الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: بيع المصراة
ش: أي هذا باب في بيان حكم بيع المصراة، و"المصراة" الناقة أو البقرة أو الشاة يُصَرَّى اللبن في ضرعها، أي يجمع ويحبس، قال الأزهري: ذكر الشافعي المصراة وفسرها: أنها التي تصر أخلافها، ولا تحلب أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها، وقال الأزهري: جائز أن تكون سميت مصراة من صرَّ أخلافها كما ذكر، إلا أنهم لما اجتمع لهم في الكلمة ثلاث راءات قلبت إحداهما ياء كما قالوا: تظنيت في تظننت، ومثله تقضَّي البازي في تقضَّض، وتصدَّى في تصدد، وكثير من أمثال ذلك أبدلوا من إحدى الأحرف المكررة ياء؛ كراهية لاجتماع الأمثال.
قال: وجائز أن تكون سميت مصراة من الصَّرْي، وهو الجمع، وإليه ذهب الأكثرون، فعلى هذا قوله عليه السلام:"لا تصروا الإبل والغنم" إن كان من الصرَّ فهو بفتح التاء وضم الصاد، وإن كان من الصَّرْي فيكون بضم التاء وفتح الصاد، فافهم.
وقال عياض: قال الخطابي: اختلف أهل العلم واللغة في تفسير المصراة ومن أين أخذت واشتقت، فقال الشافعي رحمه الله: التصرية أن تربط أخلاف الناقة والشاة وتترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها، فيزيد مشتريها في ثمنها لما يرى من ذلك، وقال أبو عبيد: إنه من صري الإبل في ضرعها يعني حقنه فيه، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه، قال أبو عبيد: ولو كان من الربط لكانت مصرورة. قال الخطابي: وقول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح، والعرب تصر ضروع الحلوبات، وتسمرل ذلك الرباط صرارًا، واستشهد تصحيحا لقول الشافعي بقولهم: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلب والصر.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا عوف، عن محمد بن سيرين وخلاس بن عمرو، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى شاة مصراة أو لقحة مصراة فحلبها فهو بخير النظرين: بين أن يختارها، وبين أن يردها وإناء من طعام".
حدثنا فهد، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا فهد، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمد -هو ابن سيرين- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ابتاع مصراة فهو بالخيار: إن شاء ردها وصاعًا من تمر". هكذا في حديث محمد بن زياد وفي حديث أيوب: "وصاعًا من طعام لا سمراء".
حدثنا ربيع الجيزي وصالح بن عبد الرحمن قالا: ثنا عبد الله بن سلمة (ح).
وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قالا: ثنا داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فينقلب بها فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردها ورد معها صاعا من تمر".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عبد الرحمن بن سعد وعن عكرمة، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من اشترى شاة مصراة فإنه إن شاء ردها ومعها صاع من تمر".
حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، أن أبا إسحاق حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام قال:"من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردها ورد معها صاعا من تمر".
ش: هذه ثمان طرق:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، وهو طريق صحيح ورجاله ثقات.
وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي أبو سهل البصري المعروف بابن الأعرابي روى له الجماعة.
وخِلاس -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام- ابن عمرو الهجري البصري روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.
وهذا الحديث أخرجه الجماعة (1) بألفاظ مختلفة وأسانيد متباينة، وأخرجه بهذا الإسناد أحمد في "مسنده" (2): حدثنا عبد الواحد، عن عوف، عن خِلاس بن عمرو ومحمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من اشترى لقحة مصراة -أو شاة مصراة- فحلبها، فهو بآخر النظرين بالخيار إلى أن يحوزها، أو يردها وإناء من طعام".
الثاني: صحيح أيضًا، عن فهد بن سليمان، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد القرشي المدني مولى عثمان بن مظعون عن أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي (3): ثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال النبي عليه السلام: "من اشترى مصراة فهو بالخيار -يعني إذا حلبها- إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(1) رواه البخاري (2/ 756 رقم 2044)، ومسلم (3/ 1159 رقم 1524)، وأبو داود (3/ 270 رقم 3444)، والترمذي (3/ 553 رقم 1252)، والنسائي (7/ 253 رقم 4488)، وابن ماجه (3/ 753 رقم 2239).
(2)
"مسند أحمد"(2/ 259 رقم 7519).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 553 رقم 1251).
الثالث: عن فهد أيضًا، عن حجاج، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (1): نا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشتري شاة مصراة فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء".
الرابع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، وصالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، كلاهما عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن داود بن قيس الفراء الدباغ، عن موسى بن يسار القرشي المطلبي، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (2): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا داود بن قيس
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي سندًا ومتنًا، غير أن في لفظه:"ردها ومعها صاع من تمر".
الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن داود بن قيس
…
إلى آخره.
ورجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه النسائي (3): أنا إسحاق بن إبراهيم، نا عبد الله بن الحارث، حدثني داود بن قيس، عن ابن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام قال:"من اشترى مصراة، فإن رضيها إذا حلبها فليمسكها، وإن كرهها فليردها ومعها صاع من تمر".
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1159 رقم 1524).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1158 رقم 1524).
(3)
"المجتبى"(7/ 253 رقم 4488).
السادس: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام.
وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سَخِطها ردها وصاع من تمر".
السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الغفار بن داود الحراني شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني، عن عبد الرحمن بن سعد المدني، وعن عكرمة مولى ابن عباس، كلاهما عن أبي هريرة.
وكل هؤلاء ثقات غير أن ابن لهيعة فيه مقال.
الثامن: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة المعروف بعلان، عن عبد الله ابن صالح كاتب الليث، عن بكر بن مضر بن محمد المصري، عن عمرو بن الحارث المصري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي هريرة.
وهؤلاء كلهم ثقات تكرر ذكرهم.
قوله: "أو لِقْحة" بكسر اللام وفتحها وهي الناقة القريبة العهد بالنتاج، والجمع لقح، وقد لَقِحَت لَقْحًا ولِقَاحًا، وناقة لَقُوح إذا كانت غزيرة [اللبن](3)، وناقة لاقح إذا كانت حاملاً، ونوق لواقح واللقاح ذوات الألبان، الواحدة لقوح.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 755 رقم 2043).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1155 رقم 1515).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "النهاية في غريب الحديث".
قوله: "وإناء" أي ويرد معها إناء، وقد فُسِّر الإناء في بعض الروايات بالصاع، وقد قال البخاري: وقال بعضهم: عن ابن سيرين: "صاعًا من طعام".
قوله: "من طعام" الطعام عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك.
وقال الخليل: إن الغالب في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، ولكن أهل الحديث خصوا الطعام ها هنا بالتمر لأمرين:
أحدهما: أنه كان الغالب على أطعمتهم.
والثاني: أن معظم روايات هذا الحديث إنما جاءت: "صاعا من تمر" وفي بعضها قال: "من طعام" ثم أعقبه بالاستثناء فقال: لا سمراء، والسمراء هي الحنطة.
وقال البيهقي: المراد بالطعام التمر، فقد قال: لا سمراء.
وقال عياض: قوله: "وإناء من طعام" يحتج به من قال بظاهره، أو عند عدم التمر، وقال الداودي: معناه من تمر، فسره في الحديث الآخر قوله:"لا سمراء" أي لا بر، إنما أنثها باعتبار الحنطة أو الحبة.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فقد رويت هذه الآثار عن رسول الله عليه السلام كما ذكرنا، ولم يذكر فيها لخيار المشترى وقتا، وقد روي عنه أنه جعل الخيار له في ذلك ثلاثة أيام.
حدثنا بذلك أبو أمية قال: ثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن عمر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"أنه نهى عن بيع الشاة وهي محفلة، فإذا باعها فإن صاحبها بالخيار ثلاثة أيام؛ فإن كرهها ردها ورد معها صاعا من تمر".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن، أن سهيل بن أبي صالح أخبره، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي عليه السلام قال: "من
ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، فإن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر".
حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب وهشام وحبيب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام
…
مثله، غير أنه قال:"ردها وصاعا من طعام لا سمراء".
ش: لما كانت أحاديث المصراة على نوعين:
نوع منها مطلق عن ذكر مدة الخيار وبه أخذ بعض المالكية وحكموا فيه بالرد مطلقا.
ونوع منها مقيد بذكر مدة الخيار ثلاثة أيام، وبه أخذت الشافعية على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
أشار الطحاوي إلى النوعين المذكورين، وأشار إلى النوع الأول بقوله:"فقد رويت هذه الآثار عن رسول الله عليه السلام كما ذكرنا"، وإلى النوع الثاني بقوله:"وقد روي عنه" أي النبي عليه السلام "أنه جعل الخيار له في ذلك" أي للمشتري في شراء المصراة "ثلاثة أيام" وبين ذلك بقوله: "حدثنا بذلك أبو أمية
…
" إلى آخره.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن عبد الله بن جعفر بن غيلان القرشي الرقي الثقة، عن عبد الله بن المبارك، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة
…
إلى آخره.
وأخرجه العدني في "مسنده": نا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه السلام: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع، فمن اشترى من ذلك شيئًا فهو بالخيار ثلاثا، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر".
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): نا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا يعقوب -يعني بن عبد الرحمن- القاري، عن سهيل
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات.
الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وهشام بن حسان وحبيب بن الشهيد، ثلاثتهم عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة.
وأخرجه البيهقي (2): من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب وهشام وحبيب، عن محمد
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه مسلم (3): عن محمد بن عمرو، عن أبي عامر، عن قرة، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها ردَّ معها صاعا من طعام لا سمراء".
وأخرجه الترمذي (4): عن محمد بن بشار، عن أبي عامر، عن قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه النسائي (5): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن أيوب، عن محمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة أو مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أن يمسكها أمسكها، وإن شاء أن يردها ردها وصاعا من تمر لا سمراء".
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1158 رقم 1524).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 318 رقم 10502).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1158 رقم 1524).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 553 رقم 1252).
(5)
"المجتبى"(7/ 254 رقم 4489).
ولما أخرج الترمذي (1): هذا الحديث عن أبي هريرة قال: وفي الباب عن أنس، ورجل من أصحاب النبي عليه السلام.
قلت: وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنه.
أما حديث أنس فأخرجه البيهقي (2): من حديث إسماعيل بن مسلم، وهو واهٍ عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة محفلة فإن لصاحبها أن يحلبها، فإن رضيها فليمسكها، وإلا فليردها وصاعا من تمر".
وأما حديث رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فأخرجه البيهقي أيضًا (3): من حديث يزيد، أنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل، عن النبي عليه السلام:"أنه نهى أن تتلقى الأجلاب وأن يبيع حاضر لباد، ومن اشترى مصراة فهو بخير النظرين، فإن حلبها ورضيها أمسكها، وإن ردها ردَّ معها صاعًا من طعام، أو صاعا من تمر".
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه أبو داود (4): ثنا أبو كامل، قال: نا عبد الواحد، قال: ثنا صدقة بن سعيد، عن جميع بن عمير التيمي، قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله عليه السلام: "من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام؛ فإن ردها رد معها مثل -أو مثلي- لبنها قمحا".
وأخرجه البيهقي (5): وقال: قال البخاري: جُمِيع فيه نظر.
قلت: ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، وحسن له الترمذي حديثًا وذكره ابن حبان في "الضعفاء" أيضًا، وقال: كان رافضيا يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس. والله أعلم.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 553 رقم 1251).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 319 رقم 10506).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 319 رقم 10507).
(4)
"سنن أبي داود"(3/ 271 رقم 3446).
(5)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 319 رقم 10504).
ص: فذهب قوم إلى أن الشاة المصراة إذا اشتراها رجل، فحلبها فلم يرضى حلابها فيما بينه وبين ثلاثة أيام كان بالخيار، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وردَّ معها صاعا من تمر، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
وممن ذهب إلى ذلك: ابن أبي ليلى، إلا أنه قال: يردها ويرد معها قيمة صاع من تمر. وقد كان أبو يوسف أيضًا قال بهذا القول في بعض أماليه، غير أنه ليس بالمشهور عنه.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد والشافعي ومالكًا -في قول- وأحمد وأبا ثور وإسحاق وأبا عبيد وأبا سليمان وزفر وأبا يوسف -في بعض الروايات- ومحمد بن أبي ليلى، فإنهم قالوا: من اشترى مصراة فحلبها فلم يرض بها، فإنه يردها إن شاء ويرد معها صاعا من تمر، إلا أن مالكا قال: يؤدي أهل كل بلد صاعا من أغلب عيشهم، وابن أبي ليلى قال: يرد معها قيمة صاع من تمر، وهو قول أبي يوسف ولكنه غير مشهور عنه.
وقال زفر: يرد معها صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من تمر.
وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قال مالك: إذا احتلبها ثلاثاً وسخطها لاختلاف لبنها ردها ورد معها صاعا من قوت ذلك البلد، تمرا كان أو بُرَّا أو غيره، وبه قال الطبري، وأبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي، ورواه ابن القاسم عن مالك قال: من غالب قوت البلد، وروى زياد عن مالك يرد مكيلة ما حلب من اللبن تمرّا أو قيمته، وقال أكثر أصحاب الشافعي: لا يكون إلا من التمر، واختلف أصحاب الشافعي إذا وجب رد صاع التمر فكان يساوي قيمة الشاة أو كثر، فأوجب بعضهم رد الصالح ولم يوجبه بعضهم.
قال بعض أصحابنا: والأول أظهر وأتْبَع للحديث.
ص: وخالف ذلك كله آخرون، فقالوا: ليس للمشتري ردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب، وممن قال ذلك: أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-.
ش: أي خالف ما ذكر من الحكم كله جماعة آخرون، وأرد بهم: فقهاء الكوفيين وأبا حنيفة ومحمدًا ومالكا -في رواية- وأبا يوسف -في المشهور عنه- وأشهب من المالكية فإنهم قالوا: ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب.
وفي "المحلى"(1) قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إن كان اللبن حاضرًا لم يتغير ردها ورد اللبن، وإلا يرد معها صاعا من تمر ولا شيئًا، وإن كان قد أكل اللبن ردها وقيمة ما أكل من اللبن.
قلت: وفي كتب أصحابنا الحنفية: ليس له أن يرد المصراة؛ لأنه وجد ما يمنع الرد، وهو الزيادة المنفصلة عنها، وفي الرجوع بالنقصان روايتان عن أبي حنيفة، في رواية شرح الطحاوي يرجع على البائع بالنقصان من الثمن لتعذر الرد، وفي رواية الإصرار لا يرجع؛ لأن اجتماع اللبن وجمعه لا يكون عيبا. والله أعلم.
ص: وذهبوا إلى أن ما روي عن رسول الله عليه السلام في ذلك -مما قد تقدم ذكرنا له في هذا الباب- منسوخ، فروي عنهم هذا الكلام مجملا، ثم اختلف عنهم من بعد في الذي نسخ ذلك ما هو؟
فقال محمد بن شجاع فيما أخبرني به ابن أبي عمران عنه نسخه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من هذا الكتاب، فلما قطع رسول الله عليه السلام بالفرقة الخيار؛ ثبت بذلك أنه لا خيار لأحد بعدها، إلا لمن استثناه رسول الله عليه السلام في هذا الحديث بقوله:"إلا بيع الخيار".
(1)"المحلى"(9/ 67).
قال أبو جعفر رحمه الله: وهذا التأويل عندي فاسد، لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب، وخيار العيب لا تقطعه الفرقة، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى عبدًا وقبضه وتفرقا، ثم رأى به عيبا بعد ذلك أن له رده على بائعه باتفاق المسلمين؟ ولا يقطع ذلك التفرق الذي روي عن رسول الله عليه السلام في الآثار المذكورة عنه في ذلك، فكذلك المبتاع للشاة المصراة إذا قبضها فاحتلبها، فعلم أنها على غير ما كان ظهر له منها، وكان ذلك لا يعلمه في احتلابه مرة ولا مرتين، جعلت له في ذلك هذه المدة -وهي ثلاثة أيام- ليحتلبها في ذلك، فيقف على حقيقة ما هي عليه، فإن كان باطنها كظاهرها فقد لزمته واستوفي ما اشترى، وإن كان ظاهرها بخلاف باطنها فقد ثبت العيب ووجب له ردها، فإن حلبها بعد الثلاثة الأيام فقد حلبها بعد علمه بعيبها، فذلك رضا منه بها، فلهذه العلة التي ذكرت وجب بها فساد التأويل الذي وصفت.
ش: هذا جواب عن أحاديث المصراة التي سبقت، أي ذهب هؤلاء الآخرون إلى أن الأحاديث التي تقدم ذكرها التي احتجت بها أهل المقالة الأولى منسوخة، ثم بين الطحاوي وجه هذا النسخ من ثلاثة أوجه:
الأول: عن محمد بن شجاع البغدادي الفقيه المشهور بابن الثلجي -بالثاء المثلثة- من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب المصنفات الكثيرة.
الثاني: عن عيسى بن أبان بن صدقة الفقيه، قاضي البصرة صاحب محمد بن الحسن الشيباني.
الثالث: هو اختيار نفسه علي ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
أما ما ذكره محمد بن شجاع فقد قال الطحاوي: أخبرني به أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، أن الناسخ للأحاديث المذكورة: قوله عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وقد ذكر ذلك الطحاوي بأسانيده ووجوهه فيما سبق في باب معقود لذلك، ووجه ما ذكره ابن شجاع ظاهر، ولكن الطحاوي أفسده، وهو أحرى بالفساد لما يظهر ذلك مما قاله الطحاوي.
قوله: "فلهذه العلة التي ذكرتُ" بضم التاء على أنه إخبار عن نفسه، وكذا قوله:"الذي وصف".
ص: وقال عيسى بن إبان: كان ما روي عن رسول الله عليه السلام من الحكم في المصراة بما في الآثار الأُول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب تؤخذ بها الأموال، فمن ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام في الزكاة:"أنه من أدى طائعا فله أجرها، وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل"، ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق الثمرة التي لم تحرز:"أنه يضرب جلدات نكالا، ويغرم مثليها"، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب وطْء الرجل جارية امرأته، فأغنانا ذلك عن إعادة ذكرها ها هنا.
قال: فلما كان الحكم في أول الإسلام كان كذلك حتى نسخ الله عز وجل الربا فَرُدَّت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها، وكان رسول الله عليه السلام نهى عن التصرية وروي عنه في ذلك.
فذكر ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المسعودي، عن جابر الجعفي، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله رضي الله عنه قال: اشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بيع المحفلات خِلابة ولا تحل خِلابة مسلم" فكان من فعل ذلك وباع ما قد جعل بيعه إياه مخالفا لما أمر به رسول الله عليه السلام، وداخلا فيما نهى عنه، فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصُعا كثيرة، ثم نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء إلى ما ذكرنا، فلما كان ذلك كذلك، ووجب رد المصراة بعينها، وقد زايلها اللبن؛ علمنا أن ذلك اللبن الذي أخذه المشتري منها قد كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع عليها فهو في حكم المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فذلك للمشتري، فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع إذ كان بعضه مما لم يملك ببيعه، ولم يمكن أن يجعل
اللبن كله للمشتري إذ كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاة التي قد ردها عليه بالعيب، وقد كان ملكه له بجزء من الثمن الذي كان وقع به البيع، فلم يجز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللبن سالمًا له بغير ثمن، فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها، ورجع على بايعه بنقصان عيبها.
قال عيسى رحمه الله: فهذا وجه حكم بيع المصراة.
ش: هذا هو الوجه الثاني من وجوه النسخ التي ذكرناها، وهو الوجه الذي قاله عيسى بن أبان، وهو أيضًا ظاهر، ولكن ملخصه أن حكم المصراة كان حين يؤخذ بالأموال في العقوبات كما في الزكاة إذا امتنع صاحبها عن أدائها كان يؤخذ منه جبرًا، ويؤخذ معها نصف ماله، وكذا سارق الثمرة التي لم تحرز، كان يضرب جلدات عقوبة، ويغرم مثلي ما أخذه، وكذا الغالّ كان يحرق رحله، فلما نسخت هذه الأشياء بقوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) ونزلت آية تحريم الربا؛ صار الحكم أن يؤخذ في الأموال مثلها، إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت لا مثل لها، ثم في حكم المصراة التمر ليس من جنس اللبن، ومتلف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته كما ذكرنا، فإذا كان كذلك دل على أن هذا الحكم قد كان ثم نسخ، وأيضًا فإن في دفع التمر لأجل اللبن ربا؛ لأنه بيع الطعام بالطعام متفاضلا، وقد قال عليه السلام:"الطعام بالطعام ربا إلا هاء وهاء" فإذا تقرر ذلك قلنا: إن المشتري يمنع من رد المصراة ولكن يرجع على بائعها بنقصان العيب؛ لأن السلامة في البيع مطلوبة المشتري فكانت شرطا في العقد دلالة، فإذا فأتت يثبت له خيار الرجوع بنقصان العيب، وإنما يمتنع رجوعه بالمصراة بجميع الثمن للمعنى الذي ذكره الطحاوي عن عيسى بن أبان، وهو قوله: "فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع
…
" إلى آخره، وهو ظاهر.
ثم الذي روي عن النبي عليه السلام في الزكاة.
(1) سورة البقرة، آية:[194].
وأخرجه أبو داود (1): نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا بهز بن حكيم.
ونا محمد بن العلاء، أنا أبو أسامة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله عليه السلام قال:"في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا -قال ابن العلاء: مؤتجرا بها- فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة عن عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شئ".
وأخرجه النسائي (2) أيضًا.
قوله: "شطر ماله" أي نصف ماله.
قوله: "عزمة" منصوب بفعلٍ محذوف، تقديره: عزم الله علينا عزمة، والعزمة الحق والواجب، وعزمة الله حقوقه وواجباته.
قوله: "ليس لآل محمد منها شيء" تأكيد لقوله: "عزمة من عزمات ربنا" والمعنى: إن هذا حق وفرض من فرائض الله تعالى وليس لآل محمد من هذا الفرض شيء أي نصيب حتى يتركوا ما ينالهم.
وفيه دليل على أن مانع الزكاة تؤخذ منه جبرًا، ويؤخذا أيضًا شطر ماله عقوبة عليه لامتناعه، ولكن كان هذا في أول الإِسلام ثم نسخ.
واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه فيما أفسدت ناقته، فلم ينقل عن النبي عليه السلام في تلك القضية أن ضَعَّف الغرامة، بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن جابر بن يزيد الجعفي -فيه مقال كثير- عن
(1)"سنن أبي داود"(2/ 101 رقم 1575).
(2)
"المجتبى"(5/ 25 رقم 2449).
أبي الضحى مسلم بن صُبَيْح الكوفي العطار، عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث المسعودي، عن جابر، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بيع المحفلات خلابة لا تحل خلابة المسلم". وقال البيهقي: هذا جاء بإسناد صحيح عن ابن مسعود قوله: ثم أخرجه من حديث الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود قال: قال عبد الله: "إياكم والمحفلات فإنها خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم".
قوله: "أشهد على الصادق المصدوق" أراد به النبي عليه السلام فإنه هو الصادق في أقواله، المصدوق في نفسه من جهة غيره.
و"المحفلات" جمع مُحَفَّلة -بضم الميم وتشديد الفاء- وهي الشاة أو البقرة أو الناقة لا يحلبها صاحبها أياما حتى يجتمع لبنها في ضرعها، فإذا احتلبها المشتري حسبها غزيرة فزاد في ثمنها، ثم يظهر له بعد ذلك نقص لبنها عن أيام تحفيلها، سميت محفلة لأن اللبن حُفِّل في ضرعها، أي جمع.
قوله: "خِلابه" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام، وهي الخداع والتغرير، وقال الجوهري: الخلابة: الخديعة باللسان، تقول منه خَلَبَه يَخْلُبُه بالضم، واختلبه مثله، وفي المثل: إذا لم تَغْلب فاخلب، أي: فاخدع. وفيه: دلالة على أن التصرية والتحفيل مكروه منهي عنها، وأن بائع المحفلات مخالف ما أمر به رسول الله عليه السلام وداخل فيما نهى عنه، فلأجل هذا كانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في هذه الأيام كانت تساوي جملة من الصيعان، فكانت فيه عقوبة للبائع بالمال، ولكن لما نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، ردت إلى ما ذكرنا من أن الحكم استقر على أن يؤخذ في الأموال مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت لا مثل لها، والله أعلم.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 317 رقم 10492).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: والذي قاله عيسى: من هذا يحتمل، غير أني رأيت في ذلك وجها، وهو أشبه عندي بنسخ هذا الحديث من غير هذا الوجه الذي ذهب إليه عيسى، وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتري منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها قد كان بعض في ملك البائع قبل الشراء، وبعضه حدث في ملك المشتري بعد الشراء؛ لأنه قد احتلبها مرة بعد مرة، فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعا، إذا وجب نقص البيع في الشاة [وجب نقض البيع فيه، وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضًا، وحكمه حكم الشاة](1) لأنه من بدنها، هذا على مذهبنا، وكان النبي عليه السلام قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها جميع لبنها الذي كان حلبه منها بالصاع التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة، وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه، فكان المشتري قد ملك لبنا دينا بصاع تمر ودين فدخل ذلك في بيع الدين بالدين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين.
حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم -قال: أبو بكرة في حديثه قال: أنا موسى بن عبيدة، وقال ابن مرزوق في حديثه: عن موسى بن عبيدة الربذي، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" يعني الدين بالدين فنسخ ذلك ما كان تقدم منه مما روي عنه في المصراة، مما حكمه حكم الدين بالدين.
ش: هذا هو الوجه الثالث من وجوه النسخ التي ذكرناها، وهو الوجه الذي قاله الطحاوي من قوله واختاره على الوجهين الأولين، ملخص ذلك: أن حديث المصراة منسوخ بحديث النهي عن بيع الدين بالدين؛ وذلك لأن في المصراة على الوجه الذي ذكره الخصم بيع الدين بالدين، فيكون منسوخًا، وقد أوضح ذلك الطحاوي، فلا حاجة إلى تكراره.
ثم إنه أخرج حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكرة بكار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
موسى بن عبيدة بن نشيط الرَّبَذي المدني، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه.
وعنه: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة. وعن يحيى: موسى بن عبيدة ليس بالكذوب ولكنه يروي عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. روى له الترمذي وابن ماجه، والرَّبَذي بفتح الراء والباء الموحدة وبالذال المعجمة، نسبة إلى رَبَذة قرية من قرى مدينة الرسول عليه السلام وبها قبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث مقدام بن داود، ثنا ذؤيب بن عمامة، نا حمزة بن عبد الواحد، عن موسى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام:"أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ".
وأخرجه البزار في "مسنده"(2): بأتم منه: نا محمد بن معمر، نا بهلول، نا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن الشغار، وعن بيع المجر، وعن بيع الغرر، وعن بيع كالئ بكالئ، وعن بيع عاجل بآجل" قال: والمجر: ما في الأرحام، والغرر: أن تبيع ما ليس عندك، وكالئ بكالئ: دين بدين، والآجل بالعاجل: أن يكون لك على الرجل ألف درهم، فيقول رجل أُعَجِّل لك خمسمائة ودع البقية، والشغار: أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لهما صداق، وهذا الحديث لا نعلم رواه إلا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما بهذا التمام.
وأخرجه البيهقي أيضًا (3): من حديث الخصيب بن ناصح، نا الدراوردي، عن موسى، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" ثم قال: موسى هو ابن عبيدة.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 290 رقم 10320).
(2)
ذكره البيهقي في "مجمع الزوائد"(4/ 81) وقال: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 290 رقم 10316).
وقال ابن عدي أيضًا: هذا معروف موسى بن عبيدة، وقال البيهقي، ورواه عبيد الله بن موسى وزيد بن الحباب والواقدي عن سالم ثم ساقه البيهقي إليهم ثم قال: العجب من الدارقطني شيخ عصره روى هذا الحديث في "سننه" فقال عن الدراوردي عن موسى بن عقبة، وقال الذهبي: وكذا وهم غيره فيه.
قوله: "الكالئ بالكالئ" أي النسيئة بالنسيئة وهو مهموز اللام يقال: كلأ الدين كلوءا فهو كالئ إذا تأخر، ومن قولهم:"بلغ الله بك أكلأ العمر" أي أطوله وأكثره تأخرا، وكلأته إذا أنسأته وبعض الرواة لا يهمز الكالئ تخفيفا.
ص: ويقال للذي ذهب إلى العمل بما روي في المصراة ما قد ذكرناه في أول هذا الباب: قد روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "الخراج بالضمان" وعملت بذلك العلماء.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن أبي ذئب (ح).
وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الزنجي بن خالد، سمعته يقول: زعم لنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رجلاً اشترى عبدًا فاستغله، ثم رأى به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده بالعيب، فقال: يا رسول الله إنه قد استغله، فقال له: الغلة بالضمان".
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا مطرف بن عبد الله، قال: ثنا الزنجي بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال: ثنا مسلم بن خالد
…
فذكر بإسناد مثله.
فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول، وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها، ثم أصاب بها عيبًا غير التحصيل أنه يردها، ويكون اللبن له، وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته، ردها على البائع وكان الولد له، وكان ذلك عندك من الخراج الذي جعله النبي عليه السلام للمشتري بالضمان، فليس يخلو الصاع الذي توجبه على مشتري المصراة إذا ردها على البائع بالتصرية أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعض في ضرعها في وقت وقوع البيع، وحدث بعضه في ضرعها بعد البيع، أو يكون عوضا من اللبن الذي كان في ضرعها في وقت البيع خاصة، فإن كان عوضا منهما فقد نقضت بذلك أصلك الذي جعلت به الولد واللبن للمشتري بعد الرد بالعيب؛ لأنك جعلت حكمهما حكم الخراج الذي جعله النبي عليه السلام للمشتري بالضمان.
وإن كان ذلك الصالح عوضا عما كان في ضرعها في وقت وقوع البيع خاصة، والباقي سالم للمشتري لأنه من الخراج، فقد جعلت للبائع صاعًا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز في قولك ولا في قول غيرك، فعلى أي الوجهين كان هذا المعنى عليه عندك؟! فأنت به تارك أصلاً من أصولك، وقد كنت بالقول بنسخ هذا الحكم في المصراة أولى من غيرك؛ لأنك أنت تجعل اللبن في حكم الخراج، وغيرك لا يجعله كذلك.
ش: هذه إشارة إلى بيان فساد قول من يذهب إلى العمل بحديث المصراة الذي هو منسوخ بالوجوه التي ذكرناها، وأن القائلين به تاركون لأصلهم الذي يذهبون إليه، ومتناقضون في كلامهم، والمراد من هؤلاء هم الشافعية ومن تبعهم في هذا القول، والمراد من الخطابات في قوله:"وزعمت أنت" وقوله: "فقد نقضت بذلك أصلك"، وقوله:"الذي جعلت به الولد"، وقوله:"جعلت حكمهما" وقوله: "فقد جعلت" وقوله: "وقولك ولا في قول غيرك" وقوله: "عندك"، وقوله:"فأنت به تارك أصلا من أصولك" وقوله: "وقد كنت"، وقوله:"أولى من غيرك؛ لأنك أنت تجعل اللبن"، وقوله:"وغيرك".
بيان الفساد المذكور أن النبي عليه السلام قد روي عنه أنه قال: "الخراج بالضمان"، وفي رواية:"الغلة بالضمان" يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو مُلكًا، وذلك أن تشتريه فتستغله زمانا ثم تعثر منه على عيب قد ثم لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، ومعنى قوله:"الغلة بالضمان" مثل معنى قوله: "الخراج بالضمان"، والغلة الدخل الذي يحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والنتاج، والباء في قوله "بالضمان" للسببية، ومتعلقها محذوف تقديره: الخراج مستحق بسبب الضمان، والغلة مستحقة بسبب الضمان، ومحل الباء رفع على الخبرية، وقوله "الخراج" مبتدأ وكذا قوله "الغلة".
ثم إن هؤلاء قد زعموا أن رجلاً لو اشترى شاه فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل والتصرية أنه يردها ويكون اللبن له، وكذلك لو اشترى جارية مثلًا فولدت عنده، ثم ردها على البائع لعيب وجد بها، يكون الولد له.
قالوا: لأن ذلك من الخراج الذي جعله النبي عليه السلام للمشتري بالضمان، فإذا كان الأمر كذلك فالصاع من التمر الذي يوجبه هؤلاء على مشتري المصراة إذا ردها على بائعها بسبب التصرية والتحفيل، لا يخلو إما أن يكون عوضًا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعضه في ضرعها وقت البيع وحدث بعض في ضرعها بعد البيع.
وإما أن يكون عوضا عن اللبن الذي كان في ضرعها وقت وقوع البيع خاصة.
فإن أرادوا الوجه الأول فقد ناقضوا أصلهم الذي جعلوا به اللبن والولد للمشتري بعد الرد بالعيب في الصورتين اللتين ذكرناهما، وذلك لأنهم جعلوا حكمهما كحكم الخراج الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري بالضمان.
وإن أرادوا الوجه الثاني، فقد جعلوا للبائع صاعًا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز لا في قولهم ولا في قول غيرهم فأي المعنيين أرادوا فهم فيه تاركون أصلاً من أصولهم، وقد كان هؤلاء أولى بالقول بنسخ الحكم في المصراة؛ لكونهم يجعلون اللبن في حكم الخراج، وغيرهم لا يجعلون كذلك؛ فظهر من ذلك فساد كلامهم وفساد ما ذهبوا إليه.
فإن قيل: لا نسلم أن يكون اللبن في حكم الخراج، لأن اللبن ليس بغلة وإنما كان محفلا فيها، فلزم رده.
قلت: هذا ممنوع؛ لأن الغلة هي الدخل الذي يحصل على ما ذكرنا، وهو أعم من أن يكون لبنا أو غيره، وأيضًا يلزمهم على هذا أن يقولوا: برد عوض اللبن إذا ردَّ المصراة بعيب آخر غير النصرية؛ ولم يقولوا به.
فإن قيل: هذا حكم خاص في نفسه، وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضي على العام.
قلت: هذا زعمك وإنما الأصل ترجيح العام على الخاص في العمل به، ولهذا رجحنا قوله عليه السلام:"ما أخرجت الأرض ففيه العشر" على الخاص الوارد بقوله: "ليس في الخضروات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وأمثال ذلك كثيرة.
ثم إنه أخرج حديث عائشة رضي الله عنها من خمس طرق:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن مخلد -بفتح الميم وسكون الخاء- ابن خفاف -بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء- ابن أيماء الغفاري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".
الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي دواد، عن ابن أبي ذئب
…
إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (2): نا محمد بن [المثنى](3) قال: نا عثمان بن عمرو وأبو عامر العقدي، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام قضى أن الخراج بالضمان".
وأخرجه النسائي (4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس ووكيع، كلاهما عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف
…
إلى آخره نحوه.
وهذان الطريقان حسنان جيدان.
فإن قيل: كيف تقول هذا، وقد قال أبو حاتم: مخلد بن خفاف روى عن عروة عن عائشة: حديث "الخراج بالضمان" روى عنه ابن أبي ذئب ولم يرو عنه غيره. وليس هذا إسنادا تقوم بمثله الحجة. وقال ابن عدي: لا يعرف له غير هذا الحديث. وذكره ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء"، وقال: قال الأزدي: ضعيف. وقال البخاري: هذا حديث منكر، ولا أعلم لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث؟!
قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الترمذي: بعد أن أخرج هذا الحديث عنه: هذا حديث حسن، وأشار الطحاوي أيضًا إلى تحسينه وقبوله، بقوله:"فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول".
(1)"سنن أبي داود"(3/ 284 رقم 3508).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 581 رقم 1285).
(3)
في "الأصل": بشار. وهو خطأ، والمثبت من "جامع الترمذي"، و"تحفة الأشراف"(2/ 119رقم 16755).
(4)
"المجتبى"(7/ 254 رقم 4490).
الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن مسلم -المعروف بالزنجي- بن خالد بن قرقرة المكي شيخ الشافعي، عن هشام بن عروة
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث الزنجي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن رجلاً اشترى غلاما في زمن النبي عليه السلام وفيه عيب لم يعلم به، فاستغله ثم علم بالعيب فرده، فخاصمه إلى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمان، فقال رسول الله عليه السلام: الغلة بالضمان"، وفي رواية يحيى بن يحيى عن الزنجي:"الخراج بالضمان".
الرابع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن مطرف بن عبد الله المديني شيخ البخاري، عن مسلم الزنجي، عن هشام بن عروة
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): نا إبراهيم بن مروان الدمشقي، قال: ثنا أبي، قال: نا مسلم بن خالد الزنجي، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن رجلاً ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد عيبا، فخاصمه إلى النبي عليه السلام فرد عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال رسول الله عليه السلام: "الخراج بالضمان".
الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن عبد العزيز
…
إلى آخره. وأخرجه أحمد (3) وابن ماجه (4) والبزار كلهم من حديث الزنجي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة نحوه.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 321 رقم 10523).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 284 رقم 3510).
(3)
"مسند أحمد"(6/ 80 رقم 24558).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 754 رقم 2243).
وهذه الطرق الثلاثة ضعيفة لأن فيها مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف، وقال البخاري: هو ذاهب الحديث. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو داود ويحيى: ضعيف. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
وإنما سمي زنجيا لأنه كان شديد السواد، قاله سويد بن سعيد، وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: الزنجي إمام في الفقه والعلم، وكان أبيض مشربا بالحمرة، وإنما لقب بالزنجي لمحبته التمر، فقالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي؛ لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب والله أعلم.
ثم إن الشافعي: استدل به أن كل ما حدث من غلة أو نتاج في ملك المشتري فهو للمشتري لا يرد من ذلك شيئًا، إذا رد المبيع لأجل العيب، وبه قال مالك: إلا في النتاج خاصة؛ فإنه يرده مع الأمهات، وقال أصحابنا في الدار والدابة والعبد: له الغلة ويرد بالعيب، وفي النخل والشجر والماشية: يرجع بالأرش ولا يرد، واختلفوا في المبيع إذا كانت جارية فوطئها ثم وجد بها عيبًا، فقال أصحابنا تلزمه ويرجع بأرش العيب.
وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها.
وقال مالك يردها إن كانت ثيبا ولا يرد معها شيئًا، وإن كانت بكرًا فعليه ما نقص من ثمنها، وقال الشافعي: ترد الثيب ولا شيء عليه، ولا ترد البكر ويرجع بما نقصها العيب من أجل الثمن.
وقاس أصحابنا الغصب على البيوع من أجل أن ضمانها على الغاصب، ولم يجعلوا عليه رد الغلة، واحتجوا بعموم الحديث.
وقال الخطابي: والحديث إنما جاء في البيع وهو عقد يكون بين المتتابعين بالتراضي، وليس الغصب بعقد عن تراض من المتعاقدين، وإنما هو عدوان، وأصله وفرعه سواء في وجوب الرد، ولفظ الحديث مبهم لأن قوله:"الخراج بالضمان" يحتمل أن يكون معناه أن يملك الخراج بضمان الأصل، ويحتمل أن يكون
المعنى أن ضمان الخراج بضمان الأصل، واقتضاء العموم من اللفظ المبهم ليس بالبين، والحديث في نفسه ليس بالقوي إلا أن الأكثر استعملوه في البيوع والأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه.
قلت: ذهل الخطابي عن قولهم: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وقوله: "واقتضاء العموم
…
" إلى آخره. غير سديد؛ لأنه يلزم أن تكون كذلك سائر الألفاظ العامة المحتملة للمعنيين أو المعاني، وليس كذلك. فافهم.
***