الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: التكبير للركوع والتكبير للسجود والرفع من الركوع هل في ذلك رفع أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان التكبير لأجل الركوع والتكبير لأجل السجود، وفي بيان حالة رفع الرأس من الركوع هل فيهما رفع اليدين أم لا؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة.
ص: حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا فرغ ورفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر".
ش: هذا أخرجه أبو جعفر: بعينه بهذا الإسناد في باب: رفع اليدين في افتتاح الصلاة، ولكن إلى قوله:"حذو منكبيه" وقطعه للتبويب.
وأخرجه الأربعة (1) وقد ذكرناه هناك.
قوله: "إذا قضى قراءته" أي: إذا فرغ منها.
قوله: "ويصنعه" أي يصنع رفع اليدين.
قوله: "وهو قاعد" جملة وقعت حالًا.
قوله: "وإذا قام من السجدتين" يعني الركعتين؛ قاله في "الإِمام"، وقال النووي في "الخلاصة": وقع في لفظ أبي داود: "السجدتين" وفي لفظ الترمذي "الركعتين" والمراد بالسجدتين: الركعتان.
(1) تقدم.
وقال الخطابي: أما ما روي في حديث علي أنه كان يرفع يديه عند القيام من السجدتين، فلست أعلم أحدًا من الفقهاء ذهب إليه، وإن صح الحديث فالقول به واجب. انتهى.
قلت: الحديث صحيح، قال الترمذي: حسن صحيح، ووهم الخطابي في ذلك لكونه لم يقف على طريق الحديث، ولكن يجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأيت النبى عليه السلام إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين".
ش: هذا أيضًا أخرجه بعينه بهذا الإسناد في باب: رفع اليدين في افتتاح الصلاة، ولكن إلى قوله:"حتى يحاذي بهما منكبيه" والأئمة الستة أخرجوه (1) وقد ذكرناه هناك.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:"أن النبى عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد، عن جابر قال:"رأيت سالم بن عبد الله رفع يديه حذاء منكبيه في الصلاة ثلاث مرات: حين افتتح الصلاة، وحين ركع، وحين رفع رأسه، قال جابر: فسألت سالمًا عن ذلك، فقال: رأيت ابن عمر يفعل ذلك، وقال ابن عمر: رأيت النبى عليه السلام يفعل ذلك".
(1) تقدم.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي عليه السلام أحدهم أبو قتادة قال: قال أبو حميد: "أنا أعلمكم بصلاة النبي عليه السلام، قالوا: لم؛ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة، ولا أقدمنا له صحبة؟! فقال: بلى، قالوا: فأعرض، قال: كان رسول الله عليه السلام إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر، ثم يقرأ، ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض، فإذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم صنع مثل ذلك في بقية صلاته، قال: فقالوا جميعًا: صدقت هكذا كان يصلي".
ش: هذه الأسانيد كلها بعينها قد مرت هناك ولكن مقتصرة على رفع اليدين حذو المنكبين عند الافتتاح، وقد ذكرنا هناك من أخرجها من الأئمة، وتقطيعها للتبويب.
وزيد هو ابن أبي أنيسة الجزري أبو أسامة الرهاوي من رجال الجماعة، وجابر هو ابن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي فيه كلام كثير.
ومما يستفاد منها:
استحباب الجمع للإمام بين التسميع والتحميد، وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد.
وأنه لا يرفع يديه بين السجدتين، وبه أخذ الجمهور، وقد ذهبت طائفة إلى الرفع في السجود أيضًا.
لما روى أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن حميد، عن أنس:"أن النبي عليه السلام كان يرفع يديه في الركوع والسجود".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 213 رقم 2434).
ويستفاد من حديث أبي حميد: أن الإِمام يقتصر على التسميع، وإليه ذهب أبو حنيفة. وسنية تكبيرات الانتقالات.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل قال:"اجتمع أبو حميد وأبو أُسيد وسهل بن سعد فذكروا صلاة رسول الله عليه السلام، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة النبي عليه السلام، إن رسول الله عليه السلام كان إذا قام رفع يديه، ثم رفع يديه حين يكبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه".
ش: إسناده صحيح، وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو، وقد تكرر ذكر نسبته إلى عَقَد بفتحتين صنف من الأزد.
وعباس بن سهل بن سعد الأنصاري روى له الجماعة سوى النسائي، وأبو حميد -بضم الحاء- قيل اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد الساعدي الأنصاري المدني الصحابي، وأبو أسيد بضم الهمزة اسمه مالك بن ربيعة الأنصاري الساعدي الصحابي، وسهل بن سعد بن مالك الأنصاري الساعدي أبو يحيى المدني الصحابي.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): أنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا أبو عامر العقدي، نا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل قال:"اجتمع محمَّد بن مسلمة وأبو أسيد وأبو حميد وسهل بن سعد، فذكروا صلاة رسول الله عليه السلام، قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله عليه السلام، إن رسول الله عليه السلام قام فكبر ورفع يديه، ثم رفع يديه حين كبر للركوع، ثم ركع ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه، ولم يصوب رأسه ولم يقنعه".
وأخرجه أبو داود من وجوه كثيرة وأخرجه من هذا الوجه أيضًا وليس فيه ذكر رفع اليدين عند الركوع وقال (2): ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الملك بن عمرو، قال:
(1)"سنن الدارمي"(1/ 341 رقم 1307).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 253 رقم 734).
أخبرني فليح، قال: حدثني عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله عليه السلام فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله عليه السلام، فذكر بعض هذا، قال: ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فتجافى عن جنبيه، وقال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه، ثم رفع رأسه حتى رجع كل عظم في موضعه، حتى فرغ، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كله اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال:"رأيت النبي عليه السلام حين يكبر للصلاة وحين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع يرفع يديه حيال أذنيه".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عاصم
…
فذكر مثله بإسناده.
حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس المعروف بالسوسي، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث قال:"رأيت رسول الله عليه السلام إذا ركع وإذا رفع رأسه من ركوعه يرفع يديه حتى يحاذي بهما فوق أذنيه".
ش: هذه الأسانيد ذكرت هناك بعينها ولكن متونها مقتصرة على رفع اليدين عند الافتتاح، وها هنا ذكرها لرفع اليدين حين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع.
ورجالها كلهم ثقات وأبو الأحوص سلام بن سليم الكوفي.
ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد".
ش: سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، وإسماعيل بن عياش بن سليم الشامي فيه مقال، قال النسائي: ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. وقال الفسوي: تكلم قوم فيه وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام، أكثر ما تكلموا فيه قالوا: يغرب عن ثقات الحجازين. وروى له الأربعة.
وصالح من رجال الجماعة، وكذلك عبد الرحمن بن هرمز الأعرج.
وأخره ابن ماجه (1): ثنا عثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار، قالا: ثنا إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال:"رأيت رسول الله عليه السلام يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه حين يفتتح الصلاة وحين يركع وحين يسجد".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذه الآثار، وأوجبوا الرفع عند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند النهوض إلى القيام من القعود في الصلاة كلها.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح وطاوسًا ومجاهدًا والقاسم بن محمَّد وسالمًا وقتادة ومكحولًا وسعيد بن جبير وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وابن جرير الطبري ومالكًا في رواية؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار المذكورة، وأوجبوا الرفع أي رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، وعند القيام من القعود إلى الركعة الثالثة، وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأنس وابن الزبير.
وقال البخاري (2): روي عن تسعة عشر نفرًا من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع منهم: أبو قتادة وأبو أسيد ومحمد بن مسلمة وسهل بن
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 279 رقم 860).
(2)
"جزء رفع اليدين" للبخاري (1/ 2).
سعد وعبد الله بن عمر وابن عباس وأنس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو وعبد الله ابن الزبير ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأبو موسى الأشعري وأبو حميد الساعدي.
وزاد البيهقي (1): أبا بكر الصديق وعمر وعليًّا وجابرًا وعقبة بن عامر وزيد بن ثابت وعبد الله بن جابر البياضي وأبا سعيد وأبا عبيدة وابن مسعود وأبي بن كعب وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والحسين بن علي وسلمان الفارسي وبريدة وعمارًا وأبا أمامة وعمير بن قتادة الليثي وأبا مسعود وعائشة وأعرابيًّا له صحبة.
وزاد ابن حزم (2): أم الدرداء والنعمان بن عياش، قال: ورويناه أيضًا عن عبد الرحمن بن سابط والحسن وسالم والقاسم وعطاء ومجاهد وابن سيرين ونافع وقتادة والحسن بن مسلم وابن أبي نجيح وعمرو بن دينار ومكحول والمعتمر ويحيى القطان وابن مهدي وابن علية وابن المبارك وابن وهب ومحمد بن نصر المروزي وابن جرير الطبري وابن المنذر والربيع ومحمد بن الحكم وابن نمير وابن المديني وابن معين وابن هارون في آخرين، وهو رواية أشهب وابن وهب وأبي المصعب وغيرهم عن مالك: أنه كان يرفع يديه على حديث ابن عمر إلى أن مات، وبه قال الأوزاعي وابن عيينة والشافعي وجماعة أهل الحديث.
وذكر ابن عسكر في "تاريخه"(3): عن أبي حازم سلمة الأعرج القاضي قال: "أدركت ألفًا من الصحابة كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع".
(1) انظر "سنن البيهقي الكبرى" باب رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه. (2/ 68) وما بعدها.
(2)
انظر "المحلى"(4/ 89) وما بعدها.
(3)
"تاريخ دمشق"(22/ 24).
وأسند بعده عن ابن أبي حازم أنه قال: من حدثك أن أبي سمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير سهل بن سعد فقد كذب، وانظر "جامع التحصيل"(1/ 187 رقم 255)، و"تهذيب الكمال"(11/ 275).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا نرى الرفع إلا في التكبيرة الأولى.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وابن أبي ليلى وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وعامر الشعبي وأبا إسحاق السبيعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وخيثمة وقيسًا والمغيرة ووكيعًا وعاصم بن كليب ومالكًا -في رواية- وابن القاسم وأكثر المالكية وأهل الكوفة.
قال الترمذي (1): وبه يقول غير واحد من أصحاب النبي عليه السلام والتابعين وهو قول سفيان وأهل الكوفة.
واختلف عن مالك في رفع اليدين في الصلاة فروى الوليد بن مسلم وعبد الله بن وهب عن مالك: أنه كان يرى رفع اليدين في الصلاة. وروى الشافعي، عن مالك: أنه كان لا يرفع.
وقال أشرت الدين بن نجيب الكاساني في "البدائع"(2): وروي عن ابن عباس أنه قال: إن العشرة الذين شهد لهم رسول الله عليه السلام بالجنة ما كانوا يرفعون أيديهم إلا لافتتاح الصلاة.
قلت: وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وذكر غيره أيضًا عبد الله بن مسعود وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبا سعيد الخدري، وقول الترمذي يدل على هذا.
ص: واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن
(1)"جامع الترمذي"(2/ 40).
(2)
"بدائع الصنائع"(1/ 484).
عازب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريبًا من شحمتي أذنيه ثم لا يعود".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن البراء، عن النبي عليه السلام نحوه.
حدثنا محمَّد بن النعمان السقطي، قال: ثنا يحيى يحيى، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه.
وعن الحكم (1)، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، عن النبي عليه السلام نحوه.
ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأخرجه من ثلاث طرق:
الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي العدوي أبي عبد الرحمن البصري نزيل مكة، وشيخ أحمد وإسحاق وابن المديني وبندار، وثقه يحيى بن معين وابن حبان، واستشهد به البخاري، واحتج به الأربعة أبو داود في القدر.
عن سفيان الثوري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي أبي عبد الله الكوفي، تكلموا فيه، وسيجيء الكلام فيه.
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من رجال الجماعة، عن البراء رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا محمَّد بن الصباح البزاز، قال: ثنا شريك، عن يزيد
(1) كذا في "الأصل"، و"ك": وعن الحكم بالإضافة وعليه شرح المؤلف، وهو كذلك في "مصنف ابن أبي شيبة" كما سيأتي، وعند أبي داود في "سننه": عن الحكم بدون الواو، وكذا هو في "تحفة الأشراف" (2/ 29 رقم 1786) ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يروي عن أخيه ويروي عن الحكم كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" وأما أخوه عيسى فقد شكك المزي في روايته عن الحكم كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" (22/ 630) فقال: إن كان محفوظًا.
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 258 رقم 749).
ابن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء:"أن رسول الله عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود".
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي، عن خالد بن عبد الله الواسطي، كلاهما من رجال الجماعة، عن محمَّد بن أبي ليلى فيه مقال، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن وثقه أبو حاتم وغيره، عن أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا حسين بن عبد الرحمن، أنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال:"رأيت رسول الله عليه السلام رفع يديه حين افتتح الصلاة، ثم لم يرفعهما حتى انصرف".
الثالث: عن محمد بن النعمان السقطي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن وكيع، عن محمَّد بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، وعن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم وعيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب:"أن النبي عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه، ثم لا يرفعهما حتى يفرغ".
فإن قلت: قال أبو داود (3): روى هذا الحديث هشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد ولم يذكروا: "ثم لا يعود" وقال الخطابي: لم يقل أحد في هذا: "ثم لا يعود" غير شريك، وقال أبو عمر في "التمهيد": تفرد به يزيد، ورواه عنه الحفاظ فلم يذكر واحد منهم قوله:"ثم لا يعود".
(1)"سنن أبي داود"(1/ 259 رقم 752).
(2)
المصنف ابن أبي شيبه (1/ 213 رقم 2440).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 258).
وقال البزار: لا يصح حديث يزيد في رفع اليدين "ثم لا يعود".
وقال عباس الدوري (1) عن يحيى: ليس هو بصحيح الإسناد.
وقال البيهقي (2) عن أحمد: هذا حديث واهي قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يذكر فيه: "ثم لا يعود". فلما لقن أخذه فكان يذكره فيه.
وقال جماعة: إن يزيد كان تغير بأخرة وصار يتلقن، واحتجوا على ذلك بأنه أنكر الزيادة.
كما أخرجه الدارقطني (3): عن علي بن عاصم، ثنا محمد بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال:"رأيت النبي عليه السلام حين قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حتى ساوى بهما أذنيه، فقلت: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: "ثم لم يعد" قال: لا أحفظ هذا. ثم عاود به فقال: لا أحفظه.
وقال البيهقي: سمعت الحاكم أبا عبد الله يقول: يزيد بن أبي زياد كان يذكر بالحفظ، فلما كبر ساء حفظه، وكان يقلب الأسانيد ويزيد في المتون ولا يميز.
قلت: يعارض قول أبي داود قول ابن عدي في "الكامل"(4): رواه هشيم وشريك وجماعة معهما عن يزيد بإسناده وقالوا فيه "ثم لم يعد" فظهر أن شريكًا لم يتفرد برواية هذه الزيادة فسقط بذلك أيضًا كلام الخطابي: لم يقل أحد في هذا: "ثم لا يعود" غير شريك؛ لأن شريكًا قد توبع عليها.
كما أخرجه الدارقطني (5): عن إسماعيل بن زكرياء، ثنا يزيد بن أبي زياد به نحوه.
(1)"تاريخ ابن معين رواية الدوري"(3/ 264 رقم 1239).
(2)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 548).
(3)
"سنن الدارقطني"(1/ 294 رقم 24).
(4)
"الكامل في الضعفاء"(7/ 276).
(5)
"سنن الدارقطني"(1/ 293 رقم 21).
وأخرجه البيهقي في "الخلافيات": من طريق النضر بن شميل، عن إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بلفظ:"رفع يديه حذو أذنيه ثم لم يعد".
وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(1): من حديث حفص بن عمر، ثنا حمزة الزيات كذلك، وقال: لم يروه عنه إلا حفص، تفرد به محمَّد بن حرب.
فإن قالوا: تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.
قلنا: لا نسلم ذلك؛ لأن عيسى بن عبد الرحمن رواه أيضًا عن ابن أبي ليلى كذلك، فلذلك أخرجه الطحاوي إشارة إلى أن يزيد قد توبع في هذا، وأما إذا نظرنا في حال يزيد نجده ثقة، فقال العجلي: هو جائز الحديث. وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: يزيد وإن كان قد تكلم فيه لتغيره فهو على العدالة والثقة وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور والأعمش فهو مقبول القول عدل ثقة. وقال أبو داود: ثبت لا أعلم أحدًا ترك حديثه وغيره أحب إليَّ منه. وقال ابن سعد: كان ثقة في نفسه إلا أنه اختلط في آخر عمره. ولما ذكره ابن شاهين في كتاب "الثقات" قال: قال أحمد بن صالح: يزيد ثقة ولا يعجبني قول من تكلم فيه. وخرج ابن خزيمة حديثه في "صحيحه". وقال الساجي: صدوق. وكذا قال ابن حبان، وذكره مسلم فيمن شمله اسم الستر والصدق وتعاطي العلم وخرج حديثه في "صحيحه"، واستشهد به البخاري.
فلما كانت حاله بهذه المثابة جاز أن يحمل أمره على أنه حدث ببعض الحديث تارة وبجملته أخرى، أو يكون قد نسى أولًا ثم تذكر، فإن ادعوا المعارضة برواية إبراهيم بن بشار عن سفيان، ثنا يزيد بن أبي زياد بمكة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة يرفع يديه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" قال سفيان: فلما قدمت الكوفة سمعته يقول: "يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". فظننتهم لقنوه.
(1)"المعجم الأوسط"(2/ 84 رقم 1325).
رواه الحاكم، ثم البيهقي (1) عنه. قال الحاكم: لا أعلم ساق هذا المتن بهذه الزيادة عن سفيان بن عيينة غير إبراهيم بن بشار الرمادي، وهو ثقة في الطبقة الأولى من أصحاب ابن عيينة، جالس ابن عيينة نيفًا وأربعين سنة.
ورواه البخاري في كتابه في "رفع اليدين"(2): حدثنا الحميدي، ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، بمثل لفظ الحاكم. قال البخاري: وكذلك رواه الحفاظ ممن سمع يزيد قديمًا منهم شعبة والثوري وزهير، وليس فيه "ثم لم يعد".
قلنا: هذا لا يتجه؛ لأنه لم يرو هذا المتن جهذه الزيادة غير إبراهيم بن بشار، كذا حكاه الشيخ في "الإمام" عن الحاكم، وابن بشار قال فيه النسائي: ليس بالقوي. وذمه أحمد ذمًّا شديدًا، وقال ابن معين: ليس بشيء لم يكن يكتب عند سفيان، وما رأيت في يده قلمًا قط، وكان يُملي على الناس ما لم يقله سفيان. ورماه البخاري وابن الجارود بالوهم، فجائز أن يكون قد وهم في هذا والله أعلم.
وقال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: كان يملي على الخراسانية ما لم يقل ابن عيينة، فقلت له: أما تتقي الله؟! تملي عليهم ما لم يسمعوا؟! وذمه في ذلك ذمًّا شديدًا.
وقال الأزدي: هو صدوق لكنه يهم في الحديث بعد الحديث.
فإن قلت: قال ابن قدامة في "المغني": حديث يزيد بن أبي زياد ضعيف، قال الحميدي وغيره: يزيد بن أبي [زياد](3) ساء حفظه في آخر عمره وخلط. ثم لو صح لكان الترجيح لأحاديثنا أولى بخمسة أوجه:
أحدها: أنها أصح إسنادًا وأعدل رواة، فالحق إلى قولهم أقرب.
الثاني: أنها أكثر رواة فظن الصدق في قولهم أقوى والغلط منهم أبعد.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 77 رقم 2361).
(2)
"جزء رفع اليدين للبخاري"(1/ 33 رقم 32).
(3)
في "الأصل" و"ك": "سفيان" وهو تحريف، والمثبت من "المغني"(2/ 174).
الثالث: أنهم مثبتون والمثبت يخبر عن شيء شاهده ورآه، فقدله يجب تقديمه لزيادة علمه، والنافي لم ير شيئًا فلا يؤخذ بقوله وكذلك قدمنا قول الجارح على المعدل.
الرابع: أنهم فصَّلوا في روايتهم ونصُّوا في الرفع على الحالتين المختلف فيهما والمخالف لهم عمم روايته المختلف فيه وغيره، فيجب تقديم أحاديثنا؛ لنصها وخصوصها عك أحاديثهم العامّة التي لا نص فيها كما يقدم الخاص على العام، والنص على الظاهر المحتمل.
الخامس: أن أحاديثنا عمل بها السلف من الصحابة والتابعين، فيدل ذلك على قوتها.
قلت: يدفع الوجه الأول: حديث ابن مسعود على ما يأتي؛ فإنه أيضًا حديث صحيح نص عليه الترمذي وغيره.
وأما الوجه الثاني: ولئن سلمنا أن كثرة عدد الرواة لها تأثير في باب الترجيح ولكن هذا إنما يكون فيما إذا كان راوي الخبر واحدًا، وراوي الخبر الذي يعارضه اثنان أو أكثر؛ فالذي نحن فيه إنما روي عن جماعة وهم عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وابن عمر وعباد بن الزبير رضي الله عنهم فحينئذ تتساوى الأخبار في ظن الصدق بقولهم في القوة وبعد الغلط.
وأما الوجه الثالث؛ فلا نسلم أن خبر المثبت يقدم على خبر النافي مطلقًا؛ لأنه كما أنه يستدل به على صدق الراوي في الخبر الموجب للإثبات، فكذلك يستدل به بعينه على صدق الراوي في الخبر الموجب للنفي، والتحقيق في هذا الموضع أن خبر النفي إذا كان عن دليل يوجب العلم به يتساوى مع المثبت وتتحقق المعارضة بينهما، ثم يجب طلب المخلص بعد ذلك، فإن كان لا عن دليل يوجب العلم به فحينئذ يقدم خبر المثبت، وذلك كما في حديث بلال رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام لم يصل في الكعبة"
مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه عليه السلام صلى فيها عام الفتح"(1) فإنهم اتفقوا أنه عليه السلام ما دخلها يومئذ إلا مرة، ومن أخبر أنه لم يصل فيها فإنه لم يعتمد دليلًا موجبًا للعلم؛ لأنه لم يعاين صلاته فيها، والآخر عاين ذلك، فكان المثبت أولى من النافي، وأما الذي نحن فيه فالنفي فيه عن دليل يوجب العلم به ة لأن ابن مسعود رضي الله عنه شاهد النبي عليه السلام وعاينه أنه رفع يديه في أول تكبيرة ثم لم يعد، وقول ابن عمر أيضًا إثبات عن دليل يوجب العلم، فحينذ يتساويان في القوة والضعف، فكيف يرجح الإثبات على النفي؟! فافهم فإنه موضع دقيق قَلَّ من يتعرض إليه، ولولا الفيض الإلهي لما قدرنا عليه.
وأما الوجه الرابع: فنقول كما أن الخاص موجب للحكم فيما تناوله قطعًا، فكذلك العام موجب للحكم فيما تناوله قطعًا، وكل واحد من الحديثين نص، فكيف يقال والنص يقدم على الظاهر المحتمل؟!
وأما الوجه الخامس: فنقول أيضًا: أحاديثنا عمل بها السلف من الصحابة والتابعين، فقد قال: الترمذي بعد أن أخرج حديث ابن مسعود: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام والتابعين. وقد قلنا: إنه مذهب العشرة المبشرة بالجنة وقد رويت آثار كثيرة من الصحابة والتابعين تدل على أنهم عملوا بأحاديثنا كما سنذكر أكثرها إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أن حديث عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب فقد أخرجها الطحاوي ها هنا.
(1) رواه البخاري (1/ 155 رقم 388)، ومسلم (2/ 966 رقم 1329):"أن ابن عمر سأل بلالًا: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم".
وأما الذي أنكر صلاته بالكعبة فهو ابن عباس كما رواه البخاري في "صحيحه"(1/ 155 رقم 389)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 968 رقم 1331). والله أعلم.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني في "معجمه"(1): ثنا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، نا محمَّد بن عمران، حدثني أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي عليه السلام قال:"لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: حين تفتتح الصلاة، وحين تدخل المسجد الحرام فتنظر إلى البيت، وحين تقوم على الصفا، وحين تقوم على المروة، وحين تقف مع الناس عشيّة عرفة، وبجمع، والمقامين حين ترمي الجمرة".
ورواه البخاري معلقًا في كتابه المفرد "في رفع اليدين"(2) ثم قال: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها.
فهو مرسل وغير محفوظ؛ لأن أصحاب نافع خالفوا، وأيضًا فهم قد خالفوا هذا الحديث ولم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت.
والجواب: أن قول شعبة مجرد دعوى، ولئن سلمنا فمرسل الثقات مقبول يحتج به، وكونهم لم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت لا يوجب المخالفة؛ لأن الحديث لا يدل على الحصر.
صرواه البزار في "مسنده" أيضًا: ثنا أبو كريب محمَّد بن العلاء، نا عبد الرحمن بن محمَّد المحاربي، ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، وعند الحجر" ثم قال: وهذا حديث رواه غير واحد موقوفًا، وابن أبي ليلى لم يكن بالحافظ، وإنما قال: "ترفع الأيدي لما ولم يقل: لا ترفع الأيدي إلا في هذه المواضع انتهى.
قلت: رواه موقوفًا ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: إذا قام إلى
(1)"المعجم الكبير"(11/ 385 رقم 12072).
(2)
"جزء رفع اليدين للبخاري"(1/ 78 رقم 77).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 214 رقم 2450).
الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي جمع، وعند الجمار". قال الشيخ في "الإِمام": ورواه الحاكم ثم البيهقي بإسناده عن المحاربي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس.
وعن نافع عن ابن عمر قالا: قال رسول الله عليه السلام: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين".
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه البيهقي في "الخلافيات": عن عبد الله بن عون الخزاز، ثنا مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". قال البيهقي: قال الحاكم: هذا باطل موضوع، ولا يجوز أن يذكر إلا على سبيل القدح؛ فقد روينا بالأسانيد الصحيحة عن مالك بخلاف هذا ولم يذكر الدارقطني هذا في غرائب حديث مالك.
قلت: هذا أيضًا مجرد دعوى من الحاكم؛ لأنه لم يبين وجه البطلان ما هو، ولا يلزم من عدم ذكر الدارقطني هذا في غرائب حديث مالك أن يكون هذا باطلًا، فافهم.
الخراز بالخاء المعجمة بعدها راء ثم زاي.
وأما حديث عباد فأخرجه البيهقي أيضًا في "الخلافيات": أنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي العباس محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن إسحاق، عن الحسن بن الربيع، عن حفص بن غياث، عن محمَّد بن يحيى، عن عباد بن الزبير:"أن رسول الله عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه في أول الصلاة ثم لم يرفعهما في شيء حتى يفرغ".
قال الشيخ في "الإِمام": عباد هذا تابعي، فهو مرسل.
قلت: قد قلنا: إن مرسل الثقات مقبول محتج به.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام:"أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود".
حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا وكيع، عن سفيان
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذان إسنادان صحيحان ورجالهما رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي ومحمد بن النعمان.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا وكيع، عن سفيان، عن عاصم يعني ابن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، قال: قال عبد الله بن مسعود: "ألا أصلي بكم صلاة رسول الله عليه السلام؟ قال: فصلى فلم يرفع يديه إلَّا مرة".
وأخرجه الترمذي (2): عن هناد، عن وكيع، عن سفيان
…
إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه:"إلا في أول مرة".
وأحْرجه النسائي (3): عن محمود بن غيلان، عن وكيع
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في"مصنفه"(4): عن وكيع، عن سفيان
…
إلى آخره نحوه.
وكذا العدني أخرجه في "مسنده": عن وكيع، عن سفيان
…
إلى آخره.
فإن قيل: قد اعترض على هذا الحديث من ثلاثة أوجه:
الأول: ما رواه الترمذي (5) بسنده: عن ابن المبارك قال: لم يثبت عندي حديث ابن مسعود: "أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة". وثبت حديث ابن عمر: "أنه رفع عند الركوع، وعند الرفع، وعند القيام من الركعتين"(6).
(1)"سنن أبي داود"(1/ 258 رقم 748).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 40 رقم 257).
(3)
"المجتبى"(2/ 195 رقم 1058).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 213 رقم 2441).
(5)
"جامع الترمذي"(2/ 36).
(6)
رواه البخاري (1/ 258 رقم 706).
ورواه الدارقطني (1)، ثم البيهقي (2) في "سننيهما"، وذكره المنذري في مختصره للسنن.
الثاني: مما قال المنذري: قال غير ابن المبارك: إن عبد الرحمن لم يسمع من علقمة.
الثالث: ما قال الحاكم: عاصم بن كليب لم يخرج حديثه في "الصحيح" وكان يختصر الأخبار فيؤديها بالمعنى وإن لفظة "ثم لا يعود" في الرواية الأخرى غير محفوظة في الخبر، نقل البيهقي في "سننه" عن الحاكم هكذا.
قلت: أما الجواب عن الأول: أن عدم ثبوت الخبر عند ابن المبارك لا يمنع ثبوته عند غيره، فقد قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام والتابعين، وهو قول سفيان وأهل الكوفة انتهى.
ولو لم يثبت هذا الخبر عند سفيان لما عمل به، وصححه ابن حزم في "المحلى" وهو يدور على عاصم بن كليب، وقد وثقه ابن معين، وأخرج له مسلم. فلا نسأل عنه للاتفاق على الاحتجاج به.
وأما الجواب عن الثاني: أن قول المنذري غير قادح؛ فإنه عن رجل مجهول، وهو قول عجيب لأنه تعليل بقول رجل مجهول شهد على النفي وقال الشيخ في "الإِمام": وقد تتبعت هذا القائل فلم أجده، ولا ذكره ابن أبي حاتم في "مراسيله" وإنما ذكره في كتاب "الجرح والتعديل" فقال: وعبد الرحمن بن الأسود أُدخل على عائشة وهو صغير ولم يسمع منها، وروى عن أبيه وعلقمة. ولم يقل: إنه مرسل، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: إنه مات في سنة تسعة وتسعين. فكان سنه سن إبراهيم النخعي، فإذا كان سنه سن إبراهيم فما المانع من سماعه من علقمة، مع الاتفاق على سماع النخعي منه، ومع هذا كله فقد صرح الخطيب في كتاب
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 293 رقم 20).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 79 رقم 2365).
"المتفق والمفترق" في ترجمة عبد الرحمن هذا أنه سمع أباه وعلقمة، وكذا قال في "الكمال": سمع عائشة زوج النبي عليه السلام، وأباه، وعلقمة بن قيس.
وأما الجواب عن الثالث: وهو تضعيف الحاكم عاصمًا، فقد قلنا: إن ابن معين وثقه، وأنه من رجال الصحيح، وقول الحاكم: إن حديثه لم يخرج في "الصحيح" غير صحيح؛ فقد أخرج له مسلم حديثه عن أبي بردة، عن علي في "الهدي"(1)، وحديثه عنه عن علي:"نهاني رسول الله عليه السلام أن أجعل خاتمي في هذه والتي تليها"(2) وغير ذلك (3) أيضًا، فليس من شرط الصحيح التخريج عن كل عدل، وقد أخرج هو في مستدركه عن جماعة لم يخرج لهم في "الصحيح" وقال: هو على شرط الشيخين، وإن أراد بقوله لم يخرج حديثه في "الصحيح" أي هذا الحديث فليس ذاك بعلة، وإلا لفسد عليه مقصوده كله من "المستدرك".
والحاصل أن رجال هذا الحديث على شرط مسلم، فالحديث حينئذ صحيح، والدور على تضعيفه لا يفيد.
فإن قيل: قال البيهقي (4): روى هذا الحديث عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب فذكر فيه رفع يديه حين كبر في الابتداء، فلم يتعرض للرفع ولا لتركه بعد ذلك، وذكر تطبيق يديه بين فخذيه، وقد يكون رفعهما فلم ينقله كما لم ينقل سائر سنن الصلاة، وقد يكون ذلك في الابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين في الركوع، ثم صار التطبيق منسوخًا، وصار الأمر في السنة إلى رفع اليدين عند الركوع ورفع الرأس منه فخفي جميعًا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 2090 رقم 2725).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1659 رقم 2078).
(3)
انظر "صحيح مسلم"(4/ 2292 رقم 2992).
(4)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 551 - 552).
قلت: هذا رد لحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الاقتصار على الرفع مرة لمجرد احتمال بعيدة؛ ولا يلزم من نسخ التطبيق نسخ الاقتصار على الرفع في التكبيرة الأولى، وقد جاء لحديثه هذا شاهد جيد.
وهو ما أخرجه البيهقي (1) أيضًا: من حديث محمد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود:"صليت خلف النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند افتتاح الصلاة".
فإن قيل: قال الدارقطني (2): تفرد به محمَّد بن جابر وكان ضعيفًا، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلًا، عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي عليه السلام، وهو الصواب.
قلت: ذكر ابن عدي أن إسحاق -يعني ابن إسرائيل- كان يفضل محمَّد بن جابر على جماعة شيوخ هم أفضل منه وأوثق، وقد روى عنه من الكبار مثل: أيوب وابن عون وهشام بن حسان والسفيانين وشعبة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه مثل هؤلاء والذين هم دونهم، وقد خالف في أحاديث، ومع ما تكلم فيه من تكلم يكتب حديثه. وقال الفلاس: صدوق. وأدخله ابن حبان في "الثقات".
وحماد بن أبي سليمان روى له الجماعة إلا البخاري، ووثقه يحيى القطان وأحمد بن عبد الله العجلي، وقال شعبة: كان صدوق اللسان.
وإذا تعارض الوصل مع الإرسال والرفع مع الوقف فالحكم عند أكثرهم للواصل والرافع لأنهما زادا والزيادة من الثقة مقبولة والله أعلم (3).
وأما حديث عبد الله بن إدريس الذي ذكره البيهقي.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 79 رقم 2365).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 295 رقم 25).
(3)
قد تقدم التنبيه على خطأ هذا المذهب عند المحققين من المحدثين مرارًا.
فقد أخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا عبد الله بن سعيد ومحمد بن العباس الضبعي، قالا: نا عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله قال:"ألا أريكم صلاة رسول الله عليه السلام؟ فكبر ورفع يديه حين افتتح الصلاة، فلما ركع طبق يديه وجعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله عليه السلام".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، قال:"قلت لأبراهيم: حديث وأئل أنه رأى النبي عليه السلام يرفع يديه إذا افتتح الصلاة إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك".
حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن مرة قال:"دخلت مسجد حضرموت فإذا علقمة بن وائل يحدث عن أبيه: أن رسول الله عليه السلام كان يرفع يديه قبل الركوع وبعده، فذكرت ذلك لإبراهيم، فغضب وقال: رأه هو ولم يره ابن مسعود ولا أصحابه؟! ".
ش: هذان إسنادان صحيحان؛ لأن مؤملًا وثقه أحمد وغيره، وقد ذكرناه عن قريب، وسفيان هو الثوري، والمغيرة هو ابن مقسم الضبي، وإبراهيم هو النخعي وكلاهما من رجال الجماعة، ووائل هو ابن حجر الصحابي.
ومسدد بن مسرهد شيخ البخاري، وخالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وحصين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، وعمرو بن مرة بن عبد الله المرادي الجملي الكوفي الأعمى، وعلقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، والكل من رجال الجماعة.
فإن قيل: كيف تقول: هذان إسنادان صحيحان وفيهما الانقطاع؟ لأن إبراهيم النخعي لم يدرك عبد الله بن مسعود.
(1)"مسند البزار"(5/ 46 رقم 1608).
قلت: عن قريب يجيء الجواب عن ذلك، فتجده متصلًا في المعنى، وإنما ذكر الطحاوي هذا جوابًا لمن يزعم أن ابن مسعود يجوز عليه أن يكون قد نسي الرفع في غير التكبيرة الأول كما نسي في التطبيق فخفي عليه نسخه؛ وذلك لأن من رأى فعلًا من النبي عليه السلام خمسين مرة أو أقل منه كيف ينساه والحال أنهم كانوا محتاطين في أمور دينهم ولا سيما في أمر الصلوات لتكررها خمس مرات في اليوم والليلة ومثل ابن مسعود الذي كان يلازم النبي عليه السلام في غالب أوقاته لا يخفى عليه ذلك، فلذلك غضب إبراهيم النخعي لمَّا قال له عمرو بن مرة ما قال وبالغ في جواب المغيرة حيث قال:"إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك -أي رفع اليدين عند رفع الرأس من الركوع- فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك"، وهذا كله إنكار من إبراهيم لرفع اليدين من غير تكبيرة الافتتاح، وقال إبراهيم أيضًا لعلقمة بن وائل:"ما أرى أباك رأى رسول الله عليه السلام إلا ذلك اليوم الواحد فحفظ ذلك، وعبد الله لم يحفظ ذلك منه؟! ثم قال إبراهيم: إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة".
روى ذلك الدارقطني، (1) ثم البيهقي (2) في "سننيهما": من حديث جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: دخلنا على إبراهيم، فحدثه عمرو بن مرة قال: صلينا في مسجد الحضرميين، فحدثني علقمة بن وائل، عن أبيه: "أنه رأى رسول الله عليه السلام يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا سجد، فقال إبراهيم: ما أرى أباك
…
إلى آخر ما ذكرناه.
وأخرجه أيضًا أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(3) ولفظه: "أحفظ وائل ونسي ابن مسعود رضي الله عنه؟! ".
وقال صاحب "التنقيح": قال الفقيه أبو بكر بن إسحاق، هذه علة لا تستوي سماعهما؛ لأن رفع اليدين قد صح عن النبي عليه السلام ثم الخلفاء الراشدين ثم الصحابة
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 291 رقم 13).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 81 رقم 2369).
(3)
انظر "نصب الراية"(1/ 397)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(1/ 151).
والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب، قد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد، وهي المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق، ونسي كيفية قيام الاثنين خلف الإِمام، ونسي مالم يختلف العلماء فيه: أن النبي عليه السلام صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي كيفية جمع النبي عليه السلام بعرفة، ونسي مالم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف كان يقرأ النبي عليه السلام {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (1) وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة، كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين انتهى؟!
والجواب عن ذلك.
أما قوله: "لأن رفع اليدين قد صح عن النبي عليه السلام، فنقول قد صح أيضًا تركه.
كما في رواية الترمذي (2) وقال: حديث حسن صحيح.
وأما قوله: "ثم الخلفاء الراشدين" فممنوع إذ قد صح عن عمر وعلي رضي الله عنهما خلاف ذلك كما نذكره إن شاء الله تعالى، والذي روي عن عمر رضي الله عنه في الرفع في الركوع والرفع منه ذكره البيهقي بسنده، وفيه من هو مستضعف ولهذا قال (3): ورويناه عن أبي بكر وعمر، وذكر جماعة، ولم يذكره بلفظ الصحة كما فعل ابن إسحاق المذكور، وذكر في الجوهر النقي: ولم أجد أحدًا ذكر عثمان رضي الله عنه في جملة من كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه.
وأما قوله: "ثم الصحابة والتابعين" فغير صحيح أيضًا، فإن من الصحابة من قصر الرفع على تكبيرة الافتتاح، وهم الذين ذكرناهم فيما مضي.
وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا وكيع، عن أبي بكر بن عبد الله بن قطاف
(1) سورة الليل، آية:[3].
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 40 رقم 257) وقال: حديث حسن.
(3)
انظر "الجوهر النقي بذيل سنن البيهقي"(2/ 80).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبه"(1/ 213 رقم 2442).
النهشلي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه:"أن عليًا رضي الله عنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود".
ثنا (1) أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال:"ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح الصلاة".
ثنا (2) ابن آدم، عن حسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود قال:"صليت مع عمر رضي الله عنه فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة قال عبد الملك: ورأيت الشعبي وإبراهيم وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة". انتهى.
ويرد قوله أيضًا ما روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح لا غير كالأسود وعلقمة وإبراهيم وخيثمة وقيس بن أبي حازم والشعبي وأبي إسحاق وغيرهم.
ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3) بأسانيد جيدة، وروي ذلك أيضًا بسند صحيح عن أصحاب علي وعبد الله رضي الله عنهم وناهيك بهم.
وأما قوله: "وليس في نسيان ابن مسعود
…
" إلى آخره، فدعوى لا دليل عليها، ولا طريق إلى معرفة أن ابن مسعود علم ذلك ثم نسيه، والأدب في هذه الصورة التي نسبه فيها إلى النسيان أن يقال: "لم يبلغه" كما فعل غيره من العلماء.
قوله: "ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق" غير وارد على منهج الأدب، ولا نسلم أنه نسي ذلك بل إنما نقول: إنه لم يبلغه ذلك.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 214 رقم 2452).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 214 رقم 2454).
(3)
انظر "مصنف ابن أبي شيبة"(باب: من كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود)(1/ 213) وما بعدها.
قوله: "ونسي كيفية الاثنين خلف الإمام" أراد به ما روي أنه صلى بالأسود وعلقمة فجعلهما عن يمينه ويساره (1)، وقد اعتذر ابن سيرين عن ذلك بأن المسجد كان ضيفا، ذكره البيهقي (2) في باب: المأموم يخالف السنة في الموقف.
قوله: "ونسي أنه عليه السلام صلى الصبح في يوم النحر في وقتها" ليس بجيدٍ؛ إذ في "صحيح البخاري"(3) وغيره عن ابن مسعود: "أنه عليه السلام صلى الصبح يومئذ بغلس". فما نسي أنه صلاها في وقتها، بل أراد أنه صلاها في غير وقتها المعتاد، وهو الإسفار وقد تبين ذلك بما في "صحيح البخاري" (3) من حديثه:"فلما كان حين يطلع الفجر قال: إن النبي عليه السلام كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان في هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان يحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس، والفجر حين يبزغ الفجر".
وقوله: "ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد
…
" إلى آخره، أراد بذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: "هيئت عظام ابن آدم للسجود، فاسجدوا حتى بالمرافق (4) إلا أن عبارة ابن إسحاق ركيكة، والصواب أن يقال: من كراهية وضع المرفق والساعد.
وقوله: "ونسي كيف كان يقرأ النبي عليه السلام {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} ليس كذلك؛ لأنه ذكر في "المحتسب" لابن جني: قرأ: والذكر والأنثى بغير ما قرأ النبي عليه السلام وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم.
وفي "الصحيحين"(5): أن أبا الدرداء قال: "والله لقد أقرأنيها رسول الله عليه السلام".
(1) أخرجه مسلم (1/ 378 رقم 534).
(2)
"السنن الكبير"(3/ 99 رقم 4954).
(3)
تقدم.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 232 رقم 2658)، والشافعي في "الأم"(7/ 296).
(5)
البخاري (3/ 1368 رقم 3532)، ومسلم (1/ 565 رقم 824) واللفظ للبخاري.
فثبت أن ابن مسعود لم ينفرد بذلك، ولم يصح قوله:"أنه نسي كيف كان النبي عليه السلام يقرؤها" وإنما سمعها على وجه آخر فأداها كما سمعها (1).
وقوله في أول كلامه: "لا يسوي" لفظة عاميّة، والصواب أن يقال: لا يساوي، وفي "الصحاح": قال الفرّاء: هذا الشيء لا يساوي كذا، ولم يعرف: يسوي كذا، وهذا لا يساويه أي لا يعادله.
ص: فكان هذا ما احتج به أهل هذا القول لقولهم مما رويناه عن النبي عليه السلام، فكان من حجة مخالفهم عليهم في ذلك أن قال مع ما رويناه نحن: تواتر الآثار وصحة أسانيدها واستقامتها، فقولنا أولى من قولكم.
ش: أي فكان ما ذكرنا من حديث البراء وابن مسعود هو الذي احتج به أهل هذا القول وهم الجماعة الآخرون الذين خالفوا أهل المقالة الأولى في رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه.
قوله: "فكان من حجة مخالفهم عليهم في ذلك" أي فكان من حجة مخالف أهل المقالة الثانية عليهم -أي على أهل المقالة الثانية- في ذلك أي فيما خالفوا إياهم في رفع اليدين في الموضعين المذكورين، وأشار بهذا الكلام إلى أن أهل المقالة الأولى لو قالوا: نعم رويتم ما رويتم من حديثي البراء وابن مسعود، ولكن أحاديثنا أصلى بالعمل من أحاديثكم لتواترها -يعني لورودها متكاثرة- ولصحة أسانيدها واستقامة طرقها بمثل هذا يقع الترجيح.
قوله: "أن قال""أن" هذه مفتوحة مصدرية في محل الرفع؛ لأنها اسم كان.
وقوله: "من حجة مخالفهم" خبرها.
وقوله: "تواتر الآثار" كلام إضافي مرفوع بالابتداء.
وقوله: "مع ما رويناه" مقدمًا خبره، والجملة مقول القول.
(1) إلى هنا انتهى النقل من "الجوهر النقي" بحروفه (2/ 80 - 82) ولم يعزه المؤلف له.
قوله: "وصحةُ أسانيدها" بالرفع عطف عليه، وكذا قوله:"واستقامتها" فافهم.
ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك ما سنبينه إن شاء الله تعالى:
أما ما روي في ذلك عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن أبي الزناد الذي بدأنا بذكره في أول هذا الباب:
فإن أبا بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، قال: ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه:"أن عليًّا رضي الله عنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، عن عاصم، عن أبيه -وكان من أصحاب علي رضي الله عنه عن علي مثله.
قال أبو جعفر رحمه الله: فحديث عاصم بن كليب هذا قد دل على أن حديث ابن أبي الزناد الذي رويناه في الفصل الأول من هذا الباب على أحد وجهين: إما أن يكون سقيمًا في نفسه ولا يكون في ذكر الرفع أصلًا كما قد رواه غيره:
فإن ابن خزيمة حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن رجاء (ح)
وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح وأحمد بن خالد الوهبي، قالوا: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل
…
ثم ذكروا مثل حديث ابن أبي الزناد في إسناده ومتنه ولم يذكروا الرفع في شيء من ذلك.
قال أبو جعفر رحمه الله: فإن كان هذا هو المحفوظ، وحديث ابن أبي الزناد خطأ، فقد ارتفع بذلك أن يجب لكم بحديث خطأ حجة، وإن كان ما روى ابن أبي الزناد صحيحًا لأنه زاد على ما روى غيره فإن عليًا رضي الله عنه لم يكن ليرى النبي عليه السلام يرفع ثم يترك هو الرفع بعده، وإلا قد ثبت عنده نسخ الرفع، فحديث علي رضي الله عنه إذا صح ففيه أكبر الحجة لقول من لا يرى الرفع.
ش: أي فكان من الحجة والبرهان على أهل المقالة الأولى فيما قالوا: أحاديثنا أولى، لصحة أسانيدها واستقامة طرقها. وأحاديثهم هي التي رواها علي بن
أبي طالب وعبد الله بن عمر ووائل بن حجر رضي الله عنهم فشرع يجيب عن ذلك جميعه ردًّا لما ادعوا من أولوية العمل بها لصحتها واستقامتها، فقال: أما ما روي عن علي رضي الله عنه وهو الذي رواه عنه عبيد الله بن أبي رافع المذكور في أول الباب، بيان ذلك: أن عليًّا رضي الله عنه وإن كان قد روي عنه ما يدل على رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فقد روي عنه أيضًا ما ينافي ذلك ويعارضه فإن عاصم بن كليب روى عن أبيه:"أن عليًّا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد" فهذا يدل على أنه لا رفع لليدين إلا عند تكبيرة الإحرام، ويدل أيضًا على أن حديث عبيد الله بن أبي رافع عنه الذي رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد على وجهين:
إما أن يكون سقيمًا في نفسه ولا يكون في ذكر الرفع أصلًا كما قد رواه غير ابن أبي الزناد مثل حديث ابن أبي الزناد في الإسناد والمتن، وليس فيه الرفع في شيء من ذلك، وهو الحديث الذي رواه عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي كما نبينه عن قريب.
فإن كان هذا محفوظًا يكون حديث ابن أبي الزناد خطأ بالضرورة، فحينئذ لا تقوم حجة بحديث خطإٍ في نفسه.
وإما أن يكون ما رواه ابن أبي الزناد صحيحًا بحيث أنه زاد على ما روى غيره، فحينئذ يكون منسوخًا. لأن عليًّا رضي الله عنه لا يجوز له أن يرى النبي عليه السلام يرفع، ثم يترك هو الرفع بعده، ولا يجوز له ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام؛ لأن هذا هو حسن الظن بالصحابة، وهو أن يحمل مثل هذا على أنه علم انتساخ حكم الحديث فلذلك عمل أو أفتى بخلافه ومتى ما لم يحمل على هذا الوجه يلزم من ذلك إما أن يكون ذلك عن غفلة ونسيان، وإما أن يكون على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث وكل واحد منهما محال في حق الصحابة؛ لأن في الأول شهادة مغفل وشهادة المغفل لا تكون حجة فكذلك خبره، وفي الثاني يلزم الفسق والفاسق لا تقبل روايته أصلًا، والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن هذه الأشياء،
فظهر لنا أن الصحابي الراوي لحديث إذا ظهر منه المخالفة قولًا أو فعلًا يدل ذلك على أنه قد ثبت عنده النسخ فعمل بخلافه أو أفتى بخلافه.
ثم إسناد حديث عاصم بن كليب صحيح من وجهين اللذين أخرجهما على شرط مسلم.
وأبو أحمد اسمه محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي روى له الجماعة، وأبو بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن قطاف، وقيل: عبد الله بن معاوية ابن قطاف، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وعاصم بن كليب بن شهاب الجرمي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وأبوه كليب بن شهاب بن المجنون الجرمى قال أبو زرعة: ثقة. وكذا قال ابن سعد وابن حبان، واحتج به الأربعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن أبي بكر بن عبد الله بن قطاف النهشلي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه:"أن عليًّا رضي الله عنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". انتهى.
وفيه رد على ما حكى البيهقي (2): عن الشافعي أنه قال: ولا يثبت عن علي وابن مسعود أنهما كانا لا يرفعان أيديهما إلا في تكبيرة الإحرام.
فإن قيل: روى البيهقي (2) حديث عاصم بن كليب عن علي رضي الله عنه ثم قال: قال الدارمي: فهذا روي من هذا الطريق الواهي، وقد روى الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه:"أنه رأى النبي عليه السلام يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع"(3).
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 213 رقم 2442)، وقد تقدم قريبًا.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 80 رقم 2367).
(3)
أخرجه أبو داود في "السنن"(1/ 261 رقم 761)، والترمذي في "الجامع"(5/ 478 رقم 3423)، وابن ماجه في "السنن"(1/ 280 رقم 864)، وأحمد في "المسند"(1/ 93 رقم 717).
فليس الظن بعلي رضي الله عنه أنه يختار فعله على فعل النبي رضي الله عنه، ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو تثبت به سنة لم يأت بها غيره.
قلت: كيف يكون هذا الطريق واهيًا ورجاله ثقات؟! فقد رواه عن النهشلي جماعة من الثقات: ابن مهدي وأحمد بن يونس وغيرهما، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كما ذكرناه، والنهشلي أخرج له مسلم وغيره كما ذكرنا، ووثقه ابن حنبل وابن معين وقال أبو حاتم: شيخ صالح يكتب حديثه. وقال الذهبي في كتابه: رجل صالح تكلم فيه ابن حبان بلا وجه، وبقية الرواة ثقات أيضًا وقد ذكرناه.
وقال الطحاوي (1) في كتابه "الرد على الكرابيسي ": الصحيح مما كان عليه علي بعد النبي رضي الله عنه ترك الرفع في شيء من الصلاة غير التكبيرة الأولى.
فكيف يكون هذا الطريق واهيًا؟! بل الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد وفيه مقال كما ذكرناه.
وقوله: "فليس الظن بعلي رضي الله عنه
…
" إلى آخره لخصمه أن يعكسه ويجعل فعله بعد النبي رضي الله عنه دليلًا على نسخ ما تقدم، إذ لا يظن به أنه يخالف فعله رضي الله عنه إلا بعد ثبوت نسخه عنده كما بيناه.
ثم حديث عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أخرجه من طريقين:
الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح، وأحمد بن خالد الوهبي، كلاهما عن عبد العزيز
…
إلى آخره.
(1) هذا الكلام وما بعده هو نص كلام ابن التركماني في "الجوهر النقي" كما في ذيل "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 79).
وكلا الطريقين ذكرهما في باب ما يقال في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، وقد ذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه مسلم، (1) وأبو داود، (2) والنسائي، (3) وابن ماجه (4) مطولًا ومختصرًا.
قوله: "فحديث علي رضي الله عنه إذا صحح ففيه أكبر الحجة لقول من لا يرى الرفع" أي رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام، وأراد بهذا الحديث هو الحديث الذي رواه عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عمه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبر
…
" إلى آخره، وإنما قال: هو أكبر الحجة لأنا وجدنا عبيد الله بن أبي رافع قد روي عنه هذان الحديثان أعني أحدهما: ما رواه ابن أبي الزناد، والآخر ما رواه عبد العزيز بن أبي سلمة ففي حديث ابن أبي الزناد زيادة ليست في حديث ابن أبي سلمة، وهي رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فنظرنا فيهما فوجدنا حديث ابن أبي سلمة أرجح وأقوى من حديث ابن أبي الزناد لأن حديث ابن أبي سلمة أخرجه مسلم وغيره كما ذكرنا، وحديث ابن أبي الزناد لم يخرجه مسلم ولا البخاري وإنما أخرجه الأربعة، على أن ابن أبي الزناد متكلم فيه، فقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال عمرو بن علي: تركه ابن مهدي. ولئن سلمنا صحة حديث ابن أبي الزناد فإنه يلزم الخصم أن يقول به، والحال أنه لم يقل به؛ لأن فيه الرفع عند القيام من السجدتين، والخصم لا يرى بذلك.
واعلم أن كلمة "إذا" في قوله: "إذا صح" ليست للشرط؛ لأن صحة حديث علي الذي رواه ابن أبي سلمة لا يشك فيها بل لمجرد الظرفية فافهم.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 534 رقم 771).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 260 رقم 760).
(3)
"المجتبى"(2/ 129 رقم 897).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 280 رقم 864).
ص: وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه قد روي عنه ما قد ذكرناه عن النبي عليه السلام ثم روي من فعله بعد النبي عليه السلام خلاف ذلك، كما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال:"صليت خلف ابن عمر رضي الله عنهما فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة".
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا ابن عمر قد رأى النبي عليه السلام يرفع، ثم قد ترك هو الرفع بعد النبي عليه السلام، ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد كان رأى النبي عليه السلام فعله، وقامت الحجة عليهم بذلك.
ش: هذا جواب عن حديث ابن عمر الذي هو إحدى حجج أهل المقالة الأولى، وهو الحديث الذي رواه الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأيت النبي عليه السلام إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين".
وهذا حديث أخرجه الجماعة، (1) وهو حديث صحيح بلا خلاف، ولكنه منسوخ، والدليل عليه ما رواه مجاهد أنه قال:"صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة".
وقد ذكرنا عن قريب أن الراوي إذا عمل بخلاف ما روى أو أفتى بخلافه دل ذلك على انتساخ الحكم الأول عنده وإلا لم يكن له المخالفة.
وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح على شرط الشيخين: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ الشيخين وغيرهما، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفي المقرئ، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن مجاهد بن جبر المكي.
(1) أخرجه البخاري (1/ 258 رقم 705)، ومسلم (1/ 292 رقم 390)، وأبو داود (1/ 249 رقم 721)، والترمذي (2/ 35 رقم 255)، والنسائي (2/ 121 رقم 876)، وابن ماجه (1/ 279 رقم 858).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال:"ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح".
ص: فإن قال: قائل: هذا حديث منكر. قيل له: وما دَلَّك على ذلك؟ فلن تجدك إلى ذلك سبيلًا، فإن قال: إن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي عليه السلام من ذلك. قيل لهم: فقد ذكر ذلك طاوسٌ، وقد خالفه مجاهد، فقد يجوز أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما فعل ما رواه طاوسٌ، يفعله قبل أن تقوم عنده الحجة بنسخه، ثم قامت عنده الحجة بنسخه فتركه وفعل ما ذكره عنه مجاهد وهكذا ينبغي أن يحمل ما روي عنهم وينفى عنهم الوهم حتى يتحقق ذلك، وإلا سقط أكثر الروايات.
ش: هذا اعتراض من جهة الخصم على دعوى النسخ في حديث ابن عمر، بيانه أن يقال: لا نسلم أن يكون خبر مجاهد دليلًا على انتساخ ذلك الحديث؛ لأنه منكر لأنه مخالف لما ثبت في "الصحيح" ولما رواه الحفاظ الكبار، فأجاب عنه بقوله: وما دلَّك على ذلك؟ أي على كونه منكرًا، فلن تجد إلى ذلك أي إلى إثبات كونه منكرًا سبيلًا، أراد أن هذا مجرد دعوى بأنه منكر فلا تقبل، فلا ترد علينا، ثم قال: فإن قال -أي الخصم-: إن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما روي عنه عن النبي عليه السلام من ذلك، أي من رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه.
وقد روى البيهقي في "سننه"(2): من حديث شعبة، عن الحكم، قال: "رأيت طاوسًا كبر فرفع يديه حذو منكبيه عند التكبير، وعند ركوعه، وعند رفع رأسه من الركوع، فسألت رجلًا من أصحابه فقال: إنه يحدث به عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي عليه السلام. قيل لهم -أي للخصم وهم أهل المقالة الأولى-: سلمنا أنه قد ذكره طاوس، ولكنه قد خالفه مجاهد فتحققت المنافاة بين كلاميهما، فتعين التوفيق
(1) تقدم.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 74 رقم 2351).
لنفي الوهم عنهم، وإن لم يفعل ذلك تسقط أكثر الروايات؛ لأنه يلزم أن تكون أحد الراويين منسوبًا إلى غفلة أو قلة مبالاة لروايته، وكل واحد منهما مسقط لعدالته وناف لخبره، فيحتاج حينئذ إلى التوفيق، والتوفيق ها هنا بين خبري مجاهد وطاوس ما ذكره بقوله: فقد يجوز
…
إلى آخره، وهو ظاهر لا يخفي.
ص: وأما حديث وائل فقد ضاده إبراهيم بما ذكره عن عبد اللهَ أنه لم يكن رأى النبي عليه السلام فعل ما ذكر، فعبد الله أقدم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأفهم بأفعاله من وائل وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون ليحفظوا عنه كما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد، عن أنس قال:"كان رسول الله عليه السلام يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن بكر
…
فذكر بإسناده مثله وقال أيضًا: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى".
حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرنا سليمان، قال:"سمعت عمارة بن عمير يحدث، عن أبي معمر، عن أبي مسعود الأنصاري قال: "كان رسول الله عليه السلام يقول: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن إياس بن قتادة، عن قيس بن عباد، قال: قال لي أبي بن كعب: قال لنا رسول الله عليه السلام: "كونوا في الصف الذي يليني".
قال أبو جعفر رحمه الله: فعبد الله من أولئك الذين كانوا يقربون من رسول الله عليه السلام ليَعْلَموا أفعاله في الصلاة كيف هي؛ ليعلِّموا الناس ذلك، فما حكوا من ذلك فهو أولى مما جاء به من كان أبعد منه منهم في الصلاة.
فإن قالوا: ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غير متصل.
قيل لهم: إن إبراهيم كان إذا أرسل عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده، وتواتر الرواية به عن عبد الله؛ قد قال له الأعمش: إذا حدثتني فأسند، قال: إذا قلت لك قال عبد الله فلم أقل ذلك حتى حدثني جماعة عنه، فإذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي حدثني.
حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب أو بشر بن عمر -قال أبو جعفر رحمه الله: أنا أشك- عن شعبة، عن الأعمش بذلك.
قال أبو جعفر رحمه الله: فأخبر أن ما أرسله عن عبد الله فمخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه عن رجل بعينه عن عبد الله وكذلك هذا الذي أرسله عن عبد الله لم يرسله إلا ومخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه عن رجل بعينه عن عبد الله ومع ذلك قد رويناه متصلًا من حديث عبد الرحمن بن الأسود، وكذلك كان عبد الله يفعل في سائر صلاته.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إبراهيم قال:"كان عبد الله لا يرفع يديه في شيء من الصلوات إلا في الافتتاح".
ش: هذا جواب عن حديث وائل بن حجر: "رأيت رسول الله عليه السلام حين يكبر للصلاة وحين يركع وحن يرفع رأسه من الركوع يرفع يديه حيال أذنيه" بيانه أن خبر وائل بن حجر هذا يضاده ما رواه إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود: "أنه لم يكن رأى النبي عليه السلام فعل ما ذكر -يعني من رفع اليدين- في غير تكبيرة الإحرام"، ثم أشار إلى ترجيح خبر ابن مسعود على خبر وائل بقوله:"فعبد الله أقدم صحبة لرسول الله عليه السلام" لأنه أسلم بمكة قديمًا، وكان عاشر العشرة ممن أسلم من الصحابة عند مبعث النبي عليه السلام وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام وهو صاحب نعل رسول الله عليه السلام، كان يُلبسه إيّاها إذا قام، فإذا
جلس أدخلها في ذراعه وكان كثير الولوج عليه عليه السلام، وقال له رسول الله عليه السلام:"إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي"(1). والسواد: السرار.
ووائل بن حجر أسلم في المدينة في. سنة تسع من الهجرة وبين إسلاميهما اثنان وعشرون سنة، فحينئذ يحفظ ابن مسعود عن النبي عليه السلام ما لا يحفظه وائل وأمثاله، وابن مسعود أفهم بأفعال النبي عليه السلام وأكثر تحقيقًا لها ولهذا قال إبراهيم للمغيرة حين قال:"إن وائلًا حدث أنه رأى النبي عليه السلام يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع": "إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك"، والحال أن رسول الله عليه السلام كان يحب أن يليه المهاجرون في الصلاة ليحفظوا عنه أفعال الصلاة ويعلموها الناس، ولا شك أن عبد الله من المهاجرين القدماء وممن كان يليه عليه السلام، فيكون حفظه أفعال النبي عليه السلام وفهمه إياها أقوى من حفظ وائل وفهمه الذي كان ممن يتأخر عنهم في الصلاة وغيرها، فإذا كان كذلك يكون ما حكوا عن عبد الله أقوى مما حكوه عن وائل وأمثاله، ثم أشار إلى الاعتراض من جهة الخصم بقوله "فإن قالوا: ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غيره متصل" بيانه: أن خبر وائل بن حجر متصل، وخبر إبراهيم عن عبد الله منقطع، فكيف يضاده ويعارضه؟ وشرط التضاد والمعارضة المساواة بين الخبرين، فالمنقطع بمعزل عن المتصل فلا يضاده ولا يعارضه، بيان الانقطاع: أن إبراهيم لم يدرك عبد الله؛ لأن عبد الله توفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة بالمدينة وقيل بالكوفة. ومولد إبراهيم سنة خمسين كما صرح به ابن حبان، وقال الكلاباذي: سنة ثمان وثلاثين. والله أعلم.
وأجاب عنه بقوله: "قيل لهم إن إبراهيم
…
إلى أخره" بيانه أن إبراهيم: كان من عادته أنه إذا أرسل حديثًا عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده من الرواة عنه، وبعد تكاثر الروايات عنه؛ ألا ترى أن سليمان بن مهران الأعمش لما قال له: إذا
(1) أخرجه ابن ماجه (1/ 49 رقم 139)، وأحمد (1/ 388 رقم 3684).
حدثني فأسند، قال له في جوابه: إذا قلت لك: قال عبد الله، فلم أقل لك ذلك حتى حدثني جماعة من الثقات عنه أي عن عبد الله وإذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله يعني بتعيين الراوي عنه، فهو الذي حدثني بعينه وخصوصه فقط فأخبر أن ما أرسله عن عبد الله مخرجه أصح عنده من الذي يخبره عن فلان عنه؛ لأن في الأول يكون الخبر عنده ثابتًا من روايات جماعة بخلاف الثاني فإنه خبر واحد، ولا شك أن خبر الجماعة أولى وأقوى من خبر الواحد (1).
قوله: "حدثنا بذلك إبراهيم" أي حدثنا بما ذكرنا من أن إبراهيم إذا أرسل عن عبد الله
…
إلى آخره.
إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، أو بشر بن عمر الزهراني، والشك فيه من الطحاوي لا من إبراهيم بن مرزوق، فلذلك قال: قال أبو جعفر: وأنا أشك، يعني بين وهب وبشر بن عمر، هل كان من رواية إبراهيم بن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، أو عن وبشر بن عمر، عن شعبة، عن سليمان الأعمش.
وهؤلاء كلهم ثقات.
فهذا الذي ذكره كان بطريق التسليم، ثم أجاب بطريق المنع بقوله:"ومع ذلك قد رويناه متصلًا" بيانه أن يقال: لا نسلم أن خبر ابن مسعود منقطع بالكلية، فإنا قد رويناه متصلًا من حديث عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام "أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود"، على أنا نقول: إن حديث إبراهيم عن عبد الله وإن كان منقطعًا بحسب الظاهر فهو متصل معنًى
(1) قال البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام" في حديث إبراهيم عن عبد الله: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه نتنًا"، قال: هذا مرسل لا يحتج به.
ونقل مغلطاي في "الإعلام شرح سنن ابن ماجه"(4/ ق 87/ ب) عن الشافعي قال: وأصل قولنا: إن إبراهيم لو روى عن علي وعبد الله لم يقبل منه؛ لأنه لم يلق واحدًا منهما.
وقال الذهبي في "الميزان"(1/ 75): استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة.
بالطريق الذين ذكرناه، ثم أكد كون خبر ابن مسعود بأنه أولى بالعمل من خبر من يروي رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام بقوله:"وكذلك كان عبد الله يفعل في سائر صلاته". أي من الاقتصار في رفع اليدين على أول الصلاة؛ وذلك لأنه لو لم يثبت عنده أن آخر الأمر من النبي عليه السلام الاكتفاء برفع اليدين في أول الصلاة لما كان هو أيضًا يكتفي بذلك في سائر الصلوات؛ إذ لو ثبت عن النبي عليه السلام الرفع في غير أول الصلاة لما وسع عبد الله مخالفته، وهذا ظاهر لا يخفى.
وأخرج ذلك بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ الشيخين، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن إبراهيم النخعي
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن شيبة في "مصنفه"(1): عن أبي الأحوص
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "إلا في الافتتاح" أي في افتتاح الصلاة، وأراد به: عند التكبيرة الأولى فقط.
فإن قيل: كيف تقول هذا إسناد صحيح وهو منقطع؛ لأن إبراهيم ما أدرك عبد الله كما ذكرنا؟
قلت: قد مر الجواب عن قريب، وبقي الكلام في حديث أنس وأبي مسعود الأنصاري وأبي بن كعب رضي الله عنهم.
أما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح الصغير البغدادي نزيل مصر شيخ النسائي أيضًا، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري، عن حميد بن أبي حميد الطويل البصري، عن أنس.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 213 رقم 2443).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام كان يحب أن يليه في الصلاة المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه".
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن بكر، عن حميد، عن أنس.
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا عبد الوهاب، ثنا حميد، عن أنس قال:"كان رسول الله عليه السلام يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه".
قوله: "يحب أن يليه" أي يقرب منه المهاجرون والأنصار، من الولي وهو القرب، والمراد منه: في الصلاة، كما صرح به في رواية أحمد.
قوله: "ليحفظوا عنه" أي عن النبي عليه السلام أحكام الصلاة؛ لأن كل ما قرب الرجل من الإِمام يكون أكثر مشاهدة لأحوال إمامه بخلاف من يكون بعيدًا عنه فإنه لا يشاهد منه ما يشاهده من يليه.
وأما حديث أبي مسعود الأنصاري -واسمه عقبة بن عمرو- فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة الكوفي، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق.
وأخرجه مسلم (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن إدريس وأبو معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي، عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وليلني منكم أولوا الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلوخهم. قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافًا".
(1)"مسند أحمد"(3/ 205 رقم 13157).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 313 رقم 977).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 323 رقم 432).
وأخرجه أبو داود (1): ثنا ابن كثير، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله عليه السلام: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وأخرجه النسائي (2): أنا بشر بن خالد العسكري، قال: ثنا [غندر](3) عن شعبة، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال: "كان رسول الله يمسح عواتقنا ويقول
…
" إلى آخر ما رواه مسلم.
وأخرجه ابن ماجه (4): ثنا محمد بن الصباح، أنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش
…
إلى آخره نحو رواية مسلم.
قوله: "ليلني" بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، من ولي يلي، أصله يولي حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة فصار يلي وأمر الغائب منه: ليل؛ لأن الياء تسقط للجزم، وأمر الحاضر لي مثل قِي على وزن عِي قال محي الدين النووي: ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التأكيد.
قلت: القاعدة: أن النون الموكدة إذا دخلت الناقص تعود الياء والواو المحذوفتان فيصير ليليني منكم.
"أولوا الأحلام" أي: العقلاء، وقيل: البالغون، والأحلام جمع حُلْم -بضم الحاء وسكون اللام- وهو ما يراه النائم، تقول: حَلَم -بالفتح- واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضًا، ولكن غلب استعماله فيما يراه النائم من دلالة البلوغ، فكان المراد ها هنا: ليلني البالغون وذكر في الفائق: "أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا" قيل: المراد مَنْ بلغ وقت الحلم حلم أو لم يحلم.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 237 رقم 674).
(2)
"المجتبى"(2/ 90 رقم 812).
(3)
في "الأصل، ك": "عبدة" وهو تحريف، والمثبت من "المجتبى"، و"تحفة الأشراف"(7/ 333 رقم 9994).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 312 رقم 976).
قوله: "والنهى" بضم النون جمع نُهية -بضم النون وسكون الهاء- وهي العقل ويقال: بفتح النون أيضًا لأنه ينهى صاحبه عن الرذائل، وكذلك العقل لعقله وهو مأخوذ من عقال البعير، وكذلك الحكمة من حَكْم البعير، وهي حديدة لجامها التي تمنعها عن العدول عن الاستقامة، وقيل: أولوا النهى؛ لأنه ينتهي إلى رأيهم واختياراتهم لعقلهم، ويقال رجل نهٍ ونهي، من قوم نَهِين. وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرًا كالهدى وأن يكون جمعًا كالظُّلَم، قال: والنهى معناه في اللغة الثبات والحبس، ومنه النِّهى والنَّهى -بكسر النون وفتحها- والتنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع، قال الواحدي: فيرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس، فالنهية هي التي تنهى وتحبس عن القبائح.
قلت: التنهية -بفتح التاء المثناة من فوق وسكون النون وكسر الهاء وفتح الياء آخر الحروف- وقال في الصحاح: تنهية الوادي حيث ينتهي إليه الماء من حروفه والجمع: التناهي.
فإن قيل: ما وجه هذا العطف؟
قلت: إن فسر "أولوا الأحلام" بالعقلاء يكون عطف قوله: "والنهى" على "الأحلام" للتأكيد؛ لأن المعنى واحد وإن اختلف اللفظ، وإن فسر "أولوا الأحلام" بالبالغين يكون المعنى: ليقرب مني البالغون العقلاء.
فإن قيل: ما وجه تخصيصهم بذلك؟
قلت: لاستخلافه إن احتاج ولتبليغ ما سمعوه منه، وضبط ما يُحَدِّثُ عنه، والتنبيه على سهو إن وقع؛ ولأنهم أحق بالتقدم، وليقتدي بهم من بعدهم، وكذا ينبغي لسائر الأئمة الاقتداء بسيرته عليه السلام في كل حال من جموع الصلاة، ومجالس العلم والذكر، ومجالس الرأي ومعارك القتال.
قوله: "ثم الذين يلونهم" معناه الذين يقربون منهم في هذا الوصف، وبه استدل أصحابنا في ترتيب الصفوف، فقال صاحب "الهداية": ويصف الرجال ثم الصبيان
ثم النساء ثم ذكر الحديث، وبه استدل صاحب "الهداية" أن محاذاة المرأة الرجل وهما مشتركان في صلاة تفسد صلاة الرجل.
فإن قيل: كيف تثبت الفرضية بهذا وهو خبر الآحاد؟
قلنا: إنه من المشاهير فتثبت به فرضية تمييز مقام المرأة من مقام الرجل، وتجوز به الزيادة على الكتاب، وقال صاحب "الأسرار": إن لم تثبت فروض الصلاة بخبر الواحد، ففروض الجماعة تثبت؛ لأن أصل الجماعة ثبت بالسنة، فافهم.
وأما حديث أبي بن كعب رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- واسمه نصر بن عمران الضبعي من رجال الجماعة، عن إياس بن قتادة البصري وثقه ابن حبان، عن قيس بن عُباد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- القيسي الضبعي البصري روى له الجماعة غير الترمذي، عن أبي بن كعب الأنصاري رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا سليمان بن داود ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، سمعت إياس بن قتادة يحدث، عن قيس بن عُباد قال: "أتيت المدينة للقيّ أصحاب محمَّد عليه السلام، ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إليَّ من أُبَيّ، فأقيمت الصلاة وخرج عمر مع أصحاب رسول الله عليه السلام، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني، لا يسوءك الله؛ فإني لم آتك الذي [أتيتك] (2) بجهالة ولكن رسول الله عليه السلام قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك
…
" الحديث.
ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
(1)"مسند أحمد"(5/ 140 رقم 21301).
(2)
في "الأصل، ك": "أتيت"، والمثبت من "مسند أحمد".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يحيى بن أدم، عن الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود قال:"رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود، قال: ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان ذلك".
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا عمر رضي الله عنه لم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى في هذا الحديث، وهو حديث صحيح لأن الحسن بن عياش وإن كان هذا الحديث إنما دار عليه فإنه ثقة حجة، قد ذكر ذلك يحيى بن معين وغيره.
قال أبو جعفر رحمه الله: أَفتَرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه أن النبي عليه السلام كان يرفع يديه في الركوع والسجود، وعلم ذلك من هو دونه، أو مَنْ هو معه يراه يفعل غير ما رأى رسول الله عليه السلام يفعل ثم لا ينكر ذلك عليه، هذا عندنا محال، وفعل عمر رضي الله عنه هذا وترك أصحاب رسول الله عليه السلام إياه على ذلك، دليل صحيح أن ذلك هو الحق الذي لا ينبغي لأحد خلافه.
ش: أي قد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود في اقتصار رفع اليدين على تكبيرة الإحرام.
أخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يحيى بن أدم بن سليمان القرشي الكوفي، عن الحسن بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- بن سالم الكوفي أخي أبي بكر بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر هو عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر الهمداني الكوفي، عن الزبير بن عدي الهمداني اليامي الكوفي قاضي الري، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن ابن آدم، عن حسن بن عياش
…
إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "صليت مع عمر بن الخطاب فلم يرفع يديه في شيء من
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 214 رقم 2454).
صلاته إلا حين افتتح الصلاة. قال عبد الملك: ورأيت الشعبي وإبراهيم وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة".
وفيه ردّ لما قاله البيهقي (1): وروينا رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع عن أبي بكر الصديق وعمر الخطاب رضي الله عنهما.
لأن هذا حديث صحيح نص عليه الطحاوي بقوله وهو حديث صحيح.
إذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام
وإنما قال ذلك لأن رجاله كلهم ثقات، وأما يحيى بن عبد الحميد الحماني فإن ابن معين وثقه، وعنه: صدوق مشهور ما بالكوفة مثل ابن الحماني ما يقال فيه إلا من حسد. وكفى به شاهدًا، وأما ابن أدم وعبد الملك والزبير بن عدي وإبراهيم والأسود فمن رجال الصحيحين والأربعة غير أن عبد الملك من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وأما حسن بن عياش فإن الطحاوي شهد فيه بأنه ثقة حجة، وكفى به شاهدًا، وهو من رجال مسلم والترمذي والنسائي، وباقي الكلام ظاهر.
ص: وأما ما رَوَوْه عن أبي هريرة من ذلك فإنما هو من حديث إسماعيل بن عياش عن صالح بن كيسان، وهم لا يجعلون إسماعيل فيما روى عن غير الشاميين حجة، فكيف يحتجون على خصمهم بما لو احتج بمثله عليهم لم يسوغوه إياه.
ش: هذا جواب عن حديث أبي هريرة الذي رواه الأعرج عنه: "أن رسول الله عليه السلام كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد"، بيانه أن في إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، وهؤلاء الذين يذهبون إلى هذا الحديث لا يجعلون إسماعيل هذا حجة فيما يرويه عن غير الشاميين وإنما يجعلونه حجة إذا روى عن الشاميين، فكيف يحتجون به ها هنا والحال أنه رواه عن
(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 547).
صالح بن كيسان المدني، وقال دحيم: إسماعيل في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وقال الفسوي: يغرب عن ثقات الحجازيين. وقال يحيى بن معين: إسماعيل بن عياش ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فأن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حيان: كثير الخطأ في حديثه، فخرج عن حد الاحتجاج به. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به.
قوله: "بما لو احتج" أي بالذي لو احتج الخصم "بمثله" أي بمثل هذا الحديث "عليهم" أي على الذين ذهبوا إلى حديث إسماعيل هذا "يسوغوه إياه" أي لم يجوزوا الاحتجاج "إياه" أي الخصم؛ فافهم.
ص: وأما حديث أنس بن مالك فهم يزعمون أنه خطأ، وأنه لم يرفعه أحد إلا عبد الوهاب الثقفي خاصة، والحفاظ يوقفونه على أنس رضي الله عنه.
ش: هذا جواب عن حديث أنس بن مالك الذي رواه حميد عنه: "أن النبي عليه السلام كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع". وبيانه: أن هذا الحديث عند الحفاظ موقوف على أنس ولم يرفعه أحد عن أنس إلا عبد الوهاب الثقفي خاصة، وعبد الوهاب هذا طعن فيه أبو حاتم، فلا يحتج بروايته، ولا سيما إذا أنفرد فيما لم يتابعه عليه أحد.
ص: وأما حديث عبد الحميد بن جعفر فإنهم يضعفون عبد الحميد ولا يقيمون به حجة، فكيف يحتجون به في مثل هذا؟! ومع ذلك فإن محمَّد بن عمرو بن عطاء لم يسمع ذلك الحديث من أبي حميد ولا ممن ذكر معه في ذلك الحديث، بينهما رجل مجهول ، وقد ذكر ذلك العطاف بن خالد عنه عن رجل، وأنا أذكر ذلك في باب: الجلوس في الصلاة من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
وحديث أبي عاصم عن عبد الحميد هذا ففيه: "فقالوا جميعًا: صدقت". فليس يقول ذلك أحد غير أبي عاصم.
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا هشيم (ح)
وحدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الحميد
…
فذكراه بإسناده ولم يقولا: "فقالوا جميعًا صدقت".
وهكذا رواه غير عبد الحميد وأنا ذاكر ذلك في باب: الجلوس في الصلاة. فما نرى كشف هذه الآثار يوجب لما وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك الرفع في الركوع. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
قال أبو جعفر رحمه الله: فما أردت بشيء من ذلك تضعيف أحد من أهل العلم، وما هذا بمذهبي، ولكني أردت تبيان ظلم الخصم لنا.
ش: هذا جواب عن حديث عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي عليه السلام
…
الحديث.
بيانه: أن عبد الحميد بن جعفر ضعيف عندهم ، لأن الثوري كان يضعفه، فإذا كان ضعيفًا عندهم فكيف يحتجون به في مثل هذا الموضع في معرض الاحتجاج على خصمهم؟! وفي "الجوهر النقي": عبد الحميد مطعون في حديثه، كذا قال يحيى بن سعيد، وهو إمام الناس في مثل هذا الباب.
قوله: "ومع ذلك فإن محمَّد بن عمرو
…
" إلى آخره جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: لا نسلم أن عبد الحميد ضعيف؛ فإنه من رجال صحيح مسلم، واحتج به الأربعة، واستشهد به البخاري في "الصحيح"، وعن أحمد: ثقة ليس به بأس. وعن يحيى كذلك، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.
وتقدير الجواب: أنا وإن سلمنا أنه مثل ما ذكرتم، ولكن الحديث معلول بجهة أخرى، وهو أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من أبي حميد الساعدي، ولا ممن ذكر معه في هذا الحديث مثل أبي قتادة وغيره، وذلك لأن سنَّه
لا يحتمل ذلك لأن أبا قتادة قتل مع علي رضي الله عنه وصلى عليه عليّ، كذا قال الهيثم بن عدي، وقال ابن عبد البر: هو الصحيح، وقيل: توفي بالكوفة سنه ثمان وثلاثين.
ومحمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافته في سنة خمس وعشرين ومائة، ولهذا قال ابن حزم: ولعله وهم فيه- يعني عبد الحميد.
فإن قيل: قال البيهقي في كتاب "المعرفة"(1): أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد فمردود؛ لأن يحيى بن معين وثقه في جميع الروايات عنه، وكذلك أحمد بن حنبل، واحتج به مسلم في "صحيحه".
وأما ما ذكره من انقطاعه فليس بصحيح، فقد حكم البخاري في "تاريخه" بأنه سمع أبا حميد وأبا قتادة وابن عباس.
وقوله: "قتل مع علي" رواية شاذة رواها الشعبي، والصحيح الذي أجمع عليه أهل التاريخ: أنه بقي إلى سنة أربع وخمسين، ونقله عن الترمذي والواقدي والليث وابن منده، ثم قال: وإنما اعتمد الشافعي في حديث أبي حميد برواية إسحاق بن عبد الله، عن عباس بن سهل، عن أبي حميد، ومن سماه من الصحابة، وأكده برواية فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل عنهم فالإعراض عن هذا والاشتغال بغيره ليس من شأن من يريد متابعة السنة.
قلت: أما قوله: "أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد مردود" فهو مردود لما ذكرنا عن يحيى بن سعيد والثوري، وذكره ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء والمتروكين" فقال: كان يحيى بن سعيد القطان يضعفه، وكان الثوري يحمل عليه ويضعفه، وقال يحيى بن سعيد: كان سفيان يضعفه من أجل القدر على أن الطحاوي قد نسب تضعيفه إليهم ولم يضعفه من عنده، ولو كان ضعفه من عنده لكان مقبولًا أيضًا؛ لأنه إن لم يكن من أهل ذلك فمن يكون.
(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 557 - 561).
وأما قوله: "وأما ما ذكره من انقطاعه فليس بصحيح
…
" إلى آخره فمجرد تشنيع وتعصب محض؛ لأن الطحاوي لم يقل هذا من عند نفسه، بل إنما حكم بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع من أبي حميد ولم ير أبا قتادة لعدم إحتمال سنة ذلك؛ لأنه قتل مع علي رضي الله عنه وصلى عليه عليٌّ، وهو قول الإمام عامر الشعبي الحجة في هذا الباب، وقول الهيثم بن عدي، ولهذا قال ابن عبد البر: هو الصحيح. وفي "الكمال" قال: وقيل توفي سنة ثمان وثلاثين، فكيف يقول البيهقي: هذه رواية شاذة؟! فلم لا يجوز أن تكون رواية البخاري شاذة؟ بل هي شاذة بلا شك؛ لأن قوله لا يرجح على قول الشعبي والهيثم بن عدي.
قوله "بينهما رجل مجهول" أي بين محمَّد بن عمرو بن عطاء وبن أبي حميد، وأشار بهذا إلى أنه منقطع، وأنه مضطرب السند والمتن؛ لأن العطاف بن خالد رواه فأدخل بينه يعني بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين النفر من الصحابة رجلًا مجهولًا، والعطاف وثقه ابن معين، وعنه قال: صالح. وعنه: ليس به بأس. وقال أحمد: من أهل مكة ثقة صحيح الحديث.
والدليل على أن بينهما واسطة: أن أبا حاتم بن حبان أخرج هذا الحديث في "صحيحه"(1): من طريق عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدي: "أنه كان في مجلس فيه أبوه وأبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي
…
" الحديث وذكر المزي ومحمد بن طاهر المقدسي في "أطرافهما": أن أبا داود أخرجه من هذا الطريق.
وأخرجه البيهقي (2): في باب السجود على اليدين والركبتين من طريق الحسن بن الحرّ، حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن مالك، عن عياش -أو عباس بن سهل-
…
الحديث. ثم قال: وروى
(1)"صحيح ابن حبان"(5/ 180 رقم 1866).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 101 رقم 2475).
عتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل، عن أبي حميد. لم يذكر محمدًا في إسناده.
وقال البيهقي (1) في باب: القعود على الرجل اليسرى بين السجدتين: وقد قيل في إسناده: عن عيسى بن عبد الله، سمعه عن عباس بن سهل، أنه حضر أبا حميد ثم في رواية عبد الحميد أيضًا:"أنه رفع عند القيام من الركعتين".
وهذا يلزم الإِمام الشافعي، وفيها أيضًا التورك في الجلسة الثانية.
وفي رواية عباس بن سهل التي ذكرها البيهقي (2) بعد هذه الرواية خلاف هذه، ولفظها:"حتى فرغ ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته" فظهر بهذا أن الحديث مضطرب الإسناد والمتن والله أعلم.
قوله: "وأنا أذكر ذلك" أي كون رجل مجهول بين محمَّد بن عمرو بن عطاء، وبين أبي حميد، وقد ذكر ذلك: في باب الجلوس في الصلاة (3) بقوله: حدثنا فهد بن سليمان ويحيى بن عثمان، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا يحيى وسعيد بن أبي مريم، قالا: ثنا عطاف بن خالد، قال: حدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: حدثني رجل: "أنه وجد عشرة من أصحاب النبي عليه السلام جلوسًا
…
" الحديث.
قوله: "وحديث أبي عاصم عن عبد الحميد"[أي حديث](4) أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر هذا ففي آخره:"فقالوا جميعًا: صدقت، هكذا كان يصلي" وليس ذاك في غير رواية أبي عاصم، وبيّن ذلك بقوله: حدثنا على بن شيبة
…
إلى آخره.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 118).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 128 رقم 2603).
(3)
"شرح معاني الآثار"(1/ 259).
(4)
"تكررت في الأصل".
وأخرجه من طريقين:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو.
والثاني: عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله ابن عمر القواريري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو فذكر كل منهما الحديث بإسناده ولم يقولا:"فقالوا جميعًا: صدقت" فدل ذلك على أن حديث عبد الحميد مضطرب.
قوله: "وكذا رواه غير عبد الحميد" أي من غير لفظة، "فقالوا جميعًا: صدقت" وسيجيء هذا في باب: الجلوس في الصلاة، فلذلك قال: وأنا ذاكر ذلك في باب الجلوس في الصلاة.
قوله: "فما نرى كشف هذه الآثار" أي الأحاديث التي رويت في هذا الباب على اختلاف المتون والأسانيد "يوجب لما وقف" أي حين وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك رفع اليدين في الركوع.
وقوله: "يوجب" جملة في محل النصب على أنها مفعول ثان لقوله "فما نرى".
قوله: "تبيان ظلم الخصم لنا" بكسر التاء، على وزن تِفْعال، اسم للتبيين، قال الجوهري: التبيان مصدر وهو شاذ؛ لأن المصادر إنما تجئ على التَّفْعال -بفتح التاء- مثل التذكار والتكرار والتوكاف ولم تجيء على الكسر إلا حرفان، وهما التبيان والتلقاء.
ص: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر: فإنهم قد اجمعوا أن التكبيرة الأولى معها رفع وأن التكبيرة بين السجدتين لا رفع معها، واختلفوا في تكبيرة النهوض وتكبيرة الركوع، فقال قوم: حكمهما حكم تكبيرة الافتتاح وفيهما الرفع كما فيها الرفع. وقال آخرون: حكمها حكم التكبيرة بين السجدتين ولا رفع فيهما كما لا رفع فيها، وقد رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة لا تجزى الصلاة إلا
بإصابتها، ورأينا التكبيرة بين السجدتين ليست كذلك؛ لأنه لو تركها تارك لم تفسد عليه صلاته، ورأينا تكبيرة الركوع وتكبيرة النهوض ليستا من صلب الصلاة؛ لأنه لو تركها تارك لم تفسد عليه صلاته وهما من سننها، فلما كانتا من سنن الصلاة، كما التكبير بين السجدتين من سنن الصلاة، كانتا كهي في أن لا رفع فيهما كما لا رفع فيها؛ فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-.
ش: ملخص وجهه النظر والقياس: أن تكبيرة الإحرام فرض فيها الرفع، والتكبيرة بين السجدتين سنة وليس فيها الرفع، وتكبيرة النهوض والركوع اختلف في حكمهما هل فيهما رفع أم لا، فالقياس أن يكون حكمهما في الرفع وعدمه كحكم التكبيرة بين السجدتين؛ للعلة الجامعة، وهي كون الكل سنة لا كحكم تكبيرة الإحرام؛ لعدم العلة الجامعة.
قوله: "فإنهم أجمعوا" أي فان الخصوم أجمعوا، وليس المراد منه إجماع العلماء كلهم؛ لأن الرفع مع التكبيرة بين السجدتين مذهب جماعة من الصحابة والتابعين.
وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى".
ثنا (2) ابن علية، عن أيوب، قال:"رأيت نافعًا وطاوسًا يرفعان أيديهما بين السجدتين".
ثنا (3) يزيد بن هارون، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين:"أنهما كانا يرفعان أيديهما بين السجدتين".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 243 رقم 2796).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 243 رقم 2797).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة (1/ 243 رقم 2798).
ثنا (1) ابن علية، عن أيوب قال:"رأيته يفعله".
قوله: "فقال قوم" أراد بهم من ذكرناهم فيما مضى، وهم: الحسن وسالم وعطاء ومجاهد وابن سيرين والشافعي وأحمد وإسحاق.
قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم: الثوري وابن أبي ليلى والنخعي والشعبي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك في رواية ابن القاسم.
قوله: "وقد رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة" هذا اللفظ يشعر بأنها من أركان الصلاة، وليست كذلك عند أبي حنيفة، بل هي من الشروط، واحتج بقوله تعالى:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (2) والفاء للعطف، والمعطوف غير المعطوف عليه، وعند الشافعي ومالك وأحمد هي من أركان الصلاة، والفرض أعم من الشرط والركن.
فإن قيل: فما فائدة هذا الخلاف؟
قلت: في جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا يجوز، خلافًا لهم. وفي بناء التطوع على الفرض بلا تحريمة جديدة فعندنا يصير شارعًا في الثاني خلافًا لهم. وفيما إذا كبر مقارنًا لزوال الشمس.
قوله: "كانتا كهي" أي كانت تكبيرة الركوع وتكبيرة النهوض "كهي" أي كالتكبيرة بين السجدتين.
ص: ولقد حدثني ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش قال: "ما رأيت فقيهًا قط يفعله، يرفع يديه في غير التكبيرة الأولى".
ش: أراد بهذا تأكيد ما قاله من قوله: "فما نرى كشف هذه الآثار يوجب لَمَّا وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك الرفع في الركوع" وتأكيد ما بينه من
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 243 رقم 2799).
(2)
سورة الأعلى، آية:[15].
وجهه النظر، إذا لو لم يقتضي الأمر من كشف الآثار والأخبار ووجه النظر والقياس ترك الرفع في غير التكبيرة الأولى لما ترك الفقهاء من التابعين وغيرهم الرفع في الركوع وعند رفع الرأس منه، وبين تركهم إياه بقوله: ولقد حدثني إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، أخي الحسن بن عياش رحمهم الله.