المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: القراءة خلف الإمام - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٤

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: القراءة خلف الإمام

‌ص: باب: القراءة خلف الإمام

ش: أي هذا باب في بيان حكم قراءة المقتدي خلف الإِمام، وجه المناسبة بين الأبواب ظاهرة؛ لأن كلها مشتمل على أحكام القراءة في الصلاة.

ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فتعايَتْ عليه القراءة، فلما سلم قال: "أتقرءون خلفي؟ " قلنا: نعم يا رسول الله، قال: "فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

ش: رجاله ثقات، ومكحول بن زيد الشامي أحد مشايخ أبي حنيفة والأوزاعي والزهري، ومحمود بن الربيع بن سراقة الخزرجي الأنصاري، يكنى أبا نعيم، ويقال: أبا محمَّد، عقل عن النبي عليه السلام مَجّه مَجَّها في وجهه من دلو من بئر في دارهم

وهو ابن خمس سنين، وهو ختن عبادة بن الصامت رضي الله عنها.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد، أنا محمَّد بن إسحاق، عن مكحول عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرءون وراء إمامكم، قلنا: نعم، والله يا رسول الله إناّ لنفعل هذا، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

وأخرجه أبو داود (2): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، ثنا محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق

إلى آخره نحو رواية أحمد، غير أن في لفظه:"كنا خلف النبي عليه السلام في صلاة الفجر".

(1)"مسند أحمد"(5/ 316 رقم 22746).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 277 رقم 823).

ص: 81

وأخرجه الترمذي (1): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال:"صلى رسول الله عليه السلام الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرءون وراء إمامكم، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

قوله: "فتعايت" أي صعبت عليه القراءة وثقلت، وأصله من العيِّ وهو خلاف البيان، يقال: أعيى عليه الأمر وتَعَيىَّ وتَعَايَى كلها بمعنى واحد.

قوله: "فلا تفعلوا" قال الخطابي: يحتمل أن يكون أراد بالنهي ما زاد في القراءة على الفاتحة، ويحتمل أن يكون نهاهم عن الهذَّ وهو السرعة كما جاء في رواية أبي داود وأحمد، أراد يَهِذُّ القرآن هذًّا فيسرع فيه من غير تفكر ولا ترتيل، كما في قراءة الشعر، ونصبه على المصدر، وقيل: أراد بالهذِّ الجهر بالقراءة، وكانوا يلبِّسون عليه عليه السلام قراءته بالجهر.

ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: أنا محمَّد بن إسحاق

فدكر بإسناده مثله.

ش: هذان طريقان رجالهما ثقات:

الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي المدني، عن أبيه عباد بن عبد الله، عن عائشة.

(1)"جامع الترمذي"(2/ 116 رقم 311).

ص: 82

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا الفضل بن يعقوب الجزري، ثنا عبد الأعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد

إلى آخره نحوه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن يزيد بن هارون

إلى آخره نحوه.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء- بن هلال الباهلي، عن يزيد بن زريع، عن محمَّد بن إسحاق

إلى آخره.

قوله: "بأم القرآن" أراد بها فاتحة الكتاب، سميت بها لأنها فاتحة القرآن كما سميت مكة أم القرى لأنها أصلها، أو سميت بها لأنها عَلامَتهُ قال الشاعر:

على رَأسِهِ أُمٌّ لنا يقتدى بها

جماعَ أمورٍ لا يعَاصي له أمرًا (3)

وقيل: إنها مقدمه، والأم العمر الماضي لتقدمه، قال الشاعر:

إذا كانت الخمسون أمك لم يكن

لدائك إلا أن تموت طبيب (4)

وقيل: لتمامها في الفضل.

ومن أسمائها (5): السبع المثاني، والوافية، والكافية، والأساس، والشافية، والكنز، والصلاة، وسورة تعلم المسألة، وسورة الواقعة، وسورة الحمد، والشكر، والدعاء، والفاتحة، وأول القرآن.

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 274 رقم 840).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 317 رقم 3620).

(3)

هكذا وقع هذا البيت في "الأصل، ك"، وقائل هذا البيت هو ذو الرمة، ونص البيت من ديوانه:

عَلى رَأْسِهِ أمٌّ له يهتدي بها

جِماعَ أُمورٍ لا يُعاصي لَهَا أمرًا

(4)

القائل هو الحسن بن عمرو الإباضي، وهو شاعر من شعراء الخوارج، ووقع في "الحماسة البصرية":(السبعون أمك)، بدلًا من (الخمسون أمك)، ويدل عليه البيت الذي يلي هذا البيت في القصيدة:

وإِنِ امرَءًا قد سارَ سبعين حِجَّةً

إلى منهلٍ من وردِهِ لقريبٌ

(5)

كتب في "الأصل" حاشية نصها: فائدة في أسماء فاتحة الكتاب.

ص: 83

وهي مكيّة. وقيل: مدنية ومكية؛ لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى، وهي سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس وقد ذكرناه، وسبع وعشرون كلمة، ومائة واثنان وأربعون حرفًا.

قوله: "فهي خِداج" بكسر الخاء أي ذات خِداج، وهو النقصان، أو يكون وصفها بالمصدر مبالغة، من خَدَجَت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخَلْقِ، وأخدجته إذا ولدته ناقصًا وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذي الثدية: مخدج اليد، أي: ناقصها.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا عبد الله بن وهب، أن مالك بن أنس حدثه، عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال: رسول الله عليه السلام: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خدل، فهي خداج، غير تمام، فقلت: يا أبا هريرة، إني أكون أحيانًا وراء الإِمام، قال: اقرأها يا فارسي في نفسك".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وسعيد بن عامر، قالا: ثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: ثنا العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام، مثله.

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي المدني، عن أبي السائب الأنصاري مولى هشام بن زهرة، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زهرة، ويقال: مولى بني زهرة

إلى آخره.

ص: 84

وأخرجه أبو داود (1): عن القعنبي، عن مالك

إلى آخره نحوه مع زيادة بعد قوله: "يا فارسي" وهي: "فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: قال الله عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي

" الحديث، ذكرنا تمامه في باب القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.

وأخرجه مسلم (2): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك نحوه.

وأخرجه أيضًا (2) عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.

وأخرجه النسائي (3): عن قتيبة، عن مالك

إلى آخره نحوه.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وسعيد بن عامر الضبعي، كلاهما عن شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن المثنى، ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج".

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن أبي مريم الجمحي المصري شيخ البخاري، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وروى عن العلاء أيضًا ورقاء والدراوردي وعبد الملك بن جريج.

فحديث ورقاء أخرجه الطيالسي (4): عنه، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج".

(1)"سنن أبي داود"(1/ 276 رقم 821).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 296 رقم 395).

(3)

"المجتبى"(2/ 135 رقم 909).

(4)

"مسند الطيالسي"(1/ 334 رقم 2561).

ص: 85

وحديث الدراوردي أخرجه الحديث في "مسنده": عنه، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه.

وحديث ابن جريج أخرجه ابن ماجه (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، عن ابن جريج، عن العلاء بن عبد الرحمن، أن أبا السائب أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله عليه السلام

إلى آخره نحوه.

قوله: "اقرأها يا فارسي" خطاب لأبي السائب، قال: محيي الدين النووي: ومما يؤيد وجوب قراءة الفاتحة على المأموم قول أبي هريرة هذا، ومعناه اقرأها سرًّا بحيث تُسمع نفسك.

قلت: هذا لا يدل على الوجوب؛ لأن المأموم مأمور بالإنصات؛ لقوله تعالى: {وَأَنْصِتُوا} (2) والإنصات: الإصغاء، والقراءة سرًّا بحيث يسمع نفسه تخل بالإنصات، فحينئذ يحمل ذلك على أن المراد: تدبر ذلك وتفكره، ولئن سلمنا القراءة حقيقة فلا نسلم أنه يدل على الوجوب، على أن بعض أصحابنا استحسنوا ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات، ومنهم من استحسنها في غير الجهرية ومنهم من رأى ذلك إذا كان الإِمام لحَّانًا.

قوله: "قسمت الصلاة" المراد منها الفاتحة، وقد ذكرنا أن من جملة أسماء الفاتحة: الصلاة، سميت بها لأنها تقرأ دائمًا في سائر الصلوات.

وقال النووي: فيه دليل على وجوبها بعينها في الصلاة، سميت بذلك لأنها لا تصلح الصلاة إلا بها، كقوله عليه السلام:"الحج عرفة".

قلت: لا نسلم أن يلزم من تسميتها صلاة وجوبها بعينها؛ لأن تسميتها بذلك باعتبار أنها تقرأ في سائر الصلوات لا باعتبار أنها فرض بعينها، ولا يلزم من قراءتها في سائر الصلوات فرضيتها كالتسمية والتحميد ونحوهما فإن صلاة لا تخلو عن شيء

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 273 رقم 838).

(2)

سورة الأعراف، آية:[204].

ص: 86

من ذلك، وليس ذاك بفرض، وقياسه على قوله:"الحج عرفة" ليس بصحيح؛ لأن معنى هذا الكلام: معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، وليست المعرفة بعينها عبارة عن الحج؛ لأن المعرفة لا تخلو إما أن تكون اسمًا لليوم المعهود، أو للموضع المعهود، وكل منهما ليس بحج ولا داخل في أركان الحج؛ فافهم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب إلى هذه الآثار قوم، وأوجبوا بها القراءة خلف الإِمام فى سائر الصلوات بفاتحة الكتاب.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار المذكورة وأوجبوا بها أي بالآثار المذكورة القراءة خلف الإِمام في جميع الصلوات بفاتحة الكتاب، و"الباء" فيه تتعلق بقوله:"القراءة" فافهم.

وقال ابن العربي في "أحكام القرآن": ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال:

الأول: يقرأ إذا أسر الإِمام خاصة قاله ابن القاسم.

الثاني: قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمَّد: لا يقرأ.

الثالث: قال محمَّد بن عبد الحكم: يقرأها خلف الإِمام؛ فإن لم يفعل أجزأه كأنه رأى ذلك مستحبًّا، والأصح عندي وجوب قراءتها فيما أسر، وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام لما فيه من فرض الإنصات له والاستماع لقراءته فإن كان منه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر.

وقال أبو عمر في "التمهيد": لم يختلف قول مالك أنه من نسيها -أي الفاتحة- في ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل أصلًا. ولا تجزئه، واختلف قوله فيمن تركها ناسيًا في ركعة من الصلاة الرباعية أو الثلاثية، فقال مرة: يعيد الصلاة ولا تجزئه، وهو قول ابن القاسم وروايته واختياره من قول مالك، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو وتجزئه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه.

قال: وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام.

ص: 87

قال: وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: لا تجزئه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة.

وقال ابن قدامة في "المغنى": قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، وركن من أركانها، لا تصح إلا بها في المشهور عن أحمد، نقله عنه الجماعة، وهو قول مالك والشافعي، وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وروي عن أحمد رواية أخرى: أنها لا تتعين، وتجزئ قراءة آية من القرآن من أي موضع كان، وهذا قول أبي حنيفة.

وقال ابن حزم في "المحلى": وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة، إمامًا كان أو مأمومًا، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء سواء.

ص: وخالفهم ذلك آخرون، فقالوا: لا نرى أن يقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات بفاتحة الكتاب ولا بغيرها.

ش: أي خالف القوم المذكورين فيما قالوا جماعةٌ آخرون، وأراد بهم الثوريَّ، والأوزاعيَّ -في رواية- وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد -في رواية-، وعبد الله بن وهب، وأشهب المالكي؛ فإنهم قالوا: لا يقرأ المؤتم خلف الإِمام في شيء من الصلوات بفاتحة الكاتب ولا بغيرها.

وقال عياض: وذهب الكوفيون إلى ترك قراءة المأموم في كل حال، وهو قول أشهب، وابن وهب من أصحابنا، وعامّة أصحاب مالك، وابن المسيب في جماعة من التابعين وغيرهم.

وفقهاء الحجاز والشام على أنه لا يقرأ معه فيما جهر به وإن لم يسمعه، ويقرأ فيما أَسَرَّ الإِمام، ووافقهم أحمد، إلا أنه قال: يقرأ إذا لم يسمعه في الجهر، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن القراءة خلف الإِمام غير واجبة إلا داود وأحمد وأصحاب الحديث، فجعلوا قراءة أم القرآن للمأموم فيما أسر فيه إمامه فرضًا، واختلف النقل عن

ص: 88

المذهب فيها بالسنة والاستحباب، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن المأموم لا يترك قراءة أم القرآن على كل حال، وإليه رجع الشافعي وأكثر أصحابه. انتهى.

وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها، والله أعلم.

ص: وكان من الحجة لهم عليهم في ذلك أن حديثي أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما اللذين رووهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ" ليس في ذلك دليل على أنه أراد بذلك الصلاة التي تكون وراء الإِمام، فقد يجوز أن يكون أراد بذلك أن تكون الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، وأخرج من ذلك المأموم بقوله عليه السلام:"من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة"، فجعل المأموم في حكم من قرأ بقراءة إمامه، وكان المأموم بذلك خارجا من قوله عليه السلام كل من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فصلاته خداج، وقد رأينا أبا الدرداء رضي الله عنه قد سمع من النبي عليه السلام في ذلك مثل هذا، فلم يكن ذلك عنده على المأموم.

كما حدثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح (ح)

وكما حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: حدثني محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا معوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن أبي الدرداء:"أن رجلًا قال: يا رسول الله، في كل الصلاة قرآن؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت. قال: وقال لي أبو الدرداء: أُرَى أن الإِمام إذا أم القوم فقد كفاهم".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذه أبو الدرداء قد سمع من النبي عليه السلام في كل الصلاة قرآن، فقال رجل من الأنصار: وجبت. فلم ينكر ذلك رسول الله عليه السلام من قول الأنصاري، ثم قال أبو الدرداء: بعدُ من رأيه ما قال، وكان ذلك عنده على من

ص: 89

يصلي وحده، وعلى الإِمام، لا على المأمومين فقد خالف ذلك رأي أبي هريرة رضي الله عنه أن ذلك على المأموم مع الإِمام، فانتفى بذلك أن يكون في ذلك حجة لأحد الفريقين على صاحبه.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين على أولئك القوم المذكورين في ذلك، أي فيما استدلوا بحديثي أبي هريرة وعائشة على وجوب قراءة فاتحة الكتاب خلف الإِمام: أنه ليس فيهما دليل على أن يكون المراد هو الصلاة التي يكون وراء الإِمام، فقد يجوز أن يكون المراد بذلك هو الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، ويخرج من ذلك المأموم بحديث آخر، وهو ما رواه جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال:"من كان له إمام، فقراءة الأمام له قراءة"(1) فقد خص هذا الحديث عموم ذاك الحديث.

الحاصل: أن أهل المقالة الأولى قالوا: إن قوله عليه السلام: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" عام؛ لأن لفظ "كل" إذا أضيف إلى النكرة يقتضي عموم الأفراد، فالمعنى كل واحد واحد من أفراد الصلاة لم يقرأ فيه بأم القرآن فهو خداج، فيتناول بعمومه صلاة المأموم، وأجاب أهل المقالة الثانية عن ذلك: أن هذا عام مخصوص، فخرج منه حكم المأموم، فبقي حديث أبي هريرة وعائشة مقصورين على الإِمام والمنفرد، ثم إن الطحاوي رحمه الله: أيد كلامه بما رواه عن أبي الدرداء، وذلك أنه قد سمع عن النبي عليه السلام:"في كل الصلاة قرآن؟ قال: نعم. فقال رجل من الأنصار: وجبت" أي القراءة في جميع الصلوات، فلم ينكر ذلك رسول الله عليه السلام عليه، ثم قال أبو الدرداء بعد ذلك من رأيه:"أُرَى أن الإِمام إذا أم القوم فقد كفاهم" أي عن

(1) أخرجه ابن ماجه في "السنن"(1/ 277 رقم 850)، وأحمد في "المسند"(3/ 339 رقم 14684)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 160 رقم 2724).

وقال الحافظ في "التلخيص"(1/ 232): مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة.

ص: 90

القراءة، وإنما قال ذلك إما بناء على ما سبق له من العلم بقوله عليه السلام:"من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة"(1)، وإما قال ذلك بطريق الاجتهاد لما أن الإِمام ضامن لصلاة القوم، ومن ضمانه أن يتحمل عنهم القراءة، فصار معنى الحديث عنده على من يصلي وحده وعلى الإِمام، لا على المأموم ولا يقال هذا رأيًا في مقابلة النص؛ لأنا نقول: إنه لم يصدر ذلك عن أبي الدرداء إلا بعد علمه وجزمه بأن مراد النبي عليه السلام من قوله: "كل صلاة لم يقرأ فيها

" الحديث، صلاة من لا إمام له، فإذا كان الأمر كذلك فقد خالف رأي أبي الدرداء رأي أبي هريرة أن ذلك على المأموم مع الإِمام، وذلك قوله: "اقرأها يا فارسي في نفسك" فإذا اختلف الرأيان في الحديث المذكور لم يبق فيه حجة لأحد، ثم إذا حملنا قول أبي هريرة: "اقرأها يا فارسي في نفسك" على معنى تَدَبَّر ذلك وتذكره في نفسك، يتفق رأيه مع رأي أبي الدرداء، ويرتفع الخلاف، ويعمل بالحديثين كليهما.

وأما الجواب عن قول من استدل بحديث أبي هريرة على فرضية قراءة فاتحة الكتاب فهو أن يقال: إن الاستدلال كذلك فاسد؛ لأن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (2) يقتضي قراءة مطلق القرآن، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص بخبر الواحد، وذا لا يجوز؛ لأنه نسخ، ولأنه روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد".

رواه أبو داود (3) والطبراني في "الأوسط"(4) وروي عنه أيضًا: "أمرني رسول الله عليه السلام أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد".

(1) انظر السابق.

(2)

سورة المزمل، آية:[20].

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 276 رقم 819).

(4)

وأخرجه إسحاق بن راهويه (1/ 179 رقم 126)، وابن حبان في "صحيحه"(5/ 94 رقم 1791).

ص: 91

رواه أبو داود (1). فإن دلت إحدى الروايتين على عدم جواز الصلاة إلا بفاتحة الكتاب دلت الأخرى على جوازها بلا فاتحة الكتاب، فيعمل بالحديثين ولا نهمل أحدهما بأن نقول بفرضية مطلق القراءة، وبوجوب قراءة فاتحة الكتاب، وهذا هو العدل في باب إعمال الأخبار.

وأيضًا فإن قوله: "فما زاد" دلالة على فرضية ما زاد على الفاتحة، وليس ذاك مذهب الخصم.

وجواب آخر: أن الحكم يثبت بقدر دليله، وخبر الواحد ليس قطعيًّا فلا تثبت به الفرضية، نعم يثبت به الوجوب، ونحن نقول به، فإن كان الخصم يقول: الواجب والفرض عندي سواء، فنقول حينئذ: النزاع لفظي.

وجواب آخر: أن قوله: "خداج" قد ذكرنا أن معناه: ناقص، ونحن نقول أيضًا: إن المصلي إذا لم يقرأ فاتحة الكتاب تكون صلاته ناقصة، وأما الاستدلال به على أنها تكون باطلةً باطلٌ؛ لأن معنى الخداج لا ينبئ عن ذلك بل قوله في الحديث:"غير تمام" يرد هذا؛ فإن عدم كونها تمامًا لا يستلزم البطلان، وهذا ظاهر.

فإن قيل: هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول فصارت كالمشهور، وبالمشهور تثبت الفرضية.

قلت: سلمنا إذا لم يعارضه دليل آخر، فالله تعالى نص بقوله:{مَا تَيَسَّرَ} فمتى عيَّنَا الفاتحة فرضًا ينقلب اليسر عسرًا، وهو خلاف النص فيرد، فافهم.

ثم إنه أخرج حديث أبي الدرداء من طريقين صحيحين:

الأول: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني أبي عبد الله المصري وثقه ابن يونس، عن عبد الله بن وهب من رجال الجماعة، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس من رجال مسلم والأربعة، عن أبي الزاهرية الحمصي واسمه حدير بن كريب من رجال مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن كثير بن مرة الحضرمي

(1)"سنن أبي داود"(1/ 276 رقم 820).

ص: 92

الرهاوي أبي شجرة الحمصي الشامي من رجال الأربعة، قال العجلي: تابعي شامي ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به.

عن أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه الدارقطني (1): ثنا ابن [مخلد](2)، ثنا شعيب بن أيوب وغيره، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، ثنا أبو الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فقال رسول الله عليه السلام لي -وكنت أقرب القوم إليه-: ما أُرَى الإِمام إذا أمّ القوم إلا قد كفاهم". كذا قال، والصواب:"فقال أبو الدرداء: ما أُرَى الإِمام إذا أمّ القوم إلا قد كفاهم".

وأخرجه الدارقطني (3): أيضًا عن بحر بن نصر شيخ الطحاوي، وقال: حدثنا عبد الملك بن أحمد الدقاق، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، حدثني معاوية بهذا، وقال: قال أبو الدرداء: يا كثير، ما أرى الإِمام إلا قد كفاهم.

الثاني: عن أحمد بن داود بن موسى المكي، عن محمَّد بن المثنى بن عبيد أبي موسى البصري الحافظ المعروف بالزمن شيخ الجماعة، عن عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري أبي سعيد اللؤلؤي البصري من رجال الجماعة، عن معاوية بن صالح

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (4): أنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو الزاهرية، قال: حدثني كثير بن مرة الحضرمي، عن أبي الدرداء سمعه يقول: "سئل رسول عليه السلام أفي كل صلاة

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 332 رقم 29).

(2)

في "الأصل، ك": "خالد" وهو تحريف، والمثبت من "سنن الدارقطني". وقد ذكر المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة شعيب بن أيوب فيمن روى عنه: محمَّد بن مخلد الدوري.

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 333 رقم 30).

(4)

"المجتبى"(2/ 142 رقم 923).

ص: 93

قراءة؟ قال: نعم، قال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فالتفت إليّ وكنت أقرب القوم منه، فقال: ما أُرَى الإِمام إذا أمّ القوم إلَّا قد كفاهم". قال أبو عبد الرحمن: هذا عن رسول الله عليه السلام خطأ، إنما هو قول أبي الدرداء، ولم يقرأ هذا مع الكتاب.

وأخرجه أيضًا ابن ماجه (1) ولكن من غير هذا الطريق: ثنا علي بن محمَّد، نا إسحاق بن سليمان، نا معاوية بن يحيى، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال:"سأله رجال فقال: أقرأ والإمام يقرأ؟ قال: سأل رجل النبي عليه السلام أفي كل الصلاة قراءة؟ فقال رسول الله عليه السلام: نعم، فقال رجل من القوم: وجب هذا".

ص: وأما حديث عبادة رضي الله عنه فقد بين الأمر، فأخبر عن رسول الله عليه السلام أنه أمر المأمومين بالقراءة خلف الإِمام بفاتحة الكتاب، فأردنا أن ننظر هل ضاد ذلك غيرُهُ أم لا؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفًا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله عليه السلام: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله عليه السلام فيما جهر به رسول الله عليه السلام بالقراءة في الصلوات حين سمعوا ذلك منه".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام نحوه، غير أنه قال:"فاتعظ المسلمون بذلك فلم يكونوا يقرءون".

ش: هذا جواب عن حديث عبادة المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى في وجوب القراءة بأم الكتاب خلف الإِمام في سائر الصلوات، بيانه:

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 274، 275 رقم 842).

ص: 94

أن حديث أبي هريرة هذا يعارضه؛ لأنه يصرح بانتهاء الناس عن القراءة مع رسول الله عليه السلام فيما جهر به رسول الله عليه السلام بالقراءة من الصلوات، وحديث عبادة أخبر أنه أمر المأمومين بالقراءة خلفه بفاتحة الكتاب مطلقًا، فبينهما تعارض ظاهرًا في حكم القراءة في الجهرية، وحديث أبي هريرة الآخر الذي يأتي عن قريب وهو قوله:"فإذا قرأ فأنصتوا" يعارضه مطلقًا، سواء كان في الجهرية أو في السرية، وكذلك أحاديث ابن مسعود وجابر وابن عمر وأنس بن مالك كلها تعارض حديث عبادة على ما يأتي مفصلًا، فإذا ثبت التعارض يجب الرجوع في أخذ الحكم إلى طريق النظر، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وجواب آخر: أن قوله عليه السلام "لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب" في حديث عبادة يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يؤمروا بالإنصات عند قراءة القرآن، فلما نزل قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (1) بطلت القراءة خلف الإِمام، وقد وردت أخبار في أن هذه الآية نزلت في القراءة خلف الإِمام.

والدليل على ما قلنا: ما أخرجه البيهقي (2): عن مجاهد قال: "كان رسول الله عليه السلام يقرأ في الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار، فنزل:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وأخرج عن الإِمام أحمد (3) قال: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة.

ويحتمل أن يكون ذلك بطريق تحصيل الفضيلة والكمال لا الوجوب للأحاديث التي وردت في منع المقتدي عن القراءة.

وقوله: "فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" معناه لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بها، ونحن نقول أيضًا بذلك، ولكن هذا في حق الإِمام والمنفرد، وأما المقتدي فليس عليه ذلك أصلًا.

(1) سورة الأعراف، آية:[204].

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 155 رقم 2706).

(3)

انظر: "نصب الراية"(2/ 10) وهذا الأثرم خرجه أبو داود في سؤالاته للإمام أحمد (ص 48).

ص: 95

فإن قالوا: المقتدي مصلٍّ، وكل فصل تجب عليه القراءة، فالمقتدي تجب عليه القراءة.

قلنا: المقتدي أيضًا قارئ؛ لأن قراءة إمامه قراءته وليست صلاة المقتدي صلاة بلا قراءة، بل صلاته صلاة بقراءة.

وقال الخطابي: هذا الحديث يصرح بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلى خلف الإِمام، سواء جهر الإِمام بالقراءة أو خافت بها.

وإسناده جيد لا طعن فيه.

قلت: فيما ذكرنا جواب عما قاله، ولو كان الحديث عليهم لأعلُّوه بمحمد بن إسحاق كما هو عادة البيهقي وأمثاله، فلما صار لهم جعلوا إسناده جيدا لا طعن فيه، نعم لا طعن فيه ولكن محمله ما ذكرناه، فافهم.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة هذا من طريقين صحيحين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة: "أن رسول الله عليه السلام انصرف من صلاة

" إلى آخره نحو رواية الطحاوي.

وأخرجه الترمذي (2): نا الأنصاري، قال: نا معن، قال: نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب

إلى آخره نحوه.

وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة، عن مالك

إلى آخره نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 278 رقم 826).

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 118 رقم 312).

(3)

"المجتبى"(2/ 140 رقم 919).

ص: 96

فإن قيل: كيف تقول طريقه صحيح وقد قال: البيهقي: في صحة هذا الحديث نظر؛ لأن راويه ابن أكيمة الليثي رجل مجهول لم يحدث إلَّا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري؟

قلت: أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه"(1)، وحسنه الترمذي، وقال: اسمه عمارة، ويقال: عمرو، وقيل: اسمه عامر، وقيل: يزيد، وقيل: عباد، وكنيته أبو الوليد الحجازي، وقال ابن حبان في "صحيحه": اسمه عمرو، وهو وأخوه عمر ثقتان. وقال ابن معين: روى عنه محمَّد بن عمرو وغيره. وحسبك برواية ابن شهاب عنه، وأبو داود لما أخرج حديثه لم يتعرض له بشيء، وذلك دليل على حسنه عنده كما عرف (2).

وفي "الكمال" لعبد الغني: روى عن ابن أكيمة: مالك، ومحمد بن عمرو. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: صحيح الحديث، حديثه مقبول. وفي "التمهيد": كان يحدث في مجلس سعيد بن المسيب وهو يصغي إلى حديثه، وبحديثه قال هو وابن شهاب، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته، وهذا كله ينفي الجهالة.

الثاني: عن حسين بن نمر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة

إلى آخره.

وهذا على شرط الصحيح. وأخرجه البزار: ثنا محمد بن مسكين، نا بشر بن بكر، نا الأوزاعي، حدثني محمَّد بن مسلم الزهري، حدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: "قرأ ناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاةٍ جَهَرَ فيها

(1)"صحيح ابن حبان"(5/ 157 رقم 1849).

(2)

الذي قاله أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: ما سكت عنه فهو صالح، وما فيه ضعف شديد بينته.

فالذي يؤخذ من هذا القول أن أبو داود قد يسكت على أحاديث فيها ضعف غير شديد وأنه يتكلم على ما فيه ضعف شديد فقط. وهذا معنى "صالح" عنده.

ص: 97

بالقراءة، فلما قضى رسول الله عليه السلام صلاته أقبل عليهم فقال:"هل قرأ منكم معي أحد آنفًا"؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ ". وهذا الحديث رواه ابن عيينة، ومعمر، وجماعة من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة وهو الصواب.

وقال بعض أصحاب الزهري: عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث، عن سعيد بن المسيب، وأخطأ في إسناده، ورواه ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن الأعرج عن ابن بحينة، عن النبي عليه السلام. فأخطأ في إسناده.

قوله: "ما لي أنازع القرآن" بصيغة المجهول، ونصب القرآن، ومعناه: ما لي إذا أداخل في القراءة وأغالب عليها؟ وقد تكون المنازعة بمعنى المشاركة والمداولة، ومنه منازعة الكأس في المُدَام.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحسين بن عبد الأول الأحول، قال: ثنا أبو خالد سليمان بن حيان، قال: ثنا ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا قرأ فانصتوا".

ش: ابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي، والحسن بن عبد الأول الكوفي الأحول وثقه ابن حبان، وأبو خالد سليمان بن حيان -بفتح الحاء، وتشديد الياء آخر الحروف- الأزدي الكوفي المعروف بأبي خالد الأحمر روى له الجماعة، ومحمد بن عجلان المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وزيد بن أسلم القرشي أبو أسامة المدني الفقيه مولى عمر بن الخطاب وشيخ أبي حنيفة روى له الجماعة، وأبو صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة.

ص: 98

وأخرجه أبو داود (1): نا محمَّد بن آدم، نا أبو خالد، عن ابن عجلان

إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه:"ليؤتم به" بهذا الخبر، وزاد:"وإذا قرأ فأنصتوا".

وأخرجه النسائي (2): أنا الجارود بن المعاذ الترمذي، قال: ثنا أبو خالد

إلى آخره، ولفظه:"ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد".

أنا (3) محمَّد بن عبد الله بن المبارك، قال: ثنا محمَّد بن سعد الأنصاري، قال: حدثني محمَّد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا أبو خالد

إلى آخره، ولفظه بعد قوله:"فأنصتوا""وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا".

وأخرجه ابن ماجه في "سُنَنه"(5): عن ابن أبي شيبة نحوه.

وهذا حجة صريحة -في أن المقتدى لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإِمام أصلًا- على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر.

فإن قيل: قد قال أبو داود عقيب إخراجه هذا الحديث: وهذه الزيادة "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد عندنا.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 220 رقم 604) وقال أبو داود عقبه: هذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد.

(2)

"المجتبى"(2/ 141 رقم 921).

(3)

"المجتبى"(2/ 142 رقم 922).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 115 رقم 7137).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 276 رقم 846).

ص: 99

وقال البيهقي في "المعرفة"(1) بعد أن روى هذا الحديث: أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث؛ أبو داود وأبو حاتم وابن معين والحاكم والدارقطني، وقالوا: إنها ليست بمحفوظة.

وأسند عن ابن معين في "سننه الكبير"(2): قال في حديث ابن عجلان: "وإذا قرأ فأنصتوا" قال: ليس بشيء.

وكذا قال الدارقطني (3): في حديث أبي موسى الأشعري: "وإذا قرأ الإِمام فأنصتوا" وقد رواه أصحاب قتادة الحفاظ عنه، منهم هشام الدستوائي وسعيد وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة، ولم يقل أحد منهم:"وإذا قرأ فأنصتوا" قال: إجماعهم يدل على وهمه. وعن أبي حاتم: ليست هذه الكلمة محفوظة، إنما هي من تخاليط ابن عجلان.

قلت: في هذا كله نظر، أما ابن عجلان فإنه وثقه العجلي، وفي "الكمال" لعبد الغني: ثقة كثير الحديث، وذكر الدارقطني أن مسلما أخرج له في "صحيحه" فهذا زيادة ثقة، وقد تابعه عليها خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء.

كما ذكره البيهقي في "سننه الكبير"(4). وأما أبو خالد فإنه ثقة أخرج له الجماعة، وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت وكيعًا عنه فقال: وأبو خالد ممن يسأل عنه؟! وقال أبو هشام الرفاعي: ثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين، ومع هذا فلم ينفرد بهذه الزيادة.

فقد أخرج النسائي (5) كما ذكرنا هذا الحديث بهذه الزيادة من طريق محمَّد بن سعد الأنصاري، ومحمد بن سعد ثقة وثقه يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المخرمي والنسائي، فقد تابع ابن سعد هذا أبا خالد، وتابعه أيضًا إسماعيل بن أبان.

(1)"معرفة السنن والآثار"(2/ 46 - 47).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 156 رقم 2714).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 330 رقم 16، 17).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 157 رقم 2715).

(5)

تقدم.

ص: 100

كما أخرجه البيهقي في "سننه"(1). وبهذا ظهر أن الوهم ليس من أبي خالد كما زعم أبو داود، وقد ذكر المنذري في "مختصره" كلام أبي داود ورد عليه بنحو ما قلنا، وابن خزيمة صحح حديث ابن عجلان.

ويؤكد هذا ما يوجد في بعض نسخ مسلم (2) هذه الزيادة عقيب هذا الحديث، وقال أبو إسحاق صاحب مسلم: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في حديث جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي غلاب، عن حطان، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ الإِمام فأنصتوا

" الحديث.

أخرجه ابن ماجه (3) والبيهقي (4) وغيرهما (5)، قال مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟! وقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة تقول هذا صحيح يعني "وإذا قرأ فأنصتوا"؟ فقال: هو عندي صحيح، فقال: لم لا تضعه ها هنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه.

فقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري ومن حديث أبي هريرة، وذكر أبو عمر في "التمهيد" بسنده عن ابن حنبل أنه صحح الحديثين يعني حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة هذا، وأيضًا هذه الزيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، والعجب من أبي داود أنه نسب الوهم إلى أبي خالد وهو ثقة بلا شك، ولم ينسبه إلى ابن عجلان وفيه كلام؛ فافهم.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 156 رقم 2713).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 303 رقم 404).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 276 رقم 847).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 155 رقم 2709).

(5)

أخرجه أحمد في "المسند"(4/ 415 رقم 19738)، والدارقطني في "السنن"(1/ 330 رقم 17)، وأبو يعلى في "المسند"(13/ 255 رقم 7326).

ص: 101

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، قال: ثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:"كانوا يقرءون خلف النبي عليه السلام، فقال: خلطتم عليَّ القراءة".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي.

وأخرجه ابن أبي شيية في "مصنفه"(1): ثنا محمَّد بن عبد الله الأسدي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:"كنا نقرأ خلف النبي عليه السلام، فقال: خلطتم عليَّ القرآن".

وأخرجه البزار في "مسنده"(2): ثنا محمَّد بن بشار وعمرو بن علي، قالا: ثنا أبو أحمد

إلى آخره نحو رواية الطحاوي.

قوله: "خلطتم" من التخليط وهو التخبيط.

ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن يعقوب، عن النعمان -وهو أبو حنيفة- عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام قال:"من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن النبي عليه السلام مثله، ولم يذكر جابرًا.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن رجل من أهل البصرة، عن النبي عليه السلام نحوه.

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا إسحاق بن منصور السلولي، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن جابر وليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام مثله.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3778).

(2)

"مسند البزار"(5/ 440 رقم 2078، 2079).

ص: 102

حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا الحسن ابن صالح، عن جابر -يعني الجعفي- عن أي الزبير، عن جابر عن النبي عليه السلام مثله.

ش: هذه خمس طرق:

الأول: مسند صحيح ورجاله ثقات، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب أبو عبد الله المصري، بحشل ابن أخي عبد الله بن وهب، شيخ مسلم، وأبي حاتم، وابن خزيمة، وابن جرير الطبري وغيرهم، وعمه عبد الله بن وهب روى له الجماعة، والليث بن سعد المصري روى له الجماعة، ويعقوب هو أبو يوسف القاضي أكبر أصحاب أبي حنيفة، قال ابن معين: كان ثقة عدلًا صدوق، وقال ابن المديني: كان صدوقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

والنعمان هو ابن ثابت الكوفي الإِمام الأعظم أبو حنيفة صاحب المذهب.

وموسى بن أبي عائشة الهمداني الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله بن شداد بن الهاد أبو الوليد المدني روى له الجماعة.

فإن قلت: كيف تقول مسند صحيح وقد قال الدارقطني (1): ثنا علي بن عبد الله بن مبشر، ثنا محمَّد بن حرب الواسطي، ثنا إسحاق الأزرق، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان.

وقال أيضًا (2): حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا يوسف بن يعقوب بن أبي الأزهر التيمي، ثنا عبيد بن يعيش، ثنا يونس بن بكير، ثنا أبو حنيفة والحسن ابن عمارة بهذا، الحسن بن عمارة متروك الحديث، وروى هذا الحديث سفيان

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 323 رقم 1).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 325 رقم 5).

ص: 103

الثوري، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلًا عن النبي عليه السلام، وهو الصواب.

قلت: قد ظهر لك من هذا تحامل الدارقطني على أبي حنيفة وتعصبه الفاسد فمن أين له ولأمثاله تضعيف إمام قد بلغ علمه حيث ما بلغ الإِسلام، وانتشر مذهبه في الآفاق، وأطبقت الخاصة والعامة من السلف والخلف على زهده وورعه وقوة تمكنه في الدين، وقد تقلد مذهبه وأثنى عليه من هو أكبر منه ومن أمثاله عند الله تعالى وعند الناس كسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، والليث بن سعد، ويحيى القطان، وأضرابهم، ووثقه من هم أعرف بهذا الشأن وأتقن في الحفظ والضبط والتبيان كيحيى بن معين، وابن عيينة، وشعبة، وعبد الرزاق، والشافعي، ومالك، وأحمد، وغيرهم من الأئمة الأجلاء الأثبات، والأكابر الثقات، ولكن صدق الشاعر حيث يقول:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا شأوه

والقوم أعداء له وخصوم

وفي المثل السائر: البحر لا يكدره وقوع الذباب، ولا ينجسه ولوغ الكلاب. على أن حديث جابر هذا له طرق متعددة، وإن كان بعضها مدخولًا ولكن يشد بعضها بعضًا.

وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) بسند صحيح وقال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن حسن بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل من كان له إمام فقراءة له قراءة". وهذا سند صحيح يؤكد صحة رواية أبي حنيفة مسندًا، وكذا رواه أبو نعيم: عن الحسن بن صالح، عن أبي الزبير كذا في أطراف المزي (2).

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 331 رقم 3802).

(2)

"تحفة الأشراف"(2/ 291 رقم 2675).

ص: 104

فإن قيل: هذا منقطع؛ لأن جابرًا الجعفيَّ بين الحسن وأبي الزبير.

قلت: أبو الزبير محمَّد بن مسلم توفي سنة ثمان وعشرين ومائة، قاله الترمذي وغيره، والحسن بن صالح ولد سنة مائة وتوفي سنة تسعة وستين ومائة وسماعه من أبي الزبير ممكن، ومذهب الجمهور أن من أمكن لقاؤه لشخص وروى عنه فروايته محمولة على الاتصال، فيحمل عك أن الحسن سمعه من أبي الزبير مرة بلا واسطة، ومرة أخرى بواسطة الجعفي فافهم.

الثاني: مرسل، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة الكوفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد المدني التابعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال:"صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر -أو العصر- فجعل رجل يقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ورجل ينهاه، فلما صلى قال: يا رسول الله، كنت أقرأ وكان هذا ينهاني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فإن قراءة الأمام له قراءة".

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(2): عن شريك وجرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءته له قراءة".

الثالث: فيه مجهول، عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن رجل من أهل البصرة، عن النبي عليه السلام قال:"من كان له إمام فقراء الأمام له قراءة ". وقد ذكر الدارقطني أن إسرائيل أيضًا روى هذا الحديث عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، مرسلًا.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 136 رقم 2797).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3779).

ص: 105

الرابع: مسند صحيح، عن أبي أميّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن إسحاق بن منصور السلولي أبي عبد الرحمن الكوفي، عن الحسن بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، وليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله، الأنصاري رضي الله عنه.

فإن قيل: كيف تقول: هذا صحيح.

وقد قال الدارقطني (1): ثنا محمَّد بن مخلد، قال: ثنا محمَّد بن سعد العوفي، ثنا إسحاق بن منصور ويحيى بن أبي بكير، عن الحسن بن صالح، عن ليث بن أبي سليم وجابر، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي عليه السلام قال:"من كان له إمام فقراءته له قراءة". جابر وليث ضعيفان؟

قلت: ليث هذا روى عنه الأئمة الكبار كالثوري وشريك وشعبة وفضيل بن عياض وحفص بن غياث والإمام أبو حنيفة، واستشهد به البخاري في الصحيح وروى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة، وجابر بن يزيد وإن كان ضعيفًا فيما زعمه فقد ذكر متابعة، على أنَّا قد ذكرنا أن هذا رُوي من طريق الحسن بن صالح بإسناد صحيح.

الخامس: مسند أيضًا، وفيه جابر بن يزيد الجعفي وهو مختلف فيه، عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، وفهد بن سليمان الكوفي كلاهما، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن الحسن بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه الدارقطني (2): ثنا محمَّد بن مخلد، ثنا العباس بن محمَّد، ثنا أبو نعيم، ثنا الحسن بن صالح، عن جابر، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام مثله.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 331 رقم 20).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 331 رقم 21).

ص: 106

وأخرجه البيهقي (1) أيضًا.

قلت: هذا الطريق ينبغي أن يكون صحيحًا؛ لأنا قد ذكرنا أن الحسن بن صالح قد روى عن أبي الزبير من غير واسطة جابر الجعفي.

كما مَرَّيْ رواية ابن أبي شيبة (2)؛ فحينئذ لا يبقى كلام في صحة هذا الحديث، وإسناده على ما لا يخفى، ولهذا المعنى ذكره الطحاوي بطرق مختلفة.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا ابن حيّ، عن جابر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مثله.

ش: أشار بهذا إلى أن الحديث المروي عن جابر رُوي عن عبد الله بن عمر أيضًا، وفيه تأكيد لصحة الحديث.

أخرجه عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن حيّ الكوفي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مثل الحديث المذكور.

وأخرج الدارقطني في "سننه"(3): عن محمَّد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كان له إمام فقراءته له قراءة".

قال الدارقطني: محمَّد بن الفضل متروك.

ثم أخرجه (4): عن خارجة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا أنه قال في القراءة خلف الإِمام:"تكفيك قراءة الإِمام". قال: وهو الصواب.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 160 رقم 2774).

(2)

تقدم.

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 325 رقم 6).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 402 رقم 2) ولكن بلفظ: "من صلى خلف إمام فإن قراءة الإِمام له قراءة". وأما اللفظ المذكور، فهو لفظ الحديث الذي بعده (1/ 402 رقم 3).

ص: 107

قلت: رواه مالك في "الموطأ"(1): عن نافع، عن ابن عمر قال:"إذا صلى أحدكم خلف الإِمام فحسبه قراءة الإِمام، وإذا صلى وحده فليقرأ، قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإِمام".

ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا يحيى بن سلام، قال: أنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل، إلا وراء الإمام".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن وهب بن كيسان، عن جابر، مثله، ولم يذكر النبي عليه السلام.

حدثنا محمَّد بن علي بن داود البغدادي وفهد بن سليمان، قالا: ثنا إسماعيل ابن بنت السدي، قال: ثنا مالك

فذكر هذا الحديث مثله بإسناده قال: فقلت لمالك: أرفعه؟ فقال: خذوا برجله.

ش: هذه ثلاث طرق:

الأول: مرفوع، أخرجه عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التميمي أبي زكرياء البصري، عن مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان القرشي أبي نعيم المدني المعلم من رجال الجماعة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي عليه السلام.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا بحر بن نصر، ثنا يحيى بن سلام، نا مالك بن أنس، ثنا وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، أن النبي عليه السلام قال:"كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، إلا أن يكون وراء إمام".

يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف.

(1)"موطأ مالك"(1/ 86 رقم 192).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 327 رقم 9).

ص: 108

قلت: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: شيخ مصري، وقع إلى مصر، صدوق.

قوله: "فلم يصل" يعني: لم يكن مصليًا، يعني: لا تكون صلاته صلاة إلَّا إذا كان وراء الإِمام؛ فإنه حينئذ إذا ترك أم القرآن لا يضره ذلك، وتكون صلاته صحيحة، وليس المعنى أن صلاته تبطل إذا لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فيما إذا لم يكن وراء الإِمام، بدليل قوله: فهي خداج؛ لأن معناه فهي ناقصة، ولا يلزم من النقصان البطلان كما ذكرنا.

الثاني: موقوف، عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن وهب، عن جابر موقوفًا عليه.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن مالك، عن وهب بن كيسان، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل؛ إلا مع الإِمام".

وأخرجه الدارقطني (2): عن أبي بكر، عن يونس، عن ابن وهب

إلى آخره نحوه.

وكذلك في "موطأ" يحيى بن يحيى عن مالك (3).

الثالث: أيضًا موقوف، عن محمَّد بن علي بن داود البغدادي وفهد بن سليمان، كلاهما عن إسماعيل بن موسى ابن بنت السدي الفزاري الكوفي شيخ أبي داود والترمذي وابن ماجه وأبي يعلى الموصلي وابن خزيمة قال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن عدي: إنما أنكروا عليه الغلو في التشيع فأما في الرواية فقد احتمله الناس.

قوله: "خذوا برجله" كناية عن إنكار مالك الرفع في الحديث المذكور، وتنبيه على أن الصواب هو الموقوف.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 121 رقم 2745).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 327 رقم 10).

(3)

"موطأ مالك"(1/ 84 رقم 187).

ص: 109

ص: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل بوجهه، فقال: أتقرءون والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فسألهم ثلاثًا، فقالوا: إنا لنفعل هذا، فقال: لا تفعلوا".

ش: إسناده صحيح على يشترط البخاري، وأيوب هو السختياني وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام.

فإن قيل: كيف تقول: صحيح.

وقد أخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن النبي عليه السلام لما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: أتقرءون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقال لهم ثلاث مرات، فقال قائل -أو قائلون-: إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه".

ثم قال: هذا الحديث منكر، تفرد به عبيد الله، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب فلم يذكر أنسًا.

وقال البخاري في "تاريخه"(2): ثنا مؤمل، نا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلًا.

قال ابن علية، عن الحذاء، قلت لأبي قلابة: من حدثك به؟ قال: محمَّد بن أبي عائشة مولى لِبَني أمية.

وأخرجه عبد الرزاق (3): عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتقرءون خلفي وأنا أقرأ؟ قال: فسكتوا حتى سألهم ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فلا تفعلوا ذلكم، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه سرًّا".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 166 رقم 2750).

(2)

"التاريخ الكبير"(1/ 207).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 127 رقم 2765).

ص: 110

عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن محمَّد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب محمَّد عليه السلام قال: قال النبي عليه السلام: "لعلكم تقرءون والإمام يقرأ؟ مرتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب".

قلت: أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2): من حديث أبي قلابة، عن أنس، ثم قال: سمعه من أنس وسمعه من ابن أبي عائشة؛ فالطريقان محفوظان (3).

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فقد بيَّنَّا بما ذكرنا عن النبي عليه السلام خلاف ما روى عبادة رضي الله عنه فلما اختلفت هذه الآثار المروية في ذلك التمسنا حكمه من طريق النظر؛ فرأيناهم جميعًا لا يختلفون في الرجل يافي الأمام وهو راكع أنه يكبر ويركع معه، ويعتد بتلك الركعة وإن لم يقرأ فيها شيئًا، فلما أجزأه ذلك في حال خوفه فوت الركعة احتمل أن يكون إنما أجزأه ذلك لمكان الضرورة، واحتمل أن يكون إنما أجزأه ذلك لأن القراءة خلف الإِمام ليست عليه فرضًا، فاعتبرنا ذلك، فرأيناهم لا يختلفون أن من جاء إلى الأمام وهو ركع فركع قبل أن يدخل في الصلاة بتكبر كان منه؛ أن ذلك لا يجزئه وإن كان إنما تركه لحال الضرورة وخوف ذوات الركعة، وكان لا بُدَّ له من قومة في حال الضرورة وغير حال الضرورة، فهذه صفات الفرائض التي لا بد منها في الصلاة، ولا تجزئ الصلاة إلا بإصابتها؛ فلما كانت القراءة مخالفة لذلك وساقطة في حال الضرورة كانت من غير جنس ذلك، فكانت في النظر أيضًا ساقطة في غير حال الضرورة، فهذا هو النظر في هذا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 127 رقم 2766).

(2)

"صحيح ابن حبان"(5/ 162 رقم 1852).

(3)

قال البخاري في "تاريخه"(1/ 207): "وقال عبيد الله بن عمرو: عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أنس".

ص: 111

ش: قد ذكر فيما مضى أن حديث عبادة بيَّن فيه أنه عليه السلام أمر المأمومين بالقراءة خلفه بالفاتحة، وأن حديث أبي هريرة يضاده، وكذلك حديث آخرين من الصحابة كما ذكره مفصلًا، ثم لما اختلفت هذه الأحاديث في هذا الباب تعيَّن التماس حكمه من طريق النظر والقياس، ووجه ملخصًا: أن الرجل إذا أدرك الإِمام وهو راكع فإنه يكبر ويركع وتُغْني تلك الركعة عن القيام مع عدم القراءة فيه، ولكن يحتمل أن يكون جواز ذلك إما للضرورة، وإما لعدم وجوب القراءة خلف الإِمام، فاعتبرنا ذلك، فوجدنا الرجل إذا أدرك الإِمام وهو راكع، فركع قبل أن يدخل في الصلاة بتكبير حصل منه، أنه لا يجوز، وإن كان تركه القوم للضرورة -وهي خوف فوت الركعة- وعلم من ذلك أن لا بد له من قومة مطلقًا، ووجدنا القراءة مخالفة لهذا الحكم وساقطة في حال الضرورة، وصارت من خلاف جنس هذا، فالنظر على ذلك أن تكون القراءة ساقطة في غير حال الضرورة، فافهم.

ص: فإن قال قائل: فقد روي عن نفر من أصحاب النبي عليه السلام أنهم كانوا يقرءون خلف الإِمام ويأمرون بذلك، فذكروا ما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو إسحاق الشيباني، عن جواب بن عبيد الله التيمي، قال: ثنا يزيد بن شريك أبو إبراهيم التيمي، قال:"سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن القراءة خلف الإِمام، فقال لي: اقرأ، قلت: وإن كنت خلفك؟ قال: وإن كنت خلفي، قلت: وإن قرأت؟ قال: وإن قرأت".

حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو بشر، عن مجاهد، قال:"سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإِمام في صلاة الظهر من سورة مريم".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حصين، قال: سمعت مجاهدًا يقول: "صليت مع عبد الله بن عمرو الظهر والعصر، فكان يقرأ خلف الإمام".

ص: 112

قيل له: قد روي هذا عمن ذكرت وقد روي عن غيرهم من أصحاب النبي عليه السلام خلاف ذلك.

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم، قال: سمعت محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ومر على دار ابن الأصبهاني فقال: حدثني صاحب هذه الدار -وكان قد قرأ على أبي: عبد الرحمن- عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى، قال: قال لي علي رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإِمام فليس على الفطرة".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال:"أنصت للقراءة؛ فإن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام".

حدثنا مبشر بن الحسن البصري، قال: ثنا أبو عامر -أو أبو جابر قال أبو جعفر: أنا أشك- عن شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله

فذكر مثله.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود

فذكر نحوه.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود قال:"ليت الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه ترابًا".

حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الزبير، عن إبراهيم، عن علقمة

فذكر مثله.

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن عبيد الله بن مقسم: أنه سأل عبد الله ابن عمر وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله، فقالوا: لا تقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات".

ص: 113

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن عبد الله ابن الأشج، عن أبيه، عن عبيد الله بن مقسم، قال: سمعت جابر بن عبد الله

فذكر مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت سمعه يقول:"لا يقرأ المؤتم خلف الإِمام في شيء من الصلوات".

حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير -قال أبو جعفر: وهو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير- عن يزيد بن قسيط، عن عطاء ابن يسار، عن زيد

فذكر مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح الحراني، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي جمرة قال:"قلت لابن عباس: أقرأ والإمام بين يدي؟ فقال: لا".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع:"أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإِمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم خلف الإِمام فحسبه قراءة الإِمام، قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإِمام".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"تكفيك قراءة الإمام".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي عليه السلام قد أجمعوا على ترك القراءة خلف الإِمام، وقد وافقهم على ذلك ما قد روي عن النبي عليه السلام مما قدمنا ذكره، وشهد لهم النظر الذي قد ذكرنا؛ فذلك أولى مما قد خالفه والله أعلم.

ش: أورد أهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية بأن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرءون خلف الإِمام ويأمرون بها، ولو لم يكن ذلك واجبًا لما قرأوا ولا أمروا، وذكر الطحاوي ذلك عن اثنين من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.

ص: 114

أما أثر عمر رضي الله عنه فأخرجه: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي، عن جَوَّاب -بفتح الجيم، وتشديد الواو، وفي آخره باء موحدة- بن عبيد الله التيمي الكوفي.

عن يزيد بن شريك بن طارق التيمي تيم الرباب الكوفي والد إبراهيم التيمي قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن هشيم، عن الشيباني

إلى آخره نحوه سواء.

وأما أثر عبد اللهَ بن عمرو فأخرجه من طريقين:

أحدهما: عن صالح بن عبد الرحمن أيضًا، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس -وهو ابن أبي وحشية- اليشكري الواسطي، عن مجاهد بن جبر المكي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن هشيم

إلى آخره نحوه.

والآخر: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن مجاهد.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا هشيم، قال: أنا حصين قال: "صليت إلى جنب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: فسمعته يقرأ خلف الإِمام، قال: فلقيت مجاهدًا فذكرت له ذلك، قال: فقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإِمام".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 327 رقم 3748).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 327 رقم 3749).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 327 رقم 3750).

ص: 115

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن عيينة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال:"سمعت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقرأ في الظهر والعصر مع الإِمام، فسألت إبراهيم، فقال: لا تقرأ إلا أن (تَتَّهم) (2) الإمام، وسألت مجاهدًا، فقال: قد سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ".

وأخرجه البيهقي (3) أيضًا: من حديث هشيم، عن حصين قال:"صليت إلى جنب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فسمعته يقرأ خلف الإِمام، فلقيت مجاهدًا فذكرت له ذلك، فقال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ خلف الإِمام في الظهر من سورة مريم".

قوله: "قيل له" أي قيل لهذا القائل: نعم قد روي هذا عمن ذكرت من الصحابة، ولكن روي عن غيرهم من الصحابة أيضًا خلاف ذلك، وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، فهؤلاء ستة من أجلاء الصحابة روي عنهم خلاف ما رُوي عن عمر وعبد الله بن عمرو، وأنهم اتفقوا على ترك القراءة خلف الإِمام مع ما وافقهم في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام من ترك القراءة خلف الإِمام، وهو الذي رواه أبو الدرداء وأبو هريرة، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، فإنهم كلهم قد رووا عن النبي عليه السلام ما يوافق أقوال هؤلاء الصحابة على ما مرَّ ذكره مستقصى، ومع شهادة وجه النظر والقياس الذي قد ذكر عن قريب، فبمثل هذا يترك ما روي عن غيرهم من الخلاف، وقد ذكر بعض أصحابنا أن منع المقتدي عن القراءة مأثور عن ثمانين من كبار الصحابة، منهم: علي والعبادلة وقد ذكر غير الطحاوي أيضًا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 130 رقم 2775).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، و"التمهيد" لابن عبد البر (11/ 36)، وفي "المصنف": يَهِم.

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 169 رقم 2769).

ص: 116

وقال عبد الرزاق في "مصنفه"(1): أخبرني موسى بن عقبة: "أن رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون عن القراءة خلف الإِمام". وأخرج عن داود بن قيس، عن محمَّد بن بجاد، عن موسى بن سعد بن أبي وقاص، قال: ذكر لي أن سعد بن أبي وقاص قال: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر".

قلت: بجاد بكسر الباء الموحدة وبالجيم، وقال ابن ماكولا: بجاد بن موسى بن سعد بن أبي وقاص روى حديثه ابنه محمَّد بن بجاد وآخرون.

أما أثر علي بن أي طالب رضي الله عنه: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي الأحول شيخ البخاري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه القاضي، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بذاك. وقال العجلي: كان فقيهًا صاحب سنة صادقًا جائز الحديث. روى له الأربعة.

عن عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني من رجال الجماعة، عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى، قال أبو حاتم: منكر الحديث. يروي عن أبيه عن علي رضي الله عنه وها هنا روى عن علي بدون واسطة.

وكذا رواه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا محمَّد بن الفضل بن سلمة، ثنا أحمد بن يونس، ثنا عمرو بن عبد الغفار وأبو شهاب والحسن بن صالح، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن المختار بن عبد الله، أن عليًّا رضي الله عنه قال:"إنما يقرأ خلف الإِمام من ليس على الفطرة".

فإن قيل: قال البيهقي (3): هذا ضعيف لا يسوي ذكره.

قلت: قد أُخرج هذا من طرق متعددة.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 139 رقم 2810).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 332 رقم 26).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 168).

ص: 117

فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن محمَّد بن سليمان الأصبهاني، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن ابن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه:"من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة". ومحمد بن سليمان الأصبهاني قال الذهبي: صدوق. وأخرج له الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقواه ابن حبان، وباقي السند على شرط الصحيح، وقد جاء لمحمد بن الأصبهاني متابعة.

فروى الدارقطني في "سننه"(2): ثنا أحمد بن محمَّد بن سعيد، ثنا الحسين بن عبد الرحمن بن محمَّد الأزدي، ثنا عمى عبد العزيز بن محمَّد، ثنا قيس، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن أبي ليلى قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة".

وأخرجه الدارقطني (3) أيضًا: عن المختار بن عبد الله، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه.

وقال: ثنا بدر بن الهيثم القاضي، ثنا محمَّد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن ابن الأصبهاني، عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: قال علي رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة".

وأخرجه أيضًا (4): عن عمار، عن عبد الله بن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه.

ثنا أحمد بن يحيى بن المنذر من أصل كتاب أبيه، ثنا أبي، ثنا قيس، عن عمار الدهني، عن عبد الله بن أبي ليلى، قال: قال علي رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة".

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(5): عن داود بن قيس، عن محمَّد بن عجلان، قال: قال علي رضي الله عنه: "من قرأ مع الإِمام فليس على الفطر".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3781).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 332 رقم 24).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 331 رقم 22).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 332 رقم 25).

(5)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 138 رقم 2806).

ص: 118

قال: وقال ابن مسعود: ملئ فوه ترابًا. قال: وقال عمر بن الخطاب: وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر".

وقال صاحب "التمهيد": ثبت عن علي وسعد وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنه لا قراءة مع الإِمام لا فيما أسر ولا فيما جهر.

قوله: "وكان قد قرأ على أبي: عبد الرحمن" القائل بهذا القول هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أي: كان عبد الرحمن بن الأصبهاني قد قرأ على أبي وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى.

فقوله: "عبد الرحمن" عطف بيان لقوله: "أبي" وليس المجموع كنية لشخص، فافهم فإنه موضع التوهم.

وقوله: "عن المختار" يتعلق بقوله: "حدثني صاحب هذه الدار" أي صاحب هذه الدار الذي هو عبد الرحمن بن الأصبهاني الذي قرأ على والدي عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى.

قوله: "فليس على الفطرة" أراد ليس على دين الإِسلام، يعني ليس على شرائط الدين، أو معناه: ليس على السنة كما في قوله: "عشر من الفطرة"(1) أي من السنة يعني سنن الأنبياء عليهم السلام التي أُمرنا أن نقتدي بهم فيها، فانظر إلى هذا الوعيد العظيم في الذي يقرأ خلف الإِمام، ولو ثبت عند علي رضي الله عنه من النبي عليه السلام وجوب القراءة خلف الإِمام لما قال بهذا القول (2).

(1)"صحيح مسلم"(1/ 223 رقم 261).

(2)

هذا إن ثبت الأثر عن علي، فقد قال البخاري في "القراءة خلف الإِمام" (ص2): وهذا لا يصح؛ لأنه لا يعرف المختار ولا يدرى أنه سمعه من أبيه أم لا، وأبوه من علي، ولا يحتج أهل الحديث بمثله.

وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمة عبد الله بن أبي ليلى: لا يعرف، والخبر منكر. وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 5): وهذا شيء لا أصل له عن علي

وابن أبي ليلى هذا رجل =

ص: 119

وأما أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأخرجه من أربع طرق ثلاثتها صحاح والرابع فيه حديج بن معاوية فيه مقال:

الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان وغيره.

عن وهيب بن خالد بن عجلان البصري، عن منصور بن المعتمر الكوفي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة أدرك النبي عليه السلام ولم يره، وهؤلاء روى لهم الجماعة.

وأخرجه عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن منصور، عن أبي وائل قال:"جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، أقرأ خلف الإِمام؟ قال: أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام".

وأخرجه الطبراني (2): عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، به.

قوله: "أنصت" أي اسكت، من أَنْصَتَ يُنْصِت إنصاتًا إذا سكت سكوت مستمع وقد نَصَتَ أيضًا، وأنصَتُّه إذا أسكتُّه فهو لازم ومتعدٍّ.

وقوله: "فإن في الصلاة شغلًا" أي اشتغالًا عن غيرها، أراد أنه يجب أن يكون على حضور وسكون، فمتى قرأ خلف الإِمام ترك ذلك الحضور والسكون.

قوله: "وسيكفيك ذلك الإمامُ" أشار به إلى القرآن، أي يكفيك الإِمام القراءة، أراد أن قراءته تغني عن قراءتك، و"الإمامُ" مرفوع؛ لأنه فاعل "سيكفيك"، و"ذلكَ" في محل النصب على المفعولية.

= مجهول، ما أعلم له شيئًا يرويه عن علي غير هذا الحرف المنكر، الذي يشهد إجماع للسلمين قاطبة ببطلانه

إلخ.

وانظر ترجمة المختار بن عبد الله بن أبي ليلى من "لسان الميزان"(6/ 6).

(1)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 138 رقم 2803).

(2)

"المعجم الكبير"(9/ 264 رقم 9311).

ص: 120

الثاني: عن مبشر بن الحسن بن مبشر القيسي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، أو أبي جابر محمَّد بن عبد الملك الأزدي، والشك فيه من الطحاوي، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن عبد الله.

وأخرجه البيهقي (1) من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان وشعبة، عن منصور، عن أبي وائل:"أن رجلًا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإِمام، فقال: أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شغلًا وسيكفيك ذاك الإِمام"، وقال البيهقي: وإنما يقال: أنصت لما يسمع.

قلت: جاء عن ابن مسعود أنه لا قراءة خلف الإِمام مطلقًا كما قد ذكرناه.

الثالث: عن روح بن الفرح القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن منصور

إلى آخره.

وأخرجه ابن شيبة في "مصنفه"(2): ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن أبي وائل قال:"جاء رجل إلى عبد الله فقال: اقرأ خلف الإِمام؟ فقال له عبد الله: إن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام".

الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حديج -بضم الحاء المهملة- بن معاوية بن حديج بن الرُّحَيل الكوفي أخي زهير بن معاوية، فيه مقال؛ فعن يحيى بن معين: ليس بشيء، وعن النسائي: ضعيف، وقال أبو حاتم: محله الصدق.

عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 160 رقم 2726).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3780).

ص: 121

واعلم أن قضية التراب والحجر قد رويت عن أربعة من عظماء الصحابة وأكابرهم وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وقد ذكرنا ذلك كله.

قوله: "ليت الذي" أي: ليت الرجل الذي، أو: ليت المصلي الذي، أو ليت المقتدي الذي يقرأ القرآن خلف الإِمام، و"ليت" كلمة تمني، والتمني: ما لا مطمع في وقوعه، كقولك: ليت الشباب يعود.

قوله: "مُلئ" على صيغة المجهول، و"فوه" مرفوع بإسناده إليه، و"ترابًا" نصب على المفعولية.

وأخرج الطحاوي هذا أيضًا مقتصرًا على علقمة بن قيس: عن الحسن بن نصر ابن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي الهمداني الكوفي قاضي الري، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس.

وأخرجه عبد الرزاق (1): عن معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس قال:"وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه- قال: أحسبه قال: ترابًا أو رضفًا".

وكذا روي عن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ابن علية، عن أيوب وابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: قال الأسود: "لأن أعض على جمرة أحب إليَّ من أن أقرأ خلف الإِمام أعلم أنه يقرأ".

ثنا (3) هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن وبرة، عن الأسود بن يزيد أنه قال:"وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه ترابًا".

وأخرج عبد الرزاق (4): عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 139 رقم 2808).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3785).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 331 رقم 3789).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 139 رقم 2809) ولكن من طريق معمر، قال: وأخبرني رجل عن الأسود به، وأما بالإسناد المذكور فرواه (2/ 138 رقم 2807) بلفظ:"ملئ فاه ترابًا"، والله أعلم.

ص: 122

قال: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام إذا جهر، عض على جمرهّ".

وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه من ثلاث طرق:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، عن بكر بن عمرو المعافري المصري إمام جامعها، عن عبيد الله بن مقسم القرشي المدني

إلى آخره.

وهذا إسناد صحيح عك فرط مسلم، وهذا مخرج عن ثلاثة من الصحابة وهم: ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله؛ فإنهم قالوا: لا يقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات.

وأخرج عبد الرزاق (1): عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم:"أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القراءة خلف الإمام".

وأخرج (2): عن الثوري، عن ابن ذكوان، عن زيد بن ثابت، وابن عمر "كانا لا يقرآن خلف الإِمام".

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن وكيع، عن الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، قال:"لا تقرأ خلف الإِمام".

وعن (4) وكيع أيضًا، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن ثوبان، عن زيد بن ثابت، قال:"لا تقرأ خلف الإِمام إن جهر ولا إن خافت".

وعن (5) وكيع أيضًا، عن عمر بن محمَّد، عن موسى بن سعد، عن زيد بن ثابت قال:"من قرأ خلف الإِمام فلا صلاة له".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 140 رقم 2814).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 140 رقم 2815).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3786).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 331 رقم 3787).

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 331 رقم 3788).

ص: 123

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر

إلى آخره.

وهذا أيضًا إسناد صحيح في غاية الصحة وأخرجه يحيى بن يحيى في "موطئه" عن مالك (1) إلى آخره نحوه.

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر .. إلى آخره.

وهذا أيضًا صحيح في غاية الصحة وأخرج البيهقي (2) معارضًا لهذا: من حديث الجريري، عن أبي الأزهر قال:"سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القراءة خلف الإِمام فقال: إني لأستحي من رب هذه البنية أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن".

قلت: هذه معارضة باطلة؛ فإن إسناد ما ذكره منقطع، والصحيح عن ابن عمر عدم وجوب القراءة خلف الإِمام.

وقد أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم:"أن ابن عمر كان ينهى عن القراءة خلف الإِمام".

وأخرج (4) أيضًا: عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن القراءة خلف الإِمام، قال: وأخبرني أشياخنا أن عليًّا قال: من قرأ خلف الإِمام فلا صلاة له".

وأخرج أيضًا: عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن ابن عمر كان يقول: "إذا كنت مع الإِمام فحسبك قراءة الإِمام".

(1)"موطأ مالك"(1/ 86 رقم 192).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 161 رقم 2728).

(3)

تقدم.

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 139 رقم 2810).

ص: 124

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع وأنس بن سيرين، قالا: قال ابن عمر رضي الله عنهما: "تكفيك قراءة الإِمام".

وأما أثر جابر بن عبد الله: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج أبي المسور المدني من رجال مسلم، عن أبيه بكير بن عبد الله من رجال الجماعة، عن عبيد الله بن مقسم المدني، عن جابر.

وهذا إسناد صحيح.

فإن قيل: قال أحمد: مخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا. وكذا قال يحيى بن معين، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا وهو حديث الوتر.

قلت: قال معن بن عيسى: مخرمة سمع من أبيه. وقال مالك: قلت لمخرمة: ما حدثت عن أبيك سمعته منه؟ فحلف بالله لقد سمعته.

وأما أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة، عن أبيه بكير بن عبد الله، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن داود بن قيس، قال: أخبرني عمر بن محمَّد بن زيد بن عمر بن الخطاب، قال: حدثني موسى بن سعيد، عن زيد بن ثابت قال:"من قرأ مع الإِمام فلا صلاة له".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر ابن أبي كثير، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 330 رقم 3784).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(21/ 137 رقم 2802).

ص: 125

وأخرجه البيهقي (1): من حديث إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن ابن قسيط، عن عطاء بن يسار، أنه أخبره:"أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإِمام، فقال: لا قراءة مع الإِمام في شيء". قال البيهقي: هذا محمول على جهر الإِمام.

قلت: لا نسلم ذلك؛ لعدم القرينة على ذلك، وقوله:"لا قراءة" نكرة في موضع النفي فتعمَّ.

وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح الحراني واسمه عبد الغفار بن داود أحد أصحاب أبي حنيفة، وقال ابن ماكولا: كان ثقة ثبتًا فقيهًا على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.

عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- الضبعي واسمه نصر بن عمران بن عاصم من رجال الجماعة.

وهذا إسناد صحيح.

فإن قيل: روي عن ابن عباس خلاف هذا.

فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا حفص، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"لا تدع أن تقرأ خلف الإِمام بفاتحة الكتاب جهر أو لا".

قلت: ما رواه الطحاوي أصح إسنادًا من هذا، فلا يعارض به؛ فإن ليث بن أبي سليم متكلم فيه.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 163 رقم 2738).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 328 رقم 3755).

ص: 126