المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الأقراء - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: الأقراء

‌ص: باب: الأقراء

ش: أي هذا باب في بيان الأقراء، وهو جمع قُرء بضم القاف. قاله الأصمعي.

وقال أبو زيد: هو بفتح القاف، وقال البخاري: قال معمر: يقال: أقرأت المرأة إذا دنى حيضها، وأقرأت إذا دنى طهرها فهي مقرئ، وقرأت الناقة إذا حملت فهي قارئ، وأقرأت المرأة إذا استقر الماء في رحمها، وقعدت المرأة أيام أقرائها أي أيام حيضها.

وقال أبو عمر: أصل القرء في اللغة الوقت والطهور والحمل والجمع. وقال ثعلب: القروء: الأوقات، والواحد: قرء، وهو الوقت، وقد يكون حيضًا، ويكون طهرًا.

وقال قطرب: تقول العرب: ما أقرأت الناقة سلاً قط أي لم ترم به، وقالوا: أقرأت الناقة قراءً، وذلك معاودة الفحل إياها أوان كل ضراب. وقالوا أيضًا: قرأت المرأة قرءًا إذا حاضت وطهرت، وقرأت أيضًا إذا حملت.

وفي "المطالع": الأقراء جمع قُرء وقَرء، وهي الأطهار عند أهل الحجاز، والحيض عند أهل العراق، ومِنَ الأضداد عند أهل اللغة. وحقيقة القرء الوقت عند بعضهم، وعند آخرين الجمع والانتقال من حال إلى حال وهو أظهر عند أهل التحقيق.

قوله: "دعي الصلاة أيام أقرائك" يردّ قول أهل الحجاز.

قلت: لفظ القرء من الأسماء المشتركة، والمشترك كل لفظ تشترك فيه معاني أو أسامي لا على سبيل الانتظام، بل على احتمال أن يكون كل واحد هو المراد به على الانفراد، وإذا تعين الواحد مرادًا به انتفى الآخر، مثل اسم العين فإنه للناظر ولعين الماء وللشمس وللمرأة وللنقد من المال، وللشيء المعين

إلي غير ذلك من المعاني قد عدَّها بعضهم سبعة عشر معنى لا على أن جميع ذلك مراد بمطلق اللفظ، ولكن على احتمال كون كل واحد مرادًا بانفراده عند الإطلاق، وأما بيان الاشتراك في لفظ

ص: 68

القرء فإن العلماء متفقون أنه يحتمل الأطهار ويحتمل الحيض وأنه غير منتظم لهما، بل إذا حملناه على الحيض لدليل في اللفظ؛ وهو أن المرأة لا تسمى ذات القروء إلا باعتبار الحيض ينفي كون الأطهار مرادًا وإذا حمله الخصم على الأطهار لدليل في اللفظ وهو الإجماع، أخرج الحيض أن يكون مرادًا باللفظ، وقيل: لفظ القرء حقيقة في الحيض مجاز في الطهر.

والمقصود: هذا باب قد اختلف فيه السلف والخلف من اللغويين والفقهاء، وسيجيء بيانه مستقصى إن شاء الله تعالى.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: اختلف الناس في الأقراء التي تجب على المرأة إذا طلقت، فقال قوم: هي الحيض، وقال آخرون: هي الأطهار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الضحاك والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وأحمد -في الصحيح- وسائر الكوفيين وأكثر العراقيين؛ فإنهم قالوا: الأقراء: الحيض.

قال أبو عمر: هو المروي عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، وقولهم كلهم: إن المطلقة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، قال: وهو الذي استقر عليه أحمد بن حنبل فيما ذكر عمر بن الحسن الخرقي عنه في "مختصره".

قوله: "وقال أخرون" أي جماعة آخرون: "الأقراء هي الأطهار"، وأراد بهم: القاسم وسالمًا وأبان بن عثمان وأبا بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وربيعة ويحيى بن سعيد والزهري ومالكًا والشافعي وأحمد في رواية وداود وأبا ثور وأبا سليمان.

ص: 69

وقال أبو عمر: وهو قول عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو، وروي عن ابن عباس أيضًا.

كل هؤلاء يقولون: الأقراء: الأطهار، فالمطلقة عندهم تحل للأزواج بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة، وسواء بقي من الطهر الذي طلقت فيه المرأة يوم واحد أو أقل أو أكثر أو ساعة واحدة فإنها تحتسب به المرأة قرءًا.

واعلم أن طائفة أخرى توقفوا في الأقراء: هل هي حيض أم أطهار، وهم: سليمان بن يسار وفضالة بن عبيد وأحمد في رواية؛ فعن أحمد ثلاث روايات: الأولى مع الطائفة الأولى، والثانية مع الثانية، والثالثة مع هؤلاء المتوقفين. والله أعلم.

ص: فكان من حجة من ذهب إلى أنها الأطهار: قول رسول الله عليه السلام لعمر رضي الله عنه حين طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض: "مُرْه أن يراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر أن تطلق لها النساء". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في الباب الذي قبل هذا الباب.

قالوا: فلما أمره رسول الله عليه السلام أن يطلقها في الطهر، وجعله العدة، ونهاه أن يطلقها في الحيض، وأخرجه من أن يكون عدة؛ ثبت بذلك أن الأقراء هي الأطهار.

ش: احتجاج هؤلاء بالحديث المذكور ظاهر، ولكنه معارض بما يحتج به أهل المقالة الأولي بحديث ابن عمر أيضًا، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، فإذا كان معارضًا يسقط الاحتجاج به.

ص: فكان من الحجة للآخرين عليهم أن هذا الحديث قد روي عن ابن عمر كما ذكروا، وقد روي عنه ما هو أتم من ذلك، فروي عنه:"أن رسول الله عليه السلام أمر عمر رضي الله عنه أن يأمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء، وقال: تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في الباب الذي قبل هذا الباب؛ فلما نهاه رسول الله عليه السلام عن إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة التي طلق فيها، حتى يكون طهر وحيضة أخرى

ص: 70

بعدها، ثبت بذلك أنه لو كان أراد بقوله:"فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" الأطهار إذًا لجعل له أن يطلقها بعد طهرها في هذه الحيضة ولا ينتظر ما بعدها؛ لأن ذلك طهر، فلما لم يبح له الطلاق في ذلك الطهر حتى يكون طهرًا آخر بينه وبين ذلك الطهر حيضة؛ ثبت بذلك أن تلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء إنما هي وقت ما تطلق النساء، وليس لأنها عدة تطلق لها النساء، يجب بذلك أن تكون هي العدة التي تعتد بها النساء، لأن العِدد مختلفة، منها: عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومنها: عدة المطلقة ثلاثة قروء، ومنها: عدة الحامل أن تضع حملها، فكانت العدة اسمًا واحدًا لمعانٍ مختلفة، ولم يكن كل ما لزمه اسم عدة وجب أن يكون قرءًا، فكذلك لما لزم اسم الوقت التي تطلق فيه النساء اسم عدة، لم يثبت له بذلك اسم القرء، فهذه معارضة صحيحة.

ش: أي فكان من الحجة والبرهان للجماعة الأخرى وهم الذين قالوا: إن الأقراء: الحيض. عليهم -أي على الذين ذهبوا إلى أنها الأطهار- وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث ابن عمر على سبيل المعارضة.

وهي لغةً عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة والمرافعة.

واصطلاحًا عبارة عن تسليم الدليل مع المنع في المدلول بدليل آخر، وهذا الاعتراض صحيح عند جمهور المحققين من الفقهاء والمتكلمين؛ فلذلك أشار إليه بقوله: فهذه معارضة صحيحة، بيان ذلك أن من قال: إن الأقراء هي الحيض، قالوا لمن قال: إنها الأطهار: ما ذكرتم من الدليل وإن دلَّ على ما ذكرتم من المدلول، ولكن عندنا من الدليل على خلافه، ثم بين ذلك بقوله: فلما نهاه رسول الله عليه السلام عن إيقاع الطلاق

إلي آخره، فهذه معارضة صحيحة؛ لأنها لا تتضمن إبطال تعليل الخصم المستدل، وإنما هي بيان دليل آخر يوجب خلاف ما أوجبه دليل المستدل من غير تعرض لإبطال دليله، بخلاف المعارضة التي فيها المناقضة؛ فإنها متضمنة لإبطال تعليل المستدل. فافهم.

ص: 71

قوله: "فلما نهاه رسول الله عليه السلام" أي فلما نهى ابن عمر رسولُ الله عليه السلام.

قوله: "الأطهار" بالنصب مفعول لقوله: "لو كان أراد".

قوله: إذًا" أي حينئذٍ.

قوله: "ولا ينتظر" بالنصب عطفًا على قوله: أن يطلقها.

قوله: "إنما هي وقت ما تطلق النساء" أي إنما هي وقت تطليق النساء، وكلمة "ما" مصدرية.

قوله: "لأن العِدد" بكسر العين جمع عِدة.

قوله: "فكانت العدة اسمًا واحدًا لمعانٍ مختلفة" أراد به أنها لفظ مشترك بين معانٍ مختلفة.

قوله: "ولم يكن كل ما لزمه اسم عدة" يعني لا يلزم من إطلاق اسم عدة على شيء أن يكون ذلك الشيء قرءًا، فكذلك لا يلزم من إطلاق اسم العدة على الوقت الذي تطلق فيه النساء أن يطلق عليه اسم القرء؛ لامتناع الملازمة. فافهم.

ص: ولو أردنا أن نكثر ها هنا فنحتج بقول رسول الله عليه السلام للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك" فنقول: الأقراء هي الحيض على لسان رسول الله عليه السلام لكان ذلك قد تعلق به بعض مَنْ قد تقدم، ولكنا لا نفعل ذلك؛ لأن العرب قد تسمى الحيض قرءًا وتسمي الطهر قرءًا، وتجمع الطهر والحيض فتسميهما قرءًا. أخبرني بذلك محمود بن حسان النحوي قال: ثنا عبد الملك بن هشام، عن أبي زيد، عن أبي عمرو بن العلاء بذلك.

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الاحتجاج بقوله عليه السلام للمستحاضة: "دعي الصلاة أيام أقرائك" كما أن المراد من الأقراء في باب العدة هي الحيض لا يعم؛ لأنه لما ثبت عن العرب أنهم يطلقون على الحيض قرءًا وعلى الطهر قرءًا بالاشتراك لم يلزم حينئذٍ من كون المراد من الأقراء في هذا الحديث الحيض أن يكون كذلك في باب العدة لوجود الاشتراك.

ص: 72

قوله: "وتجمع الطهر والحيض" أي وتجمع العرب بين هذين اللفظين فتسميهما قرءًا، فهذا لا يتأتى من طريق الاشتراك؛ لأنه قد عرف أن إرادة المعنيين معًا في المشترك محال.

قوله: "أخبرني بذلك" أي بما ذكرنا من أن العرب تسمي

إلى آخره.

أبو عبد الله محمود بن حسان النحوي نزيل مصر، توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين.

وهو يروي عن عبد الملك بن هشام بن أيوب النحوي -صاحب المغازي- مغازي ابن إسحاق- نحوي قدم مصر، وثقه ابن يونس، توفي سنة ثمان عشرة ومائتين.

وهو يروي عن أبي زيد سعيد بن أوس بن بشير الأنصاري النحوي البصري، قال يحيى وأبو حاتم: صدوق. وقال صالح بن محمد البغدادي: ثقة. وقال أبو حاتم السجستاني: مات سنة خمس عشرة ومائتين وله ثلاث وتسعون سنة. وهو يروي عن أبي عمرو بن العلاء البصري أحد الأئمة القراء السبعة، اختلف في اسمه؛ فقيل: عمرو بن عبد الله، وقيل: زبان، وقيل: عريان، وقيل: يحيى، وقيل: اسمه كنيته، وعن يحيى: ثقة. توفي بالكوفة سنة أربع وخمسن ومائة وهو ابن أربع وثمانين سنة، روى له أبو داود في "القدر"، وابن ماجه في "التفسير".

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): القرء في لغة العرب الذي نزل بها القرآن يقع على الطهر، ويقع على الحيض، ويقع على الطهر والحيض، حدثنا بذلك أبو سعيد الجعفري، ثنا محمد بن علي المقرئ، ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، ثنا أبو جعفر الطحاوي، ثنا محمود بن حسان، ثنا عبد الملك بن هشام، نا أبو زيد الأنصاري، قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول

فذكره.

(1)"المحلى"(10/ 257).

ص: 73

ص: وفي ذلك أيضًا حجة أخرى: أن عمر رضي الله عنه هو الذي خاطبه رسول الله عليه السلام بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" ولم يكن ذلك عنده دليلاً على أن الأقراء: الأطهار؛ إذ قد جعل الأقراء الحيض فيما روي عنه، فإذا كان هذا عند [عمر](1)، وقد خاطبه رسول الله عليه السلام به لا دليل فيه على أن القرء الطهر كان من بعده أيضًا فيه كذلك، وسنذكر ما روي عن عمر في هذا في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى.

ش: أي: وفي كون الأقراء الحيض برهان آخر: وهو أن النبي عليه السلام قد خاطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، وقد جعل عمر الأقراء الحيض؛ لأنه لم يقم عنده دليل على أن الأقراء الأطهار، فإذا لم يقم عند عمر رضي الله عنه دليل على أن القرء هو الطهر، كان مَنْ بعده أيضًا كذلك، بل بالأولى؛ لأن مثل عمر إذا لم يبلغ له إطلاق القرء على الطهر في الحديث الذي خاطبه رسول الله؛ فغيره بالطريق الأولى، فافهم.

ص: وكان مما احتج به الذين جعلوا الأقراء الأطهار أيضًا: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أنها نقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق عروة، قد جادلها في ذلك أناس، وقالوا: إن الله يقول: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) فقالت عائشة: صدقتم، أتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، قال: قال ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: "ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا- يريد الذي قالت عائشة رضي الله عنها".

(1) في "الأصل": ابن عمر. وهو خطأ أو سبق قلم، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

سورة البقرة، آية:[228].

ص: 74

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال:"إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بريء منها، ولا ترثه ولا يرثها".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحجاج، عن إبراهيم الأزرق، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:"إذا طعنت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها".

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب قال: "قضى زيد بن ثابت رضي الله عنه

فذكر مثله.

قال ابن شهاب: وأخبرني بذلك عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع "أن معاوية كتب إلى زيد بن ثابت يسأله، فكتب: إنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت منه، قال نافع: وكان ابن عمر يقوله". قالوا: فهذه أقاويل أصحاب رسول الله عليه السلام تدل على ما ذكرنا.

ش: أي وكان من الذي احتج به القوم الذين جعلوا الأقراء الأطهار: ما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا: الأقراء الأطهار. وأخرج في ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم:

أما عن عائشة فأخرجه بإسناد صحيح. ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1) والبيهقي في "سننه"(2) من حديث مالك.

قوله: "نقلت حفصة" أي نقلت عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن؛ وإنما، نقلتها لأنها لما دخلت في الدم من الحيضة الثالثة انقضت عدتها بالأطهار حتى إن

(1)"موطأ مالك"(2/ 576 رقم 1197).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 415 رقم 15159).

ص: 75

المطلقة الرجعية إذا دخلت في الحيضة الثالثة بانت على قول هؤلاء، وبهذا أخذ الزهري، وهو قول مالك والشافعي كما ذكرناه، وفي بعض النسخ:"أنها انتقلت حفصة".

قوله: "حدثنا يونس" إلى قوله: "سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن

" إلى آخره.

أخرجه مالك في "موطأه"(1).

وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، والأصح أن اسمه كنيته، روى له الجماعة.

قوله: "إلا وهو يقول هذا" أي إلا وهو يقول: إن الأقراء الأطهار، كما قالت عائشة.

وأما عن ابن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه مالك في "موطأه"(2) والبيهقي في "سننه"(3) من حديث مالك.

قوله: "فقد برئ منها" أراد أن الزوجية تنقطع بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة؛ لانقضاء عدتها بالأطهار، حتى إنه إذا مات وهي في الحيضة الثالثة لا ترثه هي، أو ماتت هي وهي فيها لا يرثها هو؛ لارتفاع الزوجية بانقضاء العدة.

وأما عن زيد بن ثابت فأخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الحجاج بن إبراهيم الأزرق، عن سفيان الثوري، عن محمد بن مسلم الزهري

إلي آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري

إلى آخره نحوه.

(1)"موطأ مالك"(2/ 5770 رقم 1198).

(2)

"موطأ مالك"(2/ 578 رقم 1201).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 415 رقم 15164).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 158 رقم 18890).

ص: 76

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه عبد الرزاق (1): عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار، عن زيد بن ثابت قال:"إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وجلت للأزواج".

وأخرجه البيهقي (2) عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت قال:"إذا رأت المطلقة قطرة من الدم في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال:"إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت منه".

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري

إلى آخره.

الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع مولى ابن عمر

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): نا سفيان، عن الزهري، عن سليمان ابن يسار "أن معاوية سأل زيد بن ثابت فقال: إذا طعنت في الحيضة الثالثة؛ فقد برئت منه".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(6/ 319 رقم 11003).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 415 رقم 15166).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 158 رقم 18895).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 158 رقم 18890).

ص: 77

وأخرجه البيهقي (1) بأتم منه من حديث مالك عن نافع، وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار:"أن الأحوص هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة، وكان قد طلقها، فكتب معاوية إلى زيد بن ثابت يسأله، فكتب إليه زيد: إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبريء منها، ولا ترثه ولا يرثها".

قوله: "قالوا: فهذه أقاويل أصحاب رسول الله عليه السلام" أي قال الذين جعلوا الأقراء أطهارًا: هذه أقاويل الصحابة، تدل على ما ذكرناه من أن الأقراء هي الأطهار لا الحيض.

ص: قيل لهم: هذا لو لم يختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في ذلك، فأما إذا اختلفوا فيه، فقال بعضهم ما ذكرتم، وقال أخرون بخلاف ذلك لم تجب بما ذكرتم لكم حجة، فمها روي خلاف ما احتجوا به من الآثار المذكورة عمن رويت عنه من أصحاب رسول الله عليه السلام الدَّالة على أن الأقراء غير الأطهار: ما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".

حدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة:"أن رجلاً طلق امرأته فحاضت حيضتين، فلما كانت الثالثة ودخلت المغتسل، أتاها زوجها فقال: قد راجعتك -ثلاثًا- فارتفعا إلى عمر رضي الله عنه، فأجمع عمر وعبد الله على أنه أحق بها ما لم تحل لها الصلاة، فردَّها عمر عليه".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول:"إذا طلق العبد امرأته ثنتين فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، حرةً كانت أو أَمةً، وعدَّة الحرة ثلاث حيض، وعدة الأمة الحيضتان".

(1)"سنن البيهقي الكبري"(7/ 415 رقم 15162).

ص: 78

فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو الذي روى عن رسول الله عليه السلام قوله لعمر: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" ولم يدل ذلك على أن الأقراء الأطهار، إذا كان قد جعلها الحيض.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا محمد بن راشد، عن مكحول:"أنه قدم المدينة فذكر له سليمان بن يسار أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فرأت أُول قطرة من دم حيضتها الثالثة فلا رجعة له عليها، قال: فسألت عن ذلك بالمدينة، فبلغني أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبا الدرداء كانوا يجعلون له عليها الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب، أنه سمع زيد بن ثابت يقول:"الطلاق إلى الرجال والعدة إلى المرأة، إن كان الرجل حرًّا وكانت المرأة أَمَة فثلاث تطليقات وتعتد عدة الأَمة حيضتين، وإن كان عبدًا وامرأته حرة طلق طلاق العبد تطليقتين واعتدت عدة الحرة ثلاث حيض".

فلما جاء هذا الاختلاف عنهم؛ ثبت أنه لا يحتج في ذلك بقول أحد منهم؛ لأنه متى احتج محتج في ذلك بقول بعضهم احتج مخالفه عليه بقول مثله، فارتفع ذلك كله أن يكون حجة لأحد الفريقين على الفريق الآخر.

ش: أي: قيل لهؤلاء الذين احتجوا في قولهم: إن الأقراء هي الأطهار بآثار عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم: نعم الاحتجاج بهذه إنما يتم ويستقيم أي لو لم يختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في ذلك فأما إذا اختلفوا فيه، فمنهم مَن قال ما ذكرتم، ومنهم من قال بخلافه لم تجب لكم بذلك حجة؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك لا يتم الاستدلال لأحد الخصمين؛ لأن أحدهما إذا ادعى أن الأقراء هي الأطهار واحتج على ذلك بآثار تدل على مدعاه؛ ينتهض الخصم الآخر ويقول: بل الأقراء هي الحيض، ويستدل على ذلك بآثار تدل على مدَّعاه،

ص: 79

فلا يحصل بهذا قطع في الاحتجاج، فحينئذٍ يرتفع هذا كله من أن يكون حجة لأحد الخصمين على الآخر، وهذا معنى قوله: "فلما جاء هذا الاختلاف عنهم أي عن الصحابة

" إلى آخره.

والصواب أن لا يقال في مثل هذا: إنه خلاف، بل يقال: إن هذا اختياره، وذلك لأن القرء لما كان لفظًا مشتركًا بين الحيض والطهر، وكان حقيقة في أحدهما عند قيام قرينة، ووردت أخبار تدل على المعنيين، اختارت طائفة أحد المعنيين، وطائفة المعنى الآخر بحسب ما قام عنده من الشاهد لذلك.

ثم إنه أخرج مما يخالف ما رووه عن جماعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت.

أما عن علي رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي رضي الله عنه قال:"هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) من حديث سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، أن عليًّا رضي الله عنه قال:"إذا طلق الرجل امرأته فهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، في الواحدة والاثنتين".

وأما عن عمر وعبد الله بن مسعود فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليًّا.

وسفيان بن سعيد هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 159 رقم 18901).

(2)

"سنن البيهقي الكبري"(7/ 417 رقم 15170).

ص: 80

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1) من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة:"أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فقالت: إن زوجي طلقني، ثم تركني حتى رددت بابي ووضعت مائي، وخلعت ثيابي، فقال: قد راجعتك، قد راجعتك، فقال عمر لابن مسعود -وهو إلى جنبه-: ما تقول فيها؟ قال: أرى أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا أرى ذلك".

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا عباد بن العوام، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم:"أن امرأة تزوجت شابًّا، وطلقها تطليقة أو تطليقتين، قال: فأتاها وهي تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال: يا فلانة، إني قد راجعتك، فقالت: كذبت، ليس ذلك إليك، فارتفعا إلي عمر بن الخطاب -وعنده عبد الله بن مسعود- فقال عمر: [ما ترى] (3) يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: أنشدك بالله، هل كنت لطمتيه بالماء؟ قالت: ما فعلتُ، قال: فقال: خُذْ يدها".

قوله: "فلما كانت الثالثة" أي الحيضة الثالثة.

قوله: "قد راجعتك ثلاثًا" أي قال ثلاث مرات: راجعتك، راجعتك، راجعتك.

قوله: "فأجمع عمر وعبد الله" أي اتفق عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما على أن الزوج أحق بتلك المرأة ما لم تحل لها الصلاة؛ لأنها ما لم تحل لها الصلاة كانت عدتها، باقية فتصح الرجعة فيها، فإذا حلَّت لها الصلاة خرجت العدة فلم يبق محلاً للرجعة.

وأما عن عبد الله بن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 417 رقم 15171).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 159 رقم 18903).

(3)

تكررت في "الأصل".

ص: 81

وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

وهذا اشتمل على أحكام:

الأول: أن العبد لا يملك من الطلقات إلا ثنتين سواء كانت امرأته حرة أو أمَة، فإذا طلق امرأته طلقتين حرمت عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وفي هذا خلاف بيننا وبين الشافعي؛ فعنده عدد الطلاق معتبر بحال الرجل، وعندنا بحال المرأة حتى إن العبد إذا كانت تحته حرة يملك عليها ثلاث طلقات عندنا، وعنده لا يملك عليها إلا طلقتين، والحر إذا كانت تحته أمَة لا يملك عليها إلا طلقتين عنده، وعندنا تلك عليها ثلاث طلقات، والمسألة مختلفة بين الصحابة؛ فروي عن علي وعبد الله بن مسعود مثل قولنا، وعن عثمان وزيد بن ثابت مثل قوله، وسيجيء الكلام فيه مستقصي.

الثاني: أن عدة الحرة ثلاث حيض.

الثالث: أن عدة الأَمَة حيضتان.

الرابع: أن هذا يدل على أن الأقراء هي الحيض؛ وذلك لأن عبد الله بن عمر هو الذي كان روى عن رسول الله عليه السلام قوله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فتلك العدة هي التي أمر أن تطلق لها النساء"، ثم إنه جعل العدة الحيض، فدلَّ ذلك أن الأقراء هي الحيض لا الأطهار.

وأما عن معاذ وأبي الدرداء فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن راشد الخزاعي أبي يحيى الشامي الدمشقي المعروف بالمكحولي، وعن أحمد: ثقة ثقة. وعن يحيى: ثقة صدوق. وعن شعبة: إنه لصدوق ولكنه شيعي أو قدري. روى له الأربعة، وهو يروي عن مكحول الشامي الدمشقي الفقيه.

(1)"موطأ مالك"(2/ 574 رقم 1193).

ص: 82

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا إسماعيل بن عياش عن عبيد الله الكلاعي، عن مكحول:"أن أبا بكر وعمر وعليًّا وابن مسعود وأبا الدرداء وعبادة بن الصامت وعبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنهم كانوا يقولون في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين: إنه أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة، ويرثها وترثه ما دامت في العدة".

وأما عن زيد بن ثابت فأخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح.

ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي، وابن وهب هو عبد الله بن وهب، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.

وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي أبو إسحاق المدني، ولُد عام الفتح وسكن الشام، وعن الشعبي: قبيصة بن ذؤيب أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. روى له الجماعة.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا إسماعيل بن عُلية، عن أيوب، عن سليمان بن يسار:"أن نُفَيعًا فتى أم سلمة طلق امرأته -وهي حرة- تطليقتين فحرصوا على أن يردوها عليه، وأبي عثمان وزيد. وقال سليمان: ويقول أحدٌ غير هذا؟! فلما قدمت المدينة كتبت إلى أبي قلابة، فكتب إليَّ: أنه حدثني مَنْ أطمئن إلى حديثه أن زيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب قالا: إذا كان زوجها حرًّا وهي أَمَة فطلاقه طلاق حرة وعدتها عدة أَمَة، وإن كان زوجها عبدًا وهي حرة فطلاقه طلاق عبد وعدتها عدة حرة".

فهذا مشتمل على حكمين:

الأول: أن الطلاق إلى الرجال. وإليه ذهب الشافعي ومالك وأحمد، وقد قلنا: إنه مختلف فيه بين الصحابة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 158 رقم 18899).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 101 رقم 18248).

ص: 83

الثاني: أنه يدل على أن الأقراء هي الحيض وهذا ظاهر لا يخفى.

ص: وكان من حجة مَنْ جعل الأقراء الحيض على مخالفه: أن قال: فإذا كانت الأقراء الأطهار، فإذا طلق المرأةَ زوجُها وهي طاهر فحاضت بعد ذلك بساعة فحسب ذلك لها قرءًا مع قرءين متتابعين كانت عدتها قرءين وبعض قرءٍ، وإنما قال الله عز وجل {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1).

ش: هذا محذور يلزم مَن قال: إن الأقراء هي الأطهار، بيانه: أن الأقراء إذا كانت أطهارًا يلزم من ذلك أن تكون عدتها قرءين وبعض قُرء، وهذا خلاف النص؛ لأن الله تعالى قال:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) توضيحه: أن الله تعالى خص الأقراء بعدد يقتضي استيفاؤه العدة، وهو ثلاثة قروء، واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاؤها بكمالها فيمن طلقها للسُنَّة؛ لأن طلاق السنة أوقعه في طهر قد جامعها فيه؛ فلا أبدًا إذا كان كذلك من أن يصادف طلاقه طهرًا قد مضى بعضه، ثم تعتد بعده بطهرين آخرين فهذان طهران وبعض الثالث، فلما تعذر استيفاء الثالث إذا أراد طلاق السُنَّة، علمنا أن الأقراء الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله. فافهم.

ويلزم محذور آخر إذا قلنا: إن الأقراء هي الأطهار؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) والثلاثة اسم خاص وضع لعدد معلوم، والخاص بمنزلة العلم قطعًا؛ لكونه بيِّنًا في نفسه، فلو حملت الأقراء على الأطهار لانتقص العدد عن الثلاثة بالطريق الذي ذكرنا فيلزم حينئذٍ ترك العمل بالخاص.

فإن قيل: لِمَ قلتم: إنه إذا احتسب الطهر الذي وقع فيه الطلاق فيكون الواجب طهرين وبعض طهر، بل الواجب ثلاثة؛ لأن بعض الطهر طهر؛ إذ المراد بالطهر أدنى ما يطلق عليه طهر وهو طهرين عندنا.

(1) سورة البقرة، آية:[228].

ص: 84

قلت: لا نسلم أن بعض الطهر طهر، بل هو ليس بطهر؛ لأن بعض الطهر لو كان طهرًا لا يكون بين الأول والثالث قرءين، فينبغي أن يكتفي في الثالث ببعضه، فإذا مضى منه شيء شرع أن يحل لها التزوج وهو خلاف الإجماع؛ ولأنه لو كان كذلك لانقضت العدة في طهر واحد، حيث إن المراد من الطهر هو الشرعي.

فإن قيل: لا يحسب الطهر الذي وقع فيه الطلاق كما هو مذهب بعض المالكية فحينئذٍ تكون باقي الأطهار كاملة، وهي أن الأقراء هي الأطهار.

قلت: الخصم لا يقول بذلك، بل هو يحسب ذلك الطهر، فحينئذٍ يجب طهران وبعض، فيجب الانتقاص عن الثلاثة، وإن قلنا على مذهب من لا يحتسب هذا الطهر الذي وقع فيه الطلاق يجب ثلاثة أطهار وبعض، فهذا أيضًا لا يجوز؛ لأنها تزيد على الثلاثة، وقد قلنا: إن الثلاث عدد خاص بمنزلة العلم بعدد معلوم لا يحتمل غيره، سواء كان أقل منه أو أكثر. فافهم.

ص: فكان حجة مَنْ ذهب إلى أن الأقراء الأطهار في ذلك: أن قال: فقد قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) فكان ذلك على شهرين وبعض الشهر، فكذلك جعلنا الأقراء الثلاثة على قرءين وبعض قرء.

ش: هذا جواب من جهة الخصم عن المحذور المذكور، بيانه أن يقال: لم لا يجوز أن يذكر الثلاثة ويراد بها الاثنان وبعض الثالث كما في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) حيث أريد به شهران وبعض الثالث؟ فكذلك نجعل الأقراء الثلاثة على قرءين وبعض قرء.

ص: فكان من حجتنا عليهم في ذلك أن الله عز وجل قال في الأقراء: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) ولم يقل في الحج: ثلاثة أشهر، ولو قال في ذلك: ثلاثة أشهر، فاجمعوا أن ذلك على شهرين وبعض شهر؛ ثبت بذلك ما قال المخالف لنا، ولكنه إنما قال:{أشهُر} (1)

(1) سورة البقرة، آية:[197].

(2)

سورة البقرة، آية:[228].

ص: 85

ولم يقل: ثلاثة، فاما ما حصره بالثلاثة فقد حصره بعدد معلوم، فلا يكون أقل من ذلك العدد، كما أنه لما قال:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (1)، فحصر ذلك بالعدد، فلم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد، فكذلك لما خص الأقراء بالعدد فقال:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) لم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد.

ش: هذا تزييف للجواب المذكور وردُّ إياه، تقريره: أن "الأشهر" اسم عام لا عَلَم فيقبل المجاز بإرادة النقص، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} (3) فإن المراد بالملائكة جبريل عليه السلام فقط، فأما أسماء الأعداد فلا يجوز فيه ذلك لكونها أعلامًا، والأعلام لا يجزئ عنها المجاز.

قوله: "لو قال في ذلك" أي لو قال الله عن الحج: الحج ثلاثة أشهر بالتنصيص على هذا العدد، ثم أجمع العلماء على أن المراد منها شهران وبعض شهر؛ كان قد ثبت بذلك ما يقوله الخصم، ولكنه إنما قال:{أَشْهُر} (4) والأشهر اسم عام يقبل المجاز كما ذكرنا.

فإذا قيل: لو أريد بالقروء الحيض على ما ذكرتم، لزمكم ما ألزمتمونا به وهو الازدياد على الثلاثة؛ وذلك أنه إذا طلقها في الحيض لا يحتسب بتلك الحيضة إجماعًا، فيجب ثلاثة أقراء وبعض، واسم الثلاثة لا يحتمل ذلك، فهذا معارضة بالمثل.

قلت: إن ذلك الازدياد ثبت ضرورة وجوب التكميل فلا يعبأ به، إذ الحيضة الواحدة إجماعًا لا تقبل التجزئة فوجب التكميل، والثابت لضرورة العمل بالنصوص لا يعد زيادةً لتخلل الأطهار والحيض بين الثلاثة على اختلاف المذهبين.

(1) سورة الطلاق، آية:[4].

(2)

سورة البقرة، آية:[228].

(3)

سورة آل عمران، آية:[42].

(4)

سورة البقرة، آية:[197].

ص: 86

وقد اعترض بأن الثلاثة اسم خاص لا يحتمل الزيادة والنقصان بأي طريق كان.

وأجيب بعد التسليم بذلك أن أحوال المسلمين محمولة على الصلاح ما أمكن، فالظاهر من حاله الإتيان بالمشروع وهو الطلاق في حالة الطهر، والاحتراز عن محظور دينه وهو الطلاق في الحيض، والله أعلم.

ص: وكان من حجة من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار أيضًا أن قال: لما كانت الهاء تثبت في عدد المذكر؛ فيقال: ثلاثة رجال. وتنتفي من عدد المؤنث فيقال: ثلاث نسوة. فقال الله عز وجل: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) فأثبت الهاء ثبت أنه أراد بذلك مذكرًا وهو الطهر لا الحيض.

ش: احتج من ذهب إلى أن الأقراء هي الأطهار أيضًا بدخول الهاء في {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1)؛ لأن الهاء لا تدخل إلا فيما يكون معدوده مذكرًا كما في قولك: ثلاثة رجال. وأما إذا كان معدوده مؤنثًا لا تدخل فيه الهاء كما في قولك: ثلاث نسوة.

فلما دخلت الهاء في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) علمنا أن معدودها مذكر وهو الطهر لا الحيض.

ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أن الشيء إذا كان له اسمان أحدهما مؤنث والآخر مذكر، فإن جُمع بالمذكر أثبتت الهاء، وإن جُمع بالمؤنث أسقطت الهاء، من ذلك أنك تقول: هذا ثوب، وهذه ملحفة، فإن جمعت بالثوب قلت: ثلاثة أثواب. وإن جمعت بالملحفة قلتَ: ثلاث ملاحف. وكذلك: هذه دار وهذا منزل لشيء واحدٍ، فكأن الشيء قد يكون واحدًا مسمَّى باسمين أحدهما مذكر والآخر مؤنث، فإذا جمع بالمذكر فُعِل فيه كما يفعل في جمع المذكر فأُثبت الهاء، وإن جُمع بالمؤنث فُعِل فيه كما يُفعل في جمع المؤنث فاُسقطت الهاء فقيل: ثلاث حيض، وإن جُمع بالقروء أثبت الهاء فقيل: ثلاثة قروء، وذلك كله اسمان لشيء واحد، فانتفى بذلك ما ذكرنا مما احتج به المخالف لنا.

(1) سورة البقرة، آية:[228].

ص: 87

ش: هذا جواب عن الاحتجاج المذكور، تقريره أن يقال: إن الحيضة وإن كانت مؤنثًا ولكن لفظ القرء مذكر فروعي فيه جانب اللفظ مع جواز الأمر الآخر؛ لأن عادة العرب شاعت في أن المعدود إذا كان مؤنثًا واللفظ مذكرًا أو بالعكس فوجهان، لكن اعتبار اللفظ عندهم أولى من اعتبار المعنى.

قال القاضي عياض: تعلق بعض أصحابنا بدخول الهاء في الثلاث في قوله سبحانه وتعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) على أن المراد بالأقراء: الأطهار، ولو أراد الحيض لقال: ثلاث قروء؛ لأن العرب تدخل الهاء في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة، وتحذفها من المؤنث.

فإتيانها في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) يدل على أن المراد الأطهار. وهذا غلط؛ لأن العرب قد تراعي في التذكير والتأنيث اللفظ المقرون به العدد، فتقول: ثلاث منازل. وهي تريد: ثلاث ديار إذ كانت الدار مؤنثة؛ لأن لفظ المنزل مذكر وقد يعتبر المعنى أحيانًا، قال ابن أبي ربيعة:

وكان مجني دون من كنتُ أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصرُ.

فأنث على معنى الشخوص لا على اللفظ.

وحكى أبو عمرو بن العلاء: أنه سمع أعرابيًّا يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها، قال: فقلت له: أفتقول: جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟

فأخبر أنه أنَّث مراعاة للفظة الصحيفة الذي لم يذكره لما كانت في المعنى؛ ففي الكتاب المذكور.

ص: فأما وجه هذا الباب من طريق النظر؛ فإنا قد رأينا الأمة جُعل عليها في العدة نصف ما جُعل على الحرَّة فكانت الأمة إذا كانت ممن لا تحيض كان عليها نصف عدة الحرة إذا كانت ممن لا تحيض وذلك شهر ونصف، فإذا كانت ممن تحيض جُعل عليها -باتفاقهم- حيضتان وأريد بذلك نصف ما على الحرة.

(1) سورة البقرة، آية:[228].

ص: 88

ولقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام: "لو قدرت أن أجعلها حيضةً ونصف لفعلت" فلما كان ما على الأمة هو الحيض لا الأطهار وذلك نصف ما على الحرة ثبت أن ما على الحرة أيضًا هو من جنس ما على الأمة وهو الحيض لا الأطهار، فثبت بذلك قول الذين ذهبوا في الأقراء إلى أنها الحيض، وانتفى قول مخالفيهم، وهذا قول في حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: وجه النظر والقياس الذي ذكره قوي؛ لأن العدة على الأمة نصف عدة الحرة بلا نزاع فإذا كانت الأمة آيسة تجعل عدتها شهرًا ونصف، وإذا كانت حائضًا تجعل عدتها حيضتان، فإذا كان ما عليها من العدة هو الحيض وذلك نصف ما على الحرة، ثبت بالضرورة أن ما على الحرة هو من جنس ما على الأمة وهو الحيض لا الأطهار.

قوله: "ولقد قال عمر رضي الله عنه:

" ذكر هذا تاكيدًا لما قاله من وجوب العمل على الأمة على نصف ما يجب على [أطراف الحديث] الحرة، وبيانًا للواجب على الأمة الاعتداد بالحيض لا بالطهر.

ألا ترى كيف قال: "لو قدرت أن أجعلها حيضةً ونصفًا" أي أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصف حيضة تحقيقًا للتنصيف، ولكن لما لم تتجزأ الحيضة جعلت كاملة فصارت حيضتان، ألا ترى أنه لما أمكن التنصيف الحقيقي في الأشهر جعلت عدتها شهرًا ونصفًا لإمكان التجزيء فيه.

ثم إن الطحاوي ذكر ما روي عن عمر رضي الله عنه معلقًا ها هنا.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) مسندًا: نا ابن عيينة، عن عمرو [سمع عمرو بن أَوْس يقول]: أخبرني رجل من ثقيف يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضةً ونصفًا فعلت".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 146 رقم 18775).

ص: 89

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، أن عمر رضي الله عنه قال:"لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضةً ونصفًا لفعلتُ. فقال رجل: يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرًا ونصفًا. فسكت".

قلت: هذا الإسناد أصح من الأول؛ لأن في الأول مجهولاً، فافهم.

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في عدة الأمة ما حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله عليه السلام: "تعتد الأمة حَيْضَتَيْن، وتطلق تطليقتين".

حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا الصلت بن مسعود الجحدري، عن عمر بن شبيب المسلي، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله عليه السلام مثله.

فدل ذلك أيضًا على ما ذكرنا والله أعلم.

ش: ذكر حديثين في عدة الأمة لدلالتهما على ما ذكره من اعتداد الأمة بحيضتين.

أحدهما: أخرجه عن عائشة رضي الله عنها رواه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، عن مظاهر -بضم الميم وبالظاء المعجمة وكسر الهاء- بن أسلم، ويقال: مظاهر بن محمد بن أسلم القرشي المخزومي المدني وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

وأخرجه أبو داود (2): نا محمد بن مسعود قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي عليه السلام:

مثله. إلا أنه قال: "وعدتها حيضتان".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 426 رقم 15231).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 664 رقم 2189).

ص: 90

وأخرجه الترمذي (1): نا محمد بن يحيى النيسابوري قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثني مظاهر بن أسلم قال: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله عليه السلام قال:"طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان".

وأخرجه ابن ماجه (2): نا محمد بن بشار، نا أبو عاصم

إلى آخره نحوه.

وقال الترمذي: حديث عائشة حديث غريب لا يعرف مرفوعًا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر بن أسلم لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث.

وقال أبو داود: وهو حديث مجهول.

وقال الخطابي: هو حديث ضعيف.

وقال البيهقي: مظاهر بن أسلم مجهول.

قلت: أما قول الترمذي: لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث. يَرُدُّه ما رواه أبو أحمد بن عدي (3)، وإسناده: عن مظاهر بن أسلم، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة".

وأما قول أبي داود: وهو حديث مجهول. يعني: لجهالة مظاهر فغير مُسَلَم؛ لأنه كيف يكون مجهولاً وقد روى عن الأئمة الكبار مثل ابن جريج والثوري وأبي عاصم النبيل.

وأما قول الخطابي: إن الحديث ضعيف. غير مسلَّم أيضًا؛ لأن مظاهرًا وثقه ابن حبان على ما ذكرنا، وقال الحاكم (4) في "المستدرك": لم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجَرْح فالحديث إذًا صحيح.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 488 رقم 1182).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 672 رقم 2080).

(3)

"الكامل"(6/ 449).

(4)

"مستدرك الحاكم"(2/ 223 رقم 2822).

ص: 91

ويشده أيضًا الحديث الثاني، وهو حديث عبد الله بن عمر الذي رواه من أصحاب السنن ابن ماجه (1).

وقال: ثنا محمد بن طريف وإبراهيم بن سعيد الجوهري قالا: ثنا عمر بن شبيب المُسْلي، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان".

وأخرجه الطحاوي: عن يزيد بن سنان، عن الصلت بن مسعود بن طريف الجحدري شيخ مسلم، عن عمر بن شبيب بن عمر المُسْلِي المذحجي الكوفي فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بثقة. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان شيخًا صدوقًا، ولكنه كان يخطئ كثيرًا.

والمُسْلي -بضم الميم وسكون السين المهملة- نسبة إلى بني مسلية.

وهو يروي عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي روى له الجماعة، عن عطية بن سَعْد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي الكوفي، فيه مقال؛ فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن أبي زرعة: لين. وعن يحيى بن معين: صالح. روى له الأربعة غير الترمذي.

فهذان الحديثان يشدُّ بعضهما بعضًا ولا سيما وافقهما ما روي عمن نذكرهم من الصحابة والتابعين ممن قولهم: "طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حَيْضتان".

ويستفاد منهما أحكام:

الأول: فيه دلالة صريحة أن عدة الأمة حيضتان وقال ابن حزم في "المحلى": مذهب جمهور السلف من الصحابة والتابعين أن عدة الأمة حيضتان، وصح عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 672 رقم 2079).

ص: 92

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا علي بن مُسْهر، عن سعيد، عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي رضي الله عنه:"عدة الأمة حيضتان، فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف".

وكذا روي عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والحسن البصري والزهري وعطاء بن أبي رباح والشعبي، وهذا كله حجة على الشافعي ومن تبعه من أن عدة الأمة طهران.

الثاني: فيه دلالة على أن المراد من الأقراء الحيض لا الأطهار؛ لأنه إذا ثبت أن عدة الأمة حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض، وثبت أن الأقراء هي الحيض مع ما تأيد بحديث:"المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها"، وقوله عليه السلام في سبايا أوطاس:"لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة"(2).

الثالث: فيه دلالة صريحة أن عدد الطلاق يعتبر بحال المرأة؛ لأن النبي عليه السلام جعل طلاق جنس الإماء ثنتين؛ لأنه أدخل لام الجنس على الأمة في رواية أبي داود (3): "طلاق الأمة تطليقتان" كأنه قال: طلاق كل أمة ثنتان من غير فصل بين ما إذا كان زوجها عبدًا أو حرًا، وهذا أيضًا حجة على الشافعي ومن تبعه في قولهم: عدد الطلاق يعتبر بالرجال.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 146 رقم 18768).

(2)

أخرجه أبو داود في "السنن"(2/ 224 رقم 2295)، وأحمد في "المسند"(3/ 28 رقم 11244)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 329 رقم 10572).

(3)

تقدم.

ص: 93