المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: التشهد في الصلاة كيف هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٤

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: التشهد في الصلاة كيف هو

‌ص: باب: التشهد في الصلاة كيف هو

؟

ش: أبي هذا باب في بيان كيفية التشهد في الصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى.

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، ومالك بن أنس، أن ابن شهاب، حدثهما عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاريِّ:"أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلم الناس التشهد على المنبر وهو يقول: قولوا: التحيات الله، الزاكيات الله، والصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، قال: أنا ابن شهاب، عن حديث عروة، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ

فذكر مثله.

ش: هذان إسنادان صحيحان:

أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، ومالك بن أنس المدني، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ -بتشديد الياء- نسبة إلى القارة، وهم بنو الهون بن خزيمة، شددت الياء لئلا يلتبس بالقارئ الذي هو اسم فاعل من القراءة، وقد قيل: إن له صحبة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة

إلى آخره، نحوه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 261 رقم 2992).

ص: 447

والآخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري

إلى آخره.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عروة

إلى آخره نحوه.

قوله: "التحيات" جمع تحية وهي السلامة من جميع الآفات، وقيل: البقاء الدائم، وقيل: العظمة، وفي "المحكم":التحية: السلام.

وقال الخطابي: وروي عن أنس في تفسيرها في أسماء الله: السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الأحد الصمد، قال: التحيات لله بهذه الأسماء، وهي الطيبات لا يُحَيَّا بها غيره.

وقال ابن الأثير: التحيات كلمات مخصوصة كانت العرب تحيِّي بها الملوك كقولهم: أَبَيْتَ اللعن، وأنعم صباحًا، وعم ظلاما، وزي ده هزار سأل أبي عش عشرة آلاف سنة، وكلها لا يصلح شيء منها للثناء على الله تعالى، فتركت، واستعملت بمعنى التعظيم، فقيل: قولوا: التحيات لله: أبي الثناء والعظمة والتمجيد كما يستحقه ويجب له.

قوله: "لله" اللام فيه لام الملك والتخصيص، وهي للأول أبلغ، وللثاني أحسن.

وقال القرطبي: فيه تنبيه على أن الإخلاص في العبادات والأعمال لا يفعل إلا لله تعالى، ويجوز أن يراد بها الاعتراف بأن ملك ذلك كله لله تعالى.

قوله: "الزاكيات" جمع زاكية، وأراد بها الأعمال الزاكيات أي الطاهرات، وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكل ذلك قد استعمل في القرآن والحديث.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 202 رقم 3068).

ص: 448

قوله: "والصلوات" أراد الصلوات الخمس، وقيل: النوافل. قال ابن الأثير: والأول أولى، وقال الأزهري: العبادات، وقال الشيخ تقي الدين: والصلوات تحتمل أن يُراد بها الصلوات المعهودة، ويكون التقدير: أنها واجبة لله، ولا يجوز أن يقصد بها غيره، أو يكون ذلك إخبارًا عن قصد إخلاصنا الصلوات له، أي صلواتنا مخلصة له لا لغيره، ويجوز أن يراد بالصلوات: الرحمة، ويكون معنى قوله:"لله" أي المتفضل بها والمعطي هو الله؛ لأن الرحمة التامة لله تعالى لا لغيره.

قوله: "السلام عليك أيها النبي" قيل: معناه التعوذ باسم الله الذي هو السلام، كما تقول: الله معك، أي الله متوليك وكفيل بك، وقيل: معناه السلامة والنجاة لك، كما في قوله:{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (1).

وذكر الفخر الفارسي الخبري: معنى السلام على النبي عليه السلام: أي اسم الله عليك، وتأويله: لا خلوت من الخيرات والبركات، وسَلِمْتَ من المكاره والمذام والآفات، فإذا قلت: اللهم سلم على محمَّد، إنما تريد: اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص.

وقال الشيخ حافظ الدين: يعني السلام الذي سلمه الله عليك ليلة المعراج، ورفع؛ ليدل على الثبوت والاستمرار.

وقال ابن الأثير: السلام مُنَكَّرًا. أراد سلام عظيم لا يدرك كنهه ولا يعرف قدره، وأكثر ما جاء في القرآن مُنَكَّرًا، ومن رواه معرفًا فلأنه أراد أنه سلامًا معهودًا، أو جنس السلام.

قلت: تفسير الشيخ حافظ الدين يقتضي أن تكون الألف واللام فيه للعهد، وهو السلام الذي سلمه الله عليه ليلة المعراج.

قوله: "وبركاته"، جمع بركة، وهي الخير الكثير من كل شيء، واشتقاقه من البرك، وهو الإبل الكثير.

(1) سورة الواقعة، آية:[91].

ص: 449

قوله: "السلام علينا" أراد به الحاضرين من الإِمام والمأمومين والملائكة عليهم السلام.

قوله: "وعلى عباد الله الصالحين" الصالح هو القائم بما عليه من حقوق الله وحقوق العباد.

وقال القرطبي: فيه دليل على أن الدعاء يصل من الأحياء إلى الأموات.

قوله: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" قال أهل اللغة: يقال: رجل محمَّد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة.

وقال ابن الفارسي: وبذلك سمي نبينا محمدًا عليه السلام يعني لعلم الله بكثرة خصاله المحمودة.

قلت: الفرق بين محمَّد وأحمد: أن محمدًا مفعّل للتكثير، وأحمد أفعل التفضيل، والمعنى: إذا حمدني أحد فأنت أحمد منهم، وإذا حمدت أحدًا فأنت محمَّد، والعبد الإنسان حرًّا كان أو رقيقا، وجمعه: أعبد وعبيد وعباد وعُبُدٌ وعِبْدان وعُبْدان وأعابد جمع أعبد، والعبدى والعبوداء والعبدة أسماء الجمع، وجعل بعضهم العباد لله، وغيره من الجمع لله والمخلوقين، وخص بعضهم بالعبدى الذين ولدوا في الملك، والأنثى عبدة، والعبدل: العبد، ولامه زائدة.

وقال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرت من العبودية، ولا اسم أتم للمؤمن من الوصف بالعبودية؛ ولهذا قال الله تعالى للنبي عليه السلام ليلة المعراج- وكانت أشرف أوقاته في الدنيا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (1)، وقال في تلك الليلة:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (2).

ثم اختلف العلماء في التشهد هل هو واجب أم سنة؟

فقال الشافعي وآخرون: التشهد الأول سنة، والأخير واجب، وقال جمهور المحدثين: هما واجبان.

(1) سورة الإسراء، آية:[1].

(2)

سورة النجم، آية:[10].

ص: 450

وقال أحمد: الأول واجب، والثاني فرض.

وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان.

وعن مالك بوجوب الأخير.

وقال ابن بطال: أجمع فقهاء الأمصار: أبو حنيفة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق والليث وأبو ثور على أن التشهد الأول ليس بواجب حاشا أحمد؛ فإنه أوجبه، ونقل ابن الأثير وجوبهما عن أحمد وإسحاق، ونقله ابن المتن أيضًا عن الليث وأبي ثور.

وفي "المغني" لابن قدامة: إن كانت الصلاة مغربًا أو رباعية فهما واجبان فيهما على إحدى الروايتين، وهو مذهب الليث وإسحاق؛ لأنه عليه السلام فعله وداوم عليه، وأمره به في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: "فقولوا التحيات لله

"، والأخرى: ليس بواجب.

وفي شرح "الهداية": قراءة التشهد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة، وهو المختار والصحيح، وقيل: سنة، وهو الأقيس، ولكنه خلاف ظاهر الرواية.

ثم السنة في التشهد الإخفاء؛ لما روى الترمذي (1) بإسناده، عن ابن مسعود:"من السنة أن تخفي التشهد" وقال: حسن غريب.

وعند الحاكم (2) عن عبد الله: "من السنة أن تخفي التشهد".

وقال: صحيح على شرط مسلم.

وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه"(3): عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نزلت هذه الآية في التشهد: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (4) ".

(1)"جامع الترمذي"(2/ 84 رقم 291).

(2)

"المستدرك على الصحيحين"(1/ 400 رقم 986).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 350 رقم 707).

(4)

سورة الإسراء، آية:[110].

ص: 451

وقال الحكم: صحيح على شرط مسلم.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال:"قلت لنافع: كيف كان ابن عمر رضي الله عنهما يتشهد؟ قال:"كان يقول: بسم الله، التحيات لله، الصلوات لله، الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم يتشهد، ثم يقول: شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن محمدًا رسول الله".

ش: إسناده صحيح.

وأبو بكرة بكار.

وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد.

وابن جريج هو عبد الملك.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج

إلى آخره، نحوه.

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن صالح (ح).

وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن بكير، قالا: ثنا الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "إذا تشهد أحدكم فليقل

" ثم ذكر مثل تشهد عمر رضي الله عنه.

ش: هذان إسنادان صحيحان:

الأول: عن نصر بن مرزوق، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث ابن سعد، عن عُقَيْل -بضم العين، وفتح القاف- ابن خالد، عن محمَّد بن مسلم ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

إلى آخره.

الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد المصري

إلى آخره.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 204 رقم 3073).

ص: 452

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:"كان رسول الله عليه السلام يعلمنا التشهد: التحيات الطيبات الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله".

وفي إسناده موسى بن عبيدة وخارجة بن مصعب، وهما ضعيفان.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم قال: "كانت عائشة رضي الله عنها تعلمنا التشهد، وتشير بيدها

" ثم ذكر مثله.

ش: إسناده صحيح.

وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم يقول:"كانت عائشة رضي الله عنها تعلمنا التشهد وتشير بيدها، تقول: التحيات لله" وفيه: تأخير الشهادتين.

وأخرج (3): عن صالح بن محمَّد بن صالح التمار، عن أبيه، عن القاسم قال:"علمتني عائشة قالت: هذا تشهد النبي عليه السلام: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، قال التمار: قلت: بسم الله؟ قال القاسم: سم الله كل ساعة.

ثم قال البيهقي: الصحيح وقفه.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 351 رقم 7).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 144 رقم 2666).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 144 رقم 2667).

ص: 453

وأخرج (1) أيضًا: من حديث ابن إسحاق، حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان يقول في التشهد في الصلاة في وسطها وفي آخرها قولا واحدًا: بسم الله، التحيات لله، الصلوات لله، الزاكيات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام

ويعده لنا بيده عدد العرب".

وأخرج مالك في "موطئه"(2): عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، أنه أخبره "أن عائشة زوج النبي عليه السلام كانت تقول إذا تشهدت: التحيات الطيبات الصلوات الزاكيات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم".

ص: فذهب قوم إلى هذه الأحاديث فقالوا: هكذا التشهد في الصلاة؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد علّم الناس على منبر رسول الله عليه السلام بحضرة المهاجرين والأنصار، فلم ينكر ذلك عليه منهم مُنْكِر.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سالم بن عبد الله ونافعًا والزهري ومالكًا وأصحابه، فإنهم اختاروا تشهد عمر رضي الله عنه وادعوا فيه إجماعا؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكروه، فكان إجماعًا.

وقال عياض: وتشهد عمر رضي الله عنه وإن كان غير مسند إلى النبي عليه السلام فيلحق بمعنى المسند، ويقوى قوته، ويترجح على غيره من المسانيدة لتعليم عمر له للناس على المنبر، كما روي بجمع ملئهم وجمهورهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا له: عدلت عما اختاره النبي عليه السلام وعامة الناس إلى رأيك، وهم ممن لا يُقر على خطأ، فدل سكوتهم له واستمرار عمر رضي الله عنه على تعليمه الناس أن ذلك عندهم معلوم، وأن الأمر في التشهد غير مقصور على رواية غيره. انتهى.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 142 رقم 2657).

(2)

"موطأ مالك"(1/ 91 رقم 206).

ص: 454

والجواب عما قالوه: أن أكثر أهل العلم من الصحابة رضي الله عنهم، على خلافه على ما يجيء، فكيف يكون إجماعًا؟! على أنه ليس الخلاف في إجزائه في الصلاة، إنما الخلاف في الأولى والأحسن، والأحسن تشهد النبي عليه السلام الذي علمه أصحابه وأخذوا به، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لو وجب ما ذكرتموه عند أصحاب النبي عليه السلام إذن لما خالف أحد منهم عمر- رضى الله عنه - في ذلك، فقد خالفوه فيه وعملوا بخلافه، وروى أكثرهم ذلك عن النبي عليه السلام.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور، وأصحاب الحديث، وجماهير الفقهاء؛ فإنهم قالوا: لو وجب ما ذكرتموه من تشهد عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - عند الصحابة لما كان يخالفه أحد منهم فيه، فإن جماعة من الصحابة قد خالفوه فيه، وعملوا بخلافه، على أن تشهد عمر - رضى الله عنه - من ذاته، وتشهد غيره مسند إلى النبي عليه السلام، وهو أقوى من غيره.

ثم إنهم اختلفوا فيما بينهم، فاختار الشافعي وجماعة تشهد ابن عباس، واختار أبو حنيفة وأصحابه وآخرون تشهد ابن مسعود رضي الله عنه، وهو قول الجمهور، على ما يجيء بيانه مفصلًا إن شاء الله تعالى.

ص: فمن خالفه في ذلك: عبد الله بن مسعود، فروي عنه في ذلك عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ووهب وأبو عامر، قالوا: ثنا هشام الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"كنا إذا صلينا خلف رسول الله عليه السلام قلنا: السلام على الله عز وجل، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، فالتفت إلينا رسول الله عليه السلام فقال: لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله تعالى هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

ص: 455

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن حماد

فذكر مثله بإسناده.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن شقيق، عن عبد الله مثله.

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن أب وائل، عن عبد الله مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مُحل بن محرز. (ح)

وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مُحل بن محرز، قال: ثنا شقيق

فدكر بإسناده مثله، وزاد حسين في حديثه قال:"وكانوا يتعلمونها كما يتعلم أحدكم السورة من القرآن".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن حبيب، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله، قال: "أخذت التشهد من في رسول عليه السلام ولقنني إياها كلمة كلمة

" ثم ذكر التشهد الذي في حديث أبي وائل وزاد: "وقال: وكانوا يخفون التشهد ولا يظهرون".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا مغيرة الضبي، قال: ثنا شقيق بن سلمة

ثم ذكر مثل حديث حماد ومنصور وسليمان ومحل، عن أبي وائل، غير أنه لم يقل:"وبركاته".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة (ح).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة (ح).

وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أنا إسرائيل، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري ما نقول بين كل ركعتين، غير أنا نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمدًا عليه السلام عُلِّمَ فواتح الكلم

ص: 456

وخواتمه، وقال: وجوامعه، فقال: إذا قعد أحدكم في الركعتين فليقل

" ثم ذكر مثله.

حدثنا الحسين بن نصر، قال: أنا شبابة بن سوار وعبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا المسعودي، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "علمنا رسول الله عليه السلام خطبة الصلاة

" فذكر مثله.

ش: أي ممن خالف عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - من الصحابة -في التشهد الذي كان يأمر به- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا بيان لقوله:"فقد خالفوه فيه، وعملوا بخلافه، وروى أكثرهم ذلك عن النبي عليه السلام" فلذلك ذكره بالفاء التفصيلية.

ثم انه أخرج حديث ابن مسعود رضي الله عنه من اثني عشر طريقًا:

الأول: إسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ووهب بن جرير بن حازم، وأبي عامر عبد الملك بن عَمرو العقدي، ثلاثتهم عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ونسبته إلى دستوا -بفتح الدال وضم التاء- كورة من كور الأهواز.

عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه النسائي (1): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن هشام، عن حماد، عن أبي وائل

إلى آخره نحوه سواء.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة كلهم، قد ذكرنا ذلك كله في آخر باب "ما ينبغي أن يقال في الركوع والسجود".

الثاني: وهو أيضا صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن ابن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن حماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود.

(1)"المجتبى"(2/ 240 رقم 1169).

ص: 457

وأخرجه أحمد في"مسنده"(1): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور وسليمان وحماد وأبي هاشم ومغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كنا نقول في الصلاة: السلام على الله، السلام على جبريل، فقال لنا رسول الله عليه السلام: إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات

" إلى آخره.

الثالث: وهو أيضا صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني أبي محمَّد البصري، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا علي بن العزيز، وبشر بن موسى، قالا: ثنا أبو نعيم، ثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كنا إذا صلينا قلنا: السلام على الله، السلام على جبريل، فسمعنا النبي عليه السلام، فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله

" إلى آخره.

الرابع: وهو أيضا صحيح: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح البصري نزيل مصر، عن وهيب بن خالد بن عجلان البصري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق، عن عبد الله.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا أبو سعيد، نا زائدة، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله عليه السلام يقول الرجل منا في صلاته: السلام على الله، السلام على فلان، يخص، فقال لنا رسول الله عليه السلام يوم: إن الله عز وجل هو السلام، فإذا قعد أحدكم في صلاته فليقل: التحيات لله

" إلى آخره.

(1)"مسند أحمد"(1/ 440 رقم 4189) نحوه، وأما اللفظ المذكور فأخرجه في "مسنده"(1/ 464 رقم 4422) من طريق محمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، به.

(2)

"المعجم الكبير"(10/ 40 رقم 9885).

(3)

"مسند أحمد"(1/ 413 رقم 3919).

ص: 458

الخامس: وهو إسناد حسن: عن أبي بكرة بكار، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن محل بن محرز الضبي الكوفي الأعور، عن شقيق، عن عبد الله.

وأخرجه أبو عبد الله العدني في "مسنده": عن وكيع، عن محل بن محرز، عن أبي وائل

إلى آخره نحوه.

السادس: وهو أيضا مثله: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن محل بن محرز، عن شقيق

إنمما آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبدان بن أحمد، نا عقبة بن مكرم، نا يونس بن بكير، عن بشير بن المهاجر، عن ابن بريدة، عن أبيه.

[وعن علي بن](2) عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا محل بن محرز الضبي قال: سمعت شقيق بن سلمة يذكر عن عبد الله بن مسعود قال: "كانوا يصلون خلف النبي عليه السلام، فقال قائل منهم: السلام على الله، فقال: من القائل: السلام على الله؟ إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات

" إلى، آخره.

السابع: إسناده ضعيف: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عمر بن حبيب القاضي البصري؛ ضعفه يحيى بن معين، وقال: كان يكذب. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف لا يكتب حديثه. وضعفه النسائي أيضًا، وهو يروي عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود، عن عبد الله.

وأخرج الطبراني (3): عن عبدان بن أحمد، عن أزهر بن مروان الرقاشي، عن عبد الأعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن

(1)"المعجم الكبير"(10/ 39 رقم 9883، 9884).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، وإنما دخل هذان الإسنادان بعضهما في بعض، ولفظ الإسناد الأول:"ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعودة وذلك أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم". ولعله انتقال نظر من المؤلف رحمه الله.

(3)

"المعجم الكبير"(10/ 53 رقم 9932).

ص: 459

ابن مسعود: "أن رسول الله عليه السلام كان يتشهد في الصلاة، قال: فكنا نحفظ عن رسول الله عليه السلام كما نحفظ حروف القرآن -الواوات والألفات- قال: إذا جلس أحدكم على وركه اليسرى قال: التحيات لله، والصلوات

" إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): عن عبد الله بن سعيد، عن يونس بن بكير، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله قال:"إن من السنة أن تخفي التشهد".

وأخرجه الترمذي (2) أيضا بهذا الإسناد، ثم قال: حديث حسن غريب، والعمل عليه عند أهل العلم.

الثامن: وهو إسناد صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله ابن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية الكوفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): ثنا علي بن عبد العزيز، نا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا مغيىرة الضبي، عن شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله: "كنا نصلي خلف رسول الله عليه السلام فنقول: السلام على الله، قال: إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله

" إلى آخره.

التاسع: وهو أيضا صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي الكوفي، عن عبد الله.

وأخرجه النسائي (4): أنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يحدث عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري

(1)"مسند البزار"(5/ 73 رقم 1643).

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 84 رقم 291).

(3)

"والمعجم الكبير"(10/ 45 رقم 9902).

(4)

"المجتبى"(2/ 238 رقم 1163).

ص: 460

ما نقول في كل ركعتين غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم عُلِّم فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات

" إلى آخره.

العاشر: وهو أيضًا صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا محمَّد بن عبد الله الشافعي الحمصي، ثنا مزداد بن جميل، عن محمد بن [مناذر](2)، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي الكنود، عن ابن مسعود قال: "كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين في الصلاة غير أن نكبر ونسبح ونحمد ربنا، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم أعطي فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في التشهد فقولوا: التحيات لله، والصلوات

" إلى آخره.

الحادي عشر: وهو أيضا صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي شيخ البخاري وأحمد، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله.

(1)"المعجم الكبير"(10/ 49 رقم 9917).

(2)

"الأصل، ك": "مثلار"، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الكبير". وقال ابن معين في "تاريخ الدوري" (2/ 77 رقم 309):"كان صاحب شعر، ولم يكن صاحب حديث، وكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد في المواضع التي يتوضأ منها حتى تسود وجوه الناس، وليس يروي عنه رجل فيه خير". وقال ابن حبان في "المجروحين"(2/ 271 رقم 958): "كان ماجنا مظهرا للمجون، لا يجوز الاحتجاج به"، ثم نقل كلام ابن معين فيه. وكذا فعل ابن عدي في "الكامل" (6/ 268) وقال:"لم يكن من أصحاب الحديث، وكان الغالب عليه المجون واللهو".

ووقع في "المعجم الكبير" تحريف في اسم الراوي عنه، فوقع فيه: مرداذ بن جميل، والصواب: مزداد كما في "المفتنى في سرد الكنى" للحافظ الذهبي رحمه الله (1/ 140 رقم 1017).

ص: 461

وأخرجه الطبراني (1) أيضا: عن علي بن عبد العزيز، عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة وأبي الأحوص، عن ابن مسعود، نحوه.

قوله: "كلاهما" أبي شعبة وإسرائيل.

قوله: "عُلِّم فواتح" الكلمة على صيغة المجهول، والفواتح جمع فاتحة، وأراد بها ما يتوسل بها إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي أغلقت على غيره.

وأراد "بخواتمه": ما يختم به الكلام بحسن الاختتام والانتهاء على تمام المقصود.

وأراد "بجوامعه": ما جمع الله له بلطفه في الألفاظ اليسيرة المعاني الكثيرة، واحدها: جامعة، أي: كلمة جامعة، وإنما ذكر الضمير في "خواتمه وجوامعه" باعتبار لفظ الكلم أو باعتبار المذكور، والكلم جمع كلمة، كالنبق جمع نبقة.

الثاني عشر: وهو أيضًا صحيح: عن الحسن بن نصر بن المعارك، عن شبابة ابن سَوَّار الفزاري أبي عمرو المدائني، وعبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، كلاهما عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله.

وأخرجه أبو عبد الله العدني في "مسنده": ثنا عيسى بن يونس، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: "أوتي رسول الله عليه السلام جوامع الخير وفواتحه -أو قال: فواتح الخير وجوامعه، شك أبوه- فعلمنا خطبة الصلاة، وخطبة الحاجة.

فخطبة الصلاة: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(1)"المعجم الكبير"(10/ 49 رقم 9915).

ص: 462

وخطبة الحاجة: إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم تصل خطبتك بثلاث آيات:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (1) الآية، و {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (2) الآية، و {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدً} (3) ".

ص: وخالفه في ذلك أيضا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فروي عنه، عن النبي عليه السلام في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، وأسد بن موسى، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

ش: أي خالف عمر- رضى الله عنه - في تشهده المذكور أيضًا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

وأخرج حديثه بإسناد صحيح، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم المكي.

وأخرجه مسلم (4): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث.

وثنا محمَّد بن رمح بن المهاجر، قال: أنا الليث، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير.

وعن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: "كان رسول الله عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله،

(1) سورة آل عمران، آية:[102].

(2)

سورة النساء، آية:[1].

(3)

سورة الأحزاب، آية:[70]

(4)

"صحيح مسلم"(1/ 302 رقم 403).

ص: 463

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" وفي رواية ابن رمح:"كما يعلمنا القرآن".

وأخرجه أبو داود، (1) والترمذي (2) كلاهما أيضًا عن قتيبة

إلى آخره نحوه.

وأخرجه النسائي (3) أيضًا: عن قتيبة، ولكن آخره نحو رواية الطحاوي:"وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

وأخرجه ابن ماجه (4): عن محمَّد بن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير

إلى آخره، نحو رواية الطحاوي.

وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: التقدير: التحيات والمباركات والصلوات والطيبات، كما في حديث ابن مسعود وغيره، ولكن حذفت الواو اختصارًا.

قلت: حذف واو العطف لا يجوز عند الجمهور، وبعضهم جوزه في الضرورة، ولا ضرورة هنا، ولا فائدة في اختصارها، ويقال: في حديث ابن عباس اضطراب، فمن اضطرابه: أن الشافعي: رواه بتنكير السلام، وأحمد بتعريفه، وقال الشافعي وأحمد:"وأن محمدا"، وفي رواية مسلم وغيره:"وأشهد أن محمدا"، وفي رواية لمسلم:"وأن محمدا"، و"السلام" معرفة.

فإن قالوا: رجحناه لزيادة: "المباركات"؛ لموافقتها الآية الكريمة: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً} (5).

(1)"سنن أبي داود"(1/ 256 رقم 974).

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 83 رقم 290).

(3)

"الجتبي"(2/ 242 رقم 1174).

(4)

"سنن ابن ماجه"(1/ 291 رقم 900).

(5)

سورة النور، آية:[61].

ص: 464

فيقال: لم يشرع في السلام: حياكم الله، وإن وافق ذلك لفظ القرآن في قوله تعالى:{حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ} (1)، وفي حديث جابر زيادات كان ينبغي أن تعتد وكذا في حديث علي رضي الله عنه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، قال:"سئل عطاء وأنا أسمع عن التشهد، فقال: التحيات المباركات الطيبات الصلوات لله .. " ثم ذكر مثله، ثم قال:"لقد سمعت ابن الزبير يقولهن على المنبر يعلمهن الناس، ولقد سمعت ابن عباس يقول مثل ما سمعت ابن الزبير رضي الله عنهما يقول، قلت: لم يختلف ابن الزبير وابن عباس؟ قال: لا".

ش: إسناد صحيح.

وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد.

وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي.

وعطاء بن أبي رباح أحد مشايخ أبي حنيفة.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن جريج، عن عطاء قال: سمعت ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنه يقولان في التشهد في الصلاة: "التحيات المباركات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام على النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: لقد سمعت ابن الزبير يقولهن على المنبر يعلمهن الناس، قال: ولقد سمعت ابن عباس يقولهن كذلك، قلت: فلم يختلف فيهما ابن عباس وابن الزبير؟ قال: لا".

ص: وخالفه في ذلك أيضًا عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما -:

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا قتادة، قال: حدثني عبد الله بن بَابَى المكي قال: "صليت إلى جنب عبد الله بن عمر،

(1) سورة النساء، آية:[86].

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 203 رقم 3070).

ص: 465

فلما قضى صلاته ضرب يده على فخذي فقال: ألا أعلمك تحية الصلاة كما كان النبي عليه السلام يعلمنا؟ فتلا هؤلاء الكلمات

" مثل ما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه السلام.

ش: أي خالف عمر- رضى الله عنه - في تشهده أيضا ابنه عبد الله بن عمر.

أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم.

و"بَابَى" بباءين موحدتين مفتوحتين بينهما ألف ساكنة ويقال: بَابَيْه -بزيادة هاء بعد الياء- ويقال: ابن باباه، روى له الجماعة سوى البخاري.

وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا سهل بن بكار، ثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن عبد الله بن بابى، عن ابن عمر - رضى الله عنهما -، عن النبي عليه السلام في التشهد:"التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

قوله: "صليت إلى جنب عبد الله" بمعنى صليت عنده؛ لأن "إلى" تجيء بمعنى موافقة "عند"، وأصل "إلى" لانتهاء الغاية الزمانية أو المكانية كما عرف.

قوله: "فتلا هؤلاء الكلمات" إشارة إلى الألفاظ التي في تشهد عبد الله بن مسعود، على ما مرَّ بيانه.

ص: حدثنا ابن أبي داود ويحيى بن إسماعيل البغدادي بطبرية، قالا: ثنا نصر بن علي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر- قال: ابن أبي داود في حديثه: عن مجاهد، وقال يحيى: سمعت مجاهدًا- يحدث عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام في التشهد:"التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" إلا أن يحيى زاد في حديثه: قال ابن عمر: زدت فيها: "وبركاته" وزدت فيها: "وحده لا شريك له".

ص: 466

ش: هذا طريق أخر وهو أيضا صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، يحيى بن إسماعيل أبي زكرياء البغدادي، وثقه ابن حبان، كلاهما عن نصر بن علي بن نصر بن علي الصغير شيخ الجماعة، عن أبيه علي بن نصر بن علي بن صهبان الكبير، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري الواسطي، عن مجاهد، عن ابن عمر- رضى الله عنهما -، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا نصر بن علي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة

إلى آخره، نحو رواية يحيى بن إسماعيل، وهو الذي أشار إليه الطحاوي بقوله: "إلا أن يحيى زاد في حديثه

" إلى آخره.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ، عن أبيه، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال:"كنت أطوف مع ابن عمر - رضى الله عنهما - بالبيت وهو يعلمني التشهد، يقول: التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله -[قال ابن عمر: وزدت فيها: وبركاته- السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله] (2)، قال ابن عمر: وزدت فيها: وحده لا شريك له- وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

هكذا حدثنا ابن أبي داود، عن عبيدالله بن معاذ بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر، ولم يذكر النبي عليه السلام ، إلا أن قول ابن عمر فيه:"وزدت فيها" ما يدل على أنه أخذ ذلك عن غيره ممن هو خلاف عمر- رضى الله عنه -، إما رسول الله عليه السلام، وإما وأبو بكر رضي الله عنه.

ش: هذا موقوف على ابن عمر - رضى الله عنهما -؛ لأن إبراهيم بن أبي داود لم يذكر في روايته هذه عن النبي عليه السلام، ولكن قول ابن عمر-:"وزدت فيها"، أي في التحيات ما يدل على أنه أخذ ذلك عن غيره، غير أبيه عمر بن الخطاب؛ لأنه خالفه فيه، فتعين أن يكون أخذ الزيادة من غيره، وهو إما النبي عليه السلام، وإما أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،

(1)"سنن أبي داود"(1/ 255 رقم 971).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "ش".

ص: 467

ولما أخرج البزار هذا الحديث مرفوعًا نحو رواية الطحاوي قال: وحديث أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر لا نعلم أحدًا رفعه عن شعبة إلا علي بن نصر، ورواه غيره موقوفًا.

وعلي بن نصر هو المذكور في الرواية السابقة، وأراد بغيره هو عبيد الله بن معاذ شيخ مسلم وأبي داود، وأبوه معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري البصري قاضيها، روى له الجماعة.

ص: حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر- رضى الله عنهما - قال: "كان أبو بكر رضي الله عنه يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب

" ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود سواء.

ش: ذكر هذا شاهدًا لقوله: "وإما أبو بكر رضي الله عنه" فإنه ذكر أن قول ابن عمر: "وزدت فيها" ما يدل أنه أخذ ذلك عن غيره ممن هو خلاف عمر، إما رسول الله عليه السلام وإما أبو بكر رضي الله عنه، فعلم من ذلك أن تلك الزيادة إنما أخذها من أبي بكر رضي الله عنه.

أخرج ذلك عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن زيد بن الحواري العمي البصري قاضي هراة، فيه مقال؛ فعن ابن معين: لا شيء. وعنه صالح. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث. وقال الدارقطني: صالح.

وسمي العمي؛ لأنه كان كلما سئل عن شيء قال: حتى أسأل عمِّي. روى له الأربعة.

وهو يروي عن أبي الصديق بكر بن عمرو الناجي البصري، روى له الجماعة، ونسبته إلى بني ناجية بن سامة بن لؤي وهي قبيلة كبيرة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا الفضل بن دكين، عن سفيان، عن زيد العَمّي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر: "أن أبا بكر رضي الله عنهم كان

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 260 رقم 2990).

ص: 468

يعلمهم التشهد كما يعلم الصبيان في الكتاب: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله".

قوله: "في الكُتَّاب" بضم الكاف وتشديد التاء، قال الجوهري: الكُتَّاب والمكتب واحد، والجمع الكتاتيب، والمكاتب.

ص: فهذا الذي روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما يخالف ما رواه سالم ونافع عنه، وهذا أولى؛ لأنه حكاه عن النبي عليه السلام وعن أبي بكر رضي الله عنه، وعلمه مجاهدًا فمحال أن يكون ابن عمر يدع ما أخذه عن النبي عليه السلام إلى ما أخذه عن غيره.

ش: أشار بقوله: فهذا الذي روينا عن ابن عمر إلى ما رواه عنه عبد الله بن بَابَى ومجاهد، وأنه مخالف لما رواه سالم ابنه عنه، ونافع مولاه، وهو الذي ذكره في جملة ما احتج به أهل المقالة الأولى، ثم أشار بأن ما رواه عنه مجاهد أولى بالعمل من وجوه:

الأول: أنه رواه عن النبي عليه السلام.

الثاني: أنه رواه عن أبي بكر رضي الله عنه.

والثالث: أنه علمه مجاهدًا؛ فإن في تعليمه إياه دلالة على أنه هو المعول عليه عنده، فإذا كان كذلك فمن المحال أن يكون عنده من النبي عليه السلام شيء قد أخذه منه، ثم يتركه ويأخذ ما كان عن غيره، وهذا ظاهر.

ص: وخالفه في ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فروي عنه في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن هارون البُرْدي، قال: أنا سهل بن يوسف الأنماطي -بصري ثقة- قال: ثنا حميد، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة من القرآن

" ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود سواء.

ش: أي وخالف عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - في تشهده المذكور- أبو سعيد الخدري سعد بن مالك رضي الله عنه.

ص: 469

أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن هارون بن بشير القيسي أبي عمرو الكوفي البُرْدي لقب به لبردة كان يلبسها، وقال ابن حبان: كان من أهل المدينة، وكان يبيع التمر البردي فنسب إليه، ووثقه. وروى له البخاري -مقرونا بغيره- وأبو داود والنسائي.

عن سهل بن يونس الأنماطي أبي عبد الله البصري روى له الجماعة، ونسبته إلى الأنماط وهي البُسط.

عن حميد الطويل.

عن أبي المتوكل الناجي واسمه علي بن داود البصري، روى له الجماعة، ونسبته إلى بني ناجية اسم قبيلة.

ص: وخالفه في ذلك أيضًا جابر بن عبد الله، فروي عنه في ذلك عن النبي عليه السلام ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا أيمن بن نابل، قال: ثنا محمَّد بن مسلم أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله

" ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود سواء بسواء، إلا أنه قال: "عبد الله ورسوله، وأسأل الله عز وجل الجنة وأعوذ بالله من النار".

ش: أي وخالف عمر أيضًا في تشهده المذكور جابر بن عبد الله.

أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي وقد تكرر ذكره، عن أيمن بن نابل -بالنون في أوله، والباء الموحدة بعد الألف- الحبشي أبي عمران المكي نزيل عسقلان، قال أبو حاتم: شيخ. وقال يعقوب بن شيبة: مكي صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الدارقطني: ليس بالقوي، خالف الناس ولو لم يكن إلا حديث التشهد. روى له البخاري متابعة، والترمذي، والنسائي.

وهو يروي عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله.

ص: 470

وأخرجه النسائي (1)، أنا محمَّد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أيمن يقول: حدثني أبو الزبير، عن جابر قال:"كان رسول الله عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار".

وأخرجه ابن ماجه (2): عن محمَّد بن زياد، عن المعتمر بن سليمان، وعن يحيى ابن حكيم، عن محمَّد بن بكر، عن أيمن بن نابل، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه

إلى آخره نحوه.

واستدلت به طائفة على أن المصلي يسمي في أول تشهده، ويحكى ذلك عن عمر - رضى الله عنه - وكان إذا تشهد يقول: بسم الله خير الأسماء. وعن ابن عمر أنه كان يسمي في أوله، وإليه ذهب أيوب ويحيى بن سعيد وهشام.

وقال مالك: ذلك واسع.

وفي "المغني": وسمع ابن عباس رجلا يقول: بسم الله فانتهره. وبه قال مالك وأهل المدينة، وابن المنذر والشافعي، وهو الصحيح.

ص: وخالفه في ذلك أبو موسى الأشعري، فروي عنه في ذلك، عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: سمعت أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: "إن رسول الله عليه السلام خطبنا، فعلمنا صلاتنا وبَيَّن لنا سنتنا، فقال: إذا كان في القعدة فليكن من قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام -أو قال: سلام شك سعيد- عليك أيها النبي

(1)"المجتبى"(2/ 243 رقم 1175).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 292 رقم 902).

ص: 471

ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، قال: ثنا أبو غلاب يونس بن جبير، أن حطان بن عبد الله الرقاشي حدثه قال: قال لي أبو موسى الأشعري: "إن رسول الله عليه السلام خطبنا فعلمنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: إذا كان عند القعدة فليكن من قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

ش: أي وخالف عمر- رضى الله عنه - أيضا -في تشهده المذكور- أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس.

وأخرجه من طريقين صحيحين، قد ذكرهما بعينهما في باب "الخفض في الصلاة هل فيه تكبير؟ " غير أن ها هنا زاد أبا بكرة.

وقد ذكرنا هناك أن مسلمًا أخرجه (1) مطولا، وكذلك البزار في "مسنده"(2).

واستدلت جماعة بقوله: "فليكن من قول أحدكم: التحيات، وفي رواية أبي داود: "فليكن من أول قول أحدكم" على أنه يقول في أول جلوسه، ولا يقول: بسم الله، وقال النووي: وليس هذا الاستدلال بواضح؛ لأنه قال: فليكن من أول قول أحدكم، ولم يقل: فليكن أول قول أحدكم.

قلت: الاستدلال به واضح؛ لأن كلمة "من" لابتداء الغاية، ومعناه: فليكن ابتداء أول قول أحدكم: التحيات، فإذا ابتدأ أولا بـ"بسم الله" لا يكون ابتداء أول القول بالتحيات. فافهم.

ص: وخالفه في ذلك أيضًا عبد الله بن الزبير، فروي عنه في ذلك عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا محمَّد بن حميد، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا عبد الله بن لهيعة،

(1)"صحيح مسلم"(1/ 303 رقم 404).

(2)

"مسند البزار"(8/ 64 رقم 3056).

ص: 472

قال: حدثني الحارث بن يزيد، أن أبا أسلم المؤذن حدثه، أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول:"إن تشهد النبي عليه السلام الذى كان، يتشهد به: بسم الله وبالله خير الأسماء، التحيات الطيبات الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي عليه السلام ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي واهدني".

ش: أي وخالف عمر- رضى الله عنه - أيضًا -في تشهده المذكور- عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما.

ومحمد بن حميد بن هشام أبو قرة الرعيني، وثقه ابن يونس.

وسعيد بن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، شيخ البخاري.

وابن لهيعة فيه مقال.

والحارث بن يزيد الحضرمي أبو عبد الكريم المصري روى له مسلم وأبو داود وابن ماجه.

وأبو أسلم المؤذن

(1)

وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا بكر بن سهل الدمياطي، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا ابن لهيعة ثنا الحارث بن يزيد، سمعت أبا الورد يقول: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: "تشهد النبي عليه السلام: بسم الله وبالله

" إلى آخره نحوه سواء، وفي آخره: "هذا في الركعتين الأولين".

(1) بيض له المؤلف رحمه الله، والحديث أخرجه الطبراني كما يأتي، والبزار في "مسنده"(6/ 188 رقم 2229)، ووقع فيه أبو الورد بدلًا من أبي أسلم، وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ في تشهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن ابن الزبير بهذا الإسناد، وأبو الورد فلا نعلم روى عنه إلا الحارث ابن يزيد، والحارث بن يزيد فقد روى عنه ابن لهيعة وغيره. وانظر "موضح أوهام الجمع والتفريق"(1/ 194)، و"تلخيص الحبير"(1/ 267).

ص: 473

ص: فكل هؤلاء قد روى عن النبي عليه السلام في التشهد ما ذكرنا عنهم، وخالف ما روي عن عمر- رضى الله عنه -، فقد تواترت بذلك عن النبي عليه السلام الروايات فلم يخالفها شيء، ولا ينبغي خلافها، ولا الأخذ بغيرها، ولا الزيادة على شيء مما فيها، إلا أن في حديث ابن عباس حرفا يزيد على غيره، وهو:"المباركات"، فقال قائلون: هو أولى من حديث غيره إذ كان قد زاد عليه، والزائد أولى من الناقص.

وقال آخرون: بل حديث ابن مسعود وأبي موسى وابن عمر الذي رواه عنه مجاهد وابن بابى أولى؛ لاستقامة طرقهم، واتفاقهم على ذلك؛ لأن أبا الزبير لا يكافىء الأعمش ولا منصورًا ولا مغيرة، ولا أشباههم ممن روى حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يكافئ قتادة في حديث أبي موسى، ولا يكافئ أبا بشر في حديث ابن عمر- رضى الله عنهما -.

ولو وجب الأخذ بما زاد وإن كان دونهم لوجب الأخذ بما زاد أيمن بن نابل على الليث عن أبي الزبير؛ فإنه قد قال في التشهد: "بسم الله"، ولوجب الأخذ بما زاد أبو أسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فإنه قال في التشهد أيضًا:"بسم الله" وزاد أيضًا ما في ذلك من الزيادة على حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

فلما كانت هذه الزيادة غير مقبولة؛ لأنه لم يزدها على الليث مثله، لم تقبل زيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس رضي الله عنهما على عطاء بن أبي رباح؛ لأن ابن جريج رواه عن عطاء عن ابن عباس موقوفًا، ورواه أبو الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس مرفوعًا، ولو ثبتت هذه الأحاديث كلها وتكافأت في أسانيدها لكان حديث عبد الله أولاها؛ لأنهم قد أجمعوا أنه ليس للرجل أن يتشهد بما شاء من التشهد غير ما روي في ذلك، فلما ثبت أن التشهد الخاص من الذكر، وكان ما رواه عبد الله قد وافقه عليه كل من رواه عن النبي عليه السلام غيره، وزاد غيره عليه ما ليس في تشهده، كان ما قد أُجمع عليه من ذلك أولى أن يتشهد به دون الذي اختلف فيه.

ش: أشار بهؤلاء إلى: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، وأبي موسى الأشعري

ص: 474

وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم؛ فإنهم كلهم رووا عن النبي عليه السلام في التشهد ما يخالف تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما مرت رواياتهم مفصلة، وكذا روي عن معاوية وسلمان وعائشة رضي الله عنهم، ما يوافق ما روى هؤلاء الصحابة.

فحديث معاوية عند الطبراني (1): عن إسماعيل بن عياش، عن حريز بن عثمان، عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبي سفيان: "أنه كان يعلم الناس التشهد وهو على المنبر عن النبي عليه السلام: التحيات لله، والصلوات والطيبات

" إلى آخره، نحو تشهد ابن مسعود.

وحديث سلمان عند البزار، والطبراني (2) أيضًا كلاهما: عن سلمة بن الصلت، عن عمرو بن يزيد الأزدي، عن أبي راشد قال: "سألت سلمان الفارسي رضي الله عنه عن التشهد فقال: أعلمكم كما علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات

" إلى آخره نحوه.

وحديث عائشة رضي الله عنها عند البيهقي (3): عن القاسم، عنها قالت: "هذا تشهد النبي عليه السلام: التحيات لله

" إلى آخره نحوه.

قال النووي في "الخلاصة": سنده جيد.

قوله: "فقد تواترت بذلك عن النبي عليه السلام الروايات" أي قد تكاثرت وتتابعت بما روي من غير عمر مخالفا لما روي عن عمر - رضى الله عنه -، فلا ينبغي مخالفة هذه الروايات، ولا الأخذ بغيرها، ولا الزيادة على شيء مما ذكر فيها من الألفاظ والكلمات.

والحاصل أنه قد أشار أولا إلى ترجيح الروايات المخالفة لحديث عمر- رضى الله عنه - بكثرة ورودها وتتابع تخريجها، ثم أشار ترجيح رواية ابن مسعود من بين هذه الروايات، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.

(1)"المعجم الكبير"(19/ 379 رقم 891).

(2)

"المعجم الكبير"(6/ 264 رقم 6171).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 144 رقم 2667).

ص: 475

قوله: "إلا أن في حديث ابن عباس حرفا

إلى آخره" استثناء من قوله: "ولا الزيادة على شيء مما فيها"، والمعنى لكن فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في التشهد حرف يزيد على ما في رواية غيره، وهو لفظ: "المباركات"، على ما مر في روايته: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات" وقد اختلفوا في الأخذ بهذه الزيادة، أشار إليه بقوله: "فقال قائلون: هو أولى من حديث غيره" أي الأخذ بحديث ابن عباس هو أولى من غيره، وعلل ذلك بقوله: "إذا كان قد زاد عليه" أي لأنه كان أي ابن عباس رضي الله عنهما قد زاد على حديث غيره، والزائد أولى من الناقص.

وأراد بهؤلاء القائلين: الشافعي وأصحابه؛ فإنهم ذهبوا إلى تشهد ابن عباس، وعللوا بالتعليل المذكور.

قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد وأبا ثور وإسحاق وجماهير الفقهاء من التابعين وغيرهم ممن بعدهم؛ فإنهم قالوا: بل حديث ابن مسعود، وأبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، وعبد الله بن عمر الذي رواه عنه -أي عن ابن عمر- مجاهد بن جبر المكي وعبد الله بن بابى المكي أولى، ثم بين وجه الأولوية بقوله:"لاستقامة طرقهم أي طرق أحاديث الرواة من هؤلاء، واتفاقهم على ذلك"، وإنما قيد في رواية ابن عمر بقوله:"الذي رواه عنه مجاهد وابن بابى" احترازًا عن روايته التي فيها نافع عنه، وقد مرت في أول الباب.

قوله: "ولأن أبا الزبير

إلى آخره" إشارة إلى بيان تعليل قوله: "لاستقامة طرقهم واتفاقهم على ذلك" بيان ذلك أن الراوي حديث ابن عباس هو محمَّد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي، كما مر بيانه فيما مضى، فأبو الزبير هذا لا يكافئ أي لا يساوي ولا يعادل سليمان الأعمش، ولا منصور بن المعتمر، ولا مغيرة بن مقسم الضبي ولا أشباههم كأبي عوانة الوضاح اليشكري والأسود بن يزيد النخعي وشقيق بن سلمة وهشام الدستوائي وغيرهم، الذين رووا حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإن هؤلاء ممن احتج بهم الشيخان وغيرهم، ووقع الاتفاق من

ص: 476

المحدثين كلهم على عدالتهم وثقتهم، ألا ترى أن البخاري لم يرو لأبي الزبير إلا مقرونا بغيره وإن كان هو من رجال مسلم! ولكنه لا يعادل هؤلاء المذكورين.

وقد قال الشافعي: أبو الزبير يحتاج إلى، دعامة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

قوله: "ولا يكافئ قتاد" أي لا يكافئ أبو الزبير المذكور قتادة بن دعامة السدوسي في حديث أبي موسى الأشعري، وقد مر أن قتادة روى حديثه عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري.

قوله: "ولا يكافئ" أي أبو الزبير أبا بشر جعفر بن إياس اليشكري في حديث عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما -، وقد مر أن أبا بشر روى حديثه عن مجاهد، عن ابن عمر وذلك أن أبا بشر مجمع عليه في عدالته وثقته، وأخرج له الشيخان وغيرهما.

قوله: "ولو وجب الأخد بما زاد

إلى آخره" جواب عما قالوا من قولهم: "والزائد أولى" بيان ذلك: أنه لو وجب الأخذ بالزيادة وإن كانت هي ممن دون من لم يزد من الرواة لوجب الأخذ بزيادة أيمن بن نابل على الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي؛ فإنه قال في روايته: حدثنا محمَّد بن مسلم أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله

" ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود، فإذا أخذوا بزيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس لفظة: "المباركات" الذي رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، لزمهم أن يأخذوا بزيادة أيمن بن نابل في حديث جابر بن عبد الله الذي رواه أيمن بن نابل عن أبي الزبير، عن جابر.

بيان الملازمة: أن أبا الزبير أدنى حالا من الليث، فإذا أخذتم من أبي الزبير زيادته في حديث الليث عنه، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس والحال أنه أدنى من الليث، يجب الأخذ أيضًا بزيادة أيمن بن نابل في حديث أبي الزبير عن

ص: 477

جابر، وكذلك يجب الأخذ بزيادة أبي أسلم المؤذن، عن عبد الله بن الزبير أنه قال في التشهد أيضًا:"بسم الله" وألفاظًا أخرى ليست في حديث ابن مسعود.

قوله: "فلما كانت هذه الزيادة

إلى آخره" من تتمة الجواب المذكور، أبي فلما كانت زيادة أيمن بن نابل غير مقبولة؛ لأنه لم يزدها على الليث مثله، أبي مثل الليث في درجة العدالة والأمانة والثقة، لم تقبل كذلك زيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس علي عطاء بن أبي رباح؛ لأن عبد الملك بن جريج رواه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفًا، ورواه أبو الزبير محمَّد بن مسلم، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس مرفوعًا؛ لأن من رفع فقد زاد على من وقف، وأبو الزبير لا يكافئ ابن جريج، فافهم. قوله: "ولو ثبتت هله الأحاديث كلها

إلى آخره" جواب بطريق التسليم، بيانه: لو سلمنا أن الأحاديث المذكورة كلها لو ثبتت وصحت وتساوت في قوة الأسانيد، وصحة الطريق واستقامة المجيء لكان حديث عبد الله بن مسعود أولاها، ثم أشار إلى بيان الأولوية بقوله: "لأنهم قد أجمعوا

" إلى آخره، وهو ظاهر.

قلت: لم يقل أحد من أهل العلم بالحديث: إن حديث ابن مسعود يساويه حديث أو يفوقه.

ومن ذلك قال الخطابي رحمه الله: أصح الروايات وأشهرها رجالا: تشهد ابن مسعود.

وقال ابن المنذر وأبو علي الطوسي: قد روي حديث ابن مسعود من غير وجه، وهو أصح حديث روي في التشهد عن النبي عليه السلام.

وقال البزار: أصح حديث في التشهد: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وروي عنه من نيف وعشرين طريقا، ولا أعلم يروى عن النبي عليه السلام في التشهد أثبت من حديث عبد الله، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر حالًا، ولا أشد تظاهرًا بكثرة الأسانيد واختلاف طرقها وإليه أذهب.

ص: 478

وقال أبو عمر: بتشهد ابن مسعود أخذ أكثر أهل العلم؛ لثبوت فعله عن النبي عليه السلام.

وقال علي بن المديني: لم يصح في التشهد إلا ما نقله أهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى.

وبنحوه قال ابن طاهر.

وقال النووي: أشدها صحة باتفاق المحدثين: حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس.

قلت: لأجل ذلك قال صاحب "الهداية": والأخذ بتشهد ابن مسعود أولى؛ لأن فيه الأمر، وأقله الاستحباب، و"الألف" و"اللام" وهما للاستغراق، وزيادة "الواو" وهي لتحديد الكلام كما في القسم، وتأكيد التعليم.

قلت: أما الأمر وهو قوله: "فليقل" وليس في تشهد ابن عباس في ألفاظهم الجميع إلا في لفظ النسائي: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا" وفي لفظ له: "قولوا في كل جلسة".

وأما "الألف" و"اللام" فإن مسلمًا وأبا داود وابن ماجه لم يذكروا تشهد ابن عباس إلا معرفًا بالألف واللام، وذكره الترمذي والنسائي منكرًا:"سلام عليك أيها النبي، سلام علينا" وكان برهان الذي اعتمد على هذه الرواية.

وأما "الواو" فليست في تشهد ابن عباس عند الجميع.

وأما التعليم فهو أيضًا في تشهد ابن عباس عند الجميع: "كان رسول الله عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" هكذا لفظ مسلم، وفي لفظ الباقين:"كما يعلمنا القرآن".

وفي تشهد ابن مسعود تراجيح أُخر منها: أن الأئمة الستة اتفقوا عليه لفظا ومعنى؛ وذلك نادر، وتشهد ابن عباس معدود في أفراد مسلم، وأعلى درجة

ص: 479

الصحيح عند الحفاظ ما اتفق عليه الشيخان ولو في أصله، فكيف إذا اتفقا على لفظه؟

ومنها: إجماع العلماء على أنه أصح حديث في الباب، كما قال الترمذي: فهو أصح حديث روي عن النبي عليه السلام في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام ومن بعدهم من التابعين.

ومنها: أنه قال فيه: "علمني التشهد، كفي بين كفيه" ولم يقل ذلك في غيره؛ فدلَّ على مزيد الاعتناء به.

ص: وحجة أخرى: أنا قد رأينا عبد الله شدد في ذلك حتى أخذ على أصحابه "الواو" فيه كي يوافقوا لفظ رسول الله عليه السلام، ولا نعلم غيره فعل ذلك، فلهذا استحببنا ما روي عن عبد الله دون ما روي عن غيره، فمما روي عن عبد الله مما ذكرنا: ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمر، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"كان عبد الله يأخذ علينا "الواو" في التشهد".

ش: أي برهان آخر في ترجيح حديث عبد الله في التشهد على حديث غيره: هو تشديد عبد الله على أصحابه في أخذ "الواو" فيه ليوافقوا لفظ رسول الله عليه السلام ولا يخالفوه، ولو لم يكن أمره مؤكدًا عنده لما فعل ذلك، ولا يُعلم أحد غيره من الصحابة الذين رووا التشهد فعل من التأكيد ما فعله عبد الله، فهذا هو وجه استحباب أخذ ما رواه هو، وترك ما رواه غيره.

ثم إنه أخرج الأثر المذكور عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمر التيمي الكوفي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي.

وهؤلاء كلهم رجال الصحيحين ما خلا بكارًا.

ص: 480

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال:"كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القرآن، يأخذ علينا الألف و"الواو".

ثنا وكيع (2)، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم قال:"كان يأخذ علينا الواو في التشهد: الصلوات والطيبات".

قوله: "كان عبد الله يأخذ علينا الواو" أي الواو التي بين التحيات والصلوات، وبين الصلوات والطيبات، أراد أنه كان يقولها بالواوين:"التحيات لله والصلوات والطيبات" ولا ينبغي أن يتركهما ولا واحدة منها، وقد بالغ فيه بعض الناس أنه إذا تركها أعاد الصلاة.

وقال ابن قدامة: قال ابن حامد: ورأيت بعض أصحابنا يقولون: لو ترك واوًا أو حرفًا أعاد الصلاة لقول الأسود: "فكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن" ولكن الأصح أن ذلك لا يضر صلاته.

وقال أحمد: تشهد عبد الله أعجب إلى، وإن تشهد بغيره فهو جائز ة لأن النبي عليه السلام لما علمه الصحابة مختلفًا، دل على جواز الجميع؛ كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف.

وقال القاضي: وهذا يدل على أنه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهدات المروية صح تشهده. انتهى.

قلت: هذا كله من حيث الجواز، وأما من حيث الفضيلة فلا ينبغي أن نخل لفظا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وقد روى الترمذي (3): نا أحمد بن محمَّد بن موسى، قال: نا عبد الله بن المبارك،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 262 رقم 3007).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 262 رقم 3009).

(3)

"جامع الترمذي"(2/ 82 رقم 289).

ص: 481

عن معمر، عن خُصَيف قال:"رأيت النبي عليه السلام في المنام فقلت: يا رسول الله، إن الناس قد اختلفوا في التشهد فقال: عليك بتشهد ابن مسعود".

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن خُصَيف الجزري قال:"رأيت رسول الله عليه السلام في النوم جاءني فقلت: يا رسول الله عليه السلام اختلف علينا في التشهد، قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال ابن مسعود كذا، قال: السنة سنة ابن مسعود رضي الله عنه".

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع قال:"سمع عبد الله رجلًا يقول في التشهد: بسم الله، التحيات لله، فقال له عبد الله: أتأكل؟ ".

ش: ذكر هذا تأكيدًا لما قاله من ترك الزيادة على ما في حديث ابن مسعود كما ذكر أيمن بن نابل في حديث جابر وغيره.

أخرجه عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله القرشي المدني، وهو ضعيف، فقال القطان: لا شيء. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال أحمد والنسائي: متروك الحديث. ولكن احتج به الترمذي وابن ماجه.

وهو يروي عن المسيب بن رافع الأسدي الكاهلي روى له الجماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع قال:"سمع ابن مسعود رجلا يقول في التشهد: بسم الله فقال: إنما يقال هذا على الطعام".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 205 رقم 3077).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 263 رقم 3014).

ص: 482

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم:"أن الربيع بن خثيم لقي علقمة فقال: إنه قد بدا لي أن أزيد في التشهد: "ومغفرته"، فقال له علقمة: ننتهي إلى ما علمناه".

ش: أشار بهذا إلى أن كل ما يزاد على تشهد ابن مسعود لا يعمل به، سواء كانت الزيادة نحو التسمية في أوله، أو نحو مغفرته في أوسطه، أو نحو اللهم اغفر لي واهدني في آخره، كما في حديث عبد الله بن الزبير.

وأبو بكرة بكار، ومؤمل هو ابن إسماعيل القرشي، والثوري هو سفيان، ومنصور: هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، والربيع بن خثيم ابن عائذ أبو يزيد الكوفي، وعلقمة بن قيس النخعي.

وكل هؤلاء أئمة ثقات.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): أخبرني أبي، عن إبراهيم قال:"جاء ربيع بن خثيم إلى علقمة يستشيره أن يزيد فيها: ومغفرته، فقال علقمة: إنما ننتهي إلى ما علمناه".

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: "أتيت الأسود بن يزيد فقلت: إن أبا الأحوص قد زاد في خطبة الصلاة: والمباركات، قال: فائته فقل له: إن الأسود ينهاك، ويقول: إن علقمة بن قيس تعلمهن من عبد الله كما يتعلم السورة من القرآن، عدهن عبد الله في يده

" ثم ذكر تشهد عبد الله رضي الله عنه.

ش: هذا أيضًا لما ذكرنا في الذي قبله، وفهد هو ابن سليمان.

وأبو غسان اسمه مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، شيخ البخاري.

وزهير هو ابن معاوية.

وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 200 رقم 3062).

ص: 483

وأبو الأحوص هو عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي.

والكل ثقات أجلاء.

قوله: "في خطبة الصلاة" أراد بها التشهد.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فلهذا الذي ذكرنا استحببنا ما روي عن عبد الله بتشديده في ذلك، ولإجماعهم عليه؛ إذ كانوا قد اتفقوا على أنه لا ينبغي أن يتشهد إلا بخاص من التشهد.

وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي ولأجل ما ذكرنا من المعاني والأمور استحببنا تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولأجل إجماعهم أي إجماع كل من روى حديث التشهد "عليه" أي على تشهد عبد الله؛ لأن ألفاظ تشهده موجودة في جميع من روى التشهد من غيره، وقد كانوا كلهم اتفقوا على أن التشهد لا يكون إلا بألفاظ مخصوصة، ولا يكون بأي لفظ كان، فإذا كان كذلك، فالمتفق عليه أولى من المختلف فيه.

قوله: "وهذا" أي ما ذكرنا من استحباب تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. "قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله"، وهو قول جماهير الفقهاء أيضًا من التابعين ومن بعدهم، على ما ذكرناه، والله أعلم بالصواب.

ص: 484