ليلة ثلاث وعشرين"، وكذا في حديث عبد الله بن أنيس، وفي حديث ابن مسعود:"من يقم الحول يصب ليلة القدر"، إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب.

قلت: هذه الآثار كلها محمولة [على](1) الوفاق دون الخلاف، والجمع بينها: بأنها في اختلاف السنين؛ فحديث أبي في سنة، وحديث عبد الله في سنة، وحديث أبي سعيد في أخرى، وأمر بها النبي عليه السلام في العشر الأواخر في عام، وفي السبع في عام، وكلتاهما في العشر الأوسط في عام، فهذا يدل على أنها ليست في ليلة معينة أبدًا، وأنها في الأعوام أو في شهر رمضان على ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، وسيجيء ما يقرب من هذا في أثناء كلام الطحاوي رحمه الله.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو زُمَيل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه قال: "سألت أبا ذر، فقلت: أسألت رسول الله عليه السلام عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها -قال عكرمة: يعني أشبع سؤالًا- قلت: يا رسول الله، أخبرني

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 220

عن ليلة القدر في رمضان هي، أم في غيره؟ قال: في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا رفعوا رفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلت: في أي رمضان هي؟ قال: في العشر الأول أو في العشر الآخر، ثم حدث رسول الله عليه السلام وحدثت، فقلت: يا رسول الله في أي العُشْرَيْن هي؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها، ثم حدث رسول الله عليه السلام فقلت: يا رسول الله، أقسمت عليك لتخبرني بحقِّي عليك في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبًا لم يغضب عليَّ قبلُ ولا بعدُ، ثم قال: إن الله عز وجل لو شاء لأطلعكم عليها، التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها".

ش: رجاله ثقات.

ويعقوب بن إسحاق النحوي، روى له الجماعة سوى البخاري، الترمذي في "الشمائل".

وعكرمة بن عمار العجلي اليمامي، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.

وأبو زُمَيل -بضم الزاي المعجمة- اسمه سماك بن الوليد الحنفي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

ومالك بن مرثد بن عبد الله الزماني، وثقه ابن حبان، وروى له الترمذي والنسائي وابن ماجه.

وأبوه مرثد بن عبد الله، وثقه ابن حبان روى له الترمذي وابن ماجه.

وأبو ذر الغفاري اسمه جندب بن جنادة.

وأخرجه النسائي (1) من حديث ابن عمار، عن أبي زميل، عن مالك بن مرثد قال: "قلت لأبي ذر: سألت رسول الله عليه السلام عن ليلة القدر؟ قال: أنا كنت أسألَ الناسِ عنها -يعني أشد الناس مسألة- فقلت: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أَوَ في رمضان هي أو في غيره؟ قال: لا، بل في شهر رمضان فقلت:

(1)"السنن الكبرى"(2/ 278 رقم 3427).

ص: 221

أتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضت الأنبياء ورفعوا رفعت معهم، أو هي إلى يوم القيامة؟ قال: لا، بل هي إلى يوم القيامة، فقلت: فأخبرني في أي شهر رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، والعشر الأول، ثم حدث نبي الله وحدثت، فاهتبلت غفلته فقلت: يا نبي الله، أخبرني في أي العشر هي؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعد هذا، ثم حدث وحدثت، فاهتبلت غفلته، فقلت: أقسمت عليك يا رسول الله بحقي عليك؛ لتحدثني في أي العشر هي؟ فغضب عليَّ غضبًا ما غضب عليَّ من قبلُ ولا بعدُ، ثم قال: التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعد".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، قال: نا سفيان، عن الأوزاعي، عن مرثد بن أبي مرثد، عن أبيه قال:"كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كنت أَسْأَلَ الناس عنها رسول الله عليه السلام، قلت: يا رسول الله، ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء عليهم السلام، فإذا ذهبوا رفعت؟ قال: لا، ولكن تكون إلى يوم القيامة. قال: قلت: يا رسول الله، فأخبرنا بها، قال: لو أُذن لي فيها لأخبرتكم ولكن التمسوها في أحد السبعين، لا تسألني عنها بعد مقامي أو مقامك هذا، ثم أخذ في حديث، فلما انبسط، قلت: يا رسول الله أقسمت عليك إِلا حدثتني بها، قال أبو ذر: فغضب عليَّ غضبة لم يغضب علي قبلها ولا بعدها مثلها".

قوله: "كنت أسألَ الناس" أي أكثر الناس سؤالاً، وأسأل ها هنا أفعل التفضيل، وقد فَسَّره عكرمة الراوي بقوله:"أشبع سؤالًا" أي أكثر وأشد سؤالًا.

قوله: "لَتخبرني" اللام فيه مفتوحة؛ لأنها للتأكيد.

قوله: "فغضب" إنما كان غضبه عليه السلام لأمرين:

الأول: أنه أقسم على النبي عليه السلام، وليس لأحد يمين على النبي عليه السلام.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 249 رقم 1664).

ص: 222

والثاني: أنه سأل عن شيء لم يكن النبي عليه السلام مأذونًا في تعيينه، كما جاء في رواية ابن أبي شيبة:"لو أذن لي فيها لأخبرتكم".

قوله: "فاهتبلت غفلته" في رواية النسائي، أي اغتنمت من الهبالة وهي الغنيمة.

وهذا الحديث ردٌّ على من يقول: إن ليلة القدر في جميع السنة، وبيان أنها في السبع الأواخر ولكنها غير معينة.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال: أخبرني جابر: "أن عبد الله بن أنيس الأنصاري سأل النبي عليه السلام عن ليلة القدر، وقد خلت اثنان وعشرون ليلة، فقال رسول الله عليه السلام: التمسوها في السبع الأواخر التي تبقين من الشهر".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن إسحاق، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن عبد الله بن عبد الله بن خبيب -أراه- عن عبد الله بن أنيس عليه السلام:"أنه سئل عن ليلة القدر، فقال: سمعت رسول عليه السلام يقول: التمسوها الليلة -وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين- فقال رجل: هذا إذًا أول ثمان، فقال: بل أول سبع فإن الشهر لا يتم".

فقد ثبت بهذا الحديث أيضًا أنها في السبع الأواخر، وأنه إنما قصد ليلة ثلاثة وعشرين؛ لأن ذلك الشهر كان تسعًا وعشرين.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو زيد بن أبي الغَمْر، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال:"كنت جالسًا مع أبي على الباب إذْ مرَّ بنا ابن عبد الله ابن أنيس فقال أبي: سمعتَ من أبيك يذكر عن رسول الله عليه السلام، فقلت: يا رسول الله، إني رجل تنازعني البادية، فمرني بليلة آتي فيها المدينة، فقال: ائت في ثلاث وعشرين".

حدثني ابن أبي داود، قال: حدثني الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن معاذ ابن عبد الله، عن أخيه عبد الله بن عبد الله قال: "كان رجل في زمن عمر بن

ص: 223

الخطاب رضي الله عنه قد سأله فأعطاه، قال: جلس إلينا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه في مجلس جهينة في آخر رمضان، فقلنا له: يا أبا يحيى، هل سمعت من رسول الله عليه السلام في هذه الليلة المباركة شيئًا؟ قال: نعم، جلسنا مع رسول الله عليه السلام في آخر هذا الشهر فقلنا: يا نبي الله متى تلتمس هذه الليلة المباركة؟ فقال: التمسوا هذه الليلة لمساء ثلاث وعشرين، فقال رجل من القوم: فهي إذًا أُولى ثمان؟ فقال: إنها ليست بأولى ثمان، ولكنها أولى سبع، ما تريد بشهر لا يتم؟ ".

حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه أخبر عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن أنيس قال:"كنا بالبادية، فقلنا: إن قدمنا بأهلنا شق ذلك علينا، وإن خلفناهم أصابتهم ضيعة، فبعثوني -وكنت أصغرهم- إلى رسول الله عليه السلام، فذكرت ذلك له، فامرنا بليلة ثلاث وعشرين".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: ثنا بكير بن الأشج، قال: سألت ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن ليلة القدر فقال: سمعت أبي يخبر عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "تحروها ليلة ثلاثة وعشرين، فكان ينزل كذلك".

حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى ابن عقبة، عن سالم أبي النضر، عن أي سلمة بن عبد الرحمن، عن بُسر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني في ليلة القدر كأني أسجد في ماء وطين، فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين".

ش: هذه سبع طرق:

الأول: فيه عبد الله بن لهيعة وفيه مقال، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري الصحابي، وعبد الله بن أنيس الجهني الأنصاري الصحابي رضي الله عنهم.

ص: 224

الثاني: إسناده حسن جيد.

ومعاذ بن عبد الله بن خبيب -بضم الخاء المعجمة- الجهني المدني، وثقه ابن معين، وروى له الأربعة.

وعبد الله بن عبد الله بن خبيب أخو معاذ بن عبد الله المذكور، وثقه ابن حبان.

وأخرجه الطبراني: ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن إسحاق، عن معاذ ابن عبد الله بن خُبيب، عن عبد الله بن عبد الله بن خبيب، عن عبد الله بن أنيس صاحب رسول الله عليه السلام:"أنه سئل عن ليلة القدر، فقال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: التمسوها الليلة -وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين- فقال رجل: يا رسول الله هي إذًا أول ثمان؟ قال: لا، بل أول سبع، إن الشهر لا يتم".

الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أبي زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر -بالغين المعجمة- واسمه عمر بن عبد العزيز مولى بني سهم المصري، ذكره ابن يونس في "تاريخه" ولم يتعرض له بشيء،

عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد القارئ المدني، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

عن أبيه عبد الرحمن بن محمد -وثقه ابن حبان- قال: "كنت جالسًا مع أبي على الباب" وهو محمد بن عبد الله بن عبد القاري، ذكره ابن حبان في "الثقات"-:"إذْ مرَّ بنا ابن عبد الله بن أنيس" والظاهر أنه ضمرة بن عبد الله ابن أنيس، ويحتمل أن يكون عمرو بن عبد الله بن أنيس؛ لأن عبد الله بن أنيس له ابنان يرويان عنه في ليلة القدر وهما: ضمرة، وعمرو، وقال في "التكميل ": ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه في التماس ليلة القدر، وعنه محمد بن إبراهيم التيمي، وروى الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، وعن عمرو بن عبد الله بن أنيس نحوًا منه.

ص: 225

وقال أبو داود في "سننه"(1): حدثنا أحمد بن يونس، قال: نا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم، عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني، عن أبيه قال: قلت: "يا رسول الله، إنَّ لي بادية كون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين، فقلت لابنه: فكيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد، فجلس عليها فلحق بباديته". انتهى.

قوله: "فقال أبي" القائل هو محمد بن عبد الله بن عبدٍ، والد عبد الرحمن بن محمد الذي يروي عنه ابنه يعقوب.

قوله: "سمعتَ" بتاء الخطاب، يخاطب به ابنَ عبد الله بن أنيس، أي: هل سمعت من أبيك عبد الله بن أنيس يذكر عن رسول الله عليه السلام شيئًا في شأن ليلة القدر.

قوله: "فقال: سمعت أبي" القائل هو إما ضمرة -وهو الظاهر- أو عمرو، على ما ذكرنا.

قوله: "تنازعني البادية" أي تشاغلني البادية عن المجيء إلى المدينة كل وقت.

قوله: "ائت" أمر من أَتَى يَأْتِي إِتْيَانًا.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي، عن محمد ابن إسحاق، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أخيه عبد الله بن عبد الله بن خبيب

إلي آخره.

وهؤلاء ثقات، غير أن قوله:"كان رجل" مجهول.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا يعقوب، نا أبي، عن أبي إسحاق، حدثني معاذ بن عبد الله بن خُبيب الجهني، عن أخيه عبد الله بن عبد الله بن خُبيب قال:

(1)"سنن أبي داود"(1/ 439 رقم 1380).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 495 رقم 16089).

ص: 226

"كان رجل في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد سأله فأعطاه، قال: جلس معنا عبد الله بن أنيس صاحب رسول الله عليه السلام في مجلسه في مجلس جهينة -قال: في رمضان- فقال: فقلنا له: يا أبا يحيى، هل سمعت من رسول الله عليه السلام في هذه الليلة المباركة من شيء؟ قال: نعم، جلسنا مع رسول الله عليه السلام في آخر هذا الشهر، فقلنا له: يا رسول الله، متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ قال: التمسوها هذه الليلة -قال: وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين- فقال له رجل من القوم: وهي إذًا يا رسول الله، أُولى ليلة ثمان؟ قال: فقال رسول الله عليه السلام: إنها ليست بأولى ثمان، ولكنها أولى سبع؛ إن الشهر لا يتم".

الخامس: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي، روى له الجماعة.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث يحيى بن أيوب، حدثني يزيد بن الهاد، أن أبا بكر بن حزم أخبره، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن أنيس قال:"كنا بالبادية، فقلنا: إن قدمنا بأهلنا شَقَّ علينا، وإن خلفناهم أصابتهم ضيعة، فبعثوني وكنت أصغرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قولهم، فأمرنا بليلة ثلاث وعشرين، قال ابن الهاد: كان محمد بن إبراهيم يجتهد تلك الليلة".

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف التنيسي -شيخ البخاري- عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه عبد الله بن أنيس.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 309 رقم 8320).

ص: 227

وأخرجه الطبراني: نا أبو مسلم الكشي، نا يحيى بن كثير الباجي، نا ابن لهيعة، عن بكير بن عبد الله قال:"سألت ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن ليلة القدر، فقال: سمعت أبي يحدث عن النبي عليه السلام فقال: تحروها ليلة ثلاث وعشرين".

السابع: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني، عن عبد الله بن أنيس.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه مسلم (1): ثنا سعيد بن عمرو وعلي بن خشرم، قالا: أنا أبو ضمرة، قال: حدثني الضحاك بن عثمان -قال ابن خشرم: عن الضحاك بن عثمان- عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بُسْر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله عليه السلام قال:"أُريتُ ليلة القدر، ثم أنسيتها وأُراني صبحتها أسجد في ماء وطين. قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله عليه السلام، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرون".

قوله: "رأيتُني" بضم التاء، أي رأيت نفسي.

قوله: "وأراني صبحتها أسجد في ماء وطين" علامة جعلت له تلك السنة. والله أعلم. استدل بها عليها كما استدل بالشمس في غيرها، ذكر البخاري عن الحميدي أنه كان تحتج بهذا الحديث، أنه لا تمسح الجبهة في الصلاة.

ص: فأما ما رويناه في هذا الباب عن ابن عمر وأبي ذر، فإن فيه الأمر بتحريها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فقد يحتمل أن تكون في تلك السبع دون سائر

(1)"صحيح مسلم"(2/ 827 رقم 1168).

ص: 228

الشهر، ويحتمل أن تكون في تلك السبع وتكون في غيره من الشهر إلا أنهما أكثر ما تكون في تلك السبع، فأمرهم رسول الله عليه السلام بالتحري فيها لذلك.

ش: أشار بهذا إلى وجه التوفيق بين ما روى عن عبد الله بن عمر وأبي ذر رضي الله عنهم، وبين ما روي عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فإن فيما روى هذان: الأمر بتحري ليلة القدر في السبع الأواخر من شهر رمضان، وفيما رواه ابن أنيس: الأمر بتحريها في ليلة ثلاث وعشرين وبينهما معارضة ظاهرًا لا تخفى.

ووجه التوفيق: أن ما روياه من التحري في السبع الأواخر لا ينافي كونها في سائر الشهر، فحينئذٍ يدخل فيه ما رواه ابن أنيس، ولكن لما كانت أكثر ما تكون في تلك السبع أمر رسول الله عليه السلام بالتحري فيها، فيكون التنصيص على السبع الأواخر لهذا المعنى.

ص: وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم أن يتحروها في العشر الأواخر من الشهر:

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان".

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأى رجل ليلة القدر في النوم كأنها في العشر الأواخر في سبع وعشرين أو في تسع وعشرين، فقال النبي عليه السلام: أرى أن رؤيكم قد تواطأت، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر".

ش: ذكر هذه الرواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاهدة لما ذكره من التوفيق؛ لأن روايته هذه وهي التماسها في العشر الأواخر تدل على أن روايته تلك -وهي التماسها في السبع الأواخر- لا ينافي كونها في غير السبع الأواخر على ما ذكرنا.

ص: 229

وأخرجها من طريقين صحيحين:

أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن سفيان

إلى آخره نحوه.

قوله: "التمسوا" أي اطلبوا.

والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.

وأخرجه مسلم (2): حدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب، قال زهير: نا سفيان ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي عليه السلام: أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها".

قوله: "تواطأت" أي توافقت. وحقيقة ذلك: أن كل واحدة من رؤياهم وطئ ما وطئه الآخر.

ص: فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه ابن عمر في هذا الحديث أن تُتحرى في العشر الأواخر، كما أمر فيما قد روينا عنه قبل هذا من حديث ابن عمر أيضًا أن تُتحرى في السبع الأواخر، فلم يكن ما روي عنه من أمره إياهم بالتماسها في السبع الأواخر ما ينفي أن تكون تلتمس أيضًا فيما قبله من العشر الأواخر، فلم يدلنا ما روي عن ابن عمر أنها في السبع الأواخر دون سائر الشهر، إلا أنه قد يجوز أن يكون السبع الأواخر أمر بالتماسها فيها بعدما أمر بالتماسها في العشر الأواخر على ما في حديث أبي ذر، فتكون السبع الأواخر تُتحرى دون ما سواها من

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 249 رقم 8662).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 823 رقم 1165).

ص: 230

الشهر، وذلك تحرٍّ لا حقيقة معه، فأردنا أن نعلم هل روي عن ابن عمر عن النبي عليه السلام ما يدل على ذلك؟ فإذا بكر بن إدريس قد حدثنا، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عقبة بن حريث، قال: سمعت ابن عمر يقول: عن النبي عليه السلام قال: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن عجز أحدكم أو ضعف فلا يُغْلبن عن السبع البواقي".

فدل ما ذكرنا من هذا عن ابن عمر عن النبي عليه السلام أنها قد تكون في السبع الأواخر أحرى من أن تكون فيما قبله في العشر الأواخر.

وأما ما ذكرناه عن عبد الله بن أنيس؛ فإن فيه الأمر من رسول الله عليه السلام له أن يلتمسها ليلة ثلاث وعشرين، فاحتمل أن تكون تلتمس في كل شهر رمضان في تلك الليلة بعينها، فإن كان ذلك كذلك فقد يجوز أن تكون قبل السبع الأواخر، فيخرج ذلك مما أمر فيه بالتماسها في السبع الأواخر؛ لأن الشهر قد يجوز أن لا ينقص عن ثلاثين، فتكون تلك الليلة أو ثمان يبقين، فدل على معنى ما أشكل من ذلك ما قد رويناه فيما قد تقدم من هذا الباب، عن عبد الله بن أنيس:"أن رسول الله عليه السلام إنما أمره بذلك في شهر كان تسعًا وعشرين، فكانت الليلة أول سبع لا أول ثمان، فقد دخل ذلك أيضًا فيما أمر فيه بالتماس تلك الليلة في السبع الأواخر، وذلك كله على التحري، لا على اليقين".

ش: هذا كله بيان التوفيق بين ما روي عن ابن عمر من الروايتين:

إحداهما: تحريها في العشر الأواخر.

والأخرى: تحريها في السبع الأواخر.

وبين ما روي عن عبد الله بن أنيس من تحريها ليلة ثلاث وعشرين، وذلك كله ظاهر يعلم بالتأمل.

والحقيقة في هذا الباب أن هذا الاختلاف فيه بحسب اختلاف السنين، فكل واحد منهما يجعل في سنة وعلى تمام الشهر ونقصانه.

ص: 231

فعلى هذا يأتي أنها ليست في ليلة معينة أبدًا وأنها تنتقل في الأعوام، فمن ذلك قيل: في رمضان كله، وقيل: في العشر الأواخر منه، وبحسب هذا ما اختلف العلماء في ذلك كما ذكرنا فيما مضى.

قوله: "فأردنا أن نعلم

" إلى آخره. إشارة إلى إيضاح ما ذكره من وجه التوفيق، بيانه: أنه لما قال: إن رواية ابن عمر من أمره عليه السلام بالتماسها فيما قبله من العشر الأواخر. ولا دل هذا أيضًا أنها في السبع الأواخر دون سائر الشهر، ولكن يجوز أن يكون أمره عليه السلام بالتماسها في السبع الأواخر بعد أمره بالتماسها في العشر الأواخر كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه؛ فإنه أمر فيه أولاً بالتماسها في العشر الأواخر، ثم قال: "التمسوها في السبع الأواخر" واقتصر على هذا حتى قال لأبي ذر: "لا تسألني عن شيء بعدها" وكان قد غضب عليه كما ذكرنا فيما مضى، فعلى هذا يكون التحري في السبع الأواخر دون ما سواها من الشهر، ولكن هذا تحرٍّ لا حقيقة معه، فنظرنا في ذلك فوجدنا رواية عقبة بن حريث التغلبي الكوفي -من رجال الصحيح- عن ابن عمر، دلت على أنها قد تكون في السبع الأواخر أحرى وأولى، أن تكون فيما قبله في العشر الأواخر.

ورجال حديثه كلهم ثقات.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن مثنى، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عقبة -وهو ابن حريث- قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله عليه السلام: "التمسوها في العشر الأواخر -يعني ليلة القدر- فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يُغْلَبن على السبع البواقي".

قوله: "فلا يُغْلَبن" على صيغة المجهول المؤكد بالنون الثقيلة.

قوله: "وأما ما ذكرناه عن عبد الله بن أنيس

" إلى آخره. بيان وجه التنصيص على ثلاث وعشرين، ووجه توفيقه مع غيره من الروايات على ما تقدم.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 823 رقم 1165).

ص: 232

ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهيي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، قال: حدثني ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، أنه قال لرسول الله عليه السلام:"إني أكون ببادية يقال لها: الوطأة، وإني بحمد الله أصلي بهم؛ فمرني بليلة في هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه، قال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه فإن أحببت أن تستتم آخر الشهر فافعل، وإن أحببت فكف، فكان إذا صلى صلاة العصر دخل المسجد ولا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد".

ففي هذا الحديث أنه قد جعل لليلة ثلاث وعشرين في التحري ما لم يجعل لسائر السبع الأواخر، وقد حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: أخبرني عبد العزيز بن بلال بن عبد الله، عن أبيه بلال بن عبد الله، عن عطية بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن أنيس:"أنه سأل النبي عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: إني رأيتها فأنسيتها فتحرها في النصف الآخر، ثم عاد فسأله، فقال: في ثلاث وعشرين تمضي من الشهر".

قال عبد العزيز: وأخبرني أبي: "أن عبد الله بن أنيس كان يحيي ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين، ثم يُقصر".

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أمره أن يتحراها في النصف الآخر من الشهر، ثم أمره بعد ذلك أن يتحراها ليلة ثلاث وعشرين، فقد رجع معنى هذا الحديث إلي معنى ما رويناه قبله عن عبد الله بن أنيس، وقد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام إنما أمر عبد الله بن أنيس بتحري ليلة القدر في الليلة التي ذكرنا، على أن تحريه ذلك إنما دله أنها تكون في تلك السنة كذلك لرؤياه التي رآها، وإن كانت قد تكون في غيرها من السنين بخلاف ذلك، فأما ما روي عنه في رؤياه التي كان رآها فيما قد ذكرناه عنه في حديث بسر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس.

ش: ذكر هذين الوجهين من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، ووجه التوفيق بينهما ما روي عنه من غير هذين الوجهين، بيانه أن الذي أمر له في الحديث الأول:

ص: 233

هو أن يتحرى ليلة ثلاث وعشرين، وفي الحديث الثاني: هو أن يتحرى في النصف الأخير، ثم لما أعاد السؤال أمر أن يتحراها ليلة ثلاث وعشرين، فاتفق معنى الحديثين بلا شك.

وقوله: "وقد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام

" إلى آخره. إشارة إلى وجه آخر من التوفيق، وبيان وجه التنصيص في أحاديث عبد الله بن أنيس على ليلة ثلاث وعشرين، بيانه: أنه عليه السلام إنما أمره بالتحري في ليلة ثلاث وعشرين؛ لدلالة تحريه عليه السلام في تلك السنة على أنها تكون فيها ليلة ثلاث وعشرين، وإن كان يجوز أن تكون في غير تلك السنة في غير تلك الليلة، وكان الدال على تحريه عليه السلام في تلك السنة هو رؤياه التي كان رآها عليه السلام وهو ما روي في حديث بُسر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس قال: قال رسول الله عليه السلام: "رأيتني في ليلة القدر كأني أسجد في ماء وطين فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين".

فأما الحديث الأول فرجاله ثقات.

والوهبي هو أحمد بن خالد الكندي، شيخ البخاري في غير "الصحيح".

وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني.

وابن عبد الله بن أنيس قد مَرَّ الكلام فيه عن قريب.

وأخرجه الطبراني: ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا عياش بن الوليد الرقام، ثنا عبد الأعلى، ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه أنه قال:"يا رسول الله، إنا نكون في باديتنا، وأنا بحمد الله أصلي بها، فأْمُرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد فأصلي فيه، فقال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها، وإن أحببت أن تستتم إلى آخر الشهر فافعل، وإن أحببت أن ترجع إلى أهلك بليل فاصنع".

قوله: "يقال لها: الوطأة". وقع في "مسند أبي يعلى الموصلي" في روايته: "وهي من المدينة على بريد وأميال".

ص: 234

وأما الحديث الثاني فرجاله ثقات أيضًا، فأحمد بن صالح المصري الحافظ المبرز المعروف بابن الطبري شيخ البخاري وأبي داود.

وابن أبي فديك هو هو محمد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار الديلي المدني، روى له الجماعة.

وعبد العزيز بن بلال بن عبد العزيز بن أنيس، ذكره البخاري في "تاريخه" وسكت عنه.

وأبوه بلال بن عبد الله وثقه ابن حبان.

وأخوه عطية بن عبد الله بن أنيس وثقه ابن حبان أيضًا.

وأخرجه الطبراني: ثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف المصري، ثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن أبي فديك، ثنا عبد العزيز بن بلال بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه بلال بن عبد الله، عن عطية بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن أنيس:"أنه سأل رسول الله عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: رأيتها فأنسيتها، فتحرها في النصف الآخر، ثم عاد فسأله، فقال: في ثلاث وعشرين تمضي من الشهر. قال عبد العزيز: فأخبرتني أمي أن عبد الله بن أنيس كان يحيى ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين".

قوله: "فَأُنسيتها" على صيغة المجهول.

قوله: "فتحرها" أي فتحر ليلة القدر، وهو أمر من تحرى يتحرى.

قوله: "قال عبد العزيز: وأخبرني أبي" هو عبد العزيز بن بلال المذكور، وفي رواية الطبراني كما ذكرناها "قال عبد العزيز: فأخبرتني أمي"، فلم أدْرِ، أي النسختين صحيحة؟ والله أعلم.

ص: وقد روي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: ثنا يحيى، أن أبا سلمة حدثه قال: "أتيت أبا سعيد الخدري فقلت: هل سمعت النبي عليه السلام يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع النبي عليه السلام العشر

ص: 235

الأوسط من شهر رمضان، فلما كان صبيحة عشرين قام النبي عليه السلام فينا فقال: من كان خرج فليرجع، فإني أُريت الليلة فأنسيتها، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان في وتر، قال أبو سعيد: وما نرى في السماء قزعة، فلما كان الليل إذا سحاب مثل الجبال فمطرنا حتى سال سقف المسجد -وسقفه يومئذٍ من جريد النخل- حتى رأيت النبي عليه السلام يسجد في ماء وطين، حتى رأيت الطين في أنف النبي عليه السلام".

ففي هذا الحديث أنها كانت عامئذٍ في ليلة إحدى وعشرين، فقد يجوز أن يكون ذلك العام هو عام آخر خلاف العام الذي كانت فيه في حديث ابن أنيس ليلة ثلاث وعشرين، وذلك أولى ما حمل عليه هذان الحديثان حتى لا يتضادا.

ش: أي قد روي عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري، عن النبي عليه السلام خلاف ما روي عن عبد الله بن أنيس، فإن حديث ابن أنيس يدل على أن ليلة القدر إنما أمر بالتماسها في ليلة ثلاث وعشرين، وفي حديث أبي سعيد هذا إنما كانت في ذلك العام في ليلة إحدى وعشرين، وبينهما تضاد ظاهرًا، وأشار إلى وجه التوفيق بقوله: فقد يجوز أن يكون ذلك العام

إلى آخره، وهو ظاهر.

ثم إسناد هذا الحديث صحيح.

والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، ويحيى هو ابن أبي كثير الطائي، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

وأخرجه مسلم (1): عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة.

وأخرجه أيضًا (1): عن محمد بن مثنى، قال: نا أبو عامر، قال: نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "تذاكرنا ليلة القدر، فأتيت أبا سعيد الخدري وكان لي صديقًا، فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل؟ فخرج وعليه خميصة، فقلت

(1)"صحيح مسلم"(2/ 826 رقم 1167).

ص: 236

له: سمعتَ رسول الله عليه السلام يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله عليه السلام العشر الوسطى في رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله عليه السلام فقال: إني رأيت ليلة القدر، وإني تَسيتها أو نُسِّيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله عليه السلام فليرجع، قال: فرجعنا وما نرى في السماء قزعة، قال: وجاءت سحابة فمطرنا حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله عليه السلام يسجد في الماء والطين، قال: حتى رأيت أثر الطين في جبهته".

وأخرجه البخاري (1) وأبو داود (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4) أيضًا.

قوله: "العشر الأوسط" رواه بعضهم: "العُشر الوسط" -بضم الواو والسين- جمع واسط، كمنازل ونُزُل، ورواه بعضهم:"الوُسَط" -بضم الواو وفتح السين- جمع وسطى ككُبر وكبرى، وأكثر الروايات فيه: الأوسط، وقيل: إنه جاء على لفظ العشر، فإن لفظ العشر مذكر.

وقوله: "أُريت الليلةَ" على صيغة المجهول، و"الليلة" نصب على الظرف.

قوله: "وإني أُنسيتها" على صيغة المجهول من الإنساء، وفي رواية مسلم:"فَنَسِيتها" على صيغة المعلوم من الثلاثي، وفي رواية "فَنُسِّيتها" على صيغة المجهول من باب نُسي بالتشديد.

قوله: "قزعة" بالعين أي قطعة من الغيم، وجمعها قُزَع.

قوله: "فَمُطرنا" على صيغة المجهول، يقال: مطرت السماء تمطر مطرًا،

(1)"صحيح البخاري"(2/ 709 رقم 1912).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 52 رقم 1382).

(3)

"المجتبى"(3/ 79 رقم 1356).

(4)

"سنن ابن ماجه"(1/ 561 رقم 1766).

ص: 237

وأمطرها الله، وقد مُطرنا، وناسٌ يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنىً، ومنهم من يخص أمطر في العذاب، كما في قوله:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} (1).

قوله: "حتى سال سقف المسجد" من قبيل: سال الوادي وأُريد ماؤها؛ لأن السقف لا يسيل ولا نفس الوادي، وهو من قبيل ذكر المحل وإرادة الحالّ.

قوله: "وسقفه يومئذٍ" حال.

ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسَّان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت قال:"خرج علينا رسول الله عليه السلام ليخبرنا ليلة القدر، فتلاحى رجلان، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت وحميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عن النبي عليه السلام مثله.

ففي هذا الحديث أن النبي عليه السلام رآها في ليلة بعينها وقد أمرهم بعد رؤيته أن يتحروها فيما بعد في التاسعة والسابعة والخامسة، فدل ذلك على أنها قد تكون في عام في ليلة بعينها ثم تكون فيما بعد غير تلك الليلة، فدل ذلك على المعنى الذي ذهبنا إليه في حديث ابن أنيس رضي الله عنه.

ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لما قاله من جواز انتقال ليلة القدر إذا كانت في ليلة مخصوصة في عام إلى ليلة أخرى في عام آخر.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل -شيخ البخاري- عن زهير بن معاوية بن حديج، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهم.

(1) سورة الحجر، آية:[74].

ص: 238

وأخرجه البخاري (1): من حديث حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال النبي عليه السلام: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي النحوي المقرئ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني وحميد الطويل، كلاهما عن أنس، عن عبادة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عفان، نا حماد، أنا ثابت وحميد، عن أنس بن مالك، عن عُبادة بن الصامت "أن النبي عليه السلام خرج ذات ليلة على أصحابه وهو يريد أن يخبرهم بليلة القدر، فتلاحى رجلان، فقال رسول الله عليه السلام: خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فاطلبوها في العشر الأواخر فمن تاسعة أو سابعة أو خامسة".

قوله: "فتلاحى رجلان" أي تخاصما وتنازعا، من لاحيته ملاحاة ولحاءً: إذا نازعته، واللَّحي: اللوم والعَذْل، يقال: لَحَيت الرجل أَلْحاه لَحْيًا: إذا لمته وعذلته.

قوله: "فرفعت" أي ليلة القدر، وبهذا احتج بعضهم أن ليلة القدر قد رفعت، وأنها كانت في زمن النبي عليه السلام خاصةً، وهذا غير صحيح؛ لأن المراد من رفعها رفع بيان علمها بالعين، والدليل على ذلك أنه عليه السلام أمر بالتماسها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يكن في الأمر بالتماسها فائدة.

قوله: "وعسى أن تكون خيرًا لكم" أي عسى أن يكون رفع بيان علم عينها خيرًا لكم؛ لتجتهدوا في طلبها، وتُكثروا العمل، ولو كانت عُيِّنت لهم كانوا اتكلوا على عملهم فيها فقط.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 27 رقم 49).

(2)

"مسند أحمد"(5/ 313 رقم 22726).

ص: 239

وفي هذا الحديث ما يدل على شؤم الاختلاف والمراء، والعقوبة عليه، وأن الاختلاف والمراء من الشيطان كما جاء في النسائي (1)"فجاء رجلان معهما الشيطان فأنسيتها".

ص: وقد روي ذلك عن أبي هريرة:

أخبرنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا إسحاق بن يحيى، عن الزهري، قال: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "أُريت ليلة القدر، فانسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المَسْعُودي، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام نسي الليلة التي كان أُريها أنهما ليلة القدر، وذلك قبل كون تلك الليلة، فأمر بالتماس ليلة القدر فيما بعد من ذلك الشهر في العشر الأواخر، فهذا خلاف ما في حديث عبادة بن الصامت، إلا أنه قد يجوز أن يكون ذلك كان في عامين؛ فرأى رسول الله عليه السلام في إحداهما ما ذكره عنه أبو هريرة [قبل](2) كون الليلة التي هي ليلة القدر، وذلك لا ينفي أن تكون فيما بعد ذلك العام من الأعوام الجائية فيما قبل ذلك من الشهر، ويكون ما ذكر عبادة على أن رسول الله عليه السلام وقف في ذلك العام على ليلة القدر بعينها، ثم خرج ليخبرهم بها،

(1)"السنن الكبرى"(2/ 274 رقم 3405).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 240

فرفعت ثم أمرهم بالتماسها فيما بعد ذلك من الأعوام في السابعة والخامسة والتاسعة، وذلك أيضًا على التحري لا على اليقين.

ش: أي قد روي ما ذكر من رؤية ليلة القدر في حديث عبادة عن أبي هريرة أيضًا، ولكن بين حديثيهما خلاف؛ لأن في حديث عبادة رآها في ليلة بعينها، ثم رفعت بسبب ملاحاة الرجلين المذكورين، ثم أمرهم بالتماسها في التاسعة والسابعة والخامسة، وفي حديث أبي هريرة نسي الليلة التي كان أُريها أنها ليلة القدر، وذلك قبل كون تلك الليلة، وأشار إلى وجه التوفيق بينهما بقوله: "إلا أنه قد يجوز أن يكون ذلك

" إلى آخره. وهو ظاهر.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح:

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

وأخرجه مسلم (1): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس

إلى آخره نحوه سواء، وفي آخره قال حرملة:"فَنُسِّيتها".

الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يحيى بن صالح الوُحاظي شيخ البخاري، عن إسحاق بن يحيى الكلبي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري

إلى آخره.

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه كليب بن شهاب الجَرْمي الكوفي، عن أبي هريرة.

وأخرجه أسد السنة في "مسنده".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 824 رقم 1166).

ص: 241

قوله: "فنسيتها" بفتح النون والتخفيف، وفي رواية بالضم والتشديد، وفي رواية "فأنسيتها" من الإنساء على صيغة المجهول.

قوله: "الغوابر" أي: البواقي، جمع غابر، وهذه اللفظة من الأضداد؛ فإنها تستعمل بمعنى الماضي وبمعنى الباقي، وها هنا بمعنى الباقي.

ص: وقد حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر: تسعًا بقين، وسبعًا بقين، وخمسًا بقين".

فقد يجوز أن يكون أراد بذلك العام الذي كان اعتكف فيه ورأى ليلة القدر فأنسيها، إلا أنه كان علم أنها في وتر، فأمرهم بالتماسها في وتر من تلك العشر، ثم جاء المطر فاستدل به أنها كانت في عامه ذلك في تلك الليلة بعينها، وليس في ذلك دليل على وقتها في الأعوام الجائية بعد ذلك، هل هي في تلك الليلة بعينها، أو فيما قبلها، أو فيما بعدها؟ وقد يجوز أن يكون ما حكاه أبو نضرة في هذا عن أبي سعيد عن النبي عليه السلام هو للأعوام كلها، فيعود مع ذلك إلى معنى ما رويناه متقدمًا في هذا الباب عن ابن عمر، إلا أن في حديث أبي سعيد زيادة معنىً واحد، وهو: أنها تكون في الوتر من ذلك.

ش: هذا الحديث الذي رواه أبو نَضْرة -بالنون والضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العوقي -بالقاف- نسبة إلى عوق بطن من عبد القيس، روى له الجماعة. يحتمل وجهين في المعنى:

أحدهما: أن يكون تفسيرًا للحديث، رواه أبو سلمة، عن أبي سعيد، أشار إليه بقوله: فقد يجوز أن يكون أراد بذلك -أي بقوله: "اطلبوا ليلة القدر

" إلى آخره- العام الذي كان اعتكف فيه ورأى ليلة القدر فيه على التعيين، ولكنه أنسيها، إلا أنه قد كان علم أنها كانت في وتر، فلذلك أمرهم بالتماسها -أي: طلبها- في الأوتار بأن قال: "تسعًا بقين" وهي ليلة إحدى وعشرين، "وسبعًا

ص: 242

بقين" وهي ليلة ثلاث وعشرين، "وخمسًا بقين" وهي ليلة خمس وعشرين، وانتصاب "تسعًا" و"سبعًا" و"خمسًا" على الظرفية.

وقوله: "بقين" في المواضع الثلاثة: صفات للأعداد.

وقيل: إنما يصح معناه ويوافق ليلة القدر وترًا من الليالي إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إذا كان كاملًا فإنها لا تكون إلا في سبع، فتكون التسع الباقية: ليلة اثنين وعشرين، والسبع الباقية: ليلة أربع وعشرين، والخمس الباقية ليلة: ست وعشرين، فلا تصادف واحدة منهن وترًا، وهذا على طريقة العرب في التاريخ إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤخرون بالباقي منه لا بالماضي، هكذا ذكره بعضهم.

والوجه الآخر: أن يكون معناه مثل معنى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي مضى ذكره في أوائل الباب، وهو قوله عليه السلام:"التمسوا ليلة القدر في العشر الغوابر: في السبع الغوابر" وفي رواية: "تحروها في السبع الأواخر من رمضان" ولكن الفرق بينهما أن في حديث أبي سعيد تنصيصًا على الأوتار، وليس ذلك في حديث ابن عمر.

وهذا الحديث أخرجه مسلم (1) وأبو داود (2) والنسائي (3) مطولًا ومختصرً.

وقال أبو داود (2): ثنا محمد بن المثنى، حدثني عبد الأعلى، نا سعيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله عليه السلام: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، والتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال: قلت: يا أبا سعيد، إنكم أعلم بالعدد منا؟ قال: أجل، قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها التاسعة، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 826 رقم 1167).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 52 رقم 1383).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 274 رقم 3405).

ص: 243

ص: وقد حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا حسين بن علي الجُعْفي، عن زائدة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".

وكذا فالكلام في هذا أيضًا مثل الكلام في حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

ش: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا أيضًا في المعنى مثل حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه وهو أن كلًا منهما مشتمل على أن ليلة القدر تُلتمس في العشر الأواخر من رمضان في الأوتار.

ورجال حديث عمر ثقات.

وزائدة هو ابن قدامة الثقفي الكوفي، روى له الجماعة.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، نا عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنهم:"أن النبي عليه السلام ذكر ليلة القدر فقال: التمسوها في العشر الأواخر في وتر منها".

قوله: "وترًا" نُصِب على الحال، من ليلة القدر.

ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَحرُّوها لعشر بقين من شهر رمضان".

فالكلام في هذا أيضًا مثل الكلام في حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد.

ش: إسناده صحيح.

وأبو معاوية الضرير اسمه محمد بن خازم، روى له الجماعة.

(1)"مسند البزار"(1/ 327 رقم 210).

ص: 244

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا ابن نمير ووكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله عليه السلام: -قال ابن نمير: "التمسوها وقال وكيع: تحروا- ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".

وأخرجه البخاري (2) والترمذي (3) أيضًا.

ص: وقد حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال:"تَحرُّوها ليلة سبع وعشرين -يعني ليلة القدر-".

حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارمٌ أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال:"أرى رؤياكم قد تواطأت أنها ليلة السابعة في العشر الأواخر".

فقد يحتمل أن يكون هذا في عام بعينه، ويحتمل أن يكون في كل الأعوام كذلك، إلا أن ذلك كله على التحري لا على اليقين، وكللك ما ذكرناه قبل هذا عن عبد الله بن أنيس مما أمره به رسول الله عليه السلام من ذلك يحتمل أن يكون ذلك على التحري من رسول الله عليه السلام لها في ذلك العام؛ لِمَا قد كان أُريه من وقتها الذي تكون فيه فأنسيها.

فلم يكن في شيء من هذه الآثار ما يدلنا على ليلة القدر أَيُّ ليلة هي بعينها؟ غير أن في حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال له: "هي في العشر الأولى أو في العشر الأواخر من رمضان" إذْ سأله عن وقتها، على ما قد ذكرناه في حديثه الذي

(1)"صحيح مسلم"(2/ 828 رقم 1169).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 710 رقم 1913).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 158/ رقم 7920).

ص: 245

رويناه عنه في أول هذا الباب، فنفى بذلك أن تكون في العشر الأوسط، وثبت أنها في أحد العشرين، إما في الأَول وإما في الآخر.

وفي هذا الحديث أيضًا رجوع أبي ذر بالسؤال على رسول الله عليه السلام في أي العشرين، وجواب رسول الله عليه السلام إياه بأَنْ يتحراها في العشر الأواخر.

فنظرنا فيما روي في غير هذه الآثار هل فيه ما يدل على أنها في ليلة من هذين العشرين بعينها؟

فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصُّنابحي، عن بلال رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليلة القدر ليلة أربع وعشرين".

ففي هذا الحديث أنها في هذه الليلة بعينها.

ش: لما جاء عن ابن عمر عن النبي عليه السلام: "تحروها في السبع الأواخر من رمضان" كما مرَّ ذكره في أول الباب، وجاء عنه أيضًا:"تحروها ليلة سبع وعشرين"، وجاء عنه أيضًا:"أنها في كل رمضان" وجب توجيه ذلك كله.

أما قوله: "في كل رمضان" فقد مَرَّ الكلام فيه مستوفى.

وأما قوله: "في السبع الأواخر" فهو متضمن لقوله: "ليلة سبع وعشرين" إلا أن قوله: "ليلة سبع وعشرين" فيه تعيين لذلك، ثم هذا يحتمل أن يكون في عام بعينه، ويحتمل أن يكون كذلك في كل الأعوام، ولكن كل ذلك على وجه التحري لا على وجه اليقين.

وكذلك ما رواه عبد الله بن أنيس: "أنها ليلة ثلاث وعشرين" فيشمله ما رواه عبد الله بن عمر: "تحروها في السبع الأواخر" ويحتمل أن يكون ذلك على وجه التحري من رسول الله عليه السلام لليلة القدر في ذلك العام؛ لأجل أنه قد أُريها في وقتها الذي تكون هي فيه، ولكنه أنسيها، فحينئذٍ لم يكن في شيء من الأحاديث المذكورة ما يدل على ليلة القدر أَيُّ ليلة هي بعينها، غير أنه جاء في

ص: 246

حديث أبي ذر المذكور فيما مضى أن رسول الله عليه السلام قال له: "هي في العشر الأول أو في العشر الأواخر من رمضان" فهذا ينفي أن تكون في العشر الأوسط، ويثبت أنها في أحد العشرين: إما في العشر الأول، أو في العشر الآخر، فإذا كان كذلك؛ نحتاج إلى النظر في الآثار، هل روي فيها ما يدل على أنها في ليلة معينة من هذين العشرين، فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث بلال رضي الله عنه يدل على أنها في ليلة معينة، وهي ليلة أربع وعشرين على ما يجيء، ووجدنا في حديث آخر عن أُبي بن كعب: أنها ليلة سبع وعشرين، وكذا عن معاوية: أنها ليلة سبع وعشرين، وكل ذلك على التحري لا على اليقين، وقد ذكرنا من هذه الروايات المختلفة كلها محمولة على اختلاف الأعوام.

ثم إنه أخرج حديث ابن عمر من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد بن هارون، أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَنْ كان متحريًّا فليتحرها ليلة سبع وعشرين -يعني ليلة القدر-".

الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(2): عن شعبة، عن عبد الله بن دينار

إلى آخره.

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.

(1)"مسند أحمد"(2/ 27 رقم 4808).

(2)

"مسند الطيالسي"(1/ 257 رقم 1888).

ص: 247

وأخرجه البزار "مسنده": عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر نحوه.

وأما حديث بلال: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيْلة الصُّنابحي، ونسبته إلى صنابح بطن من مراد من اليمن، عن بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه.

وأخرجه الطبراني (1): ثنا أبو مسلم الكشّي، نا يحيى بن كثير الناجي، نا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب

إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) موقوفًا، ولكن في روايته:"ليلة ثلاث وعشرين".

ثنا عبد الأعلى وابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن الصُّنابحي قال:"سألت بلالًا عن ليلة القدر، قال: ثلاث وعشرين".

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام خلاف ذلك:

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يزيد بن عبد الله، قال: ثنا بقيَّة، عن ابن ثوبان، قال: حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وعلامتها أن الشمس تصعد ليس لها شعاع كأنها طَسْتٌ".

حدثنا يونس، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني عَبْدة بن أي لبابة، قال: حدثني زِرّ بن حُبيش، قال: سمعت أبي بن كعب، بلغه أن

(1)"المعجم الكبير"(1/ 360 رقم 1102).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 250 رقم 8669).

ص: 248

ابن مسعود قال: "مَنْ قام السنة كلها أصاب ليلة القدر، فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو إني لأعلم أي ليلة هي، أمرنا رسول الله عليه السلام أن نقومها ليلة صبيحة سبع وعشرين".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن سابق، قال: ثنا مالك بن مغول، عن عاصم بن أبي النجود، عن زِرّ بن حُبَيش قال:"قلت لأبي بن كعب: "إن عبد الله كان يقول في ليلة القدر: مَنْ قام الحول أدركها، فقال: رحمةُ الله على أي عبد الرحمن، أما والذي يُحْلَف به لقد علم أنها لفي رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، قال: فلما رأيته يحلف لا يستثني، قلت: ما علمك قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَسبْنا وعَدَدْنَا، فإذا هي ليلة سبع وعشرين -يعني أن الشمس ليس لها شعاع-".

فهذا أبي بن كعب يُخبر عن رسول الله عليه السلام أنها في ليلة سبع وعشرين، وينفي قول عبد الله:"من يقم الحول يصيبها" غير أنه قد روي عن عبد الله في ليلة القدر: أنها في رمضان، على ما قد حلف عليه أبي أن عبد الله قد علمه، ولكنه في خلاف ليلة سبع وعشرين:

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نُعيم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حجير التغليي، عن الأسود، أن عبد الله قال:"التمسوا ليلة القدر في ليلة سبع عشرة من رمضان، صبحتها بدر، وإلا ففي إحدى وعشرين أو في ثلاث وعشرين".

فأما ما ذكرنا عن عبد الله أنها ليلة تسع عشرة فقد نفاه ما حكى أبو ذر عن النبي عليه السلام: "أنها في العَشْرَيْن من الشهر الأول والآخر".

ش: أي: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما روي عن بلال رضي الله عنه: أنها ليلة أربع وعشرين، وهو أنه روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه: أنها ليلة سبع وعشرين.

وأخرج حديثه من ثلاث طرق:

الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يزيد بن عبد ربِّه

ص: 249

الزُّبَيْدي أبي الفضل الحمصي المؤذن المعروف بالجُرْجُسِي، شيخ أبي داود وأحمد ويحيى بن معين، فقال يحيى: ثقة صاحب حديث، وروى له مسلم والنسائي.

وهو يروي عن بقية بن الوليد الحمصي كان مدلسًا؛ فإذا قال: "عن" فليس بحجة، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، ومسلم في "المتابعات"، عن عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان العَنْسي الدمشقي الزاهد، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: ضعيف. وعنه: لا شيء. وعنه: صالح. وقال العجلي وأبو زرعة وابن المديني: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وهو يروي عن عبدة بن أبي لبابة الأسدي، أبي القاسم البزاز، أحد مشايخ أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، روى له الجماعة؛ أبو داود في كتاب المسائل.

وهو يروي عن زِرّ بن حُبَيش بن حباشة أبي مريم الكوفي، مخضرم أدرك الجاهلية، روى له الجماعة.

والحديث أخرجه مسلم (1) وأبو داود (2) والنسائي (3) بألفاظ مختلفة، فقال مسلم (1): نا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت عبدة بن أبي لبابة، يحدث عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال:"قال أبي في ليلة القدر: والله إني لأعلمها -قال شعبة: وأكثر علمي- هذه الليلة التي أمرنا رسول الله عليه السلام بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين".

قوله: "ليس لها شعاع" قيل: هذه الصفة يحتمل أنها اختصت بعلامة صبيحة الليلة التي أنبأهم النبي عليه السلام أنها ليلة القدر، وجعلها دليلًا لهم عليها في ذلك، لا أنَّ تلك الصفة مختصة بصبيحة كل ليلة قدر، كما أعلمهم عليه السلام أنه سجد في صبيحتها في

(1)"صحيح مسلم"(1/ 525 رقم 762).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 51 رقم 1378).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 274 رقم 3410).

ص: 250

ماء وطين، ويحتمل أنها صفة خاصة لها، وقيل: الحكمة من ذلك: أنه لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزلت به من عند الله، وبكل أمر حكيم، وبالثواب من الأجور سترت أجسامها اللطيفة وأجنحتها شعاعها، وحجبت نورها.

قوله: "كأنها طَسْت" أي كأنها مثل الطست، وفيها لغات: طَسْت وطِست -بالفتح والكسر- وطسَ وطِس كذلك، وطَسَة وطِسَة كذلك.

الطريق الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عَبدة بن أبي لبابة

إلى آخره.

وأخرجه (1) .......

الطريق الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي.

عن محمد بن سابق التميمي البزاز الكوفي -شيخ البخاري في "الأدب"- وروى له بقية الجماعة غير ابن ماجه.

عن مالك بن مغول البجلي الكوفي، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.

عن عاصم بن أبي النَّجُود -بفتح النون وضم الجيم- وأبو النجود اسمه بَهْدلة، وهو الصحيح، وقيل: بهدلة أمه، وليس بشيء.

وعاصم هذا هو أحد القراء السبعة، واحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، الشيخان مقرونًا بغيره.

وأخرجه مسلم (2): نا محمد بن حاتم وابن أبي عمر، كلاهما عن ابن عيينة -قال ابن حاتم: نا سفيان بن عيينة- عن عبدة وعاصم بن أبي النجود، سمعا زِرّ بن

(1) بيَّض له المؤلف رحمه الله، والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه"(1/ 525 رقم 762) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي به.

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 828 رقم 762).

ص: 251

حبيش يقول: "سألت أبي بن كعب، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: أراد أن لا يتكل الناس، أمَا إنه قد عَلِمَ أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني إنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة -أو بالآية- التي أخبر رسول الله عليه السلام، أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها".

وأخرج أحمد في "مسنده"(1): ثنا مصعب بن سلام، ثنا الأجلح، عن الشعبي، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال:"تذاكر أصحاب رسول الله عليه السلام ليلة القدر، فقال أُبَيّ: أنا والذي لا إله غيره أعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أخبرنا بها رسول الله عليه السلام؛ ليلة سبع وعشرين تمضي من رمضان، وآية ذلك أن الشمس تصبح الغد من تلك الليلة؛ ترقرق ليس لها شعاع".

قوله: "ترقرق" بالراءين والقافين، أي تدور، وتجيء وتذهب، وهو كناية عن ظهور حركتها عند طلوعها؛ فإنها ترى لها حركة متخيلة بسبب قربها من الأفق، والأبخرة المعترضة بينها وبين الأبصار، بخلاف ما إذا عَلَت وارتفعت.

قوله: "من قام الحول" الحول نُصب على الظرفية، والتقدير: مَنْ قام من الحول.

قوله: "أدركها" أي أدرك ليلة القدر، أراد بهذا أن ليلة القدر في جميع السنة.

قوله: "على أبي عبد الرحمن" هو عبد الله بن مسعود، وأبو عبد الرحمن كنيته.

قوله: "أمَا والذي يُحْلَف به" بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وهو حرف استفتاح بمنزلة "أَلا" ويذكر قبل القسم، كقوله:"أما والذي أبكى وأضحك، والذي أمات وأحيى، والذي أَمْرُهُ الأمر"، وقد تستعمل بمعنى "حقًّا" في غير هذا الموضع.

قوله: "إنها في رمضان" اللام فيه للتأكيد، وهي مفتوحة.

قوله: "لا يسثثني" في موضع النصب على الحال.

(1)"مسند أحمد"(5/ 130 رقم 21228).

ص: 252

قوله: "غير أنه" استثناء من قوله: "وينفي قول عبد الله" أي: غير أن الشأن قد روي عن عبد الله بن مسعود في ليلة القدر أنها في شهر رمضان، على ما حلف عليه أبي بن كعب، أن عبد الله بن مسعود قد عَلِمَ ليلة القدر في رمضان، ولكنه في خلاف ليلة سبع وعشرين، وبيَّن ذلك بقوله: حدثنا أبو أمية

إلى آخره.

وهو محمد بن مسلم الطرسوسي، يروي عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن حجير التغلبي وثقه العجلي، ولم يرو عنه غير أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد الله.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، قال: نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حجير التغلبي، عن الأسود، عن عبد الله قال:"التمسوا ليلة القدر ليلة سبع عشرة فإنها صبيحة يوم بدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان".

قوله: "فأما ما ذكرنا عن عبد الله

" إلى آخره. أراد أن الذي روي عن عبد الله بن مسعود أن ليلة القدر ليلة تسع عشرة، ينفيه ما روي عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام: "أنها في العَشْرين" بفتح العين وسكون الشين تثنية عَشْر، وأراد بهما العَشْر الأول من رمضان، والعَشْر الثاني منه، والذي روي عن أبي ذَرٍّ مَرَّ في هذا الباب.

ص: وقد روي عن عبد الله أيضًا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المسعودي، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال: أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ قال عبد الله: أنا والله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وبيدي تمرات أتسحر بهن، وأنا مستتر بمؤخرة رحلي من الفجر، وذلك حين طلع الفجر".

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام لما سُئل عن ليلة القدر، أخبرهم أي ليلة هي

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 251 رقم 8680).

ص: 253

وأنها ليلة الصهباوات، فوصفها عبد الله بما وصفها به في ضوء القمر عند طلوع الفجر؛ وذلك لا يكون إلا في آخر الشهر، فقد دل أيضًا على ما قال أُبَيّ.

وفي كتاب الله عز وجل ما يدل أن ليلة القدر في شهر رمضان خاصةً، قال الله عز وجل:{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (1)، فأخبر الله عز وجل أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن، ثم قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (2)، فثبت بذلك أن تلك الليلة في شهر رمضان، واحتجنا إلى أن نعلم أي ليلة هي من لياليه، فكان الذي يدل على ذلك ما قد رويناه عن بلال عن النبي عليه السلام:"أنها ليلة أربع وعشرين"، والذي روي عن أبي بن كعب، عن النبي عليه السلام: أنها ليلة سبع وعشرين".

ش: أي: وقد روي عن عبد الله بن مسعود أيضًا، ما يدل على أن ليلة القدر في شهر رمضان خاصة، وأشار بهذا الكلام إلى آخره إلى رد ما روي عن عبد الله أيضًا:"أن ليلة القدر في كل الحول" كما ذهبت إليه طائفة؛ وذلك لأن حديثه هذا الذي فيه ذكر ليلة الصهباوات يدل على أنها في شهر رمضان خاصة، موافقًا لما قال أبي بن كعب من أنها في رمضان، وحلف على ذلك كما مَرَّ ذكره.

وفي كتاب الله تعالى أيضًا ما يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} (1) أي القرآن دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (3)، ثم وصف هذه الليلة بقوله:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (4) من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمرهم منها إلى الأخرى القابلة، والمعنى: كل أمر: أي شأن ذي حكمة، ثم أخبر الله تعالى أن

(1) سورة الدخان، آية:[1 - 3].

(2)

سورة البقرة، آية:[185].

(3)

سورة الدخان، آية:[3].

(4)

سورة الدخان، آية:[4].

ص: 254

تلك الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وهي الليلة التي أُنزل فيها القرآن، ثم قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (1)، فإذا كان كذلك ثبت أن ليلة القدر في شهر رمضان خاصةً، ولكن بَقِيَ لنا أن نعلم أي ليلة هي من ليالي رمضان، فرأينا حديث بلال يدل على أنها ليلة أربع وعشرين، وحديث أبي بن كعب: أنها ليلة سبع وعشرين.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح.

عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، احتج به الأربعة، واستشهد به البخاري.

عن سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي، وثقه ابن حبان.

عن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود -ويقال: اسمه كنيته- وقال الترمذي: لا يُعرف اسمه، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وقال غيره: سمع من أبيه. روى له الجماعة.

وأخرجه اللهقي (2) من حديث المسعودي

إلى آخره نحوه، ولكن في روايته:"وذلك حين طلع القمر"، وقال الذهبي في "مختصر السنن": سعيد لا أعرفه، والخبر منكر.

قلت: أراد به سعيد بن عمرو بن جعدة، وهو كما قد ذكرناه وثقه ابن حبان ولعل الذهبي لم يطلع عليه؛ وعدم علمه به لا ينافي علم غيره.

قوله: "ليلة الصهباوات" هي جمع صهباء، وهو موضع على روحة من خيبر.

قوله: "بأبي أنت وأمي" فيه حذف، وتقديره: أنت مفدَّى بأبي وأمي، وقيل: فديتك بأبي وأمي، فعلى الأول محل "الباء" مرفوع، وعلى الثاني منصوب، فافهم.

(1) سورة البقرة، آية:[185].

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 312 رقم 8337).

ص: 255

قوله: "بِمؤخِّرة رحلي" بضم الميم وكسر الخاء، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير، وأراد بالرحل ها هنا: الكور الذي يركب عليه، وهو له كالسرج للفرس.

ص: وقد روي عن معاوية، عن النبي عليه السلام مثل ما روي عن أبي من ذلك، عن النبي عليه السلام:

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت مطرف بن عبد الله يُحدث، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي عليه السلام في ليلة القدر قال:"ليلة سبع وعشرين".

ش: أي: قد روي عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي عليه السلام "أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" كما روي عن أبي بن كعب، عن النبي عليه السلام.

وهو ما أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله ابن معاذ العنبري البصري شيخ مسلم، عن أبيه معاذ بن معاذ بن نصر، قاضي البصرة الثقة الثبت.

عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة بن دعامة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير البصري، عن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة

إلى آخره نحوه سواء.

ص: فهذا منتهى ما وقفنا عليه من علم ليلة القدر، بما دلنا عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله عليه السلام، فأما ما روي بعد ذلك عن أصحابه وتابعيهم فمعناه داخل في المعاني التي ذكرنا.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 53 رقم 1386).

ص: 256

ش: انتهى الطحاوي في هذا الباب إلى ما لم ينته إليه غيره، ممن كان في عصره، ومَن بعده، حيث أخرج فيه عن خمسة عشر نفرًا من الصحابة رضي الله عنهم وهم: عبد الله بن عمر، وأبو ذر، وعبد الله بن أنيس، وأبو سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب، وعائشة أم المؤمنين، وبلال بن رباح، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاوية بن أبي سفيان، فهؤلاء اثني عشر نفرًا.

ومنهم أيضًا: جابر بن عبد الله روى عن عبد الله بن أنيس، وأنس بن مالك روى عن عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

ولما أخرج الترمذي (1) حديث عائشة في ليلة القدر قال: وفي الباب عن عمر، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، والفلتان بن عاصم، وأنس، وأبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأبي بكرة، وابن عباس، وبلال، وعبادة بن الصامت.

فهؤلاء أربعة عشر نفرًا، وقد فات الطحاوي منهم: الفلتان بن عاصم، وأبو بكرة نفيع بن الحارث، وجابر بن سمرة.

أما حديث الفلتان بن عاصم فأخرجه الطبراني (2): نا محمد بن النضر الأزدي، نا معاوية بن عمرو، نا زائدة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، أن خاله الفلتان بن عاصم أخبره، أنه رأى النبي عليه السلام، وأن رسول الله عليه السلام قال:"أما ليلة القدر فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا".

وأما حديث أبي بكرة فأخرجه الترمذي (3): نا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، نا عيينة بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبي، قال: "ذكرت ليلة القدر عند

(1)"جامع الترمذي"(3/ 158 رقم 792).

(2)

"المعجم الكبير"(18/ 335 رقم 858).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 160 رقم 794).

ص: 257

أبي بكرة، فقال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله عليه السلام إلا في العشر الأواخر، وإنني سمعته يقول: التمسوها في تسع تبقين أو في خمس تبقين أو في ثلاث تبقين أو آخر ليلة".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه ابن أبي شيبة (1): ثنا عمرو بن طلحة، عن أسباط بن نصر، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".

ص: وإنما احتجنا إلى ذكر ما روي في ليلة القدر لما قد اختلف فيه أصحابنا من قول الرجل لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟

قال أبو حنيفة: إن قال لها ذلك قبل شهر رمضان لم يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان كله لما قد اختلف في موضع ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، على ما قد ذكرنا في هذا الباب، مما روي أنها في الشهر كله ومما روي أنها في خاصٍّ منه، قال: فلا أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد مضي الشهر كله؛ لأني أعلم بذلك أنه قد مضى الوقت الذي أوقع الطلاق فيه، وأن الطلاق قد وقع.

قال: وإن قال ذلك لها في شهر رمضان في أوله أو في آخره أو في وسطه لم يقع الطلاق حتى يمضي ما بقي من ذلك الشهر، وحتى يمضي شهر رمضان أيضًا كله من السنة القابلة.

قال: لأنه قد يجوز أن تكون فيما مضى من هذا الشهر الذي هو فيه، فلا يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان كله من السنة الجائية، وقد يجوز أن تكون فيما بقي من ذلك الشهر الذي هو فيه فيقع الطلاق فيها، وبكون كمن قال قبل شهر رمضان لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، فيكون الطلاق لا يحكم به عليه إلا بعد مضي شهر رمضان، قال: فلما أشكل ذلكم، لم أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد علمي بوقوعه،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 250 رقم 867).

ص: 258

ولا أعلم ذلك إلا بعد مضي شهر رمضان الذي هو فيه، وشهر رمضان الجائي.

فهذا مذهب أبي حنيفة في هذا الباب، وكان أبو يوسف قال مرةً هذا القول أيضًا، وقال مرةً أخرى: إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان، لم يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي مثل ذلك الوقت من شهر رمضان من السنة الجائية.

قال: لأن ذلك إذا كان فقد كمل حولٌ منذ قال ذلك القول، فهي في كل حول فعلمنا بذلك وقوع الطلاق.

قال أبو جعفر: وهذا القول عندي ليس بشيء؛ لأنه لم ينقل لنا أن كل حول يكون فيه ليلة القدر، على أن ذلك الحول ليس فيه شهر رمضان بكماله من سنة واحدة، وإنما كان نقل لنا أنها في شهر رمضان من كل سنة، هكذا ولنا عليه كتاب الله، وقاله لنا رسول الله عليه السلام، على ما قد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب.

فلما كان ذلك كذلك احتمل أن يكون إذا قال لها في بعض شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر أن تكون ليلة القدر فيما مضى من ذلك الشهر، فيكون إذا مضى حول من حينئذٍ إلي مثله من شهر رمضان من السنة الجائية لا ليلة فيه، ففسد بما ذكرنا قول أبي يوسف الذي وصفنا وثبت على هذا الترتيب ما ذهب إليه أبو حنيفة.

وقد كان أبو يوسف قال مرة أخرى: إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان؛ أن الطلاق لا يقع حتى تمضي ليلة سبع وعشرين، وذهب في ذلك فيما نرى والله أعلم إلى ما روي عن النبي عليه السلام فيه أنها في ليلة القدر من شهر رمضان بعينها هو حديث بلال وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه، فإذا مضت ليلة سبع وعشرين علم أن ليلة القدر قد كانت، فحكم بوقوع الطلاق، وقبل ذلك فليس يعلم كونها؛ فلذلك لم يحكم بوقوع الطلاق.

فهذا القول تشهد له الآثار التي رويناها في هذا الباب عن النبي عليه السلام.

ش: هذا كله واضح لظهوره.

قوله: "وقال مرة أخرى

" إلى آخره، أراد أن أبا يوسف ذهب في هذا القول إلى أن ليلة القدر تكون في جميع السنة، كما قد ذهب إليه طائفة، واختار الإِمام

ص: 259

أبو بكر الرازي هذا القول حيث قال في كتابه "الأحكام": هذه الأخبار كلها جائز أن تكون صحيحة -وأراد بها الأحاديث التي وردت في ليلة القدر- فتكون في سنة في بعض الليالي، وفي سنة أخرى في غيرها، وفي سنة في العشر الأواخر من رمضان، وفي سنة أخرى في العشر الأوسط، وفي سنة في العشر الأول، وفي سنة في غير رمضان، ولم يقل عبد الله بن مسعود "من يقم الحول يصبها" إلا من طريق التوقيف، ولا يعلم ذلك إلا بوحي من الله إلى نبيه عليه السلام فثبت بذلك أن ليلة القدر غير مخصوصة بشهر في السنة، وأنها قد تكون في سائر السنة، ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لامرأته:"أنت طالق في ليلة القدر" أنها لا تطلق حتى يمضي حول؛ لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت أنها مخصوصة بوقت، فلا يجعل اليقين بوقوع الطلاق إلا بمضي حول.

قلت: قد أفسد الطحاوي هذا القول الذي ذهب إليه الرازي فيما مضى، فالذي ذكره الرازي ليس مذهب أبي حنيفة، والمذهب هو الذي بينه الطحاوي.

وقال شمس الأئمة في "المبسوط"(1): ذكر الفقيه أبو جعفر أن المذهب عند أبي حنيفة أن ليلة القدر تكون في شهر رمضان، ولكنها تتقدم وتتأخر، وعل قول أبي يوسف ومحمد تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر، وفائدة هذا الخلاف أن من قال لعبده: أنت حر ليلة القدر؛ فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عُتِقَ إذا انسلخ الشهر، وإن قال ذلك بعد مضي ليلة من الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام القابل، في قول أبي حنيفة؛ لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى من الشهر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد إذا مضى من الشهر في العام القابل فجاء الوقت الذي حلف؛ عُتِقَ لأنها عندهما لا تتقدم ولا تتأخر، بل هي ليلة من الشهر في كل وقت؛ فإذا جاء الوقت فقد تَيَقَّنَّا بمجيء الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه، فهذا عتق والله أعلم. انتهى.

(1)"المبسوط"(3/ 125).

ص: 260

وقد ذكر بعض أصحابنا أَنَّه عن أبي حنيفة روايتان: في رواية: أن ليلة القدر تدور في كل سنة، وفي أخرى: تدور في كل رمضان كله، وهي المختارة، وهي قول أبي يوسف ومحمد، وعند الشافعي ومالك وأحمد تدور في العشر الأخير، وذكر النووي في "الروضة": مذهب جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من رمضان، وفي أوتارها أرجى، ومَالَ الشافعي: إلى أنها ليلة الحادي والعشرين، ومال في موضع آخر إلى ليلة ثلاث وعشرين، وعند المزني هي متنقلة في ليالي العشر، تنتقل كل سنة إلى ليلة. انتهى.

ومذهب مالك: أرجاها في تسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين، وعند أحمد يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان، وفي العشر الأخير آكد، وفي ليالي الوتر آكد.

***

ص: 261