الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل ينفي ولد امرأته حين يولد هل يلاعن به أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يقول لامرأته حين ولادتها: الولد هذا ليس منِّي، هل يترتب على ذلك اللعان أم لا؟
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان (ح).
وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد -قال ربيع في حديثه: مولى الحسن بن علي- عن رباح قال: أتيت عثمان بن عفان قال: "إن رسول الله عليه السلام قضى أن الولد للفراش.
ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وحبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي البصري، روى له الجماعة، والحسن بن سعد القرشي الهاشمي الكوفي مولي على بن أبي طالب، وقال الربيع في حديثه: مولى الحسن بن علي بن أبي طالب، وثقه النسائي وابن حبان، وروى له مسلم ومن الأربعة غير الترمذي.
ورباح -بالباء الموحدة- الكوفي من الموالى وثقه ابن حبان.
وروى له أبو داود (1) هذا الحديث: نا موسى بن إسماعيل، قال: نا مهدي بن ميمون أبو يحيى، قال: نا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب، عن رباح، قال: "زوجني أهلي أمة لهم رومية، فوقعت عليها، فولدت غلامًا أسود مثل فسميته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلامًا أسود مثلي فسميته عبيد الله، ثم طبن لها غلام لأهلي رومى -يقال له يوحنة- يراطنها بلسانه، فولدت غلامًا كأنه وزغة من الوزغات، فقلت لها: ما هذا؟ قالت: ليوحنة. فرفعنا إلى عثمان رضي الله عنه-أحسب قال مهدي- قال: فسألهما، فاعترفا، فقال لهما: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء
(1)"سنن أبي داود"(2/ 283 رقم 2275).
رسول الله عليه السلام، إن رسول الله عليه السلام قضى أن الولد للفراش، وأحسبه قال: فخجدها وجلده، وكانا مملوكين".
قوله: "ثم طبن" بالباء الموحدة بعد الطاء من الطبن والطبانة، وهي الفطنة، يقال: طبن لكذا طبانة فهو طبن، أي هجم على باطنها وخبر أمرها، وأنها ممن تواتيه على المروادة، هذا إذا روي بكسر الباء، وإن روي بفتحها كان معناه: خببها وأفسدها.
ويستفاد منه: أن الولد للفراش، وأنه بالنفي لا ينتفى، وأنه لا يوجب اللعان، وإليه ذهب جماعة على ما نبين إن شاء الله.
وفيه دلالة على أن من أنكر ولده بالعزل فإنه يلحق به الولد، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: وكذلك كل من وطأ في موضع يمكن وصول الماء منه إلى الفرج وكذلك الدبر فإن الماء قد يخرج منه إلى الفرج، حكاه ابن المواز، ويبعد عندي إن لحق من الوطأ في غير الفرج ولد، ولو صح هذا لما جاز أن تحد امرأة ظهر بها حمل ولا زوج لها؛ لجواز أن يكون من وطأ في غير الفرج، فلا يجب به حَدٌّ وإن وجبت به عقوبة.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله عليه السلام قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر".
ش: إسناده صحيح ورجالهم كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه عبد الله بن وهب وأبو جعفر العقيلي والقعنبي عن مالك في غير "الموطأ" هكذا مختصرًا، ورواه غيرهم عن مالك بأتم منه مثل ما أخرجه في "الموطأ" (1): عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت:
(1)"موطأ مالك"(2/ 739 رقم 1418).
"كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي قد كان عهد إليَّ فيه، فقام إليه عبد بن زمعة وقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله عليه السلام، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي قد كان عهد إليَّ فيه. وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي عليه السلام: هو لك يا عبد بن زمعة. ثم قال رسول الله عليه السلام: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه. لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقى الله".
وأخرجه البخاري (1): من طريق مالك نحوه، وكذلك بقية الجماعة (2) غير الترمذي.
وعتبة بن أبي وقاص هو أخو سعد بن أبي وقاص لأبيه، شهد أحدًا مع المشركين، ويقال: هو الذي رمى رسول الله عليه السلام وكسر رباعيته ودمَّى وجهه، ومات بعد ذلك كافرًا.
وأصل القضية: أنهم كانت لهم في الجاهلية إماء يبغين، وكانت السادة يأيتهن في خلال ذلك، فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدعيه السيد وربما يدعيه الزاني، فإن مات السيد ولم يكن ادَّعاه ولا أنكره، فادَّعاه ورثته لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القسمة، وإن كان السيد أنكره لم يلحق به بحال، وكان لزمعة بن قيس والد سودة زوج النبي عليه السلام أمة على ما وصف من أن عليها خريبة وهو يُلم بها، فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة أخي سعد بن أبي وقاص وهلك كافرًا، فعهد إلى أخيه سعد قبل موته، فقال: استلحق الحمل
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1007 رقم 2594).
(2)
مسلم (2/ 1080 رقم 1457)، وأبو داود (2/ 282 رقم 2273)، والنسائي (6/ 181 رقم 3487)، وابن ماجه (1/ 646 رقم 2004).
الذي بأمة زمعة، فلما استلحقه سعد خاصمه عبد بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد بن زمعة: بل هو أخي، ولد على فراش أبي، يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإِسلام، فقضى رسول الله عليه السلام لعبد بن زمعة؛ إبطالا الحكم الجاهلية.
قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" قال الطحاوي: معناه هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن يمنع بيدك عليه كل من سواك منه كما قال في اللقطة: هي لك بيدك عليها، يدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها ليس على أنه ملك له، ولا يجوز أن يجعله رسول الله عليه السلام ابنا لزمعة ثم يأمر أخته تحتجب عنه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى النبي عليه السلام.
وقال الطبري: هو لك يا عبد بن زمعة معناه: هو لك عبد؛ لأنه ابن وليدة أبيك، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد، يريد أنه لما لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها ولا شهد بذلك عليه، كانت الأصول تدفع قول ابنه عليه، لم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبع لأمه، وأمر سودة بالاحتجاب منه؛ لأنها لم تملك منه إلا شقصًا، وقال أبو عمر: هذا تحكم من الطبري، وهو خلاف ظاهر الحديث.
قوله: "احتجبي عنه يا سودة" أشكل معناه قديما على العلماء، فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرم الحلال وأن الزنا لا تأثير له في التحريم، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، أي أن قوله كان ذلك منه على وجه الاحتياط والتنزه، وأن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، هذا قول الشافعي، وقالت طائفة: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر، فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر وهو الولد للفراش، وحكم باطن وهو الاحتجاب من أجل الشبه، وكأنه قال: ليس بأخٍ لك يا سودة إلا في حكم الله، فأمرها بالاحتجاب منه.
قلت: ومن هذا أخذ أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد: أن وطء الزنا أنه محرم وموجب للحكم وأنه يجري مجرى الوطء الحلال في التحريم منه، وحملوا أمره عليه السلام لسودة بالاحتجاب على الوجوب، وهو أحد قولي مالك، وفي قوله الآخر: الأمر ها هنا للاستحباب، وهو قول الشافعي وأبي ثور؛ وذلك لأنهم يقولون: إن وطء الزنا لا يحرم شيئًا، ولا يوجب حكمًا، والحديث حجة عليهم.
قوله: "الولد للفراش" أي لصاحب الفراش، وأجمعت جماعة من العلماء بأن الحرة فراش بالعقد عليها، مع إمكان الوطء وإمكان الحمل، فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل، فالولد لصاحب الفراش لا ينتفي عنه أبدًا بدعوى غيره، ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان.
واختلف الفقهاء في المرأة يطلقها زوجها في حين العقد عليها بحضرة الحاكم أو الشهود، فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدًا من ذلك الوقت عقيب العقد، فقال مالك والشافعي: لا يلحق به؛ لأنها ليست بفراش له، إذ لم يمكنه الوطء في العصمة، وهو كالصغير أو الصغيرة اللذين لا يمكن منهما الولد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي فراش له، ويلحق به ولدها.
واختلفوا في الأمة، فقال مالك: إذا أقر بوطئها صارت فراشا، وإن لم يدع استبراء لحق به ولدها وإن ادعى استبراء من ولدها، وقال العراقيون: لا تكون الأمة فراشًا بالوطء إلا بأن يدعي سيدها ولدها، وأما إن نفاه فلا يلحق به، سواء أقر بوطئها أو لم يُقر وسواء استبرأ أو لم يستبرئ.
قوله: "وللعاهر الحجر" العاهر الزاني، فقيل: معناه أن الحجر يرجم به الزاني المحصن، وقيل: معناه أن الزاني له الخيبة ولاحظ له في الولد؛ لأن العرب تجعل هذا مثلًا في الخيبة، كما يقال: له التراب إذا أراد له الخيبة.
والعهر: الزنا ومنه الحديث: "اللهم أبدله بالعهر العفة" وقد عهر الرجل إلى المرأة يعْهر إذا أتاها للفجور، وقد عيهرت هي وتعيهرت إذا زنت.
وقال أبو عمر: قد قيل: معناه أن الزاني لا شيء له في الولد ادعاه أو لم يدعه، فإنه لصاحب الفراش دونه لا ينتفي عنه أبدًا إلا بلعان، وقوله:"وللعاهر الحجر" كقولهم: بفيك الحجر: أي لا شيء لك، قالوا: ولم يقصد بقوله: "وللعاهر الحجر" الرجم، وإنما قصد به إلى نفي الولد، واللفظ يحتمل التأويلين جميعًا.
وقال ابن الأثير، في "النهاية": العاهر: الزاني، وقد عَهَرَ يَعْهَرُ عَهْرًا وعُهُورًا إذا أتى المرأة ليلاً للفجور بها ثم غلب على الزنا مطلقًا، والمعنى لا حظ للزاني في الولد، وإنما هو لصاحب الفراش أي لصاحب أم الولد وهو زوجها أو مولاها، وهو كقول الآخر: له التراب، أي لا شيء له، وقال أيضًا، وللعاهر الحجر: أي الخيبة، يعني أن الولد لصاحب الفراش من الزوج أو السيد، وللزاني الخيبة والحرمان، كقولك: مالك عندي شيء غير التراب، وما بيدك غير الحجر، وذهب بعضهم إلى أنه كني بالحجر عن الرجم، وليس كذلك؛ لأنه ليس كل زاني يرجم.
ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: إسناده صحيح، ومحمد بن زياد القرشي أبو الحارث المدني مولى عثمان بن مظعون، روى له الجماعة.
وأخرجه البخاري (1): عن مسدد، عن يحيى وعن آدم (2) كلاهما، عن شعبة ابن الحجاج، عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة، سمع النبي عليه السلام يقول:"الولد للفراش وللعاهر الحجر".
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2481 رقم 6369).
(2)
"صحيح البخاري"(6/ 2499 رقم 6432).
وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع: ثنا عبد الرزاق- قال: أنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام قال الولد للفراش وللعاهر الحجر".
وأخرجه الترمذي (2): عن أحمد بن منيع، عن سفيان، عن الزهري، ن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام نحوه.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: إسناده حسن، وإسماعيل بن عياش بن سليم الحمصي، قال دحيم: في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين، واحتجت به الأربعة، وشرحبيل بن مسلم ابن حامد الخولاني الشامي، قال يحيى والعجلي: تابعي ثقة. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وأبو أمامة، اسمه صدي بن عجلان الباهلي.
وأخرجه ابن ماجه (3): نا هشام بن عمار، قال: نا إسماعيل بن عياش، نا شرحبيل بن مسلم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال نا الشافعي، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، سمع عمر رضي الله عنه يقول:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش".
ش: إسناده صحيح، وسفيان هو ابن عيينة، وعبيد الله بن أبي يزيد المكي مولى آل قارظ، روى له الجماعة.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1081 رقم 1458).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 463 رقم 1175).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 647 رقم 2007).
وأبوه: أبو يزيد المكي، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
والحديث أخرجه الشافعي في "مسنده"(1).
وابن ماجه في "سننه"(2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام قضى بالولد للفراش".
فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي هذا الحديث عن خمسة من الصحابة رضي الله عنهم وهم: عثمان بن عفان وعائشة الصديقة وأبو هريرة وأبو أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
ولما أخرج الترمذي (3) حديث أبي هريرة قال وفي الباب عن عمر وعثمان وعائشة وأبي أمامة وعمرو بن خارجه وعبد الله بن عمرو والبراء بن عازب وزيد بن أرقم.
قلت: وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
أما حديث عمرو بن خارجة فأخرجه الترمذي (4): ثنا قتيبة، نا أبو عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة أنه قال:"خطبنا رسول الله عليه السلام بمنى وهو على ناقته، وإني لتحت جرانها، ولعابها يسيل بين كتفي، وإنها لتقصع بجرتها يقول: إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق من الميراث ولا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر".
(1)"مسند الشافعي"(1/ 188).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 646 رقم 2005).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 463 رقم 1157).
(4)
"جامع الترمذي"(4/ 434 رقم 2121).
وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود (1): ثنا زهير بن حرب، قال: نا يزيد بن هارون، قال: أنا الحسن المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:"قام رجل فقال: يا رسول الله، إن فلانا ابني؛ عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله عليه السلام: لا دعوة في الإِسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر".
وأما حديث البراء وزيد بن أرقم فأخرجه الطبراني (2): نا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا ضرار بن صرد (ح).
وثنا موسى بن هارون وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قالا: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، نا موسى بن عثمان الحضرمي، عن أبي إسحاق، عن البراء وزيد بن أرقم قالا:"كنا مع رسول الله عليه السلام يوم غدير خُمّ ونحن نرفع غصن الشجرة عن رأسه، فقال: إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، ولعن الله من تولى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر، ليس لوارث وصية".
وأما حديث عبد الله بن الزبير فأخرجه النسائي (3): أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير، مولى لهم- عن عبد الله بن الزبير، قال:"كانت لزمعة جارية يطؤها وكان يظن بآخر يقع عليها، فجاءت بولد شبه الذي كان يطؤها به فمات زمعة وهي حبلى فذكرت ذلك سودة لرسول الله عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام: الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة، فليس لك بأخ".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 283 رقم 2274).
(2)
"المعجم الكبير"(5/ 191 رقم 5057).
(3)
"المجتبى"(6/ 180 رقم 3485).
وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه النسائي (1) أيضًا: أنا إسحاق بن إبراهيم، نا جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام قال:"الولد للفراش، وللعاهر الحجر".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا نفى ولد امرأته لم ينتف به، ولم يلاعن به، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب قالوا: فالفراش يوجب حق الولد في إثبات نسبه من الزوج والمرأة، فليس لهما إخراجه منه بلعان ولا غيره.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرًا الشعبي ومحمد بن أبي ذئب وبعض أهل المدينة؛ فإنهم قالوا: إذا نفى ولد امرأته لم ينتف به ولا يجب به اللعان، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يلاعن وينتفي نسبه منه ويلزم أمه وذلك إذا كان لم يُقر به قبل ذلك، ولم يكن منه ما حكمه حكم الإقرار، ولم يتطاول ذلك.
واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام فرق بين المتلاعنين وألزم الولد أمه". قالوا: فهذه سنة عن رسول الله عليه السلام لم نعلم شيئًا عارضها ولا نسخها، فعلمنا بها أن قول رسول الله عليه السلام الولد للفراش لا ينفي أن يكون اللعان به واجبًا إذا نفى، إذ كان رسول الله عليه السلام قد فعل ذلك، وأجمع أصحابه من بعده على ما حكموا في ميراث ابن الملاعنة، فجعلوه لا أب له، وجعلوه من قوم أمه، وأخرجوه من قوم الملاعن، ثم اتفق على ذلك تابعوهم من بعدهم، ثم لم يزل الناس على ذلك إلى أن شذَّ هذا المخالف لهم، فالقول عندنا في ذلك على ما فعله
(1)"المجتبى"(6/ 181 رقم 3486).
رسول الله عليه السلام وأصحابه من بعده، وتابعوهم من بعدهم على ما ذكرنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أبي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، منهم: الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: إذا نفى الرجل ولد امرأته يلاعن، وينتفي نسبه منه ويلزم أمه، ثم في هذا تفصيل وخلاف من وجه آخر بينهم، فقال أصحابنا: إذا كان القذف ينفي الولد بحضرة الولادة أو بعدها بيوم أو يومين، أو نحو ذلك من مدة يأخذ فيها التهنئة وانبياع الأب الولادة عادة صح ذلك، فإن نفاه بعد ذلك لا ينتفي، ولم يؤقت أبو حنيفة لذلك، وقتًا وروي عنه أنه وقت لذلك سبعة أيام، وأبو يوسف ومحمد وقتاه بأكثر النفاس وهو أربعون يومًا، واعتبر الشافعي الفور فقال: إن نفاه على الفور ينتفي وإلا لا، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قال أبو حنيفة: إذا ولدت فنفاه من يوم يولد أو بعد يوم أو يومين لاعن وانتفى الولد، وإن لم ينفه حتى مضت سنة أو سنتان لاعن، ولزمه الولد، ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا، ووقت أبو يوسف ومحمد بمقدار النفاس أربعين يومًا، وقال أبو يوسف: إن كان غائبًا فقدم فله نفيه ما بينه وبين مقدار النفاس منذ يوم قدم ما كان في الحولين فإن قدم بعد الحولين، لم ينتف عنه أبدًا، وقال الشافعي: إذا علم بالحمل وأمكنه التحاكم فترك اللعان لم يكن له نفيه كالشفعة، وقال في القديم: إن لم ينفه في يوم أو يومين، وقال بمصر: أو ثلاثة لم يكن له نفيه، ولو أشهد على نفسه لشغل ما أمكنه فوته أو لمرض أو كان غائبًا وقال: لم أصدق حملها، فهو على نفيه، وكذلك الحاضر إذا قال لم أعلم ولو رآها حبلى وقال: لم أعلم أنه حمل حتى ولدت كان له نفيه.
قوله: "ويلزم أمه" أي يلزم الولد المنفي أمه، حتى لا يرث إلا من أمه، وإذا مات هو لا يرثه إلا أمه.
وقد روينا عن البخاري (1) في حديث سهل بن سعد، قال ابن جريج: قال ابن شهاب: "فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وكانت حاملاً، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله".
قلت: ما فرض الله لها هو الثلث إن لم يكن له ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات فإن كان شيء من ذلك فلها السدس، ثم إذا وقع لأمه فرضها أو إلى أصحاب الفروض وبقي شيء فهو لموالي أمه، فإن لم يكن لها موالى فهو لبيت المال.
قاله الشافعي ومالك وأبو ثور وقبلهم ابن شهاب.
وقال الحكم وحماد: يرثه ورثة أمه، وقال الآخرون: عصبته أمه، روي هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد بن حنبل، قال أحمد: فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة، قال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، الثلث بالفرض، والباقي بالرد على قاعدته.
قوله: "وذلك إذا لم يقر به" أي بالولد قبل ذلك، أي قبل نفيه، قيَّدَ بذلك؛ لأنه إذا كان قد أقر به وهو حمل ثم نفاه بعد الولادة لا ينتفي، ولا يصح نفيه.
قوله: "ولم يكن منه" أي من الرجل الذي ينفي فيه، أي في الولد ما حكمه حكم الإقرار، قيَّد به لأنه إذا وجد منه فيه ما يدل على أنه إقرار لا يصح نفيه، وذلك نحو أن يسكت إذا هنئ به ولا يرد على المهنئ، فكان السكوت -والحالة هذه- اعترافا بنسب الولد، فلا يمكن نفيه بعد الاعتراف؛ وذلك لأن العاقل لا يسكت عند التهنئة بولد ليس منه عادة.
وروى ابن رستم عن محمد: إذا هنئ بالولد من الأمة فسكت لم يكن اعترافا، وإن سكت في ولد الزوجة كان اعترافا.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2033 رقم 5002).
قوله: "ولم يتطاول ذلك" أي النفي بعد الولادة، حتى إذا تطاول أيامًا ثم نفاه لا يصح نفيه، وقد ذكرنا حد التطاول في ذلك آنفا.
قوله: "احتجوا في ذلك" أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده صحيح، وأخرجه مالك في "موطإه"(1)، وأخرجه الجماعة.
قال البخاري (2): ثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة".
وقال مسلم (3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو أسامة.
ونا ابن نمير، قال: نا أبي، قالا: أنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:"لاعن رسول الله عليه السلام بين رجل من الأنصار وامرأته ففرق بينهما".
ورواه (3) أيضًا عن مالك وفي آخره: "وألحق الولد بأمه".
وقال أبو داود (4): ثنا عبد الله بن مسلمة القعبني، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله ابن عمر، نحوه.
وقال الترمذي (5): نا قتيبة، قال: نا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه.
وقال: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم.
(1)"موطأ مالك"(2/ 567 رقم 1178).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2036 رقم 5009).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 133 رقم 1494).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 278 رقم 2259).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 508 رقم 1203).
وقال النسائي (1): أخبرنا قتيبة، حدثنا مالك
…
إلى آخره نحوه.
وقال ابن ماجه (2): ثنا أحمد بن سنان، نا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "وألزم الولد أمه" أي ألحقه به.
فإن قيل: ما معنى هذا الكلام ومعلوم أنه قد لحق بأمه، وأنها على كل حال أمه؟!
قيل له: المعنى أنه ألحقه بأمه دون أبيه، ونفاه عن أبيه بلعانه وصيره إلى أمه وحدها، ولهذا ما اختلف العلماء في ميراثه.
قوله: "قالوا" أي قال هؤلاء القوم الآخرون: إن هذه سنة عن رسول الله عليه السلام يعني التفريق بين المتلاعنين وإلحاق الولد بالأم سنة النبي عليه السلام فإنه عليه السلام قد فعل ذلك وأجمع أصحابه على ذلك أيضًا من بعده، ثم اتفق على ذلك أيضًا من بعد الصحابة تابعوهم، فكلهم أجمعوا على أن ولد الملاعنة لا أب له، وأنه من قوم أمه دون أبيه، ثم لم يزل الناس على ذلك العمل إلا ما شذَّ ما ذكرنا من أهل المقالة الأولى، فلا عبرة لقولهم ذلك لشذوذه، ولا يصح أيضًا استدلالهم بقوله عليه السلام:"الولد للفراش" فيما ذهبوا إليه، لأنه لا ينفي وجوب اللعان بنفي الولد، ولا يعارض الأحاديث التي تدل على ذلك، فافهم. والله أعلم بالصواب.
…
(1)"المجتبى"(6/ 178 رقم 3477).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 669 رقم 2069).