المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: المتوفى عنها زوجها هل لها أن تسافر في عدتها؟ وما دخل في ذلك من حكم المطلقة في وجوب الإحداد عليها - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: المتوفى عنها زوجها هل لها أن تسافر في عدتها؟ وما دخل في ذلك من حكم المطلقة في وجوب الإحداد عليها

‌ص: باب: المتوفى عنها زوجها هل لها أن تسافر في عدتها؟ وما دخل في ذلك من حكم المطلقة في وجوب الإحداد عليها

.

ش: أي هذا الباب في بيان حكم المرأة التي توفي عنها زوجها، هل يجوز لها أن تسافر في عدتها؟ وهل يجوز لها أن تخرج من بيتها؟ وفي بيان ما يجب على المطلقة من الإحداد.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: تقول: حدَّت المرأة على زوجها تحِدُ وتَحَدُّ إذا تركت الزينة فهي حادّ، ويقال أيضًا: أحَدّت فهي مُحِدٌّ، وقال القزاز إنما كانت بغير هاء؛ لأنه لا يكون للذكر.

وعن الفراء: حدّت المرأة حدادًا وقال ابن درستويه: المعنى أنها منعت الزينة نفسها والطيب بدنها ومنعت بذلك الخطاب خطبتها والطمع فيها، كما منع حدّ السكين وحدّ الدار ما منعا.

وفي "نوادر اللحياني" بأحدّ جاء الحديث لا تُحدُّ، قال: وحكى الكسائي عن عُقَيْل: حدَّت بغير ألف.

وقال الفراء: كان الأولون من النحويين يؤثرون أحدَّت فهي مُحِدّ، والأخرى أكثر في كلام العرب، وسُمِّي الحديد حديدًا للامتناع به، ومنه تحديد النظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات، وفي "شرح التدميري": يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذة من جددت الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة وما كانت عليه قبل ذلك، وفي "تقويم المفسد" لأبي حاتم: أَبَى الأصمعي إلا أحدَّت ولم يعرف حدَّت.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم (ح).

وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، قالا جميعًا: عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: "طلقت خالة لي، فأرادت

ص: 147

أن تخرج في عدتها إلى نخل لها، فقال لها رجل: ليس لكِ ذلك، فأتت النبي عليه السلام فقال: اخرجي إلى نخلك وجدِّيه؛ فعسى أن تصدَّقي أو تفعلي معروفًا".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال: سمعت جابرًا يقول: "أخبرتني خالتي أنها طلقت البتة، فأرادت أن تجدَّ نخلها، فزجرها رجال أن تخرج، فأتت النبي عليه السلام فقال: بل تجدِّي نخلك، فإنك عسى أن تصَّدقي وتفعلي معروفًا".

ش: هذه ثلاث طرق:

الأول: إسناده على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر.

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج.

ونا محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرازق، قال: ثنا ابن جريج.

وحدثني هارون بن عبد الله -واللفظ له- قال: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:"طلِّقت خالتي، فأرادت أن تجدّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي عليه السلام فقال: بلى، فجدِّي نخلك فإنك عسى أن تصَّدَّقي أو تفعلي معروفًا".

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر. وهذا أيضًا صحيح.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1121 رقم 1483).

ص: 148

وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدثني أبو الزبير، عن جابر قال:"طلِّقت خالتي ثلاثًا، فخرجت تجدّ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي عليه السلام فذكرت ذلك له، فقال لها النبي عليه السلام: اخرجي فجدِّي نخلك؛ لعلك أن تصَّدَّقي منه أو تفعلي خيرًا".

وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه (3) أيضًا.

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة -فيه مقال- عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر.

وفيه رواية صحابي عن صحابية وهي خالة جابر رضي الله عنه.

قوله: "طلِّقت خالة لي" على صيغة المجهول. و"خالة" مرفوع بإسناد "طلقت" إليها.

قوله: "وجدِّيه" أمر من جدَّ الثمرة يجدها جدًّا، وهو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ.

والِجدَاد -بالفتح والكسر- صرام النخل، وهو قطع ثمرتها.

قوله: "أن تَصَّدقي" بفتح التاء، وأصله تتصدقي حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف.

قولى: "أو معروفًا". وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن للمطلقة وللمتوقى عنها زوجها أن تسافرا في عدتهما إلى حيث ما شاءتا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 699 رقم 2297).

(2)

"المجتبى"(6/ 209 رقم 3550).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 656 رقم 2034).

ص: 149

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وابن جريج وجابر بن زيد والحسن البصري وطاوسًا وعمرو بن دينار وعكرمة؛ فإنهم قالوا: للمطلقة وللمتوفى عنها زوجها أن تسافرا في عدتهما إلى حيث ما شاءتا.

وروي ذلك عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم. وهو مذهب الظاهرية أيضًا.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما المتوفى عنها زوجها فإن لها أن تخرج في عدتها من بيتها نهارًا ولا تبيت إلا في بيتها، وأما المطلقة فلا تخرج من بيتها في عدتها لا ليلاً ولا نهارًا؛ وفرقوا بينهما لأن المطلقة في قولهم لها النفقة والسكنى في عدتها على زوجها الذي طلقها، فذلك يغنيها عن الخروج من بيتها، والمتوفى عنها زوجها لا نفقة لها فلها أن تخرج في بياض نهارها تبتغي من فضل ربها.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والليث وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد، ولكن في مذاهبهم تفصيل؛ فعند الليث ومالك والثوري: تخرج المعتدة من النهار سواء كانت رجعية أو مبتوتة، ولا تخرج بالليل.

وعند الشافعي: الرجعية لا تخرج ليلاً ولا نهارًا، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: أما المتوفى عنها زوجها تخرج نهارًا ولا تبيت إلا في بيتها، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلاً ولا نهارًا.

وحكى القاضي عياض عن محمد بن الحسن: أن الجميع لا يخرج، لا ليلاً ولا نهارًا.

وقال الكاساني (1): المعتدة لا تخلو إما أن تكون معتدة عن نكاح صحيح أو نكاح فاسد، ولا تخلو إما أن تكون حرة أو أمة، بالغة أو صغيرة، عاقلة أو مجنونة، مسلمة أو كتابية، مطلقة أو متوفى عنها زوجها، والحال حال الاختيار، وحال الاضطرار.

(1)"بدائع الصنائع"(3/ 322 - 321) بتصرف واختصار.

ص: 150

فإن كانت معتدة من نكاح صحيح وهي حرة بالغة عاقلة مسلمة والحال حال الاختيار فإنها لا تخرج لا ليلاً ولا نهارًا، سواء كان الطلاق ثلاثًا أو بائنًا أو رجعيًّا.

وأما المتوفى عنها زوجها فلا تخرج ليلًا، ولا بأس أن تخرج بالنهار في حوائجها، وروي عن محمد: أنه لا بأس أن تنام عن بيتها أقل من نصف الليل، هذا في حال الاختيار، فأما في حال الضرورة فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها، فإن خافت سقوط منزلها أو خافت على متاعها أو كان المنزل بأجرة ولا تجد ما تؤديه في أجرته في عدة الوفاة، فلا بأس عند ذلك أن تنتقل، وإن كانت تقدر على الأجرة لا تنتقل، وإن كان المنزل لزوجها وقد مات عنها فلها أن تسكن في نصيبها إن كان ما يصيبها من ذلك مما يكفى به في السكنى وتستتر عن سائر الورثة ممن ليس بمحرم لها، وإن كان نصيبها لا يكفيها أو خافت على متاعها منهم فلا بأس أن تنتقل.

وكذا ليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر، إذا كانت معتدة من نكاح صحيح وهي على الصفات التي ذكرناها.

ولا يجوز للزوج أن يسافر بها أيضًا.

وكذا المعتدة من طلاق رجعي ليس لها أن تخرج إلى سفر سواء كان سفر حج فريضة أو غير ذلك، لا مع زوجها ولا مع غيره، حتى تنقضي عدتها أو يراجعها. وأما المعتدة في النكاح الفاسد فلها أن تخرج.

وأما الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة على أصل أبي حنيفة فيخرجن في ذلك كله في الطلاق والوفاة، وكذا المجنونة لها أن تخرج من منزلها؛ لأنها غير مخاطبة كالصغيرة إلا أن لزوجها أن يمنعها من الخروج لتحصين مائه بخلاف الصغيرة فإن الزوج لا يملك منعها، وأما الكتابية فلها أن تخرج؛ لأن السكنى في العدة حق الله من وجه فتكون عبادة من هذا الوجه، والكفار لا يخاطبون بشرائع هي عبادات، إلا إذا منعها الزوج لتحصين مائه، وإن أسلمت في العدة لزمها فيما بقي من عدتها ما لزم المسلمة. والله أعلم.

ص: 151

ص: وكان من الحجة لهم في حديث جابر الذي احتج به عليهم أهل المقالة الأولى: أنه قد يجوز أن [يكون](1) ما ذكرنا فيه [كان](1) في وقت ما لم يكن الإحداد يجب في كل العدة، فإنه قد كان ذلك كذلك.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال (ح).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حبان (ح).

وحدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس (ح).

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا جبارة بن المغلس (ح).

وحدثنا ربيع المؤذن وسليمان بن شعيب قالا: ثنا أسد، قالوا: ثنا محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت:"لما أصيب جعفر رضي الله عنه أمرني رسول الله عليه السلام فقال: تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت".

ففي هذا الحديث أن الإحداد لم يكن على المعتدة في كل عدتها، وإنما كان في وقت منها خاص، ثم نسخ ذلك وأمرت أن تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين، وأراد بها الجواب عن حديث جابر الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيان ذلك أن يقال: إن أذن النبي عليه السلام لخالة جابر بالخروج في عدتها يحتمل أن يكون إنما كان في وقت لم يكن فيه الإحداد واجبًا في كل العدة بل في أيام مخصوصة كما يدل عليه حديث أسماء بنت عميس؛ فإنه لما أصيب زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة في سنة ثمان من الهجرة أمرها رسول الله عليه السلام بالتسلب وهو لبس ثوب الحداد ثلاثة أيام، ثم قال لها:"اصنعي ما شئت" فهذا يدل على أن الإحداد لم يكن على المعتدة في جميع عدتها، بل كان في وقت منها معين، ثم نسخ ذلك بأحاديث زينب بنت جحش وعائشة

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 152

وأم سلمة وأم حبيبة وغيرهن على ما يجيء إن شاء الله، وأمرت المعتدة بالإحداد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وكلهم أجمعوا على هذا النسخ لتركهم حديث أسماء بنت عميس واستعمالهم أحاديث هؤلاء المذكورات، فإن كان كذلك؛ يُحتمل أن يكون ما أمرت به خالة جابر كان والإحداد إنما هو في ثلاثة أيام من العدة ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة؛ فكذلك نسخ الآخر بذلك أيضًا؛ فإن جابرًا رضي الله عنه قد روى عن النبي عليه السلام في إذنه لخالته في الخروج، ثم قال هو بخلافه على ما يأتي، فهذا أيضًا دليل على ثبوت نسخ ذلك عنده؛ إذ لو لم يكن عنده علم من النبي عليه السلام بأن ذاك منسوخ لم يكن يقدم إلى القول بخلاف ما روى؛ وذلك لأن الراوي إذا ظهر منه المخالفة قولاً أو فعلاً لما رواه، لا يخلو عن حالات: إما أن تكون روايته تلك تَقَوّلًا منه لا عن سماع، أو تكون فتواه وعمله بخلاف روايته على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث، أو عن غفلة ونسيان، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم روايته. فكل هذا يستحيل في حق الصحابي إلا الوجه الأخير وهو أن يكون قد علم انتساخ حكم روايته فأفتى بخلافها أو عمل بخلافها؛ وإنما قلنا: إن هذه الأشياء تستحيل في حق الصحابي إلا الوجه الأخير؛ لأن في الوجه الأول يكون الراوي كذابًا، وفي الوجه الثاني يكون فاسقًا، وفي الوجه الثالث يكون مغفلاً، وكل هذه تسقط الرواية، والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن هذه الأشياء؛ فتعين الوجه الأخير، فافهم.

ثم إنه أخرج حديث أسماء بنت عميس من خمس طرق:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء، وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي البصري، عن محمد بن طلحة بن مصرِّف اليامي، عن الحكم بن عتيبة -بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني، عن خالته أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث -زوج النبي عليه السلام لأمها.

ص: 153

وهذا إسناد صحيح، وأخرجه البيهقي في "سننه" (1): من حديث محمد بن طلحة بن مصرِّف، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد

إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

ثم قال البيهقي: لم يثبت سماع ابن شداد منها، ومحمد ليس بالقوي، وقد قيل فيه:"أنَّ أسماء" مرسل.

قلت: عبد الله بن شداد لم يذكر من المدلسين، والعنعنة من غير المدلس محمول على الاتصال إذا ثبت اللقاء أو أمكن على الاختلاف المعروف بين البخاري ومسلم، ولا يشترط ثبوت السماع. وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أنَّ "عن" و"أنَّ" سواء. قال: وأجمعوا على أن قول الصحابي: عن رسول الله عليه السلام، أو: أن رسول الله عليه السلام قال، أو: سمعت؛ سواء.

ومحمد بن طلحة بن مصرِّف اتفق الشيخان عليه. فكيف يقول البيهقي: ومحمد ليس بالقوي؟ (2) وقد جاء لحديثه هذا متابعة وشاهد. أخرجه قاسم بن أصبغ من طريق شعبة: ثنا الحكم، عن عبد الله بن شداد:"أنه عليه السلام قال لامرأة جعفر: إذا كان ثلاثة أيام أو بعد ثلاثة أيام البسي ما شئت".

وروي أيضًا من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن شداد:"أن أسماء استأذنت النبي عليه السلام أن تبكي على جعفر، فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث لها: أن تطهري واكتحلي" ذكره ابن حزم في "المحلى"(3)، وذكر الحافظ ابن منده أيضًا رواية ابن سعد في "معرفة الصحابة".

وأخرج أحمد في "مسنده"(4): ثنا يزيد، نا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عتيبة،

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 438 رقم 15300).

(2)

قلت: تكلم فيه أيضًا غير واحد من الأئمة، انظر ترجمته من "تهذيب الكمال" و"ميزان الاعتدال".

(3)

"المحلى"(10/ 280).

(4)

"مسند أحمد"(6/ 369 رقم 27128).

ص: 154

عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت:"دخل عليَّ رسول الله عليه السلام اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: لا تحدِّي بعد يومك هذا".

الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن حبان بن هلال أيضًا، عن محمد بن طلحة

إلى آخره.

وهذا أيضًا صحيح.

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم، عن محمد بن طلحة

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني (1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن منهال وعاصم بن علي وأحمد بن يونس، قالوا: نا محمد بن طلحة بن مصرف، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت:"لما أصيب جعفر أمرني رسول الله عليه السلام فقال: تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت".

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن جبارة بن مغلس الحماني الكوفي شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن محمد بن طلحة

إلى آخره.

الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وسليمان بن شعيب الكيساني، كلاهما عن أسد بن موسى، عن محمد بن طلحة

إلى آخره.

قوله: "لما أصيب جعفر" وهو جعفر بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وابن عم النبي عليه السلام وكان قد أصيب في غزوة مؤتة كما ذكرناه عن قريب.

قوله: "تسلبي" أمر من سلَّب تتسلب، ومعناه: البسي ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سُلُبٌ وتسلبت المرأة إذا لبِسَتْه، وقيل: هو ثوب أسود تغطي به المحد رأسها، ومنه حديث بنت أم سلمة:"أنها بكت على حمزة ثلاثة أيام فتسلبت"

(1)"المعجم "الكبير" (24/ 139 رقم 369).

ص: 155

وقد احتج الحكم بن عتيبة بهذا الحديث أن المتوفى عنها زوجها لا حداد عليها، وقد ذكرنا أنه منسوخ فلا يعمل به. والله أعلم.

ص: فمها روي في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبى عليه السلام قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله وياليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".

ش: أي: فمها روي في الأمر بالإحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرًا: حديث عائشة.

أخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح.

وسفيان هو ابن عيينة، والزهري هو محمد بن مسلم.

وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير ابن حرب -واللفظ ليحيى- قال يحيى: أنا: وقال الآخرون: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوجها".

وأخرجه النسائي (2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن الزهري

إلى آخره.

قوله: "أن تُحِدَّ" في محل الرفع، و"أن" مصدرية، والتقدير: لا يحل الإحداد وهو الامتناع عن الزينة والطيب، وقد مر تفسيره مستقصًى عن قريب وهو بضم التاء وكسر الحاء؛ لأنه من أحدت تُحِدُّ إحدادًا، ويجوز بفتح التاء وضم الحاء من حدَّت تَحُدُّ حدادًا، والأول أكثر.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1127 رقم 1491).

(2)

"المجتبى"(6/ 198 رقم 3525).

ص: 156

قوله: "أربعة أشهر وعشرًا" هذا لفظ عدد المؤنث، ولو كان هذا على ظاهره لاختصت به الليالي، وقال المبرد: أنث العشر؛ لأنه أراد به المدة، وقيل: أراد بذلك الأيام بلياليهن، وإلى هذا ذهب كافة العلماء أنها عشرة أيام بعد أربعة أشهر، وقال الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير: إنها أربعة أشهر وعشر ليال، وأن المعتدة تحل في اليوم العاشر، وحجتهما تأنيث العشر، والأصح قول الجمهور: إنها لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر.

قوله: "عشرًا" نصب على الظرف، والعامل فيه "تُحِدُّ"، وقال القاضي: وقد احتج قوم بقوله: "أربعة أشهر وعشرًا" على أن ما زاد على العدد إذا كانت حاملاً لا يلزم فيه إحداد، وقد قال أصحابنا: عليها الإحداد حتى تضع وإن تمادى أمرها، وقال ابن حزم: إن كانت عدة المتوفى عنها وضع حملها فلا بُدَّ لها من الإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ولا يجب عليها بعد ذلك.

وقال القاضي: وفي قوله: "لا يحل لمؤمنة" حجة؛ لأحد القولين لمالك: إن الإحداد يختص بالمؤمنات دون الكتابيات؛ إذ ظاهره اختصاصه بالمؤمنات، وعلى قوله الآخر: إن الإحداد يلزم الكتابيات يكون هذا القول على التغليظ للمؤمنات.

وبالقول الأول قال أبو حنيفة والكوفيون وابن نافع وابن كنانة وأشهب من أصحابنا.

وبالثاني قال الشافعي وعامة أصحابنا.

وقال القاضي أيضًا: وفي عمومه دليل على وجوب الإحداد لجميع الزوجات، المدخول بها وغيرها، والصغائر والكبائر، والإماء والحرائر، وأجمعوا أنه لا حداد على أمة أو أم ولد إذا توفي عنهن ساداتهن، وهو قول كافة العلماء في جميع ما ذكرناه.

وقال أبو حنيفة: لا إحداد على الأمة ولا على الصغيرة، ولا خلاف في أن المطلقة واحدةً لا إحداد عليها، واختلف في الإحداد على المطلقة بثلاث، فذهب

ص: 157

مالك والليث والشافعي وربيعة وعطاء وابن المنذر: لا إحداد عليها. ومذهب أبي حنيفة والكوفيين وأبي ثور والحكم وأبي عبيد: أن المطلقة ثلاثًا كالمتوفى عنها زوجها في وجوب الإحداد.

وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة.

وشذَّ الحسن البصري في قوله: لا إحداد جملة على المطلقة والمتوفى عنها. انتهى.

وقال الكاساني: لا خلاف بين الفقهاء أن المتوفى عنها زوجها يلزمها الإحداد، وقال نفاة القياس: لا إحداد عليها، وهم محجوجون بالأحاديث وإجماع الصحابة.

واختلف في المطلقة ثلاثًا أو بائنًا، قال أصحابنا: يلزمها الإحداد. وقال الشافعي: لا يلزمها.

وأما شرائط وجوبه فهو أن تكون المعتدة بالغة عاقلة مسلمة، من نكاح صحيح، سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة ثلاثًا أو بائنًا، فلا يجب على الصغيرة والمجنونة الكبيرة والكتابية والمعتدة من نكاح فاسد والمطلقة طلاقًا رجعيًّا. وهذا عندنا.

وقال الشافعي: يجب على الصغيرة والكتابية، وأما الحرية فليست بشرط لوجوب الإحداد؛ فيجب الإحداد على الأمة والمدبرة وأم الولد إذا كان لها زوج فمات عنها أو طلقها والمكاتبة والمستسعاة؛ لأن ما يجب له الإحداد لا يختلف بالرق والحرية، فكانت الأمة فيه كالحرة. والله أعلم.

وقال القاضي عياض: قوله: "أن تحد على ميت" يدل [على](1) اختصاص ذلك بالأموات دون المطلقات على ما ذهب إليه الجمهور.

وقوله هذا محمول عند القائلين به على الوجوب لا على الندب.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ص: 158

قلت: قوله: "إلا على زوج" يقتضي كل زوج فيشمل زوج المطلقة ثلاثًا أو بائنًا وزوج المتوفى عنها فيشمل الإحداد الجميع.

فإن قيل: فيشمل أيضًا زوج الصغيرة وزوج الكتابية وزوج المجنونة ومع هذا لا يجب عليهن الإحداد.

قلت: نعم، ولكن خرجت الكتابية بقوله:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله"، وأما الصغيرة والمجنونة فلكونهما لا تدخلان تحت الخطاب. فافهم.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "لما جاء نعي أبي سفيان دعت أم حبيبة بصفرة فمسحت بذراعيها وعارضيها، وقالت: إني عن هذا لغنية لولا أني سمعت رسول الله عليه السلام

" ثم ذكرت مثل حديث عائشة رضي الله عنها سواء.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن أيوب بن موسى، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "بينما أنا عند أم حبيبة رضي الله عنها

" ثم ذكرت مثل حديث يونس سواء. وزاد: قال حميد: وحدثتني زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة أنها قالت: "جاءت امرأة من قريش؛ بنت النحَّام إلى رسول الله عليه السلام فقالت: إنا نخاف على بصرها، فقال: لا، أربعة أشهر وعشرًا، قد كانت إحداكن تحِدّ على زوجها السنة، ثم ترمي على رأس السنة بالبعر".

حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع مولى الأنصار، أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أمها وأم حبيبة مثل ما في حديث ربيع عنهما.

قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ فقالت: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها عمدت إلى شرِّ بيت لها فجلست فيه سنة، فإذا مرَّت به سنة خرجت ورمت ببعرة وراءها".

ص: 159

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد الله بن أبي بكر، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أنهما أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة؛ قالت: "دخلت على أم حبيبة رضي الله عنها

" ثم ذكرت عنها مثل ما ذكرناه عنها فيما تقدم من هذه الأحاديث عن النبي عليه السلام.

قالت: وسمعت أم سلمة تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله عليه السلام

" ثم ذكرت نحو ما ذكرناه عنها.

قالت: "ودخلت على زينب بنت جحش

" فذكرت عنها عن النبي عليه السلام مثل ذلك.

قالت: وسمعت أم سلمة تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله عليه السلام

" ثم ذكرت نحو ما ذكرناه في حديث يونس عن علي، وفي حديث ربيع عن شعيب، مما ذكراه في حديثيهما عن أم سلمة عن النبي عليه السلام في بنت النحام".

ش: هذه أربع طرق صحاح على شرط مسلم، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعًا وعلي بن معبد، وهما أيضًا ثقتان:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى بن عمرو القرشي الأموي المكي، عن حميد بن نافع الأنصاري مولى أبي أيوب الأنصاري، عن زينب بنت أبي سلمة -واسمه عبد الله بن عبد الأسد- المخزومية ربيبة النبي عليه السلام، أخت عمر بن أبي سلمة، وأمهما أم سلمة زوج النبي عليه السلام.

وأخرجه مسلم (1): نا عمرو الناقد وابن أبي عمر -واللفظ لعمرو- قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "لما أتى أم حبيبة نَعِيُّ أبي سفيان، دعت في اليوم الثالث بصفرة فمسحت بذراعيها وعارضيها، وقالت: كنت عن هذا غنية، سمعت النبي عليه السلام

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1124 رقم 1486).

ص: 160

يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".

قوله: "لما جاء نَعِيُّ أبي سيفان". أي خبر موته، والنَّعِيُّ -بفتح النون وكسر العين وتشديد الياء، وجاء بسكون العين وتخفيف الياء- من نعى الميت ينعاه نعيًا ونعيًّا إذا ذاع موته وأُخْبِرَ، به وإذا ندبه.

وقال الجوهري: النعي خبر الموت، يقال: نعاه ينعاه نعيًا ونُعيانًا بالضم، وكذلك النعي على فعيل، يقال: جاء نِعيّ فلان، والنَّعِيُّ أيضًا الناعي، وهو الذي يأتي بخبر الموت.

وفي "المطالع": قوله: "نعي أبي سفيان" بإسكان العين وبكسرها وشد الياء، وهو اسم نداء الرجل الذي يأتي بالنعي، وهو أيضًا اسم الميت، ومنه قام النعيّ فأسمعا (1).

وأبو سفيان اسمه صخر بن حرب بن أمية، والد معاوية وأم حبيبة رضي الله عنها، وكانت وفاته في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة اثنتن وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين.

وصلى عليه عثمان، وقيل: ابنه معاوية، وكان عمره ثمانيًا وثمانين سنة، وقيل: ثلاثًا وتسعين، وقيل غير ذلك.

قوله: "دعت أم حبيبة بصفرة". أي طلبت بصفرة لتتخلق بها. واسم أم حبيبة: رملة.

قوله: "وعارضيها" أي خديها، قال القرطبي: وأصل العوارض الأسنان، وسميت الخدود: عوارض من باب تسمية الشيء بالشيء إذا جاوره، وفي "الموعب"

(1) هذا شطر بيت، وعجزه كما في "لسان العرب" (مادة: نعي): ونعى الكريم الأروعا. وانظر كتاب "العين"(2/ 256).

ص: 161

لابن التياني: العارض الخد، يقال: أخذ من عارضيه أي من خديه. وقال القزاز: عارض الوجه: صفحه أي خده.

وقال الأزهري في "التهذيب": العارض: الخد، يقال: أخذ الشعر من عارضيه.

وقال اللحياني: عارضا الوجه وعروضاه: جانباه.

وقال ابن سيده: العارضان جانبا اللحية.

وقال الجوهري: عارضي الإنسان: صفحتا خديه، وقولهم: فلان خفيف العارضين، يراد به خفة شعر عارضيه.

قوله: "إني عن هذا لَغَنِيَّة. "اللام" فيها للتأكيد؛ فلذلك جاءت مفتوحة.

قوله: "ثم ذكرت مثل حديث عائشة" يعني قالت: سمعت النبي عليه السلام يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): أنا الربيع بن سليمان، ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، نا أيوب -وهو ابن موسى- قال حميد: وحدثتني زينب بنت أبي سلمة، عن أمها أم سلمة فقالت:"جاءت امرأة من قريش فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي رمدت أفأكحلها؟ -وكانت متوفى عنها- فقال: لا، أربعة أشهر وعشرًا، ثم قالت: إني أخاف على بصرها، فقال: لا، أربعة أشهر وعشرًا؛ قد كانت إحداكن في الجاهلية تحد على زوجها سنة ثم ترمي على رأس السنة بالبعرة".

قوله: "بنتُ النَّحَّام" بالرفع عطف بيان لقوله: "جاءت امرأة من قريش".

واسمها عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام -بفتح النون وتشديد الحاء المهملة-

(1)"المجتبى"(6/ 205 رقم 3538).

ص: 162

وإنما سمي نعيم به؛ لأن النبي عليه السلام قال: "دخلت الجنة فسمعت نحمةً من نعيم -أي سعلة" فبقى عليه.

وقد جاء اسمها مصرحًا في رواية ابن عمر من حديث عبد الله بن عقبة، عن أبي الأسود، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام:"أنها جاءت رسول الله عليه السلام فقالت: إن ابنتها توفي زوجها فحدت عليه، فرمدت رمدًا شديدًا، وقد خشيت على بصرها، هل تكتحل؟ قال: إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، قد كانت المرأة منكن تحد سنةً، ثم تخرج فترمي بالبعرة على رأس الحول".

وقال ابن شكوال: اسم زوجها المغيرة.

قوله: "فقال: لا، أريعة أشهر وعشرًا". فيه حذف، وتقديره: ليس خوفٌ على بصرها، فلتصبر أربعة أشهر وعشرًا، أو فلتحد أربعة أشهر وعشرًا.

فهذا على تقدير انتصاب أربعة. ويجوز أن تكون بالرفع، والتقدير: ليس خوف على بصرها، ومدة الصبر والحداد أربعة أشهر، فحينئذٍ تكون العشر أيضًا مرفوعًا على الأربعة. فافهم. ويقال:"لا" ها هنا نهي تنزيه، والمعنى: لا تكتحل.

قال النووي: جوزه بعضهم للحاجة وإن كان فيه طيب.

ومذهبنا جوازه ليلاً عند الحاجة بما لا طيب فيه.

وقال القرطبي: فإن اضطرت إلى الكحل قال بعضهم: تجعله بالليل وتمسحه بالنهار. وهو قول النخعي وعطاء وأبي حنيفة والشافعي ومالك. حكاه الباجي.

قوله: "ثم ترمي على رأس السنة بالبعر". قيل: معناه أنها رمت بالعدة وراء ظهرها كما رمت بالبعرة، وقيل: هو إشارة إلى أن طول مقامها في سوء تلك الحال أسفًا على الزوج هينٌ لما توجبه المراعاة وكرم العشرة كما يهون الرمي بالبعرة.

ص: 163

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي نزيل مصر، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن حميد بن نافع

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): نا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، قالا: نا يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع أنه سمع زينب بنت أبي سلمة، تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة تذكران:"أن امرأة أتت النبي عليه السلام فذكرت أن ابنةً لها توفي عنها زوجها، فاشتكت عينها فهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله عليه السلام: قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة عند رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشرًا".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2)، وابن ماجه عنه في "سننه"(3)، والنسائي (4) أيضًا نحوه.

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة: قالت: "دخلت على أم حبيبة -زوج النبي عليه السلام حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة -خلوق أو غيره- فدهنت منه جارية ثم مسحت بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشرًا.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1124 رقم 1488).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 199 رقم 19285).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 673 رقم 2084).

(4)

"المجتبى"(6/ 205 رقم 3539).

ص: 164

قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش زوج النبي عليه السلام حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا.

قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة زوج النبي عليه السلام تقول: جاءت امرأة إلى النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها أفأكحلها؟ فقال رسول الله عليه السلام: لا -مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: لا- ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول.

قال حميد بن نافع: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها، فلم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلَّ ما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بَعْدُ ما شاءت من طيب أو غيره.

قال يحيى: قال مالك: الحِفْشُ البيت الرديء. وتفتض تمسح به جلدها كالنشرة".

وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى عن مالك.

وأبو داود (3): عن القعنبي عن مالك.

والنسائي (4): عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك

إلى آخره نحوه.

(1)"صحيح البخاري"(5/ 2042 رقم 5024).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1123رقم 1486).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 700 رقم 2299).

(4)

"المجتبى"(6/ 201 رقم 3533).

ص: 165

والترمذي (1): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى، عن مالك إلى قوله:"قال حميد بن نافع"، نحو رواية الطحاوي.

قوله: "فيه صفرة خلوق". برفع خلوق على أنه بدل من صفرة أو عطف بيان، ويجوز بالجر على إضافة الصفة إليه.

و"الخَلُوق" -بفتح الخاء وضم اللام-: طيب معروف مركب يتخذ من رعوان وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة.

قوله: "بعارضيها". أي خديها، وقد ذكرناه مستوفى.

قوله: "حين توفي أخوها" وهو عبيد الله بن جحش، خرج إلى الحبشة ثم تنصر بها، ومات على نصرانيته.

قوله: "جاءت امرأة" هي عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام.

قوله: "توفي زوجها" اسمه المغيرة كما ذكرناه فيما مضى.

قوله: "وقد اشتكت عينيها". وفي رواية البخاري ومسلم: "وقد اشتكت عينها" بتوحيد العين، ثم قالت شرَّاح البخاري: يجوز ضم نون العين على أن تكون العين هي المشتكية، ويجوز فتحها على أن تكون في "اشتكت" ضمير الفاعل وهي المرأة الحادة، وقيل: رجح الأول بما وقع في بعض الروايات: "وقد اشتكت عيناها".

قوله: "أفأكحلها". بهمزة الاستفهام، أي أفأكحل عينيها أنا؟ وفي رواية:"أفتكحلهما" أي أفتكحل عينيها هي، وفي رواية البخاري ومسلم:"أفنكحلها"[أي أفنكحل عينها](2) هي.

ثم هو من باب كَحَلَ يَكْحُلُ -كَنَصَرَ يَنْصُرُ- كَحْلًا بفتح الكاف.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 501 رقم 1197).

(2)

تكررت في "الأصل".

ص: 166

قوله: "دخلت حِفْشًا" الحِفْش -بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وبالشين المعجمة- قد فسره مالك في روايته بالبيت الرديء، وهو بيت صغير حقير قريب السمك. وقال المازرى: هو خصٌّ حقير. وقال أبو عبيد: الحِفش البيت الذليل قريب السمك؛ سمي به لضيقه، والتحفش الانضمام والاجتماع. وكذلك قال ابن الأعرابي. وقال القاضي: هو الدرج، وجمعه أحفاش.

وفي "المطالع" مثل الحِفْش شِبه القفة، تجمع فيه المرأة غزلها وسقطها كالدرج يصنع من الخوص يشبه البيت الصغير الحقير، ومنه: دخلت حفشًا لها.

قوله: "حمارٍ". بالجر بدل من قوله: "بدابة"، وما بعده عطف عليه.

قوله: "فتفتض به". قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالفاء والضاد المعجمة، قال القتيبي: سألت الحجازيين عنها فذكروا أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا وتخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش. وقال مالك: تفتض به تمسح به جلدها كالنشرة.

قلت: النشرة -بضم النون- ضرب من الرقية والطلع، يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يُكشف ويزال.

وقال الحسن: النشرة من السحر، وفي الحديث أنه سئل عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان.

وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه وعلى ظهره، وقيل: معناه تمسح به ثم تفتض أي تغتسل بالماء العذب حتى تصير بيضاء نقية كالفضة، وقيل: تفتض أي تفارق ما كانت عليه، وقال الأخفش: معناه تتنظف وتُنَقَّى من الدرن، تشبيهًا لها بالفضة في نقائها وبياضها.

وقال الخليل: الفضض الماء العذب، يقال: افتضضت به إذا اغتسلت به.

ص: 167

وذكر الأزهري أن الشافعي رواه: "تقبص" بالقاف والباء الموحدة والصاد المهملة، وهو الأخذ بأطراف الأصابع، وقرأ الحسن:"فقبصت قبصة من أثر الرسول"(1) والمعروف الأول.

وقال أبو داود (2): أخطأ فيه الشافعي وقال: تقبص. وفي "المطالع": فتفتض به بالفاء. كذا الرواية في هذه الكتب إلا أن المروزي رواه بالقاف في كتاب الطلاق، ونقله عنه بعضهم "فتقبض" بالباء، ومعنى الباء: تمسح به قبلها، فيموت بقبح ريحها وقذارتها، وسمي فعلها ذلك افتضاضًا؛ كأنه كسر لعدتها، والفض: الكسر.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن حفصة بنت عمر زوج النبي عليه السلام-أو عن عائشة زوج النبي عليه السلام أو عنهما كلتيهما-: أن رسول الله عليه السلام قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على متوفًى فوق ثلاث ليال إلا على زوجها".

ش: إسناده صحيح.

وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، روى له الجماعة.

وصفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية أخت المختار بن أبي عبيد الكذاب، امرأة عبد الله بن عمر، قال العجلي: هي مدنية ثقفية ثقة، روى لها مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

والحديث أخرجه مسلم (3): نا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وابن رمح، عن الليث بن سعد، عن نافع، أن صفية بنت أبي عبيد حدثته عن حفصة أو عن عائشة

(1) سورة طه، آية:[96].

(2)

رواه "أبو داود" في "سننه"(2/ 399 رقم 3868)، وأحمد في "مسنده"(3/ 294 رقم 14167) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 1126 رقم 1490).

ص: 168

أو عن كلتيهما: "أن رسول الله عليه السلام قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر -أو تؤمن بالله ورسوله- أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها".

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي عليه السلام-وهي أم سلمة- عن النبي عليه السلام مثله.

وزاد: "فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".

ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليًّا. وأيوب هو السختياني.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت نافعًا يحدث عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أمهات المؤمنين، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن نافع

فذكر بإسناده مثله.

ش: هذان طريقان صحيحان:

أحدهما: عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن نافع

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): عن ابن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزول النبي عليه السلام نحوه.

والآخر: عنه أيضًا، عن عارم أبي النعمان واسمه محمد بن الفضل السدوسي البصري، شيخ البخاري، وعارم لقبه، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي عليه السلام.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1126 رقم 1490).

ص: 169

وأخرجه مسلم (1): عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب

إلى آخره نحوه.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية قالت:"أمرنا رسول الله عليه السلام أن لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج، ولا تكتحل ولا تطَّيب، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْب".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا هشام بن حسان، عن حفصة، عن أم عطية، عن النبي عليه السلام مثله. غير أنه لم يذكر قوله:"إلا ثوب عَصْب".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن حفصة بنت سيرين -أخت محمد بن سيرين- عن يحيى: ثقة حجة، روى لها الجماعة، عن أم عطية -واسمها نُسَيْبَة- بنت كعب، ويقال: بنت الحارث الأنصارية الصحابية.

وأخرجه البخاري (1): حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية قالت:"كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل، ولا نطَّيب، ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار، وكنا نُنْهى عن اتباع الجنائز".

وأخرجه مسلم (2): ثثا أبو الربيع الزهراني قال: ثنا حماد قال: ثنا أيوب، عن حفصة، عن أم عطية

إلى آخره نحوه. غير قوله: "وكنا ننهى عن اتباع الجنائز"(3).

(1)"صحيح البخاري"(1/ 119 رقم 307).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1127 رقم 938).

(3)

وهذا الجزء من الحديث أخرجه أيضًا (2/ 646 رقم 938) من طرق ابن علية، عن أيوب.

ص: 170

وأخرجه بقية الجماعة (1) غير الترمذي.

قوله: "إلا ثوب عَصْب" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين وفي آخره باء موحدة.

والعصب برود يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج فيأتي موشيًّا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ، يقال: بردٌ عصب وبرود عصب بالتنوين والإضافة، وقيل: هي برود مخططة، والعصب الفتل، والعَصَّاب الغزَّال فيكون النهي للمعتدة عما صبغ بعد النسج.

وقال أحمد بن نصر: قوله: ثوب عصب يعني النضرة وهي الحِبَر.

وقوله الخضرة ليس بصواب. قاله القاضي. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس المصبغة والمعصفر إلا ما صبغ بالسواد، وّرخَّصَ في السواد مالك والشافعي، وهو قول عروة.

وكره ذلك الزهري وكره عروة والشافعي العصب، وأجاز ذلك الزهري لها.

وأجاز مالك غليظه.

وقال ابن المنذر: ورخَّص كل من يُحفظ عنه العلم في البياض.

وذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة فلا تلبسه الحادّ غليظًا كان أو رقيقًا، ونحوه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب قال: كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فتمتنع عنه الحادّ. ومنع بعض متأخري شيوخنا من جيد البياض الذي يتزين به ويتجمل، وكذلك الرفيع من السواد. وعن مالك: تجتنب الحِناء والصباغ إلا السواد إن لم يكن حريرًا، ولا تلبس الملون من الصوف، قال في "المدونة": إلا أن لا تجد غيره، ولا تلبس رقيقًا ولا عَصْب اليمن، ووسع في غليظه، وتلبس رقيق البياض وغليظ الحرير والكتان والقطن.

(1) أبو داود (1/ 702 رقم 2302)، والنسائي (6/ 202 رقم 3534)، وابن ماجه (1/ 674 رقم 2087).

ص: 171

وقال النووي: ويجوز لها لبس الحرير في الأصح، وتحرم حلي الذهب والفضة وكذلك اللؤلؤة، وفي اللؤلؤة وجه أنه يجوز.

والثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن هشام بن حسان الأزدي البصري، عن حفصة بنت سيرين

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (1): وقال: قال الأنصاري: حدثنا هشام، حدثتنا حفصة، حدثتني أم عطية:"نهى النبي عليه السلام ولا تمس الطيب إلا أدنى طهرها، وإذا طهرت نبذة من قسط وأظفار".

قلت: الأنصاري هو محمد بن عبد الله بن المثنى، قاضي البصرة شيخه، ولعله أخذه عنه مذاكرةً فلهذا لم يأت عنه بصيغة التحديث.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا حسان بن غالب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، أنه سمع القاسم بن محمد يخبر، عن زينب، أن أمها أم سلمة أخبرتها:"أن ابنة نعيم بن عبد الله العدوي أتت رسول الله عليه السلام فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وهي محدة، وقد اشتكت عينيها، أفتكتحل؟ فقال: لا، فقالت: يا نبي الله، إنما تشتكي عينيها فوق ما تظن، أفتكتحل؟ قال: لا يحل لمسلمة أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج. ثم قال: أَوَلستن؛ كنتن في الجاهلية تحد المرأة السنة، وتُجعل في السنة في بيت وحدها إلا أنها تطعم وتسقى، حتى إذا كان رأس السنة أخرجت ثم أتيت بكلب أو دابة، فإذا مستها ماتت، فخفف ذلك عنهن وجعل أربعة أشهر وعشرًا".

ش: حسان بن غالب بن نجيح المصري، ضعفه ابن حبان وغيره، ووثقه ابن يونس.

وابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال.

(1)"صحيح البخاري"(5/ 2042 عقب رقم 5028).

ص: 172

وأبو الأسود اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود المدني يتيم عروة، روى له الجماعة.

وأخرجه الطبراني (1) مختصرًا: ثنا الحسن بن غليب المصري، ثنا عمران بن هارون الرملي (ح).

وحدثنا زكرياء بن يحيى الساجي، ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن، أنه سمع القاسم بن محمد يحدث، عن زينب، أن أم سلمة أخبرتها:"أن بنت نعيم بن عبد الله العدوي أتت النبي عليه السلام فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها -وكانت تحت المغيرة المخزومي- وهي تحدّ، وهي تشتكي عينيها، أفتكتحل؟ قال: لا، ثم صمتت ساعة، ثم قالت: إنها تشتكي عينيها فوق ما تظن، أفتكتحل؟ قال: لا، ثم قال: لا يحل لمسلمة أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا".

قوله: "إن ابنة نعيم بن عبد الله" قد ذكرنا عن قريب أن اسمها عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام.

قوله: "توفي زوجها" قد صرَّح الطبراني في روايته أن زوجها المغيرة المخزومي.

قوله: "وهي محدة" جملة اسمية وقعت حالاً. ومحدَّة من أَحَدَّت تُحِدُّ إحدادًا.

قوله: "أفتكتحل؟ " الهمزة فيه للاستفهام.

ص: ففي هذه الآثار ما قد دل أن إحداد المتوفى عنها زوجها قد جعل في كل عدتها، وقد كان قبل ذلك في ثلاثة أيام من عدتها خاصةً على ما في حديث أسماء رضي الله عنها.

ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رويت عن عائشة وأم سلمة وأم حبيبة وحفصة بنت عمر وبعض أمهات المؤمنين وأم عطية رضي الله عنهن يعني هذه

(1)"المعجم الكبير"(23/ 349 رقم 818).

ص: 173

الأحاديث كلها تخبر أن إحداد المتوفى عنها زوجها قد جعل في جميع عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك بعد أن كان في ثلاثة أيام من عدتها خاصةً على ما بينه في حديث أسماء بنت عميس، وقد ذكرنا أنه نسخ بالأحاديث المذكورة، واستمر الحكم على أن تحد المرأة مقدار أيام عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، ولا تحد على ميت غير زوجها كثر من ثلاثة أيام.

فإن قيل: قد روي عن النبي عليه السلام أنه رخَّص للمرأة أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، وعلى أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام.

قلت: هذا حديث غير صحيح؛ لما قدمنا من أن أم حبيبة لما توفي أبوها تطيبت بعد ثلاثة أيام؛ ولعموم الأحاديث، ولأن هذا الحديث ذكره أبو داود في المراسيل (1) عن عمرو بن شعيب، أن النبي عليه السلام قال

فذكره معضلاً، ثم إن ذكر أبي داود هذا في المراسيل غير موجه؛ لأن عمروًا ليس تابعيًّا، اللهم إلا إذا أراد بالإرسال الانقطاع، فيتجه حينئذٍ. فافهم.

ص: ثم قد روي عن رسول الله عليه السلام في أمر الفريعة بنت مالك ما حدثنا يونس، قال: أخبرني أنس بن عياض، قال: أخبرني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة الأنصاري، عن زينب بنت كعب، قالت: أخبرتني الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أنه أتاها نَعِيّ زوجها، خرج في طلب أعلاج له فأدركهم بطرف القدوم فقتلوه، قالت: فجئت رسول الله عليه السلام فقلت: يا رسول الله، إنه أتاني نَعِيّ، زوجي وأنا في دارٍ من دور الأنصار شاسعة عن دور أهلي، وأنا أكره القعدة فيها، وإنه لم يتركني في مسكن ولا مال يملكه ولا نفقة أنفق عليَّ، فإن رأيت أن ألحق بأخي فيكون أمرنا جميعًا، فإنه أجمع لي في شأني وأحب إلي.

قال: إن شئت فالحقي بأهلك. قالت: فخرجت مستبشرة بذلك حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني -أو دعيت له- فقال: كيف زعمت؟ فرددت عليه

(1)"مراسيل أبي داود"(1/ 295 رقم 409).

ص: 174

الحديث من أوله، فقال: امكثي في البيت الذي جاءك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فأرسل إليها عثمان رضي الله عنه فسألها فأخبرته فقضى به.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: حدثني الليث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن يزيد بن محمد، عن سعد بن إسحاق بن كعب

ثم ذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: حدثني يزيد بن زريع، قال: حدثني شعبة وروح بن القاسم، جميعًا عن سعد بن إسحاق

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن إسحاق

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن سعد

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن سعد

فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يذكر سؤال عثمان إياها ولا قضائه به.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن سعد

فذكر بإسناده مثله.

غير أنه قال: الفارعة. ولم يقل: الفريعة. وذكر أيضًا سؤال عثمان إياها ولم يذكر قضاءه به.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن سعد بن إسحاق -أو إسحاق بن سعد- ثم ذكر بإسناده مثله. وقال: الفريعة، ولا أدري أذكر سؤال عثمان إياها وقضاءه به أم لا؟

ص: 175

ش: هذه ثمانية طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة القضاعي ثم البلوي المدني، قال يحيى والنسائي وابن حبان والدارقطني: ثقة. روى له الأربعة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة زوجة أبي سعيد الخدري، ذكرها ابن حبان في الثقات التابعيات، عن الفُرَيعة -بضم الفاء، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح العين المهملة، وبعدها تاء تأنيث- بنت مالك بن شيبان الخدرية الأنصارية، أخت أبي سعيد الخدري، ويقال لها: الفارعة أيضًا.

وأخرجه الأربعة على ما نذكره، ولكن الطبراني (1) أخرجه بهذا الإسناد: ثنا أحمد بن عمرو الخلال، ثنا يعقوب بن حميد، ثنا عبد العزيز بن محمد وأنس بن عياض ومروان بن معاوية، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، أخبرتني عمتي زينب بنت كعب، عن فريعة، عن النبي عليه السلام مثله.

فإن قيل: كيف قلت: إنه صحيح وقد قال ابن حزم: في سنده زينب بنت كعب وهي مجهولة لم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق بن كعب، وهو غير مشهور بالعدالة، على أن الناس أخذوا عنه هذا الحديث آخرًا منه؛ ولأنه لم يوجد عند أحد سواه، فسفيان يقول: سعيد ومالك وغيره يقولون: سعد، والزهري يقول: عن ابن كعب بن عجرة. فبطل الاحتجاج به؛ إذ لا يحل أن يؤخذ عن رسول الله عليه السلام إلا ما ليس في إسناده مجهول ولا ضعيف.

قلت: هو صحيح، وكلام ابن حزم فاسد، وليس في إسناده مجهول ولا ضعيف، أما المجهول الذي زعم أنه زينب بنت كعب بن عجرة فهو زعم فاسد؛ لأن زينب بنت كعب مشهورة؛ حتى إن أبا إسحاق الطليطلي وابن فتحون ذكراها في جملة الصحابة ومَنْ كانت بهذه المثابة فلا يقال فيها ما ذكره من الكلام الساقط. وأما

(1)"المعجم الكبير"(1091).

ص: 176

الضعيف الذي زعم أنه سعد بن إسحاق فليس كذلك؛ لأنا ذكرنا أن جماعة قد وثقوه، وقال أبو عمر: هو ثقة لا يختلف في عدالته، وقال أيضًا: هذا حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق.

وأخرجه ابن حبان (1) وابن الجارود (2) والحاكم (3) والطوسي والأربعة (4).

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ولم يلتفت إلى قول أحد، بل حكم عليه بالصحة.

وأما ما ذكره سفيان: "يقول سعيد" فإن جماعة قالوا: وَهِمَ سفيان في تسميته، وأن مالكًا وغيره هم المصيبون في اسمه.

قوله: "في طلب أعلاج له". الأعلاج جمع عِلْج -بكسر العين وسكون اللام- وهو الرجل من كفار العجم وغيرهم، ويجمع على علوج، وأريد بهم ها هنا مواليه من العجم.

قوله: "بطرف القدوم" أي في طرف القَدُوم -وهو بفتح القاف وضم الدال المخففة- اسم موضع على ستة أميال من المدينة، وجاء في الحديث الآخر:"أن إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم" قيل: هي قرية بالشام. والقَدُّوم -بتشديد الدال-: قَدُّوم النجار، ويقال بالتخفيف أيضًا.

قوله: "شاسعة" أي بعيدة، يقال: رجل شاسع الدار أي بعيدها.

قوله: "وأنا أكره القِعْدة فيها" بكسر القاف أي القعود، ولكن القعدة بالكسر تدل على هيئة مخصوصة، وبالفتح على المرة.

(1)"صحيح ابن حبان"(10/ 128 رقم 4292).

(2)

"المنتقى"(1/ 190 رقم 795).

(3)

"المستدرك"(2/ 226 رقم 2832).

(4)

أبو داود (1/ 107 رقم 2300)، والنسائي (6/ 199 رقم 3528)، والترمذي (2/ 508 رقم 1204)، وابن ماجه (1/ 654 رقم 2031).

ص: 177

قوله: "حتى يبلغ الكتاب أجله" أراد به انقضاء عدتها.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فيه أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه.

وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام ومصر. وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها ليس لها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت. قاله أبو عمر.

وقال ابن حزم (1) في "المحلى": وروينا من طريق عبد الرازق، عن ابن جريج، عن عطاء قال:"لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت".

وروي كذلك عن الحسن البصري، وقد استوفينا الكلام فيه في أول الباب.

الثاني: فيه إيجاب العمل بخبر واحد، ألا ترى إلى عمل عثمان رضي الله عنه به وقضائه في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيتها في جماعة من الصحابة من غير نكير؟

الثالث: فيه جواز إتيان المرأة إلى العالم وسؤالها عن ما أعضل عليها من أمر دينها.

الرابع: فيه جواز خروج المعتدة من الوفاة عن بيتها بالنهار لأجل ضرورتها وحاجتها.

الطريق الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن يزيد بن محمد بن قيس بن عكرمة المطلبي المصري -وثقه ابن حبان، وروى له البخاري مقرونًا بيزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك.

(1)"المحلى"(10/ 285).

ص: 178

وأخرجه النسائي (1): أنا قتيبة، نا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن يزيد بن محمد، عن سعد بن إسحاق، عن عمته زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك:"أن زوجها تكارى علوجًا ليعملوا له فقتلوه، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام وقالت: إني لست في مسكنٍ له ولا يجري عليَّ منه رزق، أفأنتقل إلى أهلي وأقوم عليهم؟ قال: افعلي، ثم قال: كيف قلتِ؟ فأعادت عليه قولها، فقال: اعتدي حيث بلغك الخبر".

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن منهال الضرير البصري الحافظ شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن شعبة بن الحجاج وروح بن القاسم التميمي العنبري البصري، كلاهما عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(2): نا شعبة، عن سعد بن إسحاق، عن زينب، عن فريعة أخت أبي سعيد:"أن زوجها تَبِعَ أعلاجًا فقتلوه وهو في قرية من قرى المدينة، فأتت النبي عليه السلام فذكرت ذلك له، واستأذنت بأن تأتي إخوانها فتعتد عندهم، فأذن لها، ثم دعاها -أو دعيت له- فقال: امكثي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله".

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي -نزيل مصر- عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك.

وأخرجه الطبراني (3): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبو النعمان، ثنا حماد بن

(1)"المجتبى"(6/ 199 رقم 3529).

(2)

"مسند الطيالسي"(1/ 231 رقم 1664).

(3)

" المعجم الكبير"(24/ 440 رقم 1077).

ص: 179

زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن فريعة بنت مالك -قال حماد: وقد سمعته من سعد بن إسحاق-: "أن زوجها خرج في طلب غلام له فقتل بطرف القدوم، فأتت النبي عليه السلام فاستأذنته أن تنتقل إلى أهلها فأذن لها، فلما أدبرت ناداها، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".

الخامس: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك.

وأخرجه مالك (1) في "موطإه": عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفريعة بنت مالك بن سنان -وهي أخت أبي سعيد الخدري- أخبرتها:"أنها جاءت إلى رسول الله عليه السلام تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة؛ فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أَبِقُوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله عليه السلام أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله عليه السلام: نعم. قالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله عليه السلام-أو أمر بي فنوديت له- فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان [عثمان] (2) رضي الله عنه أرسل إليَّ، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به".

وأخرجه أبو داود (3): عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك

إلى آخره نحوه.

(1)"موطأ مالك"(2/ 591 رقم 1229).

(2)

تكررت في "الأصل".

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 291 رقم 2300).

ص: 180

وأخرجه الترمذي (1): عن الأنصاري، عن معن، عن مالك

إلى آخره نحوه.

ثم اعلم أنه وقع في رواية يحيى بن يحيى، عن مالك، عن سعيد بن إسحاق بزيادة الياء بعد العين، وكذا وقع في رواية عبد الرازق والبخاري في "تاريخه"، ووقع في رواية الجمهور عنه سعد بدون الياء وهو الصحيح، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك عن قريب.

السادس: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سعد بن إسحاق

إلى آخره.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب، عن فريعة بنت مالك:"أن زوجها قتل بالقدوم، فأتت النبي عليه السلام فقالت: إن لها أهلاً، فأمرها أن تنتقل، فلما أدبرت دعاها، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".

وهذا كما ترى وقع في روايته سعيد بالياء.

السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن سعد بن إسحاق

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (3): أنا محمد بن العلاء، نا ابن إدريس، عن شعبة وابن جريج ويحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفارعة بنت مالك:"أن زوجها خرج في طلب أعلاج -قال شعبة وابن جريج: وكانت في دار قاصية- فجاءت ومعها أخواها إلى رسول الله عليه السلام فذكروا له، فرخَّص لها، حتى إذا رجعت، دعاها فقال: اجلسي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".

(1)"جامع الترمذي"(3/ 508 رقم 1204).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(7/ 34 رقم 12075).

(3)

"المجتبى"(6/ 199 رقم 3528)، و"السنن الكبرى"(3/ 393 رقم 5722).

ص: 181

الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن زهير بن معاوية بن حديج، أحد الأئمة الحنفية الكبار، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة -أو إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة، وشك فيه زهير.

وكذا أخرجه الطبراني (1): عن الفضل بن حباب، عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة، حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة -أو إسحاق بن سعد شك شعبة- أنه سمع عمته زينب تحدث عن فريعة:"أنها كانت مع زوجها في قرية من قرى المدينة، وأنه أتبع أعلاجًا فقتلوه، فأتت رسول الله عليه السلام فذكرت له الوحشة، وذكرت أنها استأذنته أن تأتي إخوتها بالمدينة فأذن لها، ثم دعاها فقال: امكثي في بيتك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله".

ص: فمنع رسول الله عليه السلام الفريعة عن الانتقال من منزلها في عدتها، وجعل ذلك من إحدادها، وقد ذكرنا في حديث أسماء أن النبي عليه السلام قال لها:"تسلبي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت" حين توفي زوجها وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ففي ذلك أنه ليس عليها أن تحد أكثر من ثلاث. وكلُّ قد أجمع أن ذلك منسوخ؛ لزكهم ذلك واستعمالهم حديث زينب بنت جحش وعائشة وأم سلمة وأم حبيبة، وما ذكرنا مع ذلك مما يوجب الإحداد في العدة كلها، وكل ما ذكرنا في الإحداد.

وإنما قصد بذكره المتوفى عنها زوجها فاحتمل أن يكون ذلك للعدة التي تجب بعقد النكاح، فتكون كذلك المطلقة، عليها في ذلك من الإحداد في عدتها مثل ما على المتوفى عنها زوجها.

واحتمل أن يكون ذلك خصت به العدة من الوفاة خاصةً.

(1)"المعجم الكبير"(24/ 442 رقم 1081).

ص: 182

فنظرنا في ذلك إذ كانوا قد تنازعوا في ذلك واختلفوا، فقال قائلون: لا يجب على المطلقة في عدتها إحدادٌ. وقال آخرون: بل الإحداد عليها في عدتها كما هو على المتوفى عنها زوجها.

فرأينا المطلقة في عدتها منهية عن الانتقال من منزلها في عدتها كما نهيت المتوفى عنها زوجها، وذلك حق عليها ليس لها ترك ذلك كما ليس لها ترك العدة.

فلما ساوت المتوفى عنها زوجها في وجوب بعض الإحداد عليها ساوتها في وجوب كليته عليها.

فثبت بما ذكرنا وجوب الإحداد على المطلقة في عدتها.

ش: هذا كلام ظاهر، وقد حققناه في أول الباب.

قوله: "وجعل ذلك" أي عدم انتقالها من منزلها.

قوله: "وكلٌّ قد أجمع" أي الأخصام كلهم مجمعون "أن ذلك منسوخ".

قوله: "إذ كانوا قد تنازعوا" أي حين كانوا قد تنازعوا.

قوله: "فقال قائلون" وهم: عطاء بن أبي رباح وربيعة ومالك والشافعي والليث ابن سعد وابن المنذر وأهل الظاهر.

قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم: سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عتيبة وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو عبيد وأبو ثور، والشافعي في قول.

وقد استوفينا ذكر ذلك فيما مضى.

ص: وقد قال بذلك جماعة من المتقدمين:

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال "سألت جابرًا: أتعتد المطلقة والمتوفى عنها زوجها أم تخرجان؟ فقال: لا، فقلت: أتتربصان حيث أرادتا؟ فقال جابر: لا".

ص: 183

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الله بن محمد الفهمي، قال: أنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أنه قال في المطلقة: أنها لا تعتكف، ولا المتوفى عنها، ولا تخرجان من بيوتهما حتى توفيا أجلهما".

فهذا جابر بن عبد الله قد روى عن النبي عليه السلام في إذنه لخالته في الخروج في جداد نخلها في عدتها، مما قد ذكرناه فيما قد تقدم من هذا الكتاب.

ثم قال هو بخلاف ذلك؛ فهذا دليل على ثبوت نسخ ذلك عنده.

وفي حديث جابر أيضًا الذي ذكرناه عنه من قوله؛ تسويته بين المطلقة والمتوفى عنها في ذلك؛ فلما كانتا في عدتهما سواء في بعض الأحداد، كذلك في كل الإحداد، وقد كان قبل ذلك في بعض العدة على ما ذكرنا في حديث أسماء، ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة، فيحتمل أن يكون ما أمرت به خالة جابر رضي الله عنه كان والإحداد إنما هو في الثلاثة الأيام من العدة، ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة.

ش: أي وقد قال بوجوب الإحداد على المطلقة كالمتوفى عنها زوجها، وبعدم جواز انتقال المتوفى عنها زوجها من بيتها، جماعة من المتقدمين منهم: جابر بن عبد الله رضي الله عنها فإنه قد سوَّى بين المطلقة والمتوفى عنها زوجها في عدم جواز خروجهما من بيتهما، فكانتا في عدتهما سواء في بعض الإحداد، وهو النهي عن الخروج من البيت، فكذلك كانتا سواء في كل الإحداد، فوجب على المطلقة الإحداد كما وجب على المتوفى عنها زوجها، وقد ذكر فيما مضى أن الإحداد كان في بعض العدة وهو ثلاثة أيام كما صرَّح بذلك في حديث أسماء بنت عميس ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة.

فإذا كان كذلك يحتمل أن ما أمرت به خالة جابر من خروجها إلى جداد نخلها إنما كان حين كان وجوب الإحداد في ثلاثة أيام من العدة ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في جميع العدة، وقد حققنا هذا فيما مضى مستقصًى.

ص: 184

قوله: "فهذا جابر

" إلى آخره. إشارة إلى بيان نسخ حديثه الذي روى عن خالته حين أذن لها بالخروج إلى جداد نخلها، وذلك لأن جابرًا قد أفتى بخلاف ذلك بعد روايته، فهذا يدل على أن ذلك قد نُسخ وثبت نسخه عنده، إذ لو لم يثبت ذلك لما أقدم إلى القول بخلافه.

ثم إنه أخرج ما روي عن جابر من طريقين رجالهما ثقات، غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، ولكن الطحاوي قد يحتج بحديثه لما ثبت عنده من ثقته وأمانته، وكيف وقد روى عنه أئمة كبار مثل: الليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري ومات قبله، والأوزاعي ومات قبله، وعبد الله بن وهب. وعن أحمد: مَنْ كان بمصر مثل ابن لهيعة في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟! وحدث عنه أحمد بحديث كثير.

قوله: "أتتربصان" من التربص وهو المكث والانتظار.

فإن قيل: قول جابر هذا يعارضه قوله الآخر.

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا محمد بن [ميسر](2)، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن أبي الزبير، عن جابر أنهما قالا:"تعتد المتوفى عنها زوجها حيث شاءت".

قلت: يحتمل أن يكون قوله هذا قبل قوله: "لا تخرج المتوفى عنها زوجها من بيتها" كما أنه قد روى عن خالته بما يوافق قوله هذا، ثم لما ظهر عنده انتساخ حديث خالته رجع عما قاله وأفتى بخلافه. والله أعلم.

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن المتقدمين:

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا منصور (ح).

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 156 رقم 18876).

(2)

في "الأصل": مبشر. وهو تحريف، والمثبت من "المصنف"، و"تهذيب الكمال" ومصادر ترجمته.

ص: 185

وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب:"أن عمر رضي الله عنه ردَّ نسوة من ذي الحليفة توفي عنهن أزواجهن، فخرجن في عدتهن".

ش: أي وقد روي أيضًا في عدم جواز خروج المتوفى عنها زوجها من بيتها إلى انقضاء عدتها عن المتقدمين، منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

أخرج عنه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب.

وأخرجه ابن حزم (1): من حديث منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب:"أن عمر رضي الله عنه ردَّ نسوة من ذي الحليفة حَاجَّات أو معتمرات توفي عنهن أزواجهن".

الثاني: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن منصور

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب:"أن عمر رضي الله عنه ردَّ نسوةً حاجات أو معتمرات خرجن في عدتهن".

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: "أن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنها قالا في المتوفى عنها زوجها وبها فاقة شديدة، فلم يرخصا لها أن تخرج من بيتها إلا في بياض نهارها، تصيب من طعامهم، ثم ترجع إلى بيتها فتبيت فيه".

ش: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعًا.

(1)"المحلى"(10/ 286).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 154 رقم 18848).

ص: 186

والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو.

وأخرجه ابن أبي شيبة (1) في "مصنفه": ثنا وكيع، عن علي بن مبارك، عن يحيى ابن أبي كثير، عن ابن ثوبان:"أن امرأة توفي عنها زوجها وبها فاقة، فسألت عمر رضي الله عنه أن تأتي أهلها، فرخص لها أن تأتي أهلها بياض يومها".

ثنا وكيع (2)، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن "أن امرأة من الأنصار توفي عنها زوجها، فسألت زيد بن ثابت رضي الله عنه فلم يرخص لها إلا في بياض يومها أو ليلتها"(1).

قوله: "وبها فاقة" أي احتياج وفقر.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله وابن أبي ليلى وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه قال في المتوفى عنها زوجها: لا تبيت في غير بيتها".

ش: إسناده صحيح. وقبيصة هو ابن عقبة شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري. وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي الفقيه، قاضي الكوفة، فيه مقال، ذكر متابعًا.

وأخرجه ابن أبي شيبة (3) في "مصنفه": ثنا عبدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:"لا تبيت المبتوتة ولا المتوفى عنها زوجها إلا في بيتها حتى تنقضي عدتها".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن قسيط، عن مسلم بن السائب، عن أمه قالت: "لما توفي السائب ترك زرعًا بقناة، فجئت ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن السائب توفي وترك ضيعة من زرع

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 155 رقم 18862).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 155 رقم 18863).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 153 رقم 18837).

ص: 187

بقناة، وترك غلمانًا صغارًا، ولا حيلة لهم، وهي لنا دار ومنزل، أفأنتقل إليها؟ قال: لا تعتدي إلا في البيت الذي توفي فيه زوجك، اذهبي إلى ضيعتك بالنهار وارجعي إلى بيتك بالليل فبيتي فيه، فكنت أفعل ذلك".

ش: ابن أبي داود هو إبراهيم، قد تكرر ذكره.

والوهبي: هو أحمد بن خالد الكندي، شيخ البخاري في غير الصحيح.

وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني.

ويزيد بن قسيط: هو يزيد بن عبد الله بن قسيط المدني الأعرج، روى له الجماعة.

ومسلم بن السائب بن خباب صاحب المقصورة، قال ابن حبان: هو من التابعين الثقات، وأدخله قوم في الصحابة ظنوا أن له صحبة، روى له النسائي في "اليوم والليلة".

وأمه أم مسلم (1).

وأخرجه مالك (2) في "موطإه": عن يحيى بن سعيد: "أنه بلغه أن السائب بن خباب توفي، وأن امرأته جاءت إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فذكرت له وفاة زوجها، وذكرت له حرثًا لهم بقناة، وسألته: هل يصلح لها أن تبيت فيه، فنهاها عن ذلك، فكانت تخرج من المدينة سَحَرًا فتصبح في حرثهم، فتظل فيه يومها ثم تدخل المدينة إذا أمست فتبيت في بيتها".

قوله: "لما توفي السائب" هو السائب بن خباب صاحب المقصورة، مولى فاطمة بنت عقبة بن ربيعة بن عبد شمس، له صحبة، توفي سنة سبع وستين.

قوله: "بقناة" أي في قناة، قال ابن الأثير: القناة واد من أودية المدينة عليه حرث وزرع ومال، وقد يقال: وادي قناة وهو غير مصروف.

قلت: للعلمية والتأنيث.

(1) بيَّض لها المؤلف رحمه الله.

(2)

"موطأ مالك"(2/ 592 رقم 1231).

ص: 188

قوله: "لا حيلة لهم" أي لا قوة لهم في العمل؛ لصغرهم.

قوله: "أفأنتقل إليها" الهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "فَبِيتِي" بكسر الباء، أمر للمؤنث من بَاتَ يَبِيتُ، وللمذكر: بِتْ، كبِع وبيعي.

واستفيد منه: أن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها أن تنتقل من بيتها حتى تنقضي عدتها، وأن لها أن تخرج بالنهار لأجل ضروراتها، ولا تبيت إلا في منزلها.

وعن محمد بن الحسن: أنه لا بأس أن تنام عن بيتها أقل من نصف الليل؛ لأن البيتوتة في العرف عبارة عن الكون في البيت أكثر الليل، فما دونه لا تسمى بيتوتة في العرف.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: سمعت أم مخرمة تقول: [سمعت](1) أم مسلم بن السائب تقول: "لما توفي السائب فسألت ابن عمر عن الخروج فقال: لا تخرجي من بيتك إلا لحاجة، ولا تبيتي إلا فيه، حتى تنقضي عدتك".

ش: هذا طريق آخر، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير أبي المسور المدني، عن مالك: كان رجلاً صالحًا. وعن أحمد: ثقة، ولم يسمع من أبيه شيئًا إنما يروي عن كتاب أبيه. وعن ابن معين: ضعيف. وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا في الوتر. روى له البخاري في "الأدب"، ومسلم وأبو داود والنسائي.

عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي مولى بني مخزوم -روى له الجماعة.

عن أم مخرمة (2).

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

بيَّض لها المؤلف رحمه الله.

ص: 189

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال:"لا تنتقل المبتوتة من بيت زوجها في عدتها".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال في المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثًا:"لا تنتقلان، ولا تبيتان إلا في بيوتهما".

ش: هذان وجهان آخران عن عبد الله بن عمر، وإسنادهما صحيح.

وحسين بن مهدي بن مالك البصري، شيخ الترمذي وابن ماجه.

ومعمر هو ابن راشد، والزهري هو محمد بن مسلم، والخصيب هو ابن ناصح الحارثي، وحماد هو ابن سلمة، وأيوب هو السختياني.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر نحوه.

وابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن عبدة، عن عبيد الله، عن نافع نحوه.

ص: حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن منصور، عن إبراهيم قال:"كانت امرأة في عدتها، فاشتكى أبوها، فأرسلت إلى أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّ ما ترين فإن أبي اشتكى، أفآتيه فَأُمُرِّضُه؟ قالت: بيتي في بيتك طرفي الليل".

ش: سليمان هو ابن شعيب الكيساني.

وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي، وثقه أبو حاتم (3).

(1)"مصنف عبد الرزاق"(7/ 26 رقم 12039).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 153 رقم 18837).

(3)

بل قال صدوق كما في "الجرح والتعديل"(5/ 235) وفيه: قال أبو زرعة: لا بأس به. وقال ابن حبان: ربما أخطأ. كما في "الثقات"(8/ 374).

ص: 190

ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، لم يدرك أم سلمة رضي الله عنها، واسمها هند.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال:"كانت امرأة تعتد من زوجها توفي عنها، فاشتكى أبوها، فأرسلت إلى أم سلمة تسألها: أتأتي أباها تمرضه؟ فقالت: إذا كنت أحد طرفي النهار في بيتك".

قوله: "فاشتكى أبوها" أي مرض، من الشكْو وهو المرض، وكذلك الشكوى والشكاة والشكاية.

قوله: "أن ما ترين" وفي بعض النسخ: "أن ما تأمرين" وكلاهما صحيح، و"أن" بالفتح والتخفيف: مفسرة.

قوله: "أفآتيه، الهمزة للاستفهام، أي أفآتي أبي فأمرضه؟ من التمريض وهو القيام على المريض بمصالحه.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، أنه سمع القاسم بن محمد "يرى أن تخرج المطلقة إلى المسجد". قال بكير: وقالت عمرة عن عائشة رضي الله عنها: "تخرج من غير أن تبيت عن بيتها".

ش: رجاله ثقات؛ وقد ذكر مخرمة وأبوه بكير بن عبد الله الآن.

والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.

وعمرة هي بنت عبد الرحمن الأنصارية، مدنية تابعية ثقة.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع:"أن ابنة سعيد كانت تحت عبد الله بن عمر فطلقها البتة، فانتقلت، فأنكر ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنها".

ش: رجاله كلهم رجال الصحيح.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 155 رقم 18864).

ص: 191

وسعيد هو ابن زيد أحد العشرة المبشرة.

قوله: "البتة" أراد بها الطلاق البائن.

قوله: "فأنكر ذلك" أي انتقالها من بيتها وهي معتدة عن الطلاق البائن.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن حميد بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء، يمنعهن الحج".

ش: إسناده صحيح.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (2): نا أبو خالد الأحمر، عن مالك بن أنس، عن حميد بن قيس، عن سعيد بن المسيب قال:"رد عمر رضي الله عنه نسوة توفي عنهن أزواجهن من البيداء، يمنعهن الحج" انتهى.

و"البيداء" الصحراء المتصلة بذي الحليفة.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر قال:"لا تبيت المتوفى عنها زوجها ولا المطلقة إلا في بيتها".

ش: أخرجه مالك في "موطإه"(3).

ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا الليث، عن أيوب بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن الدؤلي:"أن علقمة بن عبد الرحمن بن أبي سفيان طلق امرأة من أهله البتة، ثم خرج إلى العراق. فسألت ابن المسيب والقاسم وسالم بن عبد الله وخارجة وسليمان بن يسار: هل تخرج من بيتها؟ فكلهم يقول: لا، تقعد في بيتها".

(1)"موطأ مالك"(2/ 591 رقم 1230).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 154 رقم 18854).

(3)

"موطأ مالك"(2/ 592 رقم 1233).

ص: 192

ش: يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري شيخ البخاري. والليث هو ابن سعد، وأيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبو موسى المكي، روى له الجماعة.

ومحمد بن عبد الرحمن بن نضلة الدؤلي من أهل المدينة، وثقه ابن حبان.

والدُّؤَلِي -بضم الدال وفتح الهمزة- نسبة إلى الدئل من كنانة -بضم الدال وكسر الهمزة- وإنما تفتح في النسبة.

وعلقمة بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب بن عبد العزى القرشي المدني، وهو الذي طلق امرأة من أهل محمد بن عبد الرحمن الدؤلي وكانت بنت عم محمد بن عبد الرحمن.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا أبو زكير يحيى بن محمد القرشي، عن ابن عجلان، عن عبد الرحمن بن نضلة قال:"طلقت بنت عمٍ لي ثلاثًا البتة، فأتيت سعيد بن المسيب أسأله فقال: تعتد في بيت زوجها حيث طُلِّقت. قال: وسألت القاسم وسالمًا وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار، كلهم يقول مثل قول سعيد".

قوله: "فكلهم يقول: لا" أي لا تخرج من بيتها.

قوله: "تقعد في بيتها" كلام مستأنف وليس هو مدخول "لا" التي للنهى، أي تقعد في بيتها ولا تخرج.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام قال: ثنا حماد، عن إبراهيم قال:"المطلقة ثلاثًا والمختلعة والمتوفى عنها زوجها والملاعنة، لا يختضبن، ولا يتطيبن، ولا يلبسن ثوبًا مصبوغًا ولا يخرجن من بيوتهن".

ش: إسناده صحيح.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 152 رقم 18834).

ص: 193

ومسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي البصري، شيخ البخاري وأبي داود.

وهشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، روى له الجماعة.

وحماد هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة.

وإبراهيم هو النخعي.

وأخرجه أبو حنيفة: عن حماد، عن إبراهيم نحوه.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"تعتد المعتدة في بيت زوجها، ولا تكتحل بكحل زينة".

وكذا أخرج عن محمد بن سيرين وابن المسيب، وقال (2): نا أبو داود، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب، عن محمد، قال:"المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها لا تكتحلان ولا تختضبان".

وثنا وكيع (3)، عن سفيان، عن عبد العزيز، عن سعيد بن المسيب قال:"المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها سواء في الزينة".

ص: فهؤلاء الذين روينا عنهم الآثار من أصحاب رسول الله عليه السلام والتابعين قد منعوا المتوفى عنها من السفر والانتقال من بيتها في عدتها، ورخصوا لها في الخروج في بياض نهارها على أن تبيت في بيتها، وقد قرن بعضهم معها المطلقة المبتوتة فجعلها كذلك في منعه إياها من السفر والانتقال من بيتها في عدتها ولم يرخص أحد منهم لها في الخروج نهارًا كما رخص للمتوفى عنها زوجها في الخروج من بيتها في بياض نهارها على الضرورة.

وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: هذا كله ظاهر.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 164 رقم 18964).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 164 رقم 18965).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 164 رقم 18963).

ص: 194

قوله: "وقد قرن بعضهم معها" أي مع المتوفى عنها زوجها، وأراد بالبعض عبد الله بن عمر من الصحابة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد ابن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار وإبراهيم النخعي رضي الله عنهم.

ص: فإن قال قائل: فإن عائشة رضي الله عنها قد سافرت بأختها أم كلثوم في عدتها، وذكر في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا أحمد بن يونس، قال: حدثني جرير بن حازم، قال: سمعت عطاء يقول: "حجت عائشة بأختها أم كلثوم في عدتها".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو غسان، قال: حدثني جرير، قال: سمعت عطاء يقول: "حجت عائشة بأختها في عدتها من طلحة بن عبيد الله".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا أفلح، عق القاسم، عن عائشة رضي الله عنها:"أنها حجت بأختها أم كلثوم في عدتها".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة مثله.

ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى أن للمطلقة والمتوفى عنها زوجها أن تسافرا في عدتهما إلى حيث ما شاءتا.

تقريره أن يقال: إن ما رويتم من الآثار يعارضها ما روي عن عائشة؛ فإنها قد سافرت إلى مكة ومعها أختها أم كلثوم وهي في العدة من طلحة بن عبيد الله.

وأخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس -شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن جرير بن حازم، عن عطاء بن أبي رباح.

ص: 195

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن أسامة، عن القاسم. وعن جرير بن حازم، عن عطاء:"أن عائشة أحجت أم كلثوم في عدتها".

الثاني: عن علي بن شيبة، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن جرير بن حازم، عن عطاء.

وأخرجه عبد الرازق (2): عن معمر، عن الزهري، عن عائشة:"أنها خرجت بأختها أم كلثوم -حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله- إلى مكة في عمرة".

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن وكيع، عن أسامة، عن القاسم، عن عائشة، نحوه.

الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أيوب بن موسى بن عمرو المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة.

وأخرجه ابن حزم (4): من حديث حماد بن سلمة، عن قيس بن عباد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة أم المؤمنين:"أنها حجت بأختها أم كلثوم -امرأة طلحة بن عبيد الله- في عدتها في الفتنة" انتهى.

وطلحة بن عبيد الله بن عثمان أحد العشرة المبشرين بالجنة، قتل يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وهو وابن أربع وستين، وقبره بالبصرة. وقال الواحدي: قتل يوم الجمل، قال خليفة: أصابته سهم غريب فقتله، قال العجلي: ويقال: إن مروان قتله.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 325 رقم 14642).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(7/ 29 رقم 12054).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 325 رقم 14642).

(4)

"المحلى"(10/ 302).

ص: 196

ص: قيل له: إنما كان ذاك للضرورة؛ لأنهم كانوا في فتنة، وقد بين ذلك ما حدثنا أبو داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال:"لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل وسارت عائشة إلى مكة، بعثت عائشة إلى أم كلثوم وهم بالمدينة فنقلتها إليها لما تتخوف من الفتنة، وهي في عدتها".

وهكذا نقول إذا كانت فتنة يخاف على المعتدة من الإقامة فيها، فهي في سعة من الخروج فيها إلى حيث أحبت من الأماكن التي تأمن مَنْ فيها من تلك الفتنة.

ش: أي قيل لهذا القائل، وأراد به الجواب عما اعترضه، بيانه: أن ما ذكرتم من حج عائشة مع أختها أم كلثوم وهي في العدة إنما كان لأجل الخوف من عائشة على أم كلثوم؛ لأن زوجها طلحة بن عبيد الله قتل يوم الجمل كما ذكرنا، وكانت أم كلثوم في المدينة، ولما قدمت عائشة إلى مكة بعثت وراءها فنقلتها إلى مكة عندها؛ خوفًا عليها من الفتنة، قال: وقد بيَّن هذا المعنى القاسم بن محمد في حديثه.

أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق المدني، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قوله: "يوم الجمل" وهو يوم كانت فيه وقعة عظيمة بين علي وعائشة رضي الله عنهما وهي مشهورة، وكانت في سنة ست وثلاثين من الهجرة، وسميت يوم الجمل؛ لأن عائشة كانت يومئذٍ في هودج على جمل، ولم ينهزم عسكرها حتى عقروا جملها فوقع بالهودج، فانفلت الناس عنها فرجعت وجاءت إلى مكة.

قوله: "وهكذا القول" يعني بجواز انتقال المعتدة عن الوفاة إلى حيث شاءت إذا كانت فتنة تخاف عليها، وكذا إذا خافت سقوط منزلها، أو خافت على متاعها من اللصوص، أو كان المنزل بأجرة ولا تجد ما تؤديه من أجرته. والله أعلم.

***

ص: 197