الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَن يهدهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَاّ إله إلَاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه؛ أمَّا بعد:
فإنه من المقطوع به عند أهل السنةِ والجماعةِ أنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ (1) يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتارة يقولون: الإيمان: قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان (الجوارح) ، واعتقادٌ بالجَنان (القلب)،وتارة يقولون: قولٌ وعملٌ ونِيَّةٌ،ولهم عباراتٌ لا تختلف عن هذه في معناها، وقد حكى غيرُ واحدٍ إجماعَ الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين على ذلك، ومن هؤلاء الشافعي (2) والبغوي (3)
(1) قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
(2)
قال ابن تيمية في كتاب "الإيمان"(ص292) : ((قال الشافعى رضى الله عنه في كتاب الأم فى باب النية فى الصلاة
…
وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر)) قلت:لم يرد هذا النقل في كتاب الأم المطبوع فليُستدرك من هنا.
(3)
قال في "شرح السنة"(ص38) : ((اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان،
…
وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة
…
))
وابن عبد البر (1) وغيرهم. بل أصبح هذا مما يميزهم عن أهل البدع.
كما أنَّه من المقطوعِ به عندهم أنَّ من الأقوالِ والأعمالِ ما هو كفرٌ أكبر يُخرج من الملة، وقد حكى غيرُ واحدٍ الإجماع على أنَّ سبَّ اللهِ ورسولِه كفرٌ مخرج من الملة، ومن هؤلاء: الإمام إسحاق بن راهوية ومحمد بن سحنون (2) وغيرهما. فظنَّ بعض الناس أنَّ الكفرَ العمليَّ لا يخرج صاحبه من الإسلام وأنَّ سبَّ الله ورسوله مستثنى من ذلك (3) ،
وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة. بل حكى غيرُ واحدٍ الإجماع على أنَّ الكفرَ يكون
(1) قال في التمهيد (9/28) : ((أجمع أهل الفقه والحديث على أنَّ الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنيَّة
…
))
(2)
انظر النقولات عنهم من هذا الكتاب.
(3)
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (2/34) السئوال التالي: ((اعتبارهم تاركَ الصَّلاة كافراً كفراً عملياً والكفر العمليُّ لا يخرِجُ صاحبَه من المِلَّة إلَاّ ما استثنَوْه من سبِّ الله تعالى وما شابهه فهل تارك الصلاة مستثنىً وما وجه الاستثناء؟
فأجابت: ليس كلُّ كفرٍ عمليٍّ لا يخرج من ملَّة الإسلام، بل بعضه يخرج من ملَّة الإسلام))
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز كما في مجلة الفرقان الكويتية، العدد (94) :((الذَّبحُ لغيرِ الله، والسُّجود لغير الله،كفرٌ عمليٌّ مُخرجٌ من الملَّة، وهكذا لو صلَّى لغير الله أو سجد لغيره سبحانه، فإنَّه يكفر كفراً عمليَّاً أكبر- والعياذ بالله - وهكذا إذا سبَّ الدِّين، أو سبَّ الرَّسول، أو استهزأ بالله ورسوله، فإنَّ ذلك كفرٌ عمليٌّ أكبر عند جميع أهل السُّنَّة والجماعة))
لذا قال الشيخ حافظ الحكمي في "أعلام السنة النشورة"(ص182) " ((نحن لم نعرِّف الكفر الأصغر بالعمليِّ مطلقاً، بل بالعمليِّ المحض الذي لم يستلزم الاعتقادَ ولم يناقض قولَ القلبِ ولا عملَه))
بالقولِ أو الفعلِ أو الإعتقادِ، ومن هؤلاء: العلَاّمة ابن حزم (1) والشيخ سليمان آل الشيخ (2) والشيخ عبد الله أبابطين (3) والشيخ محمد بن ابراهيم (4) ، فسقطت دعوى الاستثناء والحمد لله، ومن فرَّق بين سبِّ الله أو رسوله وبين أي قولٍ أو عملٍ أجمع المسلمون أنه كفر كالذبح لغير الله أو السجود لصنمٍ أو نحو ذلك فعليه الدليل. فلا يظنُّ ظانٌ أَنَّ في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، إذ لا يستطيع أحدٌ أَنْ يحكي عن واحدٍ من علماء أهل السنة والجماعة خلاف ذلك البتَّةَ.
هذا وقد تردَّدت في الآونة الأخيرة مسألة التَّكفير بالقول والعمل، وزعم بعضُهم أنَّه لا يكفُر إلَاّ من اعتقد الكفر، أمَّا من تلفَّظ به أو عمل ما هو كفرٌ صراحةً فلا يكفر؛ إذ الكفر هو
(1) قال في "الفِصَل"(3/245) . ((بقي من أظهر الكفر: لا قارئاً ولا شاهداً، ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمَّة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله ? بذلك، وبنصِّ القرآن على من قال كلمة الكفر إِنَّه كافرٌ))
(2)
قال في "الدلائل"(ص30) : ((أجمع العلماء على أَنَّ من تكلَّم بالكفر هازِلاً أَنَّه يكفر. فكيف بمن أظهر الكفرَ خوفاً وطمعاً في الدُّنيا؟ !
…
))
(3)
قال كما في "مجموعة الرسائل والمسائل"(1/659) : ((والمرتدُّ هو الذي يكفر بعدَ إسلامه بكلامٍ أو اعتقادٍ أو فعلٍ أو شكٍّ وهو قبل ذلك يتلفَّظ بالشَّهادتين ويصلي ويصوم، فإذا أتى بشيءٍ مما ذكروه صار مرتدَّاً مع كونه يتكلَّم بالشَّهادتين ويصلي ويصوم ولا يمنعه تكلُّمه بالشَّهادتين وصلاته وصومه عن الحكم عليه بالرِّدَّة، وهذا ظاهرٌ بالأدلَّة من الكتابِ والسُّنَّة والإجماع))
(4)
قال في شرحه لكشف الشبهات (ص102) : ((فهذا المذكور في هذا الباب إجماع منهم أنه يخرج من الملة ولو معه الشهادتان، لأجل اعتقادٍ واحد أو عملٍ واحد أو قولٍ واحد، يكفي بإجماع أهل العلم لا يختلفون فيه))
الاعتقاد فقط ـ وهذا هو مذهب المرجئة المذموم ـ، مستدلِّين بتقسيم بعض العلماء الكفر إلى عمليٍّ واعتقاديٍّ، وأنَّ الأول كفرٌ أصغرُ والثاني كفرٌ أكبرُ، دون تفريقٍ بين الكفر العمليِّ الذي يعنيه العلماء والكفر بالعمل أو الأعمال المكفِّرة.
ومن هنا نشأت شبهة أخرى وهي أنَّ المرء لو عمل عملاً كفريَّاً، كالسُّجود لصنمٍ أو صليبٍ، أو قال قولاً كفريّاً،كَسَبِّ الله ورسوله، أو استهزأ بآيات الله لشهوةٍ أو غرضٍ دنيويٍ فإنَّه لا يكفُر ما لم يعتقد؛ فعدُّوا ذلك مانعاً من موانع التَّكفير، والذي عليه علماء أهل السنة والجماعة أنَّ موانع التكفير أربعة:((الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه)) ، فمن وقع في كفرٍ عملاً أو قولاً ثم أقيمت عليه الحجة وبُيِّن له أنَّ هذا كفرٌ يخُرج من الملة فأصَرَّ على فعله طائعاً غير مُكْرَهٍ، متعمّداً غير مخطىءٍ ولا متأوّلٍ فإنَّه يكفر ولو كان الدافع لذلك الشهوة أو أيّ غرضٍ دنيويٍّ، وهذا ما عليه أهل الحق وعليه ظاهرين إلى قيام الساعة إن شاء الله.
ولما رأيتُ بعضَهم يستشهد بأقوالٍ محتملةٍ لبعض العلماء، نشطْتُ لجمع جملةٍ من أقوالهم في هذه المسألة. فتحصل لي منها مئات الأقوال لأكثر من مئةِ عالم، نقل بعضهم الإجماع كما تقدم.
وهنا لابدّ من توضيحِ أمورٍ تتعلَّق بمنهج الكتاب:
أولاً:مجمَل أقوالِ العلماءِ التي جمعتُها تنحصر في خمس عباراتٍ:
1-
أنَّ الكفرَ يكون بالقول أو الفعل. فلم يقيّدوه بالاعتقادِ (1) .
2-
أنَّ الكفرَ يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد. فغايروا بينها (2) .
3-
أنَّ الكفرَ يكون بالقول أو الفعل ولو لم يُعْتَقَد، فنصُّوا على عدمِ شرطيَّةِ الاعتقاد (3) .
(1) ومن هؤلاء: نافع مولى ابن عمر، الشافعيّ، إسحاق بن راهويه، محمد بن سحنون، ابن جرير الطبريّ، أبو الحسن الأشعريّ، البربهاريّ، الجصّاص، ابن عبد البرّ، الجوينيّ،البزدويّ، إلكيا الهرَّاسيّ، ابن العربيّ، الرازيّ، الكاسانيّ، الفرغان صاحب فتاوى قاضيخان،ابن الجوزيّ، القرطبيّ، القرافيّ، ابن القيّم، ابن مفلح، ابن رجب، البزاز صاحب الفتاوى البزازية، ابن حجر العسقلانيّ، المرداويّ، الحمويّ، العدويّ، الشوكانيّ، رشيد رضا، الحكميّ، الشنقيطي.
(2)
ومن هؤلاء: ابن شاس، ابن قدامة، ابن الحاجب، الوردي، السبكيّ، خليل بن إسحاق، العثمانيّ، ابن فرحون، الطرابلسيّ، المحلّي، الأقفهسيّ، الرصَّاع، ابن قاسم الغزيّ، زكريّا الأنصاريّ، ابن النجّار، المليباريّ، المناويّ، مرعيّ بن يوسف، البهوتيّ، محمد بن غريب، البجيرميّ، الدسوقيّ، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، البكريّ، القنوجيّ، أحمد بن عيسى، ابن ضويان، ابن سعديّ، اللجنة الدائمة للإفتاء، بكر أبو زيد.
(3)
ومن هؤلاء: أبو ثور، السمرقنديّ، ابن حزم، القاضي عياض، ابن مازه، النوويّ، ابن تيميّة، علاء الدين البخاريّ، المحبوبيّ، الأندربتي الدهلويّ، التفتازانيّ، الزركشيّ، ابن الوزير، ابن الهمّام، المنهاجيّ الأسيوطيّ، الأقفهسيّ، ابن أمير الحاج، منلا خسرو، عميرة، ابن نجيم، الهيتميّ، الخطيب الشربينيّ، القليوبيّ، زاده داماد، الكفويّ، المقبليّ، الصنعانيّ، الجمل، محمد بن عبد الوهّاب، الشرقاويّ، الرحيبانيّ، عبد الله بن محمد بن عبد الوهّاب، ابن عابدين، البيجوريّ، أبابطين، عليش، حمد بن عتيق، جمال الدين القاسميّ، الألوسيّ، الكشميريّ، محمد بن إبراهيم، ابن عثيمين، ابن جبرين، الفوزان، بكر أبو زيد، الموسوعة الفقهيّة الكويتيّة.ومن ألفاظهم: ولو لم يعتقد، وإن لم يعتقد، ولا معتقدٍ له، من غير اعتقادٍ له،وسواء اعتقدوه أو لم يعتقدوه، سواء (لا فرق) صدر (قاله) عن اعتقاد أو عناد أو..، سواء كان يعتقد أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، ولا ينفعه ما في قلبه، وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، جادّاً أو هازلاً (لاعباً)(مازحاً) ، الردّ على من قال أن مبنى الرّدّة على الاعتقاد، الردّ على من قال لا يكفر حتى يعتقد. إلى غير ذلك من الألفاظ.
4ـ أنَّ الكفرَ يكون بالقول والفعل ولو لحظٍّ من حظوظِ الدُّنيا (1) .
5ـ ردودٌ أو إنكارٌ على الجهميّة والمرجئة الذين يشترطونَ الاعتقاد أو الاستحلال (2) .
ومن تأمَّل هذه العبارات يجد أن مؤدَّاها واحدٌ وإنْ كان بعضُها أصرح من بعضٍ في بيان المقصود.
(1) وممن صرَّح بذلك: ابن تيميّة، ابن كثير، محمد بن عبد الرحمن المغربيّ، المقبليّ، محمّد بن عبد الوهّاب، سليمان بن عبد الله آل الشيخ، حمد بن عتيق، محمّد بن إبراهيم، الفوزان. ومن ألفاظهم: وإن كان سببه حبّ الدّنيا على الآخرة، بسبب إيثار الدّنيا لا بسبب العقيدة،طمعاً في الدّنيا، من أجل التّجارة، خوفاً من نقصِ مال، مدارة لأحد، أو لغير ذلك من الأغراض، سببه حظّاً من حظوظ الدّنيا، من أجل ماله أو بلده أو أهله، سببه قوة الشهوة. إلى غير ذلك من الألفاظ.
(2)
ومن هؤلاء: ابن عيينة، الشافعيّ، الحميديّ، أحمد بن حنبل، ابن حزم، ابن تيميّة، الفوزان.
ثانياً: نقلْتُ أقوال بعض فقهاء المذاهب من الأشاعرة والماتريديَّة ممَّن خالطهم شيءٌ من الإرجاء لأنَّ ذلك أبلغ في الاستشهاد وإن كان قدوتنا علماء السُّنَّة القائلين بأن الإيمان قولٌ وعملٌ.
ثالثاً: رتَّبْتُ العلماءَ على حسب وَفَيَاتِهم، والأحياءَ منهم على حسب ولادَتِهم.
فكان منهم:
1 -
أئمةٌ أعلامٌ من القرون الأولى أمثال: نافع مولى ابن عمر، وابن عيينة، والشافعيّ، والحميديّ، وإسحاق، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن سحنون، وابن جرير الطبريّ، وأبو الحسن الأشعريّ، والبربهاري.
2 -
ومنهم مفسِّرون أوردْتُ كلامَهم عند تفسيرهم لبعض الآيات. مثل: الجصّاص، وإلكِيا الهرَّاسي،وابن العربي،والرّازي، وابن الجوزي، والقرطبي، وابن كثير، والقاسمي، والألوسي.
3 -
ومنهم علماءُ مجتهدون: كابن حزم (الظاهري) ، وابن عبد البرِّ (المالكيّ) ، والنوويّ (الشافعيّ) ، وابن تيميّة (الحنبليّ) ، وابن القيِّم (الحنبليّ) ، وابن الوزير، وابن حجر العسقلانيّ (الشافعيّ) ، والمقبليّ، والصنعانيّ، والشوكانيّ، وصِدِّيق خان.
4 -
ومنهم فقهاءُ مذاهبٍ لا يسلم كثيرٌ منهم من شيء من الإرجاءِ.
فمن الحنفيَّة: السمرقنديِّ، والبزدويِّ، والكاسانيِّ، وابن مازه، والبزَّاز، وابن الهُمام، وابن أمير الحاج،، وابن نجيم، والكفَويِّ، وابن عابدين. وغيرهم.
ومن المالكيَّة: القاضي عِياض، وابن شاس، وابن الحاجب، والقرافيِّ، وخليل بن إسحاق،وابن قاسم الرصَّاع، والعَدويِّ الشهير بالدردير، والدسوقيِّ، والشيخ عليش، وغيرهم ممَّن تقدم من المفسِّرين كابن العربي والقرطبيِّ.
ومن الشافعيّة:إمام الحرمين الجُوَينيِّ، والسُّبكيِّ، وجلال الدين المحليِّ، ومحمد بن قاسم الغَزِّيِّ، وزكريَّا الأنصاريِّ، وعميرة، وابن حجر الهيتَميِّ، والشربينيِّ، والقليوبيِّ،والعُجيليِّ المشهور بالجمل، والبجيرميِّ، والشرقاويِّ، والبيجوريِّ، والبكريِّ. وغيرهم.
ومن الحنابلة: ابن قُدامة، وابن مفلح، وابن رجب، والمرداوي، وابن النجار، والكرميِّ، والبهوتيِّ، والرحيبانيِّ، وابن ضويان،وغيرهم.
5 -
ومنهم طائفة من علماء الدَّعوة النجديَّة: كالإمام محمّد بن عبد الوهاب وابنه عبد الله وحفيداه سليمان بن عبد الله وعبد الرَّحمن بن حسن، ومحمد بن غريب، وأبابطين، وحمد بن عتيق، وأحمد بن عيسى.
6 -
ومنهم معاصِرون: كأنور شاه الكشميريِّ، ورشيد رضا، والسعديِّ، والحكميِّ، ومحمد بن إبراهيم، والشنقيطيِّ.
ومن الأحياء: ابن باز، وابن عثيمين، وابن جبرين، والفوزان، وبكر أبوزيد.
ومن أعضاء اللجنة الدائمة في السعودية غير من ذُكر: العفيفي، وآل الشيخ،وابن قعود.
رابعاً: آثرت أن أبقي كلام من نقلت عنهم كما هو ولم أعلِّق عليه إلا تعليقاتٍ يسيرةٍ وذلك لوضوح كلامهم وجلائه.
خامساً: لم أنقل كلام العلماءِ المتعلِّق بتكفيرِ تاركِ الصَّلاة، وهم جمهور أصحاب الحديث، علماً أنَّها أقوالٌ كثيرةٌ جداً مبثوثةٌ في كتب السَّلَف؛ وذلك لأَنَّها مسألة اختلف فيها أصحاب الحديث (1) . ولكن هاهنا مسألةٌ مهمَّةٌ، وهي أَنَّ أصحاب الحديث الذين لم يكفِّروا تاركَ الصَّلاة؛ لا يعنون أَنَّ الصَّلاةَ عملٌ والعمل
(1) قال الإمام محمد بن نصر المروزيّ في "تعظيم قدر الصلاة"(2/925-936) : ((ذكرنا الأخبار المروية عن النبي? في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملَّة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك. ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك في تأويل ما روي عن النبي ? ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في إكفار تاركها، وإيجاب القتل على من امتنع من إقامتها.-ثم أورد مقالة الفريق الأول-وقال: قد حكينا مقالة هؤلاء الذين أكفروا تارك الصلاة متعمّداً، وحكينا جملة ما احتجّوا به، وهذا مذهب جمهور أهل الحديث. وقد خالفتهم جماعة أخرى من أصحاب الحديث، فأبوا أن يكفّروا تارك الصلاة، إلا أن يتركها جحوداً أو إباءً واستكباراً واستنكافاً ومعاندة فحينئذٍ يكفّر. وقال بعضهم: تارك الصلاة كتارك سائر الفرائض عن الزّكاة، وصيام رمضان، والحجّ. وقالوا: الأخبار التي جاءت في الإكفار بترك الصلاة نظير الأخبار التي جاءت في الإكفار بسائر الذنوب)) .
لا يكفّر تاركه أو فاعله بغير اعتقادٍ أو استحلالٍ أو تكذيبٍ، فهذه لَوْثَةٌ إرجائيَّةٌ حاشاهم منها.
بل كما نقَلَ عنهم المروزيُّ قالوا: ((الأخبار التي جاءت في الإِكْفار بترك الصَّلاة نظير الأخبار التي جاءت في الإِكْفار بسائر الذُّنوب)) فهم نظروا إلى الأدلة التي ظاهرها التَّعارض فجمعوا بينها ورجَّحوا عدم إِكْفار تارك الصَّلاة كتارك الصَّوم والزَّكاة،إلَاّ إذا تركها جُحوداً أو إِباءً أو استنكافاً. ولم يُنْقَل عن أحدٍ منهم أَنَّ الصَّلاة عمل وليست اعتقاداً ولا يكفُرُ تاركَ العمل! كما أَنَّهم لم يعدّوا من يكفِّر تاركها بمثابة الخوارج الَّذين يكفِّرونَ بالذُّنوب، وهذا إقرارٌ منهم أَنَّ تاركّ العمل قد يخرج من الملَّة، لكن لم يترجَّحْ عندهم ذلك في شأْنِ تارك الصَّلاة.
سادساً: هناك من فقهاء المذاهب الذين نقلْتُ عنهم ممَّن كفَّر بالقول أو العمل لكن علَّل ذلك بعباراتٍ لم تُعْهد من السَّلف - تدلُّ على تأثُّرهم بالمرجئة -. كقولهم: هذا الفعل ليس كفراً لكنّه يدلُّ على الكفر، أو علامة على الكفر (1) . وكقولهم: لم يكفر بالعمل لكن كَفَرَ للاستخفاف (2) ،
أو للتكذيب، أو لعدم
(1) وقد نسب هذا الرأي الشهرستانيّ لبشر المريسيّ من المرجئة فقال: ((وإلى هذا المذهب ميل ابن الرواندىِّ وبشر المريسيِّ قالا: ((الإيمان هو التَّصديق بالقلب واللسان جميعاً والكفر هو الجحود والإنكار، والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة الكفر)) )) انظر: "الملل والنحل"(1/144) دار المعرفة. ط1404 هـ.
(2)
وقد نسب هذا الرأي إلى المرجئه، الشهرستانيّ في "الملل" وأبو الحسن
الأشعريّ في "المقالات" وأقره شيخ الإسلام. قال أبو الحسن: (( (الفرقة العاشرة) : من المرجئة أصحاب أبي معاذ التومني
…
وكان أبو معاذ يقول: من قتل نبياً = = أو لطمه كفر وليس من أجل اللّطمة كفر ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له)) انظر: "مجموع الفتاوى"(7/547)
التصديق، أو أن هذا العمل ليس كفراً لكنَّه دليلٌ على عدم الاعتقاد أو ما شابه ذلك. وقد ردَّ عليهم ابن حزم ردّاً قويّاً (1) وكذا شيخ الإسلام ابن تيميَّة ونسب ذلك للجَهْم ومن وافقه (2) وقد يُشْكِلُ على البعض عبارات صدرت لبعض العلماء علَّلَت التَّكْفير بالتَّكْذيب (3) أو الإرادة (4) أو أَنَّها مُسْتَلزمة للكفرالاعتقاديِّ (5) ، فَفَرْقٌ بين من يقول هذا العمل أو القول كفرٌ لكذا، وبين من يقول هذا ليس كفراً لكنَّه دليلٌ أو علامةٌ على الكفر فالأوَّل يثبت الكفر ويعلِّلُه والآخر ينفي الكفر ويُثْبِتُ دليلَه أو علامتَه.
سابعاً: سيلحظ القاريءُ أَنَّ بعض العبارات والجمل مكرَّرةٌ أو متشابهةٌ، وخاصّةً في النُّقولات عن فقهاء المذاهب وذلك لأَنَّ بعض الكتب إِمَّا أَنْ تكون اختصاراً أو شرحاً أو حاشيةً على كتبٍ أخرى، والمعروفُ عن فقهاء المذاهب أَنَّهم
(1) انظر النقولات عنه من هذا الكتاب.
(2)
قال في كتاب "الإيمان"(ص384) بعد أن نقل كلام الإمام أحمد في تكفير من شدّ الزنار في وسطه، وصلّى للصليب
…
الخ: "قلت: ((هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احْتُجَّ به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيرُه بعضها، وهذا الإلزام لا مَحِيدَ عنه، ولهذا لما عرف متكلِّمهم مثل جهم ومن وافقه أنّه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافراً في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا)) .
(3)
انظر كلام ابن جرير الطبري.
(4)
انظر كلام أبي الحسن الأشعري.
(5)
انظر كلام حافظ الحكمي.
ينقلون عن بعضهم كثيراً، وإِنَّما أوردْتُ ذلك للتَّأكيد على أَنَّ التَّكفير بالقولِ والعملِ هو المذهبُ المعتمدُ عند أتباع المذاهب الأربعة.
ثامناً: هذا الكتاب ليس ردَّاً على شُبُهات المرجئة، فهذا يقتضي حصر شبهاتهم والردَّ عليها بالوَحْيَيْنِ - الكتاب والسنَّة - ثم ذكر أقوال الصَّحابة والتَّابعين ومن تبعهم من العلماء. لكنَّه ردٌّ على من ينسب للسَّلف القولَ بحصر التَّكفير في الاعتقاد فقط وأَنَّ هذا قول سائر العلماء، فأردْتُ أَنْ أُبَيِّنَ بُعْدَ هذا الزَّعم عن الصَّواب. أمَّا الرَّدُّ على المرجئة وشبهاتهم فقد كُفيناه منذ قرونٍ، وقد ظهرت في السَّنوات الأخيرةِ كتبٌ ورسائلُ قيِّمةٌ عن نواقض التَّوحيد، ونواقض الإيمان الاعتقاديَّة والقوليَّة والعمليَّة، والتَّكفير وضوابطه، وكتبٍ عن الإرجاء والمرجئة يمكن الرجوع إليها لمن أراد معرفةَ شبهاتهم والرُّدود عليها.
تاسعاً: وحيث كانت هذه النُّقولات تعالج مسألةَ التَّكْفير بالقول والفعل من جهة مغايرة لما عليه أهل الإرجاء، إلا أَنَّني أُحبُّ أَنْ أُنَبِّه إلى أََنَّ التَّكفير حكم شرعيٌّ له حدوده وضوابطه التي ينبغي مراعاتها، فلا بدَّ من قيام الحجَّةِ وتحَقُّق الشُّروط وانتفاء الموانع كالجهل والتَّأْويل والخطأ والإكراه، كما أَنَّه لابدَّ من التَّفْريق بين أّنْ تقول: هذا القول أو الفعل كفرٌ أو رِدَّةٌ، وبين التَّكفير المطلق كأَنْ تقول: من فعل كذا فهو كافرٌ أو مُرتَدٌّ، وبين تكفير المُعَيَّن فتقول: فلانٌ كافرٌ. وقد بسط هذا شيخ
الإسلام ابن تيميَّة (1) وغيره في كتبهم فلتراجع.
…
كما أُحبُّ أَنْ أُحذِّرَ من الوقوع في فتنة الإرجاء وشبهِهِ الضَّالَّة لخطورة آثاره السَّيِّئة على الإسلام والمسلمين.
وأخيراً أودُّ أَنْ أَخْتم هذه المقدِّمة بكلمات للعلَاّمة عبد الله أبا بطين لعل الله ينفع بها، قال رحمه الله:
((يتعيَّن على من نصح لنفسه وعلم أَنَّه مسئولٌ عمَّا قال ومُحاسَبٌ على اعتقاده وقوله وفعله أَنْ يُعِدَّ لذلك جواباً، ويخلع ثوبي الجهل والتعصُّب ويخلص القصدَ في طلب الحقِّ، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (2) ، وليعلم أَنَّه لا يخلِّصه إلا اتّباع كتاب الله وسنَّة نبيِّه، قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) } وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الألْبَابِ (4) } ولما كان قد سبق في علم الله وقضائه أَنَّه سيقع الاختلاف بين الأُمَّة أَمَرهم وأوجَبَ عليهم عند التنازع الردَّ إلى كتابه وسنَّة نبيِّه، قال تعالى: {فَإِنْ
(1) وذلك بقوله: ((وحقيقة الأمر في ذلك: أنّ القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجَّة التي يكفر تاركها)) انظر "مجموع الفتاوى"(23/345) .
(2)
سورة سبأ: 46.
(3)
سورة الأعراف: 3.
(4)
سورة ص: 29.
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (1) } قال العلماء رحمهم الله: الردُّ إلى الله الردُّ إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول الردُّ إليه في حياته والردُّ إلى سنَّتِه بعد مماته. ودلًّت الآية أَنَّ من لم يردَّ عند التنازع إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه فليس بمؤمنٍ لقوله تعالى:{إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (2)
فهذا شرطٌ ينتفي المشْروطُ بانتفائه، ومُحالٌ أَنْ يأمرَ الله النَّاس بالرَّدِّ إلى مالا يفصل النِّزاع، لاسيَّما في أُصول الدِّين التي لا يجوز فيها التقليدُ عند عامَّة العلماء، وقال الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) .
…
وقد قال بعض السلف: (ما ترك أحدٌ حقَّاً إلا لِكِبْرٍ في نفسِه) . ومصداقُ ذلك قولُ النبيِّ ? حين قال: (لا يدخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قلبِهِ مثْقالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)(4)) (5) .
واللهُ أعلمُ وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم.
كتبه
عَلَويُّ بن عبد القادر السَّقَّاف
الظهران
(1) سورة النساء: 59.
(2)
سورة النور: 2..
(3)
سورة النساء: 65.
(4)
رواه مسلم في الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه.
(5)
"الانتصار لحزب الله الموحِّدين"(ص67) .مكتبة ابن الجوزي. ط1-407هـ.