المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: السلام في الصلاة هو من فرضها أم من سننها - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٤

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: السلام في الصلاة هو من فرضها أم من سننها

‌ص: باب: السلام في الصلاة هو من فرضها أم من سننها

؟

ش: أي هذا باب في بيان السلام في آخر الصلاة هل هو من فروض الصلاة أو من سننها؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة.

ص: حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي ، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "مفتاح الصلاة الطهور، وإحرامها التكبير، وإحلالها التسليم".

ش: الفريابي هو محمَّد بن يوسف شيخ البخاري، وقد تكرر ذكره.

وعبد الله بن عَقِيل -بفتح العين- ابن أبي طالب القرشي المدني وفيه مقال، فقال ابن سعد: منكر الحديث لا يحتجون بحديثه. وعن يحيى: ليس حديثه بحجة. وعنه: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وقال النسائي: ضعيف. وقال الترمذي: صدوق. وروى له أبو داود والترمذي.

ومحمد بن الحنفية هو محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية واسمها خولة بنت جعفر بن قيس روى له الجماعة.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمَّد بن الحنفية، عن على رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".

وأخرجه الترمذي (2): ثنا هناد وقتيبة ومحمود بن غيلان، قالوا: ثنا وكيع، عن سفيان.

وثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان

إلى آخره نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 16 رقم 61).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 8 رقم 3).

ص: 529

وأخرجه ابن ماجه (1) أيضًا: ثنا علي بن محمَّد، ثنا وكيع، عن سفيان

إلى آخره نحوه.

وأخرجه البيهقي (2) بلفظ الطحاوي.

وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(3) وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقال الترمذى: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن محمَّد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.

وقال أيضًا: سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمَّد بن عقيل، قال محمَّد: هو مقارب الحديث.

وقال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث: وفي الباب عن جابر وأبي سعيد.

قلت: أما حديث جابر فأخرجه الترمذي (4) أيضًا: ثنا أبو بكر محمَّد بن زنجويه البغدادي وغير واحد، قالوا: أنا حسين بن محمَّد، قال: ثنا سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء".

وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه ابن ماجه (5): ثنا سويد بن سعيد، نا علي بن مسهر، عن أبي سفيان طريف السعدي. (ح)

وثنا أبو كريب، نا أبو معاوية، عن أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 101 رقم 275).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 15 رقم 2094).

(3)

"المستدرك على الصحيحين"(1/ 223 رقم 457).

(4)

"جامع الترمذي"(1/ 10 رقم 4).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 101 رقم 276).

ص: 530

أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال:"مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".

قوله: "مفتاح الصلاة" أي الذي تفتح الصلاة به، والمفتاح مفعال من الفتح، شبه الصلاة بالخزانة المقفولة على طريق الاستعارة بالكناية، وهي التي لا يذكر فيها سوى المشبه، ثم أثبت لها المفتاح على سبيل الاستعارة الترشيحية وهي ما يقارن ما يلائم المستعار منه.

قوله: "الطهور" بفتح الطاء، وهو اسم لما يتطهر به، وهو بعمومه يتناول الماء والتراب، والظاهر أنه بضم الطاء؛ لأن المراد به الفعل.

قوله: "وإحرامها التكبير" أي إحرام الصلاة بإتيان التكبير، فكأن المصلي بالتكبير والدخول فيها صار ممنوعًا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها، فقيل للتكبير: إحرام وتحريم؛ لمنعه المصلي من ذلك.

قوله: "وإحلالها التسليم" أي تحليل الصلاة يكون بالسلام في آخرها، فكأن المصلي يحل له ما حرم عليه فيها بالتكبير من الأقوال والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها كما يحل للمُحْرِم بالحج عند الفراغ منه ما كان حرامًا عليه.

ويستدل به على فرضية الطهارة لأجل الصلاة؛ لأن الشارع جعل الطهور مفتاحًا لها، فتكون الطهارة موقوفًا عليها، والصلاة موقوفة، فلما كان الموقوف فرضًا كان الموقوف عليه فرضًا مثله؛ لأنه شرط، والمشروط لا يوجد بدونه، واستدل به أصحابنا على فرضية تكبيرة الإحرام.

فإن قيل: هذا خبر آحاد فكيف تثبت به الفرضية؟

قلت: أصل فرضية التكبير في أول الصلاة بالنص، وهو قوله تعالى:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1)، وقوله:{وَرَبَّكَ فَكَبِّر} (2) غاية ما في الباب يكون الحديث

(1) سورة الأعلى، آية:[15].

(2)

سورة المدثر، آية:[3].

ص: 531

بيانا لما يراد به النص، واستدل به أبو يوسف على أن الشروع في الصلاة لا يصح إلا بألفاظ مشتقة من التكبير، وهي أربعة ألفاظ: الله أكبر، الله الأكبر، الله الكبير، الله كبير.

واستدل الشافعي ومالك أنه لا يصير شارعًا إلا بلفظ واحد وهو: الله أكبر.

وقال أبو حنيفة ومحمد: يصح الشروع بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، مثل: الله أكبر، الله أجل، الله أعظم، الرحمن أكبر، الرحمن الأجل، أو الحمد لله أو سبحان الله، أو لا أكبر إلا الله، لقوله تعالى:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1)

والمراد به ذكر اسم الرب لافتتاح الصلاة؛ لأنه عقب الصلاة الذكر بحرف التعقيب بلا فصل، فلا يجوز تقييده بلفظ مشتق من الكبرياء بأخبار الآحاد.

ص: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا انصرف من صلاته بغير تسليم فصلاته باطلة؛ لأن رسول الله عليه السلام قال: "تحليلها التسليم" فلا يجوز أن يخرج منها بغيره.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: مالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم، فإنهم ذهبوا إلى أن الرجل إذا انصرف من صلاته بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة، حتى قال النووي: ولو أحل بحرف من حروف: "السلام عليكم، لم تصح صلاته، واستدلوا على ذلك بقوله عليه السلام: "تحليلها التسليم".

وقال ابن قدامة: إذا فرغ من صلاته وأراد الخروج منها سلم عن يمينه ويساره، وهذا التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه، وبهذا قال مالك والشافعي، والواجب عندهم فرض، فلا فرق بينهما.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فافترقوا في ذلك على قولين: منهم من قال: إذا قعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته وإن لم يسلم. ومنهم من قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد ولم يسلم.

ص: 532

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح، وابن المسيب، وإبراهيم، وقتادة، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا، وابن جرير الطبري؛ فإنهم ذهبوا إلى أن التسليم ليس بفرض، حتى لو تركه لا تبطل صلاته، ولكن افترق هؤلاء أيضًا على قولين:

فمنهم من قال: إذا قعد مقدار التشهد، فقد تمت صلاته، وإن لم يسلم حتى إذا أحدث في ذلك الوقت لا يضر صلاته، وليس عليه شيء، وهو مذهب أبي حنيفة.

ومنهم من قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة في الصلاة فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد ولم يسلم، وهو مذهب عطاء وإبراهيم، وإليه ذهب مالك أيضا، ولكن التسليم عنده فرض كما بينا، فحاصل مذهب مالك: أنه يرى بفرضية التسليم في آخر الصلاة، ولا يرى بفرضية الجلوس في آخر الصلاة.

ص: وكان من الحجة للفريقين جميعًا على أهل المقالة الأول: أن ما روي عن النبي عليه السلام من قوله: "تحليلها التسليم" إنما روي عن علي رضي الله عنه، فقد روي عن علي رضي الله عنه من رأيه في مثل ذلك ما يدل على أن معنى قول رسول الله عليه السلام ذلك كان عنده على غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى.

فذكروا ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن أبي عوانة، عن الحكم، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال:"إذا رفع رأسه من آخر سجدة فقد تمت صلاته".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا علي رضي الله عنه قد روى عن النبي عليه السلام أنه قال: "وتحليلها التسليم" ولم يكن ذلك عنده على أن الصلاة لا تتم إلا بالتسليم إذ كانت تتم عنده بما هو قبل التسليم، وكان معنى "وتحليلها التسليم" عنده إنما هو التحليل الذي ينبغي أن يحل به لا بغيره، والتمام الذي لا يجب -بما يحدث بعده إعادة الصلاة- غيره.

ش: أي كان من الدليل والبرهان لأهل المقالتين على أهل المقالة الأولى، ملخص هذا: أن استدلال أهل المقالة الأول بالحديث المذكور على ما ذهبوا

ص: 533

إليه غير صحيح؛ لأن هذا الحديث روي عن علي رضي الله عنه عن النبي عليه السلام، وروي عنه أيضًا من رأيه اجتهاده ما يدل على أن معنى قوله عليه السلام:"وتحليلها السلام" ليس على ما حمله أهل المقالة الأولى، وهو قوله:"إذا رفع رأسه من آخر سجدة فقد تمت صلاته".

وأخرجه بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن الحكم بن عتيبة، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، عن علي رضي الله عنه.

فدل هذا أنه ليس معنى ما رواه عن النبي عليه السلام أن الصلاة لا تتم إلا بالتسليم؛ لأن تمام الصلاة عنده بشيء هو قبل التسليم، وهو رفع رأسه من آخر سجدة، فدل ذلك أن معنى قوله:"تحليلها التسليم" عنده هو التحليل الذي ينبغي أن يحل به لا بغيره. فافهم.

قوله: "إذ كانت" كلمة "إذْ" للتعليل.

قوله: "والتمام" مبتدأ وخبره قوله: "غيره" أي غير السلام، وقوله:"إعادة الصلاة" مرفوع بقوله: "لا تجب".

وجواب أخر: أن الحديث المذكور من أخبار الآحاد، والفرضية لا تثبت بها، إلا أنا أثبتنا به الوجوب احتياطا.

فإن قيل: لما أخرج البيهقي أثر علي رضي الله عنه قال: عاصم ليس بقوي، وعلي رضي الله عنه لا يخالف ما رواه، وإن صح عنه فمجموع ما رواه هو وغيره لا حجة في قول أحد من أمة النبي عليه السلام معه عليه السلام.

قلت: عاصم وثقه ابن المديني وأحمد بن عبد الله، واحتج به الأربعة، وقوله: وعلي رضي الله عنه لا يخالف ما رواه، لخصمه أن يعكس الأمر ويجعل قوله دليلا على نسخ ما رواه؛ إذْ لا يظن به أن يخالف النبي عليه السلام إلا وقد ثبت عنده نسخ ما رواه، وقد رُوِيَ عن جماعة من السلف كقول علي رضي الله عنه.

ص: 534

فروى عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج، عن عطاء:"فيمن أحدث بصلاته قبل أن يتشهد، قال: حسبه فلا يعيد".

وعن (2) ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء:"إذا رفع الإِمام رأسه من السجود في آخر صلاته فقد تمت صلاته وإن أحدث".

وعن قتادة (3)، عن ابن المسيب:"فيمن يحدث بين ظهراني صلاته، قال: إذا قضى الركوع والسجود فقد تمت صلاته".

وعن الثوري (4)، عن منصور قلت لإبراهيم:"الرجل يحدث حين يفرغ من السجود في الرابعة وقبل التشهد؟ قال: تمت صلاته".

ثم هذا كله على تقدير تسليم صحة الحديث المذكور، إذْ لو اعتبرنا ما قالوا في ابن عقيل يسقط به الاحتجاج.

فإن قيل: فما تقول في حديث الخدري الذي تقدم ذكره؟

قلت: في سنده أبو سفيان طريف السعدي، قال أبو عمر: أجمعوا على أنه ضعيف الحديث، كذا في الإِمام، ثم على تقدير صحة الحديث قال أبو عمر: لا يدل على أن الخروج من الصلاة لا يكون إلا بالتسليم إلا بضرب من دليل الخطاب، وهو مفهوم ضعيف عن الأكثرين.

ص: فإن قال قائل: فقد قال: "تحريمها التكبير" فكان هو الذي لا يدخل فيها إلا به، وكذلك لما قال:"وتحليلها التسليم" كان كهو أيضًا لا يخرج منها إلا به.

قيل له: إنه لا يجوز الدخول في الأشياء إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، وقد يخرج من الأشياء من حيث أمران يخرج منها ومن غير ذلك، ومن ذلك:

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 353 رقم 3674).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 354 رقم 3675).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 354 رقم 3676).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 354 رقم 3677).

ص: 535

أنا قد رأينا أن النكاح قد نهى أن يعقد على المرأة؛ وهي في عدة، وكان مَنْ عقده عليها وهي كذلك لم يكن بذلك مالكا لبضعها، ولا وجب له عليها نكاح، في شباه لذلك كثيرة يطول بذكرها الكتاب، وأمر ألا يخرج منه إلا بالطلاق الذي لا إثم فيه، وأن تكون المطلقة طاهرًا من غير جماع، وكان من طلق على غير ما أمر به من ذلك فطلق ثلاثا أو طلق امرأته حائضًا يلزمه ذلك وإن كان آثما، ويخرج بذلك الطلاق المنهي عنه من النكاح الصحيح، فكان قد بينت الأسباب التي تملك بها الأبضاع كيف هي، والأسباب التي تزول بها الأملاك عنها كيف هي، ونهوا عما خالف ذلك أو شيئًا منه، فكان من فعل ما نهي عنه من ذلك ليدخل به في النكاح لم

يدخل به فيه، فإذا فعل شيئًا منه ليخرج به من النكاح خرج به منه، فلما كان لا يدخل في الأشياء إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، ويخرج منها من حيث أمر به من الخروج منها وبغير ذلك؛ كان كذلك النظر في الصلاة أن يكون كذلك، فيكون الدخول فيها غير واجب إلا بما أمر به من الدخول فيها، ويكون الخروج منها بما أمر به، مما يخرج به منها ومن غيى ذلك.

ش: تقرير السؤال أن يقال: لا يصح الدخول في الصلاة إلا بالتكبيرة لقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير" فكذلك لا يصح الخروج منها إلا بلفظ السلام لقوله عليه السلام: "وتحليلها التسليم".

وتقرير الجواب ملخصا: أن الدخول في الأشياء لا يجوز إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، ولكن الخروج منها يجوز أن يكون من حيث أمران يخرج منها، ويجوز أن يكون من غير ما أمر به أن يخرج منها، غاية ما في الباب يكون مسيئًا في ذلك، ونظير ذلك من الصور كثير، منها النكاح: فإنه نهى أن يعقد على المرأة إذا كانت في العدة، فالدخول فيه لا يصح إلا من حيث أمر به، وهو أن تكون المرأة خالية من الأزواج والموانع الشرعية، حتى إذا عقد عليها وهي في عدة لا يصير به الزوج مالكا لبضعها، ولا تثبت بذلك أمور الزوجية، ولكن الخروج في مثل هذه الصورة يجوز أن يكون من حيث أمر به أن يخرج منها ويجوز

ص: 536

أن يكون من غير ذلك، مثلا أمر الزوج أن يطلق امرأته طلاقًا لا إثم فيه، وتكون المرأة طاهرًا من غير جماع، فهذا هو الأمر الذي أمر فيه أن لا يخرج منه إلا به، ثم لو ترك هذا وخرج منه من غير ما أمر به، فإن طلقها ثلاث تطليقات دفعة واحدة، أو طلقها وهي حائض فإنه يقع طلاقه في الصورتين كما أوقعه، فهذا قد خرج منه من غير ما أمر به ولكنه كان مسيئًا.

فعلم من ذلك أن حالة الخروج من الشيء لا تقتضي أن تكون على صفة حالة الدخول فيه، فإذا كان الأمر كذلك كان النظر والقياس في الصلاة أن يكون كذلك، فيكون الدخول فيها لا يصح إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، فلا يصح الدخول فيها إلا بالتكبير، ويكون الخروج منها بما أمر به من السلام، وبغير ذلك من الأفعال التي تنافي الصلاة، فيكون هذا أيضًا صحيحًا ولكنه يكون مسيئًا لتركه السنه، والله أعلم.

قوله: "من ذلك أنا قد رأينا" فقوله: "أنا رأينا" في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله:"من ذلك"، وأشار بذلك إلى قوله: "وقد يخرج من الأشياء

" إلى آخره.

قوله: "وهي بذلك" أي والحال أن المرأة كذلك، أي في عدة الغير.

قوله: "لم يكن بذلك" أبي بذلك العقد.

قوله: "في أشباه لذلك" أبي في أمثال ونظائر لما ذكر من الصورة.

قوله: "كثيرةٍ" بالجر صفة لقوله: "أشباه".

قوله: "ويخرج بذلك الطلاق المنهي عنه" أبي يخرج المطلق بالطلاق الذي أوقعه ثلاثا أو في حالة الحيض، و"الطلاق" مجرور؛ لأنه بدل عن قوله:"بذلك" أو صفة له. فافهم.

قوله: "فكان قد بُيِّنَهت" على صيغة المجهول من التبيين.

ص: 537

قوله: "يلزمه ذلك" خبر لقوله: "وكان من طلق على غير ما أمر به" وقوله: "مطلق ثلاثا" تفسير لما قبله. فافهم.

ص: وكان ما احتج به من ذهب إلى أنه إذا رفع رأسه من أخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته بما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال:"إذا رفع رأسه من أخر سجدة فقد مضت صلاته إذا هو أحدث".

حدثنا يزيد بن سنان ومحمد بن عباس اللؤلؤي، قالا: ثنا معاذ بن الحكم، عن عبد الرحمن بن زياد

فذكر مثله بإسناده.

ش: لما ذكر فيما مضى أن منهم من قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته، وإن لم يتشهد ولم يسلم، وهم: عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، أراد أن يبين احتجاجهم ثم يجيب عنه، وقد احتج هؤلاء فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وأخرجه من طريقين:

أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي قاضيها، فيه مقال، فقال الترمذي: ضعيف. وعن أحمد: ليس بشيء. وعنه: منكر الحديث. وقال أحمد بن صالح: ثقة. وكان ينكر على من يتكلم فيه، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية، قال البخاري: في حديثه مناكير. وروى له من الأربعة غير النسائي.

وعن بكر بن سوادة بن ثمامة الحذامي البصري، عن يحيى والنسائي: ثقة. روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.

ص: 538

كلاهما يرويان عن عبد الله بن عمرو.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(1): ثنا ابن المبارك، ثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي عليه السلام قال:"إذا رفع رأسه من آخر السجود ثم أحدث فقد تمت صلاته".

والآخر: عن يزيد بن سنان القزاز ومحمد بن عباس اللؤلؤي، كلاهما عن معاذ بن الحكم بن رافع البجلي أبي سعيد البصري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي

إلى آخره.

وأخرجه العدني: عن عبد الرزاق، عن الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، ولفظه:"إذا جلس الإِمام ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته".

وقال البيهقي (2): ورواه معاذ بن الحكم، عن الإفريقي وزاد فيه:"وقضى تشهده"، والإفريقي واهٍ.

ص: قيل لهم: إن هذا الحديث قد اختلف فيه، فرواه قوم هكذا، ورواه آخرون على غير ذلك.

حدثنا إبراهيم بن منقذ وعلي بن شيبة، قالا: ثنا أبو عبد الرحمن المقرى، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي وبكر بن سوادة الجذامي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا قضى الإمام الصلاة فقعد فأحدث هو أو أحد ممن أتم الصلاة معه قبل أن يسلم الإمام، فقد تمت صلاته، فلا يعود فيها".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا معناه غير معنى الحديث الأول، وقد روي هذا الحديث أيضًا بلفظ غير هذا:

(1)"مسند الطيالسي"(1/ 298 رقم 2252).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 139 رقم 2647).

ص: 539

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا معاذ بن الحكم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم

فذكر مثل حديث أبي بكرة، عن أتيت داود، عن ابن المبارك.

قال معاذ: فلقيت عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، فحدثني به عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، فقلت له: لقيتهما جميعًا؟ فقال: كلاهما حدثني به، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا رفع المصلي رأسه من آخر صلاته وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته، فلا يعود لها".

ش: أي قيل لهؤلاء القوم -الذين ذهبوا إلى، أن من رفع رأسه في آخر سجدة في صلاته فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد ولم يسلم، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو-: إن هذا الحديث قد اختلفت فيه الناس، فرواه قوم هكذا أي كما ذكرنا في رواية أبي بكرة عن أبي داود الطيالسي، ورواية يزيد بن سنان، ومحمد بن عباس اللؤلؤي، عن معاذ بن الحكم، ورواه آخرون وهم: علي بن شيبة وإبراهيم بن منقذ العصفري ويزيد بن سنان القزاز على غير ذلك، أي على غير الوجه الذي رواه أولئك القوم.

والحاصل أن هذا جواب عن الحديث المذكور بأنه مضطرب، فلا يقوم به الاحتجاج.

وكذا قال الترمذي: وقد اضطربوا في إسناده.

فالذي يفهم من كلام الطحاوي أن علة الحديث عنده كونه مضطربا، ولهذا لم يستدل بما رواه يزيد بن سنان، عن معاذ بن الحكم، عن الثوري

إلى، آخره لأصحابنا فيما ذهبوا إليه من أن المصلي إذا قعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته، واستدل لهم على ذلك بحديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ لأنه سالم من الاضطراب.

وغير الطحاوي أجاب عن الحديث المذكور بأنه ضعيف معلول بالإفريقي، فقال الدارقطني: عبد الرحمن بن زياد ضعيف لا يحتج به. وقال عبد الرحمن بن

ص: 540

أبي حاتم: هذا الحديث منكر، سمعت أبي يقول ذلك. وقال البخاري: عبد الرحمن ابن رافع التنوخي رواه، وفي حديثه مناكير. وقال الذهبي: في إسناده الإفريقي وهو واهٍ. وقال البيهقي: هذا الحديث ضعيف، وإن صح فإنما كان قبل أن يفرض التسليم، وقال الخطابي: هذا حديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم، ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهره؛ لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد على ما رووه عن ابن مسعود رضي الله عنه، ثم لم يقووا قولهم في ذلك؛ لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس، أو كان متيممًا فرأى الماء وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فقد فسدت صلاته، وقالوا فيمن قهقه بعد الجلوس قدر التشهد: لا ينتقض الوضوء إلا أن يكون في صلاة، والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بيّن.

قلت: نعم، الحديث مضطرب على ما أشار إليه الطحاوي، ولكن كلام الخطابي كله مدخول فيه، أما عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وإن كان ضعفه البعض فقد وثقه آخرون، فقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. وقال أحمد بن محمَّد ابن الحجاج بن رشدين، عن أحمد بن صالح قال مرة: من يتكلم في ابن أنعم فليس بمقبول، ابن أنعم من الثقات. وقال عباس بن محمَّد: سمعت ابن معين يقول: ليس به بأس. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: هو ثقة. وقال البخاري: روى عنه الثوري. وقال عبد الرحمن: ليس به بأس. وقال [الترمذي](1): رأيت محمَّد بن إسماعيل يقوي أمره يقول: هو مقارب الحديث.

(1) في "الأصل، ك": "أحمد"، والمثبت من "تهذيب التهذيب"(6/ 159)، و"الكاشف"(1/ 627).

ص: 541

وقوله: "وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم" غير مسلم؛ لأن الاستدلال على فرضية السلام بقوله: "وتحليلها التسليم" غير صحيح على ما ذكرنا، ولأنه ليس فيه نفي التحليل بغير التسليم، إلا أنه خص التسليم لكونه واجبا، وبهذا يُدفع كلام البيهقي أيضًا:"وإن صح فإنما كان قبل أن يفرض التسليم"، ولأنه مجرد دعوى لا دليل عليها.

وقوله: "ولا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهره

" إلى آخره غير صحيح؛ لأن عطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن البصري وقتادة ذهبوا إلى ذلك، وأخذوا بظاهره كما بيناه، وأيضًا فإن أبا يوسف ومحمدًا من أصحابنا قالا به.

وليس المراد من قوله في الحديث: "وقعد" نفس القعود بل المراد القعود قدر التشهد كما فسره في حديث روي عن عطاء عن ابن عباس كما نذكره عن قريب.

وقوله: "لأنهم قالوا: إذا طلعت الشمس

" إلى آخره، غير صحيح أيضًا؛ لأن بطلان الصلاة في هذه الصورة عند أبي حنيفة بناء على أن الخروج من الصلاة بفعل الصلي فرض، وليس لهذا تعلق بالحديث المذكور عند أبي حنيفة، وأما أبو يوسف ومحمد فلا يريان بطلان الصلاة في هذه الصور بهذا الحديث. فافهم.

ثم الحديث الذي رواه عن إبراهيم بن منقذ وعلي بن شيبة، كلاهما عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1) أيضًا: ثنا أحمد بن يونس، نا زهير، نا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، عن عبد الله بن عمرو:"أن رسول الله عليه السلام قال: إذا قضى الإِمام الصلاة وقعد فأحدث قبل أن يتكلم فقد تمت صلاته، ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة".

قوله: "إذا قضى الإِمام الصلاة" معناه إذا فرغ منها وقعد في آخرها، فأحدث قبل أن يتكلم فقد تمت صلاته؛ لأنه لم يبق عليه شيء من الفرائض.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 167 رقم 617).

ص: 542

وفيه حجة على من يرى التسليم فرضًا، وحجة لأصحابنا في المصلي إذا سبقه الحدث بعد ما قعد قدر التشهد، لا يضر ذلك صلاته فيقوم ويتوضأ ويسلم لأنه لم يبق عليه إلا التسليم، فيأتي به.

وإن تعمد الحدث في هذه الحالة أو تكلم أو عمل عملا ينافي الصلاة تمت صلاته؛ لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان.

ومما يؤيد ذلك ما رواه أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "الحلية"(1): في ترجمة عمر بن ذر: حدثنا محمَّد بن المظفر، ثنا صالح بن أحمد، ثنا يحيى بن مخلد المفتي، ثنا عبد الرحمن بن الحسن أبو مسعود الزجاج، عن عمر بن ذر، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله عليه السلام كان إذا فرغ من التشهد أقبل علينا بوجهه وقال: من أحدث بعد ما فرغ من التشهد فقد تمت صلاته".

وما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال:"إذا جلس الإِمام في الرابعة ثم أحدث فقد تمت صلاته، فليقم حيث شاء".

قوله: "وقد روى هذا الحديث" أراد به حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه إبراهيم بن منقذ، ثم بين هذه الرواية بقوله: "حدثنا يزيد بن سنان

إلى آخره".

قوله: "فذكر مثل حديث أبي بكرة عن أبي داود" أبي ذكر يزيد بن سنان في حديثه في هذه الرواية مثل حديث أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الله بن المبارك.

قوله: "قال معاذ" أبي معاذ بن الحكم المذكور.

(1)"حلية الأولياء"(5/ 117).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 233 رقم 8469).

ص: 543

وأخرجه الترمذي (1) أيضًا، وقال: ثنا أحمد بن محمَّد، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة أخبراه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا أحدث -يعني الرجل- وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم، فقد جازت صلاته".

ص: واحتج الذين قالوا: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها بمقدار التشهد بما قد حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم، وأبو غسان -واللفظ لأبي نعيم- قال: ثنا زهير بن معاوية، عن الحسن بن حرّ، قال: حدثني القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله عليه السلام أخذ بيده وعلمه التشهد.

فذكر التشهد على مثل ما ذكرنا عن عبد الله في باب التشهد، وقال:"فإذا فعلت ذلك وقضيت هذا فقد تمت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".

حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا الحسن بن حرّ

فذكر مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا أبو معشر البراء، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام

ثم ذكر التشهد وقال: "لا صلاة إلا بتشهد"، فرووا ما ذكرنا من قول النبي عليه السلام.

ثم رووا من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما قد حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وكيع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:"التشهد انقضاء الصلاة، والتسليم إذن بانقضائها".

(1)"جامع الترمذي"(2/ 261 رقم 408).

ص: 544

ش: أي احتج الفريق الذين قالوا -وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، ومن كان معهم ممن ذكرناهم فيما مضى-: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها قدر التشهد، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وأخرجه عن أربع وجوه: ثلاثة مرفوعة، وواحد موقوف على ابن مسعود:

الأول: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وعن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، كلاهما عن زهير بن معاوية بن حديج، عن الحسن بن حر بن الحكم النخعي الكوفي، عن القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي، عن علقمة بن قيس الكوفي.

وهذا إسناد صحيح، ورجاله أئمة ثقات.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، ثنا زهير، نا الحسن بن حرّ، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني: "أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله عليه السلام أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة

فذكر مثل دعاء حديث الأعمش، إذا قلت هذا -أو قضيت هذا- فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".

الثاني: عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن الحسن بن حر

إلى آخره.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2): أنا أبو عروبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو البجلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا الحسن بن حرّ، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني: "أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن النبي عليه السلام أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة: التحيات لله، والصلوات

(1)"سنن أبي داود"(1/ 254 رقم 970).

(2)

"صحيح ابن حبان"(5/ 291 رقم 1961).

ص: 545

والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" قال زهير: غفلت حين كتبته من الحسن. فحدثني من حفظه عن الحسن بنفسه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" قال زهير: ثم رجعت إلى حفظي: "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ الأربعة، عن أبي معشر يوسف بن يزيد العطار البراء، سمي به لأنه كان يبري النبل، وقيل: العود، روى له الشيخان.

عن أبي حمزة -بالحاء المهملة، والزاي المعجمة- واسمه محمَّد بن ميمون السكري (1)، روى له الجماعة.

عن إبراهيم النخعي، عن علقمة.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البزار في "مسنده"(2): ثنا محمَّد بن مرداس، قال: ثنا محبوب بن الحسن، قال: ثنا أبو حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "كان النبي عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: تعلموها فإنه لا صلاة إلا بتشهد، يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات

" إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): ثنا عبدان بن أحمد، ثنا زيد بن الحرشي، ثنا صفدي بن سنان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:"كان النبي عليه السلام يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: تعلموا؛ فإنه لا صلاة إلا بالتشهد".

(1) تقدم مرارًا أنه أبو حمزة ميمون الأعور القصاب الكوفي. وهو المشهور بالرواية عن إبراهيم النخعي.

(2)

"مسند البزار"(5/ 17 رقم 1571).

(3)

"المعجم الكبير"(10/ 51 رقم 9922).

ص: 546

وهذا ظاهره متروك؛ بدليل حديث الأعرابي، والفرضية لا تثبت بخبر الآحاد، غاية ما في الباب تثبت به السنة، كما في قوله عليه السلام:"لا وضوء لمن لم يسم" و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وذهب إلى ظاهره أحمد وأبو ثور والليث وآخرون. وكذا قال الشافعي في التشهد الأخير.

الرابع: وهو الموقوف أخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حسان، عن أبي وكيع الجراح بن مليح، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي، عن عبد الله.

وأخرج البيهقي (1): من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال عبد الله:"مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإِمام فقم إن شئت" ومعنى اللفظين في الحقيقة واحد على ما لا يخفى، فقوله:"التشهد انقضاء الصلاة" يعني تنقضي الصلاة بالقعود مقدار التشهد، فهذا يدل على فرضية القعدة في آخر الصلاة؛ لأن ما ينقضي به الفرض فهو فرض بخلاف السلام، فإنه لا ينقضي به الفرض، وإنما هو إذن بانقضائه، أي: إعلام به.

وبقي الكلام في الحديث الأول من وجهين:

الأول: أن الخطابي زعم أنهم اختلفوا في هذا الكلام هل هو من قول النبي عليه السلام أو من قول ابن مسعود؟ فإن صح مرفوعًا إلى النبي عليه السلام ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي في التشهد غير واجبة.

وقال البيهقي بعد أن روى هذا الحديث: الأصح أنه من قول ابن مسعود، يعني قوله: "فإذا فعلت ذلك أو قضيت هذا

" إلى آخره.

وقال ابن حبان بعد أن أخرجه (2): وقد أوهم هذا الحديث من لم يُحكم الصناعة أن الصلاة على النبي عليه السلام ليست بفرض.

(1)"سنن البيهقي الكبري"(173/ 2 رقم 2790).

(2)

"صحيح ابن حبان"(5/ 291 رقم 1959)، وهو الحديث الذي قبل هذا.

ص: 547

فإن قوله: "إذا قلت هذا" زيادة أخرجها زهير بن معاوية في الخبر عن الحسن ابن حر.

ثم قال: ذكر بيان أن هذه الزيادة من قول ابن مسعود لا من قول النبي عليه السلام وأن زهيرًا أدرجه في الحديث.

ثم أخرجه (1): عن ابن ثوبان، عن الحسن بن حر، عن القاسم بن مخيمرة به سندًا ومتنا، وفي آخره قال ابن مسعود:"فإذا فرغت من هذا فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف".

ثم أخرجه (2): عن حسين بن علي الجعفي، عن الحسن بن حر، به، وفي آخره: قال الحسن: وزادني محمَّد بن أبان بهذا الإسناد قال: "فإذا قلت هذا فإن شئت فقم". قال: ومحمد بن أبان ضعيف قد تبرأنا من عهدته في كتاب "الضعفاء".

وقال الدارقطني في "سننه"(3) بعد أن أخرجه: هكذا أدرجه بعضهم في الحديث عن زهير، ووصله بكلام النبي عليه السلام، وفصله شبابة بن سَوَّار عن زهير فجعله من كلام ابن مسعود، وهو أشبه بالصواب؛ فإن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن حر كذلك وجعل آخره من كلام ابن مسعود، ولاتفاق حسين الجعفي، وابن عجلان، ومحمد بن أبان في روايتهم عن الحسن بن حر على ترك ذكره في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك، ثم ساق جميع ذلك بالأسانيد وفي آخره: قال ابن مسعود: "إذا فرغت من هذا

" إلى آخره.

والجواب عن ذلك جميعه من وجوه:

(1)"صحيح ابن حبان"(5/ 293 رقم 1962).

(2)

"صحيح ابن حبان"(5/ 294 رقم 1963).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 352 رقم 11).

ص: 548

الأول: أن أبا داود روى ل هذا الحديث وسكت عنه، ولو كان فيه ما ذكروه لنبه عليه؛ لأن عادته في كتابه أن يلوح على مثل هذه الأشياء، وكذلك الطحاوي سكت عن هذا ولم يلوح عليه.

الثاني: زعم أبو زيد الدبوسي وغيره أن هذه الزيادة رواها أبو داود الطيالسي، وموسى بن داود الضبي، وهاشم بن القاسم، ويحيى بن أبي كثير، ويحيى بن يحيى النيسابوري في آخرين متصلًا، فرواية من رواه مفصولا لا تقطع بكونه مدرجًا؛ لاحتمال أن يكون نسيه ثم ذكره، فسمعه هؤلاء متصلًا، وهذا منفصلًا، أو قاله ابن مسعود رضي الله عنه فُتْيا كعادته، وقد وجدنا في حديث الإفريقي الذي مضى ذكره عن قريب ما يدل على صحة هذا.

الثالث: أن ابن ثوبان الذي ذكره البيهقي وابن حبان قد ضعفه ابن معين، والبيهقي بنفسه ذكره في باب "التكبير أربعًا".

وكذلك غسان بن الربيع الذي روي عن ابن ثوبان ضعفه الدارقطني وغيره، وبمثل هذا لا تعلل رواية الجماعة الذين جعلوا هذا الكلام متصلًا بالحديث، وعلى تقدير صحة السند الذي روي فيه موقوفًا، فرواية من وقف لا تعلل بها رواية من رفع؛ لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود سمعه من النبي عليه السلام فرواه كذلك مرة، وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى من جعله من كلامه؛ إذ فيه تخطئة الجماعة الذين وصلوه، ثم لو سلمنا حصول الوهم في رواية من أدرجه لا يتعين أن يكون الوهم من زهير بل ممن رواه عنه؛ لأن شبابة رواه عنه موقوفًا.

الوجه الثاني: في استنباط الأحكام منه وهو على وجوه:

الأول: أنه ينافي فرضية الصلاة على النبي عليه السلام في الصلاة؛ لأنه عليه السلام علق التمام بالقعود، وهو حجة على الشافعي؛ لأن قوله:"إذا فعلت ذلك" إشارة إلى التشهد والمعنى: إذا قرأت التحيات، "أو قضيت هذا" أي القعود، وحاصل المعنى: إذا

ص: 549

قرأت التشهد وأنت قاعد؛ لأن قراءة التشهد في غير الصلاة لم تشرع، ولم تعتبر أو قعدت ولم تقل، فيكون التخيير في القول لا في الفعل؛ إذ الفعل ثابت في الحالين، وكل منهما لا يدل على وجوب الصلاة عليه عليه السلام.

وأيضًا أنه عليه السلام علّم التشهد لعبد الله بن مسعود، ثم أمر عقيبه أن يتخير من الدعاء ما يشاء، ولم يعلم الصلاة عليه، ولو كانت فرضًا لعلمه؛ إذ موضع التعليم لا يؤخر فيه بيان الواجب، وأيضًا لما علم الأعرابي أركان الصلاة لم يعلمه الصلاة عليه، ولو كانت فرضًا لعلمه إياها، وكذا لم ترد في تشهد أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ومن أوجبها فقد خالف الآثار. وقالت جماعة من أهل العلم: إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة، وليس له سلف يقتدي به، منهم ابن المنذر وابن جرير الطبري، والطحاوي، وهو يستدل بقوله تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ} (1) والأمر للوجوب، فلا تجب خارج الصلاة فتعينت الصلاة، وليس في الآية دلالة على ما قال؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، بل يجب في العمر مرة؛ كما اختاره الكرخي، أو كلما ذكر اسم النبي عليه السلام كما اختاره الطحاوي رحمه الله.

الثاني: أنه ينافي فرضية السلام في الصلاة؛ لأنه عليه السلام خير المصلي بعد القعود بقوله: "إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وهو حجة على الشافعي أيضًا حيث فرض السلام.

الثالث: احتج به أصحابنا على فرضية القعدة الأخيرة؛ وذلك لأنه عليه السلام علق تمام الصلاة بالقعود، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وهو حجة على مالك حيث لم يفترض القعدة الأخيرة.

فإن قيل: "أو" الأحد الشيئين، وليس فيه دلالة على ما ادعيتم؟

قلت: جوابه ما ذكرنا من قولنا: وحاصل المعنى

إلى آخره.

فإن قيل: كيف تثبت الفرضية بخبر الواحد؟

(1) سورة الأحزاب، آية:[56]

ص: 550

قلت: ليس الثبوت به، بل هو بالكتاب؛ لأن نفس الصلاة ثابتة به، وتمامها منها بالخبر بيان لكيفية الإتمام، والبيان به يصح كما في مسح الرأس.

الرابع: احتج به أبو يوسف ومحمد والإثنا عشرية المشهورة: أن الصلاة لا تبطل فيها؛ لأنه لم يبق عليه شيء، فاعتراض العوارض عليه كاعتراضها بعد السلام والله أعلم.

ص: ثم قد روي عن النبي عليه السلام أيضًا ما يدل على أن ترك السلام غير مفسد للصلاة، وهو أن رسول الله عليه السلام صلى الظهر خمسًا، فلما سلم أخبر بصنيعه، فثنى رجله فسجد سجدتين.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مفسدًا للصلاة؛ لأنه لو رآه مفسدا لها إذًا لأعادها، فلما لم يعدها وقد خرج منها إلى خامسة لا بتسليم، دل ذلك أن السلام ليس من صلبها، ألا ترى أنه لو كان جاء بالخامسة وقد بقي عليه مما قبلها سجدة كان بذلك يفسد الأربع؛ لأنه خلطهن بما ليس منهن، فلو كان السلام واجبا كوجوب السجود في الصلاة لكان حكمه أيضًا كذلك، ولكنه بخلافه فهو سنة.

ش: هذا بيان الحجة لمن قال السلام في آخر الصلاة سنة، على من قال: إنه فريضة، وقد بين ذلك بحديث عبد الله بن مسعود الذي رواه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي

إلى آخره.

ورواته كلهم ثقات قد تكرر ذكرهم.

ص: 551

والحديث أخرجه الجماعة (1) بوجوه متعددة، وبألفاظ مختلفة [كما سنذكره] في بابه، باب الرجل يشك في صلاته إن شاء الله تعالى، والباقي غني عن الشرح.

ص: وقد روي أيضًا في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: "إذا صلى أحدكم فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعًا، فليبن علي اليقين ويدع الشك، فإن كانت صلاته نقصت فقد أتمها، وكانت السجدتان ترغمان الشيطان، وإن كانت صلاته تامة كان ما زاد والسجدتان له نافلة".

فقد جعل رسول الله عليه السلام الخامسة زائدة، والسجدتن اللتين تطوعًا، ولم يجعل ما تقدم من الصلاة بذلك فاسدًا إذ كان المصلي قد خرج منها البتة، فثبت بذلك أن الصلاة تتم بغير تسليم، وأن التسليم من سننها لا من صلبها.

ش: حديث أبي سعيد الخدري أيضًا من جملة الدليل لمن قال بسنية السلام على من قال بفرضيته، وسيجيء بيانه في بابه إن شاء الله تعالى؛ فلذلك علقه ها هنا ولم يسنده.

وأخرجه مسلم، (2) وأبو داود، (3) النسائي، (4) وابن ماجه (5)، على ما يجيء إن شاء الله تعالى.

قوله: "ترغمان" أي تغيضان وتذلان من الرغام وهو التراب، ومنه أرغم الله أنفه.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 157 رقم 396)، "صحيح مسلم"(1/ 401 رقم 572)، "سنن أبي داود"(1/ 268 رقم 1019)، "جامع الترمذي"(2/ 238 رقم 392)، "المجتبى"(3/ 31 رقم 1254)، "سنن ابن ماجه"(1/ 380 رقم 1205).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 400 رقم 571).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 269 رقم 1024).

(4)

"المجتبى"(3/ 27 رقم 1238).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 382 رقم 1210).

ص: 552

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكان تصحيح معاني الآثار في هذا الباب يوجب ما ذهب إليه الذين قالوا: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها مقدار التشهد. لأن حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قد احتمل ما ذكرنا، واختلف في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام -على ما وصفنا، ولم يبق إلا حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو الذي يختلف فيه.

ش: أراد أن الآثار التي ذكرت في هذا الباب إذا نُظر فيها وصحح معانيها ظهر أن الذي ذهب إليه من قال: لا تتم الصلاة إلا بالقعود مقدار التشهد هو الصحيح، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تبعه في ذلك؛ وذلك لأن حديث علي رضي الله عنه الذي رواه محمد بن الحنفية عنه عن النبي عليه السلام قد بينا أنه لا يصلح أن يكون دليلا على أن يكون تمام الصلاة بالسلام، ولا لفرضية السلام.

وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قد بينا أنه مضطرب مختلف فيه، ولم يبق من ذلك سالمًا إلا حديث عبد الله بن مسعود الذي لم يختلف فيه، والاحتمال ينافيه؛ فحينئذ ثبت به قول من ذهب إلى أن الصلاة لا تتم إلا بالقعود قدر التشهد، وأنها تتم بدون السلام.

ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر؛ فإن الذين قالوا: إنه إذا رفع رأسه من آخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته، قالوا: إنا رأينا هذا القعود قعودا للتشهد، وفيه ذكر يُتَشَهَّد به، وتسليم يُخْرج به من الصلاة، وقد رأينا قبله في الصلاة قعودًا فيه ذكر يُتَشَهَّد به، فكل قد أجمع أن ذلك القعود الأول وما فيه من الذكر ليس هو من صلب الصلاة بل هو من سننها.

ثم اختلفوا في القعود الأخير، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كالقعود الأول ويكون ما فيه كما في القعود الأول فيكون سنة، وكل ما يفعل فيه سنة كما كان القعود الأول سنة وكل ما يفعل فيه سنة، وقد رأينا القيام الذي في كل الصلاة، والركوع، والسجود

ص: 553

الذين فيها أيضًا كله كذلك؛ فالنظر على ما ذكرنا أن يكون القعود فيها أيضًا كله كذلك، فكما كان بعضه باتفاقهم سنة؛ كان ما بقي منه كذلك أيضًا في النظر.

ش: هذا الوجه من النظر والقياس للفريق الذين ذهبوا إلى أن المصلي إذا رفع رأسه من السجدة في آخر الصلاة تمت صلاته ولا يبقى عليه شيء، وبين ذلك بوجهين:

أشار إلى الأول بقوله: "إنا رأينا هذا القعود قعودًا" إلى قوله: "وكل ما يفعل فيه سنة".

وإلى الثاني بقوله: "وقد رأينا القيام

إلى آخره"، وإنما خَصَّ هؤلاء بالذكر لهم بيان النظر والقياس؛ لأن الفريقين الآخرين متفقون في فرضية القعود في آخر الصلاة مقدار التشهد، وإنما الخلاف بينهم في لفظ السلام كما بيناه. فافهم.

ص: فاحتج عليهم الآخرون فقالوا: قد رأينا القعود الأول من قام عنه ساهيا فاستتم قائمًا أمر بالمضي في قيامه ولم يؤمر بالرجوع إلى القعود.

ورأينا من قام من القعود الأخير ساهيا فاستتم قائمًا أمر بالرجوع إلى القعود.

قالوا: فما يؤمر بالرجوع إليه بعد القيام عنه فهو فرض، وما لم يؤمر بالرجوع إليه بعد القيام عنه فليس ذاك بفرض، ألا ترى أن من قام وعليه سجدة من صلاته حتى استتم قائمًا أمر بالرجوع إلى ما قام عنه؛ لأنه قام فترك فرضًا، فأمر بالعود إليه، فكذلك القعود الأخير لما أمر الذي قام عنه بالرجوع إليه كان ذلك دليلًا أنه فرض، فلو كان غير فرض إذًا لما أمر بالرجوع إليه كما لم يؤمر بالرجوع إلى القعود الأول.

ش: هذا جواب عن وجه النظر الذي ذكره هؤلاء المذكورون، ملخصة أن يقال: الذي ذكرتم من قياس القعود الأخير على الأول في عدم الفرضية فاسد؛ لأنا وجدنا دليلًا يفرق بينهما بأن يجعل الأول سنة، والثاني فرضًا، وهو قوله:

ص: 554

"قد رأينا القعود الأول من قام عنه حال كونه ساهيا

إلى آخره" وهو ظاهر غني عن الشرح.

ولكن لهم أن يقولوا نحن ما نوجب الرجوع إلى القعود في الحالتين فيصح حينئذ القياس، ويمكن أن يجاب بأن الرجوع وإن لم يكن فرضًا لأجل القعود يكون فرضًا لأجل الخروج من الصلاة بالتسليمة إن كانوا يرونها فرضًا، وبغيرها إن لم يروها فرضًا، وفيه نظر لا يخفى. فافهم.

ص: فكان من الحجة عليهم للآخرين: أنه إنما أمر اللي قام من القعود الأول حتى استتم قائمًا بالمضي في قيامه، وأن لا يرجع إلى قعوده؛ لأنه قام من قعود غير فرض فدخل في قيام فرض، فلم يؤمر بترك الفرض والرجوع إلى غير الفرض، وأمر بالتمادي على الفرض حتى يتمه، وكان لو قام عن القعود الأول فلم يستتم قائمًا أمر بالعود إلى القعود؛ لأنه لما لم يستتم قائما فلم يدخل في فرض فأمر بالعود مما ليس بسنة ولا فرض إلى القعود الذي هو سنة، فكان يؤمر بالعود مما ليس بسنة ولا فريضة إلى ما هو سنة، ويؤمر بالعود من السنة إلى ما هو فريضة.

وكان الذي قام من القعود الأخير حتى استتم قائما داخلا لا في سنة ولا في فريضة، وقد قام من قعود هو سنة فأمر بالعود إليه، وترك التمادي فيما ليس سنة ولا فريضة، كما أمر اللي قام من القعود الأول الذي هو سنة فلم يستتم قائمًا فيدخل في الفريضة أن يرجع من ذلك إلى القعود الذي هو سنة، فلهذا أمر الذي قام من القعود الأخير حين استتم قائمًا بالرجوع إليه.

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا هو النظر عندنا في هذا الباب لا ما قال الآخرون، ولكن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ذهبوا في ذلك إلى قول الذين قالوا: إن القعود الأخير مقدار التشهد من صلب الصلاة.

ش: لما أجاب عن وجه النظر والقياس الذي ذكره أولئك القوم فيما ذهبوا إليه، بَيَّنَ ها هنا وجه النظر والقياس الصحيح الذي ذكره مخالفوهم، وفي هذا أيضًا جواب

ص: 555

عن النظر الذي ذكره أولئك القوم مع بيان القياس الصحيح، ولهذا رأيت في بعض النسخ قد ذكر فيه قوله:"فاحتج عليهم الآخرون" إلى قوله: "أمر بالرجوع إلى القعود الأول" فقط ولم يزد عليه وذكر عقيبه: "ولكن أبا حنيفة

" إلى آخره، وفي بعض النسخ ذكر قوله: "فكان من الحجة عليهم للآخرين

" إلى آخره فقط من غير ذكر قوله: "فاحتج عليهم الآخرون". وفي بعضها ذكر ذا وذا، وهو الأكثر.

ووجهه ما ذكرنا وللقائل أن يقول: قوله: "فدخل في قيام فرض" غير مسلم؛ لأن القيام الفرض هو الذي يكون عقيب القعود، وهذا القيام في حكم القعود، ولهذا يؤمر بالرجوع إذا لم يحصل كماله.

ص: وقد قال بما قالوا من ذلك بعض المتقدمين:

حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، عن يونس، عن الحسن:"في الرجل يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر سجدة، قال: لا تجزئه حتى يتشهد أو يقعد قدر التشهد".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا سعيد بن سابق الرشيدي، قال: ثنا حيوة بن حدثنا عن ابن جريج قال: "كان عطاء يقول: إذا تشهد الرجل التشهد الأخير فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأحدث -وإن لم يكن سلم عن يمينه وعن يساره- فقد تمت صلاته، أو قال: فلا يعود إليها".

ش: أي قد قال بما قال الفريقان من ذلك أي من وجوب القعدة الأخيرة وعدم وجوب التسليمة بعض المتقدمين من السلف، فممن قال بوجوب القعدة الأخيرة منهم: الحسن البصري.

أخرج ذلك عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس عبد الرحمن التميمي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الحسن البصري.

ص: 556

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال:"إذا رعف بعد ما يفرغ من السجدة الأخيرة فلينصرف وليتوضأ، فليرجع فليتشهد ما لم يتكلم، فإن تكلم استأنف الصلاة"

وقد روي عن الحسن خلافة أيضًا، قال ابن أبي شيبه في "مصنفه" (2): ثنا حفص، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن قالا:"إذا رفع رأسه ثم أحدث فقد أجزأته صلاته".

وكذ روى عن إبراهيم (3): ثنا حفص، عن حجاج، عن طلحة، عن إبراهيم قال:"إذا أتم الركوع والسجود، ثم أحدث فقد انقضت صلاته، وإن لم يتشهد".

وممن قال بعدم وجوب التسليمة: عطاء بن أبي رباح.

أخرجه عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن سعيد بن سابق بن الأزرق الرشيدي مولى عبيد الله بن حجاب يكنى أبا عثمان، ذكره ابن يونس في علماء مصر، وسكت عنه، والظاهر أن نسبته إلى رشيد بلدة بساحل مصر قريبة من الإسكندرية.

وهو يروي عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، روى له الجماعة.

عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي أحد مشايخ أبي حنيفة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 233 رقم 8475).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 233 رقم 8471).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 233 رقم 8474).

ص: 557

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن هشيم، عن ابن جريج، عن عطاء، نحوه.

وأخرج عنه عبد الرزاق في "مصنفه"(2) بخلاف ذلك: عن ابن جريج، عن عطاء:"في رجل أحدث في صلاته قبل أن يتشهد، قال: فحسبه فلا يعد". والله أعلم (3).

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(8476).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 353 رقم 3674).

(3)

وكتب المؤلف رحمه الله: فرغت يمين مؤلفه عن تبييضه وتنقيحه يوم الأربعاء السادس والعشرين من ربيع الآخر عام تسعة عشر وثمانمائة بحارة كتامة بالقاهرة المحروسة بمدرسته التي أنشأها فيها عمرها الله بذكره، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا إتمامه، بحرمة محمَّد وآله الكرام عليه أفضل السلام.

يتلوه الجزء الثالث إن شاء الله تعالى، وأوله: باب الوتر.

ص: 558