الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الأمة تعتق ولها زوج هل لها خيار
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم الأمة يعتقها مولاها ولها زوج، هل لها خيار في نفسها أم لا؟
ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان زوج بريرة حرًّا، فلما عتقت خيرها رسول الله عليه السلام فاختارت نفسها".
ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا بشر عبد الملك ابن مروان الرقي.
وأبو معاوية اسمه محمد بن خازم -بالمعجمتين- الضرير.
والأعمش هو سليمان. وإبراهيم هو النخعي. والأسود هو ابن يزيد النخعي.
وأخرجه أبو داود (1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أن زوج بريرة كان حرًّا حين أعتقت، وأنها خيِّرت، فقالت: ما أحب أن أكون معه وأن لي كذا وكذا".
وأخرجه الترمذي (2): وقال: نا هناد، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان زوج بريرة حرًّا، فخيرها رسول الله عليه السلام.
وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "اشتريت بريرة، فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام فقال: أعتقيها فإنما الولاء لمن أعطى الوَرِق، قالت: فأعتقتها، فدعاها
(1)"سنن أبي داود"(2/ 270 رقم 2235).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 461 رقم 461).
(3)
"المجتبى"(6/ 163 رقم 3449).
رسول الله عليه السلام فخيرها من زوجها، قالت: لو أعطاني كذا وكذا ما أقمت عنده، فاختارت نفسها، وكان زوجها حرًّا".
وأخرجه ابن ماجه (1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أنها أعتقت بريرة، فخيرها النبي عليه السلام، وكان لها زوج حر" انتهى.
وبريرة كانت مولاةً لعتبة بن أبي لهب، وقال أبو عمر: كانت مولاة لبعض بني هلال، فكاتبوها، ثم باعوها من عائشة رضي الله عنها.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلي هذا الحديث، وجعلوا للمعتقة الخيار، حرًّا كان زوجها أو عبدًا.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي والنخعي والثوري ومحمد بن سيرين وطاوسًا ومجاهدًا وحماد بن أبي سليمان والحسن بن مسلم وأبا قلابة وأيوب السختياني والحسن بن صالح وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأبا ثور؛ فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث، وقالوا: الأمة إذا أعتقت لها الخيار في نفسها، سواء كان زوجها حرًّا أو عبدًا.
وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا.
وقال ابن حزم: وإذا كانت مملوكة لها زوج عبد أو حر ولو أنه قرشي، فأعتقت في واجب أو تطوعًا أو تمام أداء كتابتها أو بأي وجه عتقت، فإنها تخيَّر، فإن اختارت فراقه فلها ذلك وإن اختارت أن تقر عنده فلها ذلك، وقد بطل خيارها، وعليها العدة في اختيارها فراقه كعدة الطلاق.
ثم قال: ومما اختلفوا فيه: هل اختيارها فراق زوجها فسخ أو طلاق؟
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 670 رقم 2074).
فصحَّ عن قتادة أنها واحدة بائنة، ورويناه عن عمر بن عبد العزيز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما.
وعن عطاء أنها طلقة واحدة.
وصحَّ أنه فسخٌ لا طلاق عن حماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي، ورويناه عن طاوس، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي سليمان وأصحابهم.
ومما اختلفوا فيه: إن خُيِّرت قبل الدخول فاختارت فراقه ماذا لها من الصداق؟
فقال قوم: لا صداق لها. صحَّ ذلك عن الزهري، وصَحَّ عن قتادة: لها نصف الصداق وقال أصحابنا: لها الصداق كله.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن كان زوجها عبدًا فلها الخيار، وإن كان حرًا فلا خيار لها.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن أبي ليلى والأوزاعي والزهري والليث بن سعد والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا أُعتقت الأمة، فإن كان زوجها عبدًا فلها الخيار، وأن كان حرًّا فلا خيار لها.
قال ابن حزم: صح ذلك عن الزهري وعطاء وصفية بنت أبي عبيد وعروة بن الزبير، ونسب قوم ذلك إلى ابن عباس ولا نعلم هذا عنه.
ص: وقالوا: إنما كان زوج بريرة عبدًا، وذكروا في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"كان زوج بريرة عبدًا، ولو كان حرَّا لم يخيرها رسول الله عليه السلام".
حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد وابن أبي حازم، عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم -قال عبد العزيز:
عن أبيه- قالا: عن عائشة: "أن النبي عليه السلام لما أعتقت بريرة خيَّرها، وكان زوجها عبدًا".
قالوا: فهذه عائشة رضي الله عنها تخبر أن زوج بريرة كان عبدًا، فهذا خلاف ما رويتموه عن الأسود، ثم قالت عائشة: "لو كان حرًّا لم يخيرها رسول الله عليه السلام.
ش: أي قال أهل المقالة الثانية: كان زوج بريرة عبدًا؛ لأن عائشة أخبرت في حديثها أن زوجها كان عبدًا؛ فهذأ خلاف ما رواه الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة أن زوجها كان حرَّا"
وأيضًا قالت عائشة: "لو كان زوجها حرَّا لم يُخَيِّرْهَا رسول الله عليه السلام".
وأخرجه من طريقين:
الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي شيخ مسلم، عن جرير بن عبد الحميد، عن هشام
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): عن أبي كريب ووكيع وزهير وإسحاق، جميعًا عن جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن أحمد بن داود المكي أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، روى له الجماعة، وعبد العزيز بن أبي حازم -واسمه سلمة بن دينار المدني- روى له الجماعة، كلاهما عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه مسلم (1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أنها اشترت بريرة من أناسٍ من الأنصار واشترطوا الولاء، فقال رسول الله عليه السلام: الولاء لمن ولي النعمة، وخيَّرها رسول الله عليه السلام وكان زوجها عبدًا".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1143 رقم 1504).
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا حسين بن علي والوليد بن عقبة، عن زائدة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أن بريرة خيَّرها رسول الله عليه السلام وكان زوجها عبدًا".
وأخرجه النسائي (2): أنا القاسم بن زكرياء بن دينار، نا حسين، عن زائدة، عن سماك
…
إلى آخره نحو رواية مسلم.
وقال البيهقي (3) بعد أن روى حديث بريرة من طريق سفيان وأبي عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أن زوج بريرة كان حرًّا". لفظ سفيان، هكذا أدرجه "وكان حرًّا" من قول الأسود، فإن أبا عوانة فصله، ولفظه:"أنها اشترت بريرة واشترط أهلها ولاءها، قالت: يا رسول الله إني اشتريتها لأُعْتِقَهَا، وإن أهلها يشترطون ولاءها، فقال: أعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق -أو لمن أعطى الثمن- فاشترتها فأعتقتها، قال: وخُيِّرَت فاختارت نفسها، فقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنتُ معه. قال الأسود: وكان زوجها حرًّا".
قال البخاري: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس:"رأيته عبدًا"[أصح](4).
وروى البيهقي الحديث أيضًا (5) من طريق ابن راهويه، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أنها أرادت أن تشتري بريرة
…
" فذكر الحديث، وفي آخره: قال الأسود: عن عائشة وفيه: "اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق، وخيرها من زوجها، وكان زوجها حرًّا
…
" الحديث.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 270 رقم 2234).
(2)
"المجتبى"(6/ 165 رقم 3452).
(3)
"السنن الكبرى"(7/ 223 رقم 14054).
(4)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح البخاري"(6/ 2482 رقم 6373)، و"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 223 رقم 14054).
(5)
"السنن الكبرى"(7/ 223 رقم 14055).
ثم قال (1): هكذا أدرجه أبو داود.
ورواه البيهقي (2) أيضًا من حديث آدم عن شعبة نحوه. وفيه: قال الحكم: قال إبراهيم: "وكان زوجها حرًّا".
ورواه (3) عن حفص بن عمر، عن شعبة، وفي آخره: قال الحكم: "وكان زوجها حرًّا".
ثم قال: قال البخاري: قول الحكم مرسل، وقال ابن عباس:"رأيته عبدًا".
ثم قال البيهقي: وروى القاسم وعروة ومجاهد وعمرة، عن عائشة:"أنه كان عبدًا". قال إبراهيم بن أبي طالب (4): خالف الأسود الناس في قوله: "كان حرًّا".
قلت: إذا كان في السند الأول من قول الأسود، وفي الثاني من قول إبراهيم أو الحكم وقد أدرجها في الحديث فقول البخاري في الأول: منقطع، وفي الثاني: مرسل، مخالف للاصطلاح (5)؛ إذ الكلام الموقوف على بعض الرواة لا يسمى منقطعًا ولا مرسلاً، وقد تابع منصورًا الأعمشُ فرواه كذلك عن إبراهيم. هكذا أخرجه الطحاوي كما ذكر، وابن ماجه (6)
(1) إنما قال البيهقي هذا القول على الرواية التي تلي هذه وهي من طريق أبي داود، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم به. وهي في "السنن الكبرى"(7/ 223 رقم 14056)، ونص كلامه: هكذا أدرجه أبو داود الطيالسي وبعض الرواة عن شعبة في الحديث، قد جعله بعضهم من قول إبراهيم، وبعضهم من قول الحكم.
(2)
"السنن الكبرى"(7/ 224 رقم 14057).
(3)
الضمير في "رواه" عائد على البخاري: فقد قال البيهقي بعد ذكره رواية آدم السابقة: رواه البخاري في "الصحيح" عن آدم دون هذه اللفظة ورواه عن حفص بن عمر عن شعبة، وفي آخره: قال الحكم: "وكان زوجها حرًّا".
(4)
"السنن الكبرى"(7/ 244 رقم 14058).
(5)
علم المصطلح لم يدون وينشأ إلا بعد وفاة البخاري بأزمان، ومراد البخاري: أن كلام الأسود أو إبراهيم أو الحكم غير مسند -أي لم يسندوه، ولم يدركوه-.
(6)
"سنن ابن ماجه"(1/ 670 رقم 2074).
أيضًا والترمذي (1) وقال: حسن صحيح، وقول إبراهيم بن أبي طالب: خالف الأسود الناس غير مُسَلَّم، بل وافقه على ذلك القاسم وعُروة في رواية، وابن المسيب.
روى عبد الرزاق (2): عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن المسيب قال:"كان زوج بريرة حرًّا".
وإذا اختلفت الآثار في زوجها وجب حملها على وجه لا يكون فيها تضاد، والحريّة تعقب الرقّ، ولا ينعكس، فثبت أنه كان حرًّا عندما خيرت، عبدًا قبله، ومَنْ أخبر بعبوديته لم يعلم بحريته قبل ذلك.
وقال ابن حزم ما ملخصه (3): أنه لا خلاف أن من شهد بالحرية يقدم على من شهد بالرق؛ لأن عنده زيادة علم، ثم لو لم يُختلف أنه كان عبدًا هل جاء في شيء من الآثار أنه عليه السلام إنما خيرها لأنه كان عبدًا، وبين من يدعي أنه إنما خيرها لأنه كان حرًّا، وكان أسود، واسمه مغيث، فالحق أنه إنما خيرها لكونها أعتقت؛ فوجب تخيير كل معتقة.
ولأنه روي في بعض الآثار أنه عليه السلام قال لها: "ملكتِ نفسك فاختاري" كذا في "التمهيد"(4).
فكل مَنْ ملكت نفسها تختار، سواء كان زوجها حرًّا أو عبدًا، ويأتي عن قريب ما قاله الطحاوي في وجه التوفيق بين هذه الأخبار، وقد أكثر الناس في معاني هذه الأحاديث المروية في قصة بريرة، وتخريج وجوهها؛ فلمحمد بن جرير الطبري في ذلك كتاب، ولمحمد بن خزيمة في ذلك كتاب، ولجماعة في ذلك أبواب، أكثر ذلك تكلف واستنباط واستخراجات محتملة وتأويلات ممكنة لا يُقطع بصحتها.
(1)"جامع الترمذي"(3/ /461 رقم 1155).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(7/ 254 رقم 13031).
(3)
"المحلى"(10/ 156 - 157).
(4)
"التمهيد"(3/ 57).
ص: قيل لهم: أما هذا الحرف فقد يجوز أن يكون من كلام عائشة، وقد يجوز أن يكون من كلام عروة.
ش: أي قيل لأهل هذه المقالة -وهي المقالة الثانية-: هذا جواب عن قولهم: هذه عائشة تخبر أن زوج بريرة كان عبدًا، وأراد بـ"هذا الحرف" هو قولهم:"وكان زوجها عبدًا"، فهذا يحتمل أن يكون من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام عروة بن الزبير، فالاحتمال لا يُثْبِت الاحتجاج القطعي.
ولئن سلمنا أنه كان من كلام عائشة ولكن قد تعارضت روايتاها فسقط الاحتجاج بها.
وأيضًا فالذي رواه أهل المقالة الثانية يُبْقي الرق، والمثبت أولى؛ لأن البقاء قد يكون باستصحاب الحال، والثبوت يكون بناء على الدليل لا محالة، فمن قال:"كان عبدًا" احتُمل أنه اعتمد استصحاب الحال، ومن قال:"كان حرًّا" بني الأمر على الدليل لا محالة، فصار كالمزكيين جَرح أحدهما شاهدًا والآخر زكاه، أنه يؤخذ بقول الجارح (1) لما قلنا. كذا هذا.
ص: واحتج أهل هذه المقالة في تثبيت ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدًا: بما حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عثمان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا، فخيَّرها النبي عليه السلام، وأمرها أن تعتد".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد عن ابن عباس قال: "لما خُيِّرت بريرة، رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته، فكلم له العباس النبي عليه السلام أن يطلب إليها، فقال لها رسول الله عليه السلام: زوجك وأبو ولدك، فقالت: أتأمرني به يا رسول الله؟
(1) وفي هذا نظر؛ فليس الأمر على عمومه، كما هو معلوم في علم الجرح والتعديل.
فقال: إنما أنا شافع، قالت: إن كنت شافعًا فلا حاجة لي فيه، واختارت نفسها، وكان يقال له: مغيث، وكان عبدًا لآل المغيرة من بني مخزوم".
قالوا: فإنما خيرها رسول الله عليه السلام من أجل أن زوجها كان عبدًا.
ش: أي واحتج أهل المقالة الثانية في تثبيت ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدًا، يعني في تحقيق كونه عبدًا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال: إن زوج بريرة كان عبدًا أسود، وكان يقال له: مغيث، وكان عبدًا لآل المغيرة من بني مخزوم، فخير رسول الله عليه السلام بريرة وأمرها أن تعتد، وقالوا: إنما خير رسول الله عليه السلام بريرة لأجل كون زوجها عبدًا.
وأخرجه عن ابن عباس من طريقين صحيحين:
الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري (1) مختصرًا: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة وهمام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"رأيته عبدًا -يعني زوج بريرة-".
وأخرجه أبو داود (2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا، فخيرها -يعني النبي عليه السلام وأمرها أن تعتد".
وأخرجه الترمذي (3) والنسائي (4) وابن ماجه (5) بمعناه.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2023 رقم 4976).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 270 رقم 2232).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 462 رقم 1156).
(4)
"المجتبى"(8/ 245 رقم 5417).
(5)
"سنن ابن ماجه"(1/ 671 رقم 2075).
الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود.
عن هشيم بن بشير، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري (1): نا محمد، أنا عبد الوهاب، نا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يَطُوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي عليه السلام لعباسٍ: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟! فقال النبي عليه السلام: لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه".
وأخرجه أبو داود (2): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن خالد الحذاء، عن عكرمة [عن ابن عباس] (3):"أن مغيثًا كان عبدًا، فقال: يا رسول الله، اشفع إليها، فقال رسول الله عليه السلام: يا بريرة اتقي الله؛ فإنه زوجك وأبو ولدك، فقالت: يا رسول الله، تأمرني بذلك؟ قال: إنما أنا شافع، فكأن دموعه تسيل على خده، فقال رسول الله عليه السلام: ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه".
قوله: "يسمى مغيثًا" هو بضم الميم، وكسر الغبن المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره ثاء مثلثة.
قوله: "وأمرها أن تعتد"؛ لأنها باختيارها نفسها انقطع النكاح بينهما فعليها العدة، وقد ذكرنا أن الفرقة بينهما فسخ أو طلاق، وقال الكاساني في "البدائع": وإذا اختارت نفسها حتى وقعت الفرقة كانت فرقة بغير طلاق، فلا تفتقر هذه الفرقة إلى قضاء القاضي بخلاف الفرقة بخيار البلوغ.
قوله: "ودموعه تسيل" جملة اسمية حالية.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2023 رقم 4979).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 270 رقم 2231).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".
قوله: "زوجك" مبتدأ محذوف أي: بريرة، زوجك وأبو ولدك.
ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن أولى الأشياء بنا إذا جاءت الآثار هكذا فوجدنا السبيل إلى أن نحملها على غير التضاد أن نحملها على ذلك ولا نحملها على التضاد والتكاذب، ويكون حال رواتها عندنا على الصدق والعدالة فيما رووا حتى لا نجد بدًا من أن نحملها على خلاف ذلك.
فلما ثبت أن ما ذكرنا كذلك، وكان زوج بريرة قد قيل فيه: إنه كان عبدًا في حال، حرًّا في حالٍ أخرى، فثبت بذلك تأخر إحدى الحالتين عن الأخرى، فكان الرق قد تكون بعده الحرية، والحرية لا يكون بعدها رقٌّ، فلما كان ذلك كذلك جعلنا حال العبودية متقدمًا، وحال الحرية متأخرًا فثبت بذلك أنه كان حرًّا في وقت ما خُيرت بريرة، عبدًا قبل ذلك.
هكذا تصحيح الآثار في هذا الباب، ولو اتفقت الروايات كلها على أنه كان عبدًا لما كان في ذلك ما ينفي أن يكون إذا كان حرًّا زال حكمه عن ذلك؛ لأنه لم يجئ عن رسول الله عليه السلام أنه قال: إنما خيرتها لأن زوجها عبدٌ، ولو كان ذلك كذلك لانتفى أن يكون لها خيار إذا كان زوجها حرًّا، فلما لم يجئ من ذلك شيء، وجاء عنه أنه خَيَّرها وكان زوجها عبدًا نظرنا هل يفترق في ذلك حكم الحر وحكم العبد؟
فنظرنا في ذلك فرأينا الأَمَة في حال رقها، لمولاها أن يعقد النكاح عليها للحر والعبد، ورأيناها بعدما تعتق ليس له أن يستأنف عليها عقد نكاح لحر ولا لعبد، فاستوى حكم ما إلى المولى في العبيد والأحرار، وما ليس إليه في العبيد والأحرار، فلما كان ذلك كذلك، ورأيناها إذا أعتقت بعد عقد مولاها نكاح العبد عليها يكون لها الخيار في حلّ النكاح عنها، كان كذلك في الحرة إذا أعتقت يكون لها حلّ نكاحه عنها قياسًا ونظرًا على ما بينا من ذلك.
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي فكان من الحجة والبرهان على أهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب على احتجاجهم في تحقيق ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدًا بحديث ابن عباس.
تقرير ذلك أن يقال: احتجاجكم بهذه الطريقة فاسد؛ لأنكم تحققون الخبر الذي فيه أن زوج بريرة كان عبدًا، وتهملون الخبر الذي فيه أنه كان حرًّا، مع أن كِلَا الخبرين صحيح، فهذا ليس من شرط الاحتجاج، بل الوجه في مثل هذا الموضع أن تحمل هذه الآثار التي تجيء متعارضة على وجه لا يكون فيه التضاد ولا التخالف، وهذا هو الواجب؛ لما في ذلك من حمل الآثار على التعادل والتوافق، وحمل حال رواتها على الصدق والعدالة فيما رووا من ذلك.
فإذا ثبت هذا فنقول: قد اختلف في زوج بريرة فقيل: كان عبدًا، وقيل: كان حرًّا، وهاتان صفتان لا تجتمعان في حالة واحدة، فنجعلهما في حالتين، بمعنى أنه كان عبدًا في حالة، حرًّا في حالة أخري، فبالضرورة تكون إحدى الحالتين متأخرة عن الأخرى، وقد عُلم أن الرق تعقبه الحرية، والحرية لا يعقبها الرق، وهذا مما لا نزاع فيه، فإذا كان كذلك جعلنا حال العبودية متقدمة، وحال الحرية متأخرة؛ لما ذكرنا.
فثبت بهذه الطريقة أنه كان حرًّا في الوقت الذي خيرت فيه بريرة، وعبدًا قبل ذلك، فيكون قول من قال:"كان عبدًا"، محمولًا على الحالة المتقدمة، وقول من قال:"كان حرًّا"، محمولًا على الحالة المتأخرة، فإذًا لا يبقى تعارض ويثبت قول من قال:"إنه كان حرًّا" ويتعلق الحكم به.
قوله: "ولو اتفقت الروايات كلها
…
" إلى آخره. جواب آخر بطريق التسليم، يعني لو سلمنا أن جميع الروايات أخبرت بأن زوج بريرة كان عبدًا فليس فيه ما يدل على صحة ما يذهبون إليه من أن زوج الأمة إذا كان حرًّا، فأعتقت الأمة، ليس لها الخيار؛ لأنه ليس فيه ما يدل على ذلك؛ لأنه لم يأت عنه عليه السلام أنه قال: إنما خيرتها
لأن زوجها عبد، وهذا لا يوجد أصلاً في الآثار، فثبت أنه إنما خيرها لكونها قد أعتقت، فحينئذٍ يستوي في ذلك أن يكون زوجها حرًّا أو عبدًا. فافهم.
وها هنا شيء آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ملكها بضعها علةً لثبوت الخيار لها، حيث قال لها -على ما جاء في بعض الروايات-:"ملكت بضعك فاختاري" وفي رواية "نفسك" فأخبر أنها ملكت نفسها، ثم أعقبه بإثبات الخيار لها بحرف التعقيب، وملكها نفسها يؤثر في دفع الولاية في الجملة؛ لأن الملك اختصاص، والحكم إذا ذكر عقيب وصف له أثر في الجملة في جنس ذلك الحكم في الشرع؛ كان ذلك تعليقًا لذلك الحكم بذلك الوصف كما في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
…
} (1)، وقوله: {لزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
…
} (2)، وروي أن ماعزًا زنى فرجم، والحكم يتعمم بعموم العلة، ولا يتخصص بخصوص المحل كما في سائر العلل الشرعية والفعلية، فزوج بريرة -وإن كان عبدًا- لكن النبي عليه السلام لما بني الخيار فيه على معنى عام -وهو ملك البضع- يعتبر عموم المعنى لا خصوص المحل. فافهم.
قوله: "فنظرنا في ذلك
…
" إلى آخره. بيان وجه النظر والقياس في هذا الباب، وهو ظاهر.
ص: وقد روي ذلك أيضًا عن طاوس:
حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه قال:"للأمة الخيار إذا أعتقت، وإن كانت تحت قرشي".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه قال:"لها الخيار" يعني في العبد والحرِّ، قال: وأخبرني الحسن بن مسلم مثل ذلك".
(1) سورة المائدة، آية:[38].
(2)
سورة النور، آية:[2].
ش: أي قد روي نحو قول أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله عن طاوس بن كيسان اليماني.
أخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: على شرط مسلم، عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه.
وأخرجه عبد الرزاق (1): عن سفيان، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه -في الأمة تعتق تحت زوج-:"أنهما تخير ولو كانت تحت قرشي".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه
…
إلى آخره.
قوله: "قال: وأخبرني الحسن بن مسلم" أي قال ابن جريج: وأخبرني الحسن بن مسلم بن يناق المكي -وهو ممن روى لهم الجماعة سوى الترمذي- مثل ما أخبرني ابن طاوس، عن أبيه.
وأخرجه عبد الرزاق (2): عن ابن جريج، عن حسن بن مسلم قال:"إذا أعتقت عند حر، فلها الخيار". وأخرج ابن حزم (3) مثل ذلك عن جماعة من الصحابة وغيرهم فقال: وروينا من طريق سعيد بن منصور: نا هشيم، أنا ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أنه كان يجعل لها الخيار على الحرِّ، وبه يقول هشيم".
ومن طريق الحجاج بن منهال، ثنا يزيد بن زريع، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا أعتقت الأمة فلها الخيار ما لم يطأها زوجها". فَعَمَّ عمر رضي الله عنه، ولم يَخُص عبدًا من حرٍّ.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(7/ 255 رقم 13035).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(7/ 254 رقم 13033).
(3)
"المحلى"(10/ 153).
ومن طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي أنه قال في الأمة تعتق تحت زوج:"فهي عليه بالخيار؛ حرًّا كان أو عبدًا، ولو أنه هشام بن عبد الملك".
ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم، عن الشعبي قال:"إذا أعتقت تحت حرٍّ فلها الخيار".
ومن طريق معمر، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين:"إذا أعتقت عند حرٍّ فلها الخيار".
***