المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. ت: 728ه - التوسط والاقتصاد - جـ ١

[علوي السقاف]

فهرس الكتاب

- ‌خطاب مكتب المفتي العام

- ‌مقدمة

- ‌1. التَّابعيُّ الجليل نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه. ت:117ه

- ‌2. الإمام سفيان بن عيينة. ت:198ه

- ‌3. الإمام محمّد بن إدريس الشافعيّ. ت: 204ه

- ‌4. الإمام عبد الله بن الزّبير الحميديّ. ت:219ه

- ‌5. الإمام إسحاق بن راهويه المروزيّ. ت:238ه

- ‌6. الإمام أبو ثور إبراهيم بن خالد. ت:240ه

- ‌7. إمام أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل. ت:241ه

- ‌8. فقيه المغرب محمد بن سحنون المالكي. ت:265ه

- ‌9. إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. ت:310ه

- ‌10. الشيخ أبو الحسن عليُّ بن إسماعيل الأشعريّ. ت:324ه

- ‌11. شيخ الحنابلة الحسن بن علي البربهاري. ت:329ه

- ‌12. أبو بكر أحمد بن عليٍّ الجصَّاص (الحنفيّ) . ت:370ه

- ‌13- الإمام أبو القاسم هبةُ الله بن الحسن اللالكائيّ. ت: 418ه

- ‌14. محمد بن الوليد السمرقنديّ (الحنفيّ) : كان حيَّاً سنة450ه

- ‌16. الحافظ يوسف بن عبد الله بن عبد البر (المالكي) . ت:463ه

- ‌17. إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجوَينيّ (الشافعيّ) ت:478ه

- ‌18. عليُّ بن محمَّد البزدَويّ (الحنفيّ) . ت:482ه

- ‌19. عمادُ الدِّين عليُّ بن محمَّد الكِيا الهرَّاسي (الشافعيّ) . ت:504ه

- ‌20. القاضي أبو بكرٍ بن العربيّ (المالكيّ) . ت:543ه

- ‌21. القاضي عياض بن موسى (المالكيّ) . ت:544ه

- ‌22. فخر الدِّين محمَّد بن عمر الرَّازيّ. ت:544ه

- ‌23. علاء الدِّين مسعود بن أحمد الكاسانيّ (الحنفيّ) . ت:587ه

- ‌24. فخر الدِّين حسن بن منصور الفرغان (الحنفيّ) . ت:592ه

- ‌25. أبو الفرج عبد الرحمن بن عليٍّ ابن الجوزيّ. ت:597ه

- ‌26. جلال الدِّين عبد الله بن نجم بن شاس (المالكيّ) . ت:616ه

- ‌27. برهان الدِّين محمود بن أحمد بن مازه (الحنفيّ) . ت:616ه

- ‌28. عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسيّ (الحنبليّ) . ت:620ه

- ‌29. عثمان بن أبي بكرٍ المعروف بابن الحاجب (المالكيّ) . ت:646ه

- ‌30. أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي. ت:671ه

- ‌31. محيي الدين يحيى بن شرف النوويّ (الشافعيّ) . ت:676ه

- ‌32. شهاب الدِّين أحمد بن إدريسٍ القرافيّ (المالكيّ) . ت:684ه

- ‌شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة. ت: 728ه

- ‌34. علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري (الحنفي) . ت:730ه

- ‌35. عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاريّ (الحنفيّ) . ت:747ه

- ‌36. زين الدين عمر بن مظفر الوردي (الشافعي) . ت:749ه

- ‌37. الحافظ محمد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزيَّة. ت:751ه

- ‌38. تقيّ الدِّين عليُّ بن عبد الكافي السبكيّ (الشافعيّ) . ت:756ه

- ‌محمَّد بن مفلح المقدسيّ (الحنبليّ) .ت:763ه

- ‌39. الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير. ت:774ه

- ‌40. الشيخ خليل بن إسحاق (المالكيّ) . ت:776ه

- ‌41. محمَّد بن عبد الرحمن العثمانيّ (الشافعيّ) . ت: بعد 780ه

- ‌42. عالم بن العلاء الأندربتي الدهلويّ (الحنفيّ) . ت:786ه

- ‌43. سعد الدِّين مسعود بن عمر التفتازانيّ (الشافعيّ) . ت:792ه

- ‌44. بدر الدين بن محمَّد بهادر الزَّركشيّ (الشافعيّ) . ت:794ه

- ‌45. الحافظ عبد الرَّحمن بن أحمد ابن رجب (الحنبليّ) . ت:795ه

- ‌46. برهان الدِّين إبراهيم بن فرحون اليعمري (المالكيّ) . ت:799ه

- ‌47. محمَّد بن شهاب البزَّاز (الحنفيّ) . ت:827ه

- ‌48. العلَاّمة محمّد بن المرتضى ابن الوزير الصنعانيّ. ت:840ه

- ‌49. علاء الدِّين عليُّ بن خليل الطرابلسيّ (الحنفيّ) . ت:844ه

- ‌50. الحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني. ت:852ه

- ‌51. كمال الدين ابن عبد الواحد ابن الهمام (الحنفيّ) . ت:861ه

- ‌52. جلال الدِّين محمَّد بن أحمد المحليّ (الشافعيّ) . ت:864ه

- ‌53. محمَّد بن أحمد بن عماد الأقفهسي (الشافعيّ) . ت:867ه

- ‌54. محمّد بن محمّد بن محمّد (ابن أمير الحاج) (الحنفيّ) . ت: 879ه

- ‌55. محمَّد بن أحمد المنهاجيّ الأسيوطيّ (الشافعيّ) . ت:880ه

- ‌56. عليُّ بن سليمان المرداويّ (الحنبليّ) . ت:885ه

- ‌57. محمد بن فراموز (مُنلَاّ خِسرو) (الحنفي) . ت:885ه

- ‌58. أبو عبد الله محمّد بن قاسم الرصَّاع (المالكيّ) . ت:894ه

- ‌59. محمَّد بن قاسم الغزِّي (الشافعيّ) . ت:918ه

- ‌60. زكريَّا بن محمَّد الأنصاريّ (الشافعيّ) . ت:926ه

- ‌61. محمَّد بن عبد الرَّحمن المغربيّ (المالكيّ) . ت:954ه

- ‌62. شهاب الدِّين أحمد البرلُّسي (عميرة) (الشافعيّ) . ت:957ه

- ‌63. زين الدِّين بن إبراهيم الشهير بابن نجيم (الحنفيّ) . ت:970ه

- ‌64. محمَّد بن أحمد الفتوحي (ابن النجار) (الحنبليّ) . ت:972ه

- ‌65. أحمد بن محمَّد بن حجر الهيتميّ (الشافعيّ) . ت:973ه

- ‌66. محمَّد بن أحمد الخطيب الشربينيّ (الشافعيّ) . ت:977ه

- ‌67. زين الدِّين بن عبد العزيز المليباري (الشافعيّ) . ت:987ه

- ‌68. محمَّد عبد الرؤوف المناويّ (الشافعيّ) . ت:1031ه

- ‌69. مَرْعيّ بن يوسفٍ الكرميّ المقدسيّ (الحنبليّ) . ت:1033ه

- ‌70. منصور بن يونس البَهْوَتيّ (الحنبليّ) . ت:1051ه

- ‌71. أحمدُ بن أحمدَ شهاب الدِّين القليوبيّ (الشافعيّ) . ت:1070ه

- ‌72. عبد الرَّحمن بن شيخي زاده داماد (الحنفيّ) . ت:1078ه

- ‌73. أبو البقاء أيوب بن موسى الكفويّ (الحنفيّ) . 1095ه

- ‌74. أحمد بن محمَّد الحسينيّ الحمَويّ (الحنفيّ) . ت:1098ه

- ‌75. العلَاّمة صالح بن مَهْديّ المقبليّ. ت:1108ه

- ‌76. مجموعةٌ من علماء الهند الأحناف

- ‌77. العلَاّمة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصَّنعانيّ. ت:1182ه

- ‌78. أحمد العَدَويّ أبو البركات (الدَّردير) (المالكيّ) . ت:1201ه

- ‌79. سليمان بن عمر العُجيليّ (الجمل) (الشافعيّ) . ت:1204ه

- ‌80. الإمام المجدِّد محمَّد بن عبد الوهاب التميميّ. ت:1206ه

- ‌82. سليمان بن محمَّد بن عمر البجيرميّ (الشافعيّ) . ت:1221ه

- ‌83. عبد الله بن حجازي (الشرقاويّ) (الشافعيّ) . ت:1227ه

- ‌84. محمد بن بدر الدين بن بلبان. (الحنبلي) ت:1083ه

- ‌85. الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمّد بن عبد الوهَّاب. ت:1233ه

- ‌86. مصطفى بن سعد بن عبدَة الرُّحيبانيّ (الحنبليّ) . ت:1243ه

- ‌87. الإمام عبدُ الله بن محمَّد بن عبد الوهَّاب. ت:1244ه

- ‌88. العلَاّمة محمَّد بن عليٍّ الشَّوكانيّ. ت:1250ه

- ‌89. محمَّد أمين ابن عابدين (الحنفيّ) . ت:1252ه

- ‌90. شهاب الدِّين محمود بن عبد الله الآلوسي. ت:1270ه

- ‌91. إبراهيم بن محمَّد بن أحمد البيجوريّ (الشافعيّ) . ت:1277ه

- ‌92. الشيخ عبد الله بن عبد الرَّحمن أبابطين. ت:1282ه

- ‌الشيخ عبد الرَّحمن بن حسن بن محمَّد بن عبد الوهّاب. ت:1285ه

- ‌94. محمَّد بن أحمد المعروف بالشيخ عليش (المالكيّ) . ت: 1299ه

- ‌95. الشيخ حمد بن عليٍّ بن عتيق. ت:1301ه

- ‌96. أحد علماء الدعوة النجديَّة:

- ‌97. عثمان بن محمد شطا البكريّ (الشافعيّ) . ت:1302ه

- ‌98. العلَاّمة صدِّيق حسن خان القنوجي. ت:1307ه

- ‌99. الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى السديريّ. ت:1329ه

- ‌100. علامة الشَّام محمَّد جمال الدِّين القاسميّ. ت:1332ه

- ‌101. محمَّد أنور شاه الكشميريّ.ت: 1352ه

- ‌102. إبراهيم بن محمَّد بن ضويان (الحنبليّ) . ت:1353ه

- ‌103. السيد محمَّد رشيد رضا. ت:1354ه

- ‌104. العلَاّمة عبد الرَّحمن بن ناصر بن سعديّ. ت:1376ه

- ‌105. الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي. ت:1377ه

- ‌106. الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ. ت:1389ه

- ‌107. العلَاّمة محمَّد الأمين الشنقيطي. ت:1393ه

- ‌108. اللجنة الدائمة للبحوث العلميَّة والإفتاء (بالسعودية) :

- ‌109. الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز ت 1420 ه

- ‌110. الشيخ محمَّد بن صالح بن عثيمين [[ت 1421 ه

- ‌111. الشيخ عبد الله بن عبد الرَّحمن الجبرين

- ‌112. الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

- ‌114. "الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة

الفصل: ‌شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. ت: 728ه

فيه

)) (1) .

وقال: ((وأصل الكفر إِنَّما هو انتهاكٌ خاصٌّ لحرمة الرُّبوبيَّة، إمَّا بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العُلا، ويكون الكفر بفعلٍ كرمي المصحف في القاذورات أو السُّجود لصنم أو التردُّد للكنائس في أعيادِهم بزيِّ النَّصارى ومباشرة أحوالهم

)) (2) .

وفي "الذخيرة": ((الرِّدَّة

عبارة عن قطع الإسلام من مكلَّفٍ، وفي غير البالغ خلافٌ، إما باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات، ولكليهما مراتبُ في الظُّهور والخفاء)) (3)

33.

‌شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة. ت: 728ه

ـ

قال في "مجموع الفتاوى": ((فهؤلاء القائلون بقول جهم والصَّالحي قد صرَّحوا بأَنَّ سبَّ الله ورسوله: والتكلُّم بالتَّثليث وكلّ كلمة من كلام الكفر ليس هو كفراً في الباطن ولكنَّه دليل في الظَّاهر على الكفر ويجوز مع هذا أَنْ يكون هذا السابُّ الشاتِم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به فإذا أُقيمَتْ عليهم حجَّةٌ بنصٍّ أو إجماعٍ أَنَّ هذا كافرٌ باطناً وظاهراً. قالوا: هذا يقتضي أَنَّ ذلك مستلزِمٌ للتَّكذيب الباطن وأَنَّ الإيمان يستلزم عدم ذلك:

(1) انظر "أنوار البروق في أنواع الفروق"(1/224) دار الكتب العلمية ط1 - 1418هـ.

(2)

المصدر السابق (4/258) .

(3)

"الذخيرة"(12/13) . دار الغرب الإسلامي ط1 - 1994م.

ص: 48

فيقال لهم: معنا أمران معلومان:

(أحدهما) : معلومٌ بالاضطرار من الدِّين. و (الثاني) : معلوم بالاضطرار من أنفسِنا عند التأمُّل. أمَّا "الأول": فإنَّا نعلم أَنَّ من سبَّ الله ورسولَه طوعاً بغير كَرْه (1) ، بل من تكلَّم بكلمات الكفر طائعاً غير مُكْرَهٍ، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافرٌ باطناً وظاهراً، وإِنَّ من قال: إِنَّ مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإِنَّما هو كافرٌ في الظَّاهر، فإنَّه قال قولاً معلوم الفساد بالضَّرورة من الدِّين وقد ذكر الله كلماتِ الكفَّار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها ولو كانت أقوالهم الكفريَّة بمنزلة شهادةِ الشُّهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقِرُّ لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صِدْقاً وقد تكون كَذِباً، بل كان ينبغي أَنْ لا يعذِّبهم إلَاّ بشرط صِدْق الشَّهادة وهذا كقوله تعالى:{لقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ (2) } {لقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (3) وأمثال ذلك.

(1) أي بغير إكراه بدليل قوله: ((طوعاً بغير كَرْه)) ولو كان المقصود بغير كُرْه أي بغير بغض - كما ذكر بعضهم - لقال ((حباً بغير كُرْه)) وأيضاً بدليل قوله بعد ذلك: ((طائعاً غير مكره)) ثم من تأمّل كلامه رحمه الله في "الفتاوى" يجده دائماً يكرّر قوله طائعاً غير مكره ويستشهد بقوله تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) .

(2)

سورة المائدة: 73.

(3)

سورة المائدة: 17.

ص: 49

وأما "الثاني": فالقلب إذا كان معتقداً صدقَ الرَّسول، وأَنَّه رسول الله، وكان محِبَّاً لرسول الله معظِّماً له، امتنع مع هذا أن يلعنَه ويسبَّه فلا يُتَصَّور ذلك منه إلَاّ مع نوعٍ من الاستخفاف به وبحرمَتِه، فَعُلِم بذلك أنَّ مجرَّد اعتقاد أَنَّه صادق لا يكون إيماناً إلَاّ مع محبَّته وتعظيمه بالقلب)) (1) .

وقال أيضاً: ((قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُوْلئِكَ الذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ (109)(2) } ، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعدِ إيمانِهِ وذكر وعيدَه في الآخرة، ثم قال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ} وبَيَّن تعالى أَنَّ الوعيد استحقوه بهذا (3) . ومعلومٌ أَنَّ باب التَّصديق والتَّكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحبِّ والبُغْضِ، وهؤلاء يقولون إِنَّما استحقُّوا الوعيدَ لزوال التَّصديق والإيمان من قلوبهم، وإِنْ كان ذلك قد يكون سببه حبَُ الدُّنيا على الآخرة، والله سبحانه وتعالى جعل استحبابَ الدُّنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخُسْران. واستحباب

(1) انظر "مجموع الفتاوى"(7/557-558) .

(2)

سورة النحل: 106- 109.

(3)

أي استحقوا الكفر بسبب حبِّ الدُّنيا على الآخرة 0

ص: 50

الدُّنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتَّصديق بأَنَّ الكفر يضرُّ في الآخرة، وبأَنَّه مالَه في الآخرة من خَلاق.

و"أيضاً" فإِنَّه سبحانه استثنى المكْرَه من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلاّ بتكذيب القلب وجهله لم يُسْتَثْنَ منه المُكرَه، لأَنَّ الإكراه على ذلك ممتنعٌ فعُلِمَ أَنَّ التَّكلُّم بالكفركفرٌ إلَاّ في حال الإكراه.

وقوله تعالى: {وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: لاستحبابه الدُّنيا على الآخرة، ومنه قول النبي?:(يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدُّنيا)(1) فمن تكلَّم بدون الإكراه، لم يتكلَّم إلَاّ وصدرُه منشرحٌ به)) (2) .

وقال: ((فإن قيل: فقد قال تعالى: {وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} قيل: وهذا موافقٌ، لأوَّلها فإِنَّه من كفر من غير إكراهٍ فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشَّارح صدرَه، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستَثْنِ المكرَه فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكرَهُ وغير المكرَهِ إذا لم يشرح صدرَه، وإذا تكلَّم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها

(1) رواه مسلم في الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن

(2)

"مجموع الفتاوى"(7/599-561) تعليق: شيخ الإسلام هنا يقرر أن من تكلم بالكفر بدون إكراه فقد شرح بالكفر صدراً ولوكان الداعي لذلك حبّ الدّنيا وملذَّاتها.

ص: 51

صدراً وهي كفرٌ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّل عَليْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) } (1) فقد أخبر أَنَّهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنَّا تكلَّمْنا بالكفر من غير اعتقادٍ له، بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أَنَّ الاستهزاء بآيات الله كفرٌ، ولا يكون هذا إلَاّ ممَّن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمانُ في قلبه منعَه أنْ يتكلَّمَ بهذا الكلام)) (2) .

وقال في "الصارم المسلول": ((من قال بلسانه كلمةَ الكفرِ من غير حاجةٍ عامداً لها عالماً بأَنَّها كلمة كفرٍ فإِنَّه يكفرُ بذلك ظاهراً وباطناً، ولأنَّا لا نجوِّز أَنْ يقال: إِنَّه في الباطن يجوز أَنْ يكونَ مؤمناً، ومن قال ذلك فقد مَرَق من الإسلام، قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (3) } ومعلومٌ أَنَّه لم يُرِدْ بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأَنَّ ذلك لا يُكره الرَّجل عليه، وهو قد استثنى من أُكْرِه ولم يُرِدْ من قال واعتقد، لأَنَّه استثنى المُكرَه وهو لا يُكرَه على العقد

(1) سورة التوبة: 64-66.

(2)

"مجموع الفتاوى"(7/220) .

(3)

سورة النحل: 106.

ص: 52

والقول، وإِنَّما يُكرَه على القول فقط، فعلِم أَنَّه أراد من تكلَّم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذابٌ عظيم وأَنَّه كافرٌ بذلك إلَاّ من أُكرِه وهو مطمئنٌّ بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المُكرَهين فإِنَّه كافرٌ أيضاً، فصار من تكلَّم بالكفر كافراً إلَاّ من أُكرِه فقال بلسانه كلمةَ الكفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، وقال تعالى في حقِّ المستهزئين:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} )) (1) .

وقال أيضاً:

((وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِليْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَليْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)(2) } فبيَّن سبحانه أَنَّ من تولَّى عن طاعة الرَّسول وأعرض عن حكمِه فهو من المنافقين، وليس بمؤمنٍ، وأَنَّ المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأَطعنا، فإذا كان النِّفاق يثبُتُ، ويزولُ الإيمان بمجرَّد الإعراض عن حكم الرَّسول وإرادة التَّحاكم

(1)"الصارم المسلول"(ص 524) . المكتب الإسلامي ط1414هـ.

(2)

سورة النور: 47-51.

ص: 53

إلى غيرِه، مع أنَّ هذا ترك محضٌ، وقد يكون سببه قوَّة الشَّهوة، فكيف بالتنَّقص والسبِّ ونحوه؟)) (1) .

وقال أيضاً:

((ولا فرقٌ بين من يعتقد أَنَّ الله ربَّه، وأَنَّ الله أمره بهذا الأمر ثم يقول: إِنَّه لا يطيعه، لأَنَّ أمره ليس بصوابٍ ولا سدادٍ، وبين من يعتقد أَنَّ محمَّداً رسول الله وأَنَّه صادقٌ واجبُ الاتباع في خبره وأمره، ثم يسبّه أو يَعيب أمرَه أو شيئا من أحواله، أو تنقَّصه انتقاصاً لا يجوز أَنْ يستحقَّه الرَّسول، وذلك أَنَّ الإيمان قولٌ وعمل، فمن اعتقد الوحدانيَّة في الألوهيَّة لله سبحانه وتعالى، والرِّسالة لعبده ورسوله، ثم لم يُتْبِع هذا الاعتقاد موجَبَه من الإجلال والإكرام - الذي هو حالٌ في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل - كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد، ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصَّلاح، إذْ الاعتقادات الإيمانية تزكِّي النفوس وتصلِحها، فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحها فما ذاك إلَاّ لأَنَّها لم ترسخْ في القلب، ولم تصِرْ صفةً ونعتاً للنَّفس ولا صَلاحاً، وإذا لم يكُنْ علم الإيمان المفروض صفةٌ لقلب الإنسان لازمةٌ له لم ينفعه، فإِنَّه يكون بمنزلةِ حديث النَّفس وخواطر القلب، والنجاة لا تحصل إلا بيقينٍ في القلب، ولو أَنَّه مثقال ذرَّة. هذا فيما بينَه وبين الله،

(1)"الصَّارم المسلول"(ص43) . المكتب الإسلامي ط1414هـ.

ص: 54

وأمَّا في الظَّاهر فيُجري الأحكامَ على ما يظهِره من القول والفعل)) (1) .

وقال أيضاً: ((إنَّ من سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواءً كان السابُّ يعتقد أَنَّ ذلك محرَّم، أو كان مستحلاًّّ له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنَّة القائلين بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ

وكذلك نُقِلَ عن الشافعيّ أَنَّه سُئِل عمَّن هَزَلَ بشيءٍ من آياتِ الله تعالى أَنَّه قال: هو كافرٌ، واستدلَّ بقول الله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (2) } وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: من سبَّ الله كفر، سواءً كان مازحاً أو جادَّاً لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به

. ويجب أَنْ يعلم أَنَّ القول بأَنَّ كفر السَّابِّ في نفس الأمر إِنَّما هو لاستحلاله السبَّ زلَّة منكَرةٌ وهفوةٌ عظيمةٌ

وذلك من وجوه:

أحدها: أَنَّ الحكاية المذكورة عن الفقهاء أَنَّه إِنْ كان مستحلاًّ كفر، وإلَاّ فلا، ليس لها أصلٌ، وإِنَّما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلِّمين الذين نقلوها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنُّوه جارياً على أصولِهم، أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعدُّ قوله قولاً، وقد حكينا

(1)"الصَّارم المسلول"(ص 376) . المكتب الإسلامي ط1414هـ.

(2)

سورة التوبة: 65، 66.

ص: 55

نصوص أئمة الفقهاء وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظنُّ ظانٌ أَنَّ في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإِنَّما ذلك غلطٌ، لا يستطيع أحدٌ أَنْ يحكي عن واحدٍ من الفقهاء أئمةَ الفتْوى هذا التفصيل البتَّةَ.

الوجه الثاني: أَنَّ الكفر إذا كان هو الاستحلال فإِنَّما معناه اعتقاد أَنَّ السبَّ حلالٌ، فإِنَّه لمَّا اعتقد أَنَّ ما حرَّمه الله تعالى حلالٌ كفَرَ، ولا رَيْبَ أَنَّ من اعتقد في المحرَّمات المعلوم تحريمها أَنَّها حلال كفر، لكن لا فرق في ذلك بين سبِّ النَّبيِّ وبين قذف المؤمنين والكذب عليه والغِيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أَنَّ الله حرَّمها، فإِنَّه من فعل شيئاً من ذلك مستحلاًّ كفرٌ، مع أَنَّه لا يجوزُ أَنْ يُقال: مَنْ قذفَ مسلماً أو اغتابه كفر، ويعني بذلك إذا استحلَّه.

الوجه الثالث: أَنَّ اعتقاد حلِّ السَّبِّ كفر، سواء اقترن به وجود السبِّ أو لم يقترن، فإذاً لا أثر للسبِّ في التَّكفير وجوداً وعدماً، وإِنَّما المؤثِّر هو الاعتقاد، وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء.

الوجه الرابع: أَنَّه إذا كان المكفِّر هو اعتقاد الحلِّ فليس في السبِّ ما يدلُّ على أَنَّ السَّابَّ مستحلٌّ، فيجب أنْ لا يكفَّر، لاسيَّما إذا قال " أنا أعتقد أَنَّ هذا حرامٌ، وإِنَّما أقول غيظاً وسفَهاً، أو عبثاً أو لعباً " كما قال المنافقون: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} .

ص: 56