الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُوجَبَاتُ الْجِرَاحِ
خَمْسَةٌ: الْقِصَاصُ، وَالدِّيَةُ، وَالكَفَّارَةُ، وَالتَّعْزِيرُ، وَالْقِيمَةُ
الجيم من (مُوجَبَاتُ الْجِرَاحِ) مفتوحة؛ أي: الأمور التي توجبها الجراح، والجراح بالكسر جمع جراحة، فيقال: جره جرحاً، والاسم: الجرح بالضم، والجمع جروح، فلم يقولوا: أجراح، إلا ما جاء في الشعر، قاله الجوهري وصاحب المحكم، وجرحه يجرحه جرحاً إثر هذا بالسلاح، وعلى هذا فالجرح اللغوي يشمل القتل وما دونه، وعلى هذا مشى المصنف؛ لكونه جعل الكفارة من موجبات الجراح؛ وهي إنما تجب في النفس، لكن المتبادر إلى الاصطلاح من الجروح هو ما دون النفس؛ لقوله تعالى:{وَكَتَبّنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٍّ} [المائدة: 45] وحفظ النفس المجمع عليها في كل ملة [695/أ]، وهي النفوس والأديان والعقول والأعراض والأموال، ومنهم من يذكر الأنساب عوض الأموال، قال تعالى:{وَلَكُم فِي الْقِصَاصِ} [البقرة: 179] فقيل: الخطاب للورثة؛ لأنهم إذا اقتصوا قد سلوا وحيوا بدع شر هذا القاتل الذي صار عدواً لهم بالقتل. وقال بعضهم: الخطاب للقاتلين؛ أي: الجاني إذا اقتُصَّ منه فقد امتحى إثمه فيبقى حياً حياة معنوية، وعلى هذين القولين لا إضمار، وقيل: الخطاب للناس، والتقدير: ولكم في مشروعية القصاص حياة؛ لأن الشخص إذا علم أنه يُقتص منه انكفَّ عن القتل، ويحتمل ألا يكون في الآية على هذا تقدير، ويكون القصاص نفسه فيه الحياة، أما غير الجاني لانكفافه، وأما للجاني للسلامة من الإثم، وبالجملة فالدماء خطيرة القدر في الدين، وأدلة الشريعة من الكتاب والسنة متواترة على ذلك.
الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ
لما ذكر أن موجبات الجراح خمسة، شرع في الكلام على الأول، فإن قيل: ثم قسم ثالثاً وهو الجراح، فالجواب: أن الطرف الناحية من النواحي، قاله الجوهري، فالجرح إن كان في الظهر أو في الوجه أو غر ذلك من الجراح، فهو طرف للجسم تلك الجهة.
وَلِلنَّفْسِ ثَلاثَةُ أَرْكَانٍ
فيه حذف مضافين؛ أي: لوجوب قصاص النفس، ثم أخذ يتكلم عليها، فقال:
الْقَتْلُ، وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ عَمْداً مَحْضاً عُدُوَاناً
أي الأول: القتل، وشرط فيه ثلاثة شروط، واحترز بالعمد من الخطأ وبالمحض من شبه العمد، وبالعدوان مما لو قتله بوجه شرعي، كقتله في حد أو قصاص.
وَهُوَ: الْقَصْدُ إِلَى مَا يَقْتِلُ مِثْلُهُ مِنْ مَبَاشَرَةٍ أَوْ تَسَبُّبٍ
(هُوَ) ضمير عائد على العمد الموصوف بالمحض العدوان، ومراده أن يقصد الضارب إلى الضرب بما يقتل منه، قصد القتل أم لا، فـ (ما) من قوله:(إِلَى مَا) موصولة أو نكرة موصوفة، ولا يصح أن تكون مصدرية؛ لأنه كان حينئذٍ يشترط أن يقصد القتل، وهو خلاف المشهور، على ما صرح به في المقدمات، فإنه قال: فإن قصد الضرب ولم يقصد القتل، فكان الضرب على وجه الغضب، فالمشهور عن مالك المعروف من قوله أن ذلك عمد، وفيه القصاص، إلا في الأب والأم، وهذا رد على من فسر كلام المصنف بأن يقصد القتل، ولايقال: الغالب أن المصنف تبع الجواهر، ويكون المصنف قصد ذكر الصورة المتفق عليها؛ لأن قوله:(مِثْلُهُ) يمنع أن تكون مصدرية، والله أعلم.
ويشكل ما ذكره المصنف بما ذكره في المدونة وغيرها، والقود باللطمة والقضيب وليس مما يقتل مثلها.
وقوله: (مِنْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسَبُّبٍ) يعني: إذا قصد إلى ما يقتل قتل، سواء كان ذلك مباشرة أو تسبب.
فَالْمُبَاشَرَةُ؛ كَقَتْلِهِ بِمُحَدَّدٍ، أَوْ مُثَقَّلٍ، أَوْ عَصْرِ الأُنْثَثَيْنِ، وَخَنْقٍ، وَتَغْرِيقٍ، وَتَحْرِيقٍ، وَمَنْعِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَوْ لَطَمَهُ، أَوْ وَكَزَهُ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرَبَهُ بِعَصاً مُتَعَمِّداً عَلَى وَجْهِ الْقَتْلِ لا اللِّعِبِ فَمَاتَ عَاجِلاً أَوْ مَغْمُوراً لَمْ يَتَكَلَّمْ؛ فَفِيهِ الْقَوَدُ
…
لا فرق في المحدد بين الحديد وغيره، كاللطمة والخشبة المحددة، صرح به الباجي، ولا خلاف في القود بالمحدد، وقصر الحنفي القصاص عليه وعلى النار، وعنه في مثقل الحديد روايتان، ودليلنا ما رواه البخاري عن أنس: أن يهوديَّاً رضَّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا فلان فلان حتى ذكر يهوديَّاً؟ فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر النبي صلى الله ليه وسلم أن يُرَضَّ رأسه بالحجارة. وأجب بأن قتل اليهودي إنما كان للحرابة، بدليل ما وقع في الروايات أنه قتلها على حلي لها، ورد بأن قتله لو كان للحرابة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله على الهيئة الخاصة، فرضُّه بالحجارة يدل على قصد القصاص.
قوله: (فَلَوْ لَطَمَهُ) نحوه في المدونة، وجعل اللخمي اللطمة والسوط والعصا والبندقة والوكز من شبه العمد، إلا أن يقوم دليل العمد لقوة الضربة من الرجل، التقدير لمرض أو ضعف.
وقوله: (عَلَى وَجْهِ الْقَتْلِ) احترز بما لو كان على وجه الأدب أو اللعب، فلا يكون فيها قود، وسيأتي الكلام على الأدب من كلام المصنف، وأما اللعب، ففي المقدمات: ففيها ثلاثة أقوال: أولها: كمفهوم كلام المصنف أنه خطأ، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة.
والثاني: فيه القود، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وروايتهما عن مالك، قال: وتأويل الثاني على ما إذا ضربه على وجه اللعب دون أن يلاعبه صاحبه، والأول ما إذا
لاعبه صاحبه، فترجع القولان إلى قول، والأظهر من ذلك اختلاف من القول، ولا فرق بين أن يلاعبه صاحبه أم لا.
والثالث: أنه من شبه العمد، وفيه الدية مغلظة، وقد قيل: إن التفرقة بين أن يلاعبه صاحبه أو لا، وهو قول رابع. انتهى.
وقوله: (مَغْمُوراً لَمْ يَتَكَلَّمْ) بل صريحه أنه مات مغموراً لا قسامة في ذلك، وظاهر المدونة أن في ذلك القسامة، والله أعلم.
فَلَوْ مَاتَ بَعْدُ وقَدْ تَكَلَّمَ يَوْماً أَوْ أَيَّاماً، فَالْقَوَدُ بِقَسَامَةٍ، قَالَ: وَلَمْ يَاكُلْ وَلَوْ ثَبَتَ حَيَاتُهُ
…
هذا هو الذي احترز عنه (مَغْمُوراً) أي: لو تكلم بعد لطمه أو وكزه فلا يقتص إلا بقسامة تقسم، ولأنه لمن ضربه مات؛ لأنه لما تكلم احتمل أنه مات من سبب [695/ب] آخر، ولا يلتفت إلى أكله ولا إلى عدمه.
وقوله: (وَلَوْ ثَبَتَ حَيَاتُهُ) أو (جنايته) على اختلاف النسخ لأكبر فائدة، والله أعلم، وهذا كله ما لم ينفذ له مقتلاً، فإنه حينئذٍ لا قسامة فيه ولو أكل، وإلى هذا أشار بقوله:
أَمَّا لَوْ أَنْفَذَ لَهُ مَقْتَلاً فَلا قَسَامَةَ، وَلْو أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَعَاشَ أَيَّاماً، وَشَبَّهَهُ بالشَّاةِ كَذَلِكَ تُذَكَّى فَلا تُؤْكَلُ
…
فاعل (شبَّه) عائد على ابن القاسم؛ لأنه لما سئل عن المسألة قال: لم أنبئ مالكاً عليها، ولكن قال لي مالك في الشاة التي يخرق السبع بطنها، فشق أمعاءها ونشرها: أنها لا تؤكل، وهذا ظاهر إذا قلنا: إن الذي أنفذ مقاتله هو الذي يقتل، ولو أجهز عليه آخر، وأما على قول من قال يقتل به الثاني، فيه نظر.
وَلَوْ رَمَاهُ فِي نَهَرٍ عَلَى وَجْهِ الْقِتَالِ قُتِلَ بهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ لا يُحْسِنُ الْعَوْمَ؛ فَالدِّيَةُ بِقَسَامَةٍ
…
ظاهر قوله: (عَلَى وَجْهِ الْقِتَالِ قُتِلَ بهِ) أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الرامي يحسن العوم أم لا، ألا ترى أنه فصل إذا كان على وجه اللعب.
ابن عبد السلام: ويجري فيها إذا لم يكن على وجه القتال ما فوق هذا في مسألة اللعب، وكلامه قريب مما في آخر ديات المدونة؛ لأنه قال فيها: وإن طرح رجلاً في نهر، ولا يدري أنه لا يحسن العوم، فمات، فإن كان على وجه العداوة والقتل قتل به، وإن كان على غير ذلك فعليه الدية ولا يقتل به.
ابن يونس: يريد وتكون الدية على العاقلة، وما ذكره من وجوب الدية بقسامة لم أره، ولا وجه للقسامة هنا، وظاهر المدونة: أن الدية دية الخطأ أخماساً، وهو قول مالك وابن القاسم وأشهب. وقال ابن وهب: هي الدية المغلظة. واختار اللخمي الأول إن كان على وجه المعتاد، والثاني إن خرجا عن المعتاد.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ أَوْ أَوْضَحَهُ أَوْ أَمَّهُ أَوْ قَطَعَ فَخِذَهُ.
أي: مثل مسألة النهر، فإن كان على وجه القتال قتل به، وإن كان على وجه اللعب فالدية، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى اللطم وما ذكر معه، فيفرق بين أن يموت مغموراً أو لا، واقتصر ابن راشد على الاحتمال الأول.
وَالزَّوْجُ وَالْمُؤَدِّبُ وَنَحْوُهُ يُصِيبُ الصَّبِيَّ أَوْ غَيْرَهُ تَنْكِيلاً أَوْ غَيْرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَطَأِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعَمْدُ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَعَنْ مَالِكٍ: شِبْهُ الْعَمْدِ باطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ
…
يعني: أن من يجوز له الضرب أو ما في معناه من معلِّم أو أب أو زوج وخاتن وطبيب؛ ففعله محمول على الخطأ حتى يثبت العمد، وظاهره أنه يصدق في دواه الخطأ، وفي ذلك قولان حكاهما في المقدمات، قال: وعلى التصديق فهو يمين.
وقوله: (وَقِيلَ: هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ) هذه هي طريقة الباجي، وحكى الاتفاق على أنه لا قود له، وأجرى صاحب المقدمات فيه الثلاثة الأقوال المتقدمة في اللعب.
قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ: شِبْهُ الْعَمْدِ باطِلٌ) هذه رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، لكن مالكاً لم ينكر ذلك مطلقاً كما هو ظاهر كلام المصنف، بل أنكره فيما عدا الأب، وحكى العراقيون إثباته فيما عدا الأب أيضاً.
الباجي: ولا خلاف في ثبوت حق الأب.
اللخمي: وشبه العمد أربعة أقسام؛ أحدها: أن يكون به القتل بغير آلة القتل، وبما لا يقصد إلى إتلاف النفس بمثله كالسوط والعصا والبندقة واللطمة والوكزة.
والثاني: أن يكون بآلة القتل، لكن لا يتهم على قصد القتل كفعل المدلجي بولده.
والثالث: أن يكون من أبيح له فعل مثل ذلك؛ كمعلِّم الثقاف والطبيب.
والرابع: أن يكون على صفة يراد بها القتل ويتقدمه بسياطه، يعلم أنه لم يكن المراد القتل، كالمتصارعين والمتلاعبين.
وَالتَّسَبُّبُ؛ كَحَفْرِ بئْرٍ، أَوْ سَرْبٍ، أَوْ وَضْعِ سَيْفٍ، أَوْ رَبْطِ دَابَّةٍ، أَوِ اتِّخَاذِ كَلْبٍ عَقُورٍ قَصْداً لِلإِهْلاكِ، حَتَّى لَوْ حَفَرَ فِي دَارِه بئْراً لِلإهْلاكِ لِص لَقُتِلَ بهِ، وَلوْ هَلَكَ بهِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ فَالدِّيَةُ أَوِ الْقِيمَةُ
…
لما انقضى كلامه على المباشرة أتبعه بالتسبب وذكر له أمثلة؛ أولها: حفر بئر. زاد في الجواهر: حيث لا يجوز له ولابد من ذلك، فقد نص مالك على أنه لو حفر شيئاً مما يجوز في داره أو في طريق المسلمين مثل بئر لمصر أو لمرحاض يحفر إلى جانب حائطه؛ لأنه لا غرم عليه لما عطب في ذلك كله.
أشهب: وهذا إذا لم يضر ما حفره في الطريق.
السرب بفتح السين والراء: البيت في الأرض؛ يعني: إذا فعل هذه الأشياء قصداً للإهلاك، فإن قصد إهلاك معين وهلك ذلك المعين؛ فالقصاص وإن هلك به غير المقصود، ويشمل قوله:(غَيْرُ الْمَقْصُودِ) صورتين؛ الأولى: أن يهلك غير المعين. والثانية: ألا يقصد إهلاك معين فالدية والقيمة؛ أي: فالدية في الحر والقيمة في العبد وفي غير الآدميين، وهذه المسائل التي ذكرها المصنف وقعت مفرقة في المذهب.
ابن عبد السلام: وربما كان في بعض الروايات ما يوهم الخلاف، لكن ما ذكره المصنف هو التحقيق في معانيها. مالك: ومن وضع سيفاً في طريق المسلمين أو في موضع يرصد به قتل رجل، فعطب به ذلك الرجل، فإنه يقتل به. إن عطب به غيره فديته على عاقلته. مالك: وما فعله في طريق المسلمين مما لا يجوز له فعله من حفر بئر أو ربط دابة أو نحوه، فهو ضامن لما أصاب بذلك، إن كان دون ثلث الدية، وإن كان الثلث [696/أ] فعلى العاقلة، وإن صنع من ذلك ما يجوز له؛ كمن نزل عن دابته ودخل لحاجته وهي واقفة في الطريق فلا يضمن، وكذلك على باب الطريق أو باب الإمام أو في السوق، فلا يضمن شيئاً، وليس ذلك كمن اتخذ لها مربطاً في طريق المسلمين.
قال البغداديون من أصحابنا: وكذلك إذا طرح قشور البطيخ في الطريق قصداً للإهلاك أنه يضمن ما هلك، ووقع في بعض النسخ التشبيه على هذه المسألة، وكذلك لو جرد قصيلاً أو عيداناً فجعله في بابه لتدخل في رجل الداخل في حائطه من سارق أو غيره فإنه يضمن، وكذلك من جعل شركاً يستضر به من يدخل، أو رش فناءه يريد أن يزلق من يمر به من السارق أو غيره؛ فهو ضامن. قال في المجموعة عن مالك: وإن كان تبرداً أو تنظفاً فيزلق به أحد فيهلك فلا يضمن.
وفي العتبية في الحافر حول زرعه لما تفسده مواشي الناس من زرعه بعد إذ أنذرهم، فيقع في ذلك الحفر بعض الدواب أنه لا ضمان عليهم، أنذرهم أم لا، وينبغي أن يتأول
مسألة العتبية على ما إذا قصد حفظ زرعه، لا إتلاف الماشية، وإن قصد إتلافها فإنه يضمن كالسارق، واختلف المذهب في الكلب العقور والدابة الضوال ومن له حائط مائل، ففي البيان أربعة أقوال؛ الأول: مذهب المدونة أنه يضمن بالتقدم إلهي وإن لم يكن سلطان، وفي سماع عبد الملك أنه لا يضمن إلا أن يتقدم إليه في ذلك السلطان. وقال أشهب: يضمن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه. وقيل: لا يضمن بحال وإن تقدم، نقله أيضاً عن أشهب: يضمن وإن لم يتقدم إليه ولا أِهد عليه. وقيل: لا يضمن بحال وإن تقدم، نقله أيضاً عن أشهب، قال: وهذا إنما هو إذا اتخذه حيث يجوز له، وأما إن اتخذه في موضوع لا يجوز له، فلا خلاف أنه ضامن.
وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ لا لِقَصْدِ إِهْلاكٍ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يَجُوزُ لَهُ ضَمِنَ الدِّيَةَ أَوِ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَجُوزُُ لَهُ؛ فَإِنْ قَصَدَ ضَرَراً وَلَوْ لِسَارِقٍ ضَمِنَهُ وَغَيْرَهُ، وِإلا فَلا
…
يعني: وأما لو فعل ما تقدم من حفر البئر ونحوها لا لقصد إهلاك، كأن كان في موضع لايجوز له، وتصور كلامه ظاهر، إلا أن قوله:(فَإِنْ قَصَدَ ضَرَراً) كالمخالف لفرض المسألة؛ إذ فرضها أنه لم يقصد إهلاكاً، والجواب: المراد بالضرر ما دون الإهلاك، والله أعلم.
وَكَالإِكْرَاهِ، وَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ الْمَسْمُومِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحَ عَلَيْهِ حَيَّةٌ يَعْرِفُ أَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ
…
هو معطوف على قوله: (كَحَفْرٍ) أي: ومعناه أنه يجب القصاص على المكره لتسببه، ولذلك يقتص أيضا ًمن المكره لمباشرته، وسيصرح المصنف بذلك، وكذلك أيضاً يقتل مقدم الطعام المسموم إذا علم بذلك.
ابن عبد السلام: وقد اختلف الطرق هل قتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودية التي سممت له الشاة؟ ففي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه: أن امرأة يهودية أتت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فأكل منها، فجيء بها إليه عليه الصلاة والسلام، فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، فقال:"مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَي ذَلِكَ". فقال عِليٌّ: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قال: "لا". فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبو داود من حديث أبي سلمة أنه عليه الصلاة والسلام أمر باليهودية فقتلت، وبشر ابن البراء كان من أكل من تلك الشاة فمات (وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحَ عَلَيْهِ حَيَّةٌ يَعْرِفُ أَنَّهَا قَاتِلَةٌ) أي: فيقتص منه بذلك.
خليل: ولو قال بالقصاص في الحية، وإن لم يعرف أنها قاتلة ما بعُد.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَهُ بالسُّمِّ قُتِلَ
وفي بعض النسخ (بهِ) فيعود على الإقرار؛ لأنه لا يقتص بالسم، وإذا أقر أنه قتله بالسم فنه يقتل، ولا يفيده رجوع لتعلق حق الآدمي، بخلاف ما لو أقر بالسم فقط، فإنه يقبل رجوعه إذا تاب، كما لو أقر شخص بالزندقة وادعى التوبة على أصح القولين.
وَفِيمَنْ أَشَارَ بالسَّيْفِ فَهَربَ فَطَلَبهُ حَتَّى مَاتَ وَبَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ أَرْبَعَةٌ: الْقِصَاصُ، وَالدِّيَةُ، وَالْقَسَامَةُ، وَإِلْحَاقُهُ بشِبْهِ الْعَمْدِ، فَلَوْ أَشَارَ بالسَّيْفِ فَمَاتَ مِنْهُ فَخَطَأ
…
يعني: أن فيمن أشار على أحد بسيف فهرب منه فتبعه حتى مات وبينهما عداوة أربعة أقوال، ولم يذكر المصنف في فرض المسألة أنه سقط، والقول بالقصاص لابن المواز، ونصه: إن تمادى بالإشارة وهو يفر منه وطلبه حتى مات فعليه القصاص، قال: وإن مات مكانه من أول إشارة فالدية على عاقلته، والقول بالدية لابن ميسر، قال: لا قصاص في هذا، واستحسنه طائفة من القرويين، وقالوا: لا قصاص في هذا الأصل؛ يعني: المشير بالسيف، والجاري خلفه، قالوا: إذ لا يدري هل مات من شدة الخوف أو من شدة الجري أو بمجموعهما، قال: ولا يمكن إثبات القصاص إلا على نفي شبه العمد، وظاهر قول
المصنف: (الدِّيَةُ) أنها دية الخطأ، ورأى اللخمي فيه الدية المغلظة، قال: لأن أمره مشكل، والقول بالقصاص بقسامة؛ أي: يقسِمون لمات خوفاً منه لابن القاسم، وذكر ابن القاسم أنه سقط ومات.
ابن القاسم: ولو أشار عليه بالسيف سقط فمات وبينهما عداوة، هذا من الخطأ. وقال ابن الماجشون فيمن طلب رجلاً بالسيف فعثر المطلوب فمات، فعليه القصاص، [696/ب] قاله المغيرة وأصبغ وابن حبيب ولم يذكروا قسامة، وروي عن ابن القاسم أيضاً، ولم يجعل الباجي قول ابن القاسم خلافاً لقول محمد: لم يوجد شيء من فعله يحمل عليه، ورأى في الرابع التسبب والعداوة، لكن لم يتمحض عنده السبب، فألحقه بشبه المد، وعلى قول الباجي فالمسائل ثلاث: الإشارة وحدها، والإشارة مع الهروب والطلب، والإشارة مع ذلك والسقطة، وعلى قول المصنف فليس إلا مسألتان، وكلام ابن شاس هنا أحسن من كلام المصنف؛ لأنه نقل الأقوال على ما وقعت عليه في الرواية، ولم يجعل في المسألة أربعة أقوال، ولا خلاف في مسألة الإشارة أن فيها الدية.
وَكَالإِمْسَاكِ لِلْقَتْلِ، وَقِيلَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْلاهُ لَمْ يَقْدِرْ
أي: فيقتل الممسِك لتسببه والمباشر أيضاً، ومفهومه أنه لو أمسكه لا للقتل أنه لا يقتل، وهكذا في الموطأ، ففيه: قال مالك في الرجل يمسك الرجل فيضربه فيموت مكانه، وهو يرى أنه إنما يريد الضرب بما يضرب به الناس؛ لا نرى أنه عمد لقتله، فإنه يقتل القاتل ويعاقب الممسِك أشد العقوبة، ويحبس سنة لأنه أمسكه، ولا يكون عليه، ونحوه في المجموعة.
ابن عبد السلام: وإذا تأملته وجدته كالمخالف للقول الأول من كلام المؤلف. وقال ابن نافع: ويحبس بقدر ما يرى السلطان من دينه، ويستريب من أمره، وناحية صاحبه الذي حبسه له، وقال عيسى بن دينار: ويجلد مائة فقط.
ابن مزين: والقول ما قال ابن نافع. قال في المدونة: ويستدل على حبسه للقتل بأن يرى القاتل يطلبه وبيده سيف أو رمح فقتله، فهذان يقتلان جميعاً. قال: وإن حبسه ولم يرَ معه سيفاً ولا رمحاً مشهوراً فأتاه فقتله؛ فلا قتل على الحابس وإن كان من ناحيته؛ لأنه يقول: ظننته أنه يريد غير القتل.
وقوله: (يُشْتَرَطُ
…
إلخ). وهذا القول لأبي عبد الله بن هرمز البصري من أصحابنا.
فَلَوِ اشْتَرَكَ الْمُبَاشِرُونَ وَالْمُسَبِّبُونَ قَتِلُوا جَمِيعاً
كما لو اشترك جماعة في قتل رجل، بعضهم بالمباشرة، وبعضهم بالتسبب، وقد يقال بترجيح المباشر، وقد قال بذلك بعض شيوخنا في الإكراه، لكن اتفاق المذهب على أن الجماعة الحاضرين المتمالئين على قتل واحد منهم؛ أنهم يقتلون من تولى ضربه ومن لم يتولَّه، والله أعلم.
وَلَوْ تَمَالأَ جَمْعٌ عَلَى ضَرْبِهِ بِسَوْطٍ سَوْطٍ قُتِلُوا جَمِيعاً، وَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ وَالْمُكْرَهُ
لما في الموطأ عن عمر- رضي الله عنه في الصبي لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به. قال في الجواهر: لو اجتمع جماعة على رجل يضربونه فقطع رجل رجله وفقأ آخر عينه وجدع آخر أنفه وقتله آخر، وقد اجتمعوا على قتله فمات؛ قتلوا به كلهم وإن كان جرح بعضهم أنكأ من جرح بعض، ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمد المُثْلَة، وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل واحد بجرحه وقتل قاتله. انتهى.
ابن عبد السلام: ومسألة الأسواط جارية على أصل المذهب بشرط أن يقصدوا جميعاً إلى قتله على هذا الوجه، وأما لو قصد الضرب فليس السوط الأول ولا ما بعده مما يقرب منه مما يكون عنه القتل غالباً، فينبغي أن يقتل به الآخر، ومن قصد إلى قتله ممن تقدمه، وكذلك يقتل المكرِه والمكرَه، وكذلك أمر الظالم بعض أعوان بقتل رجل ظلماً، فإنه يقتل الآمر والمأمور.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلِّفِ مِنْهُمَا فَنِصْفُ الدِّيَةِ
أي: من الكرِه والمكرَه، و (نِصْفُ الدَّيَةِ) مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: فعليه نصف الدية تحمله عاقلته؛ يعني: وعلى المكلف القصاص.
وَفِي الْحَافِرِ لإِهْلاكِ شَخْصٍ فَوَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا فَرَدَّاهُ آخَرُ قَوْلانِ
قيل: يقتلان جميعاً. وقيل: المردي خاصة، هذا الفرع وقع في بعض انسخ، وتصوره ظاهر، والقول بقتله لابن القطان، والثاني للقاضي أبي عبد الله بن هارون.
واحترز بقوله: (لإِهْلاكِ شَخْصٍ) مما لو حفرها لمنفعة نفسه فردَّاه غيره، فإن القود على المردي اتفاقاً ولا شيء على الحافر.
وَفِي قَتْلِ الأَبِ يَامُرُ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ، وَالْمُعَلِّمِ يَامُرُ الصَّغِيرَ، وَالسَّيِّدِ يَامُرُ الْعَبْدَ مُطْلَقاً قَوْلانِ ..
(مُطْلَقاً) يحتمل أن يريد به صغيراً أو كبيراً، ويحتمل عجمياً أو فصيحاً، ويحتمل أن يريدهما، واحترز بـ (الصَّغِيرَ) في مأمور الأب و (الْمُعَلِّمِ) في الكبير فيهما، فإن القتل على المأمور.
ابن القاسم: وليس على الآمر قتل ولا على عاقلته دية وعليه العقوبة، والقول بقتل الأب في المسائل لابن القاسم، والقول بنفي القتل لابن نافع، قال: ويوجع الأب والسيد عقوبة ويقتل العبد، وحكى ابن شعبان قولاً ثالثاً بعكس هذا، يقتل السيد دون العبد، وسواء على هذه الأقوال الفصيح والأعجمي، ويقتل السيد في الأعجمي، وعلى العبد جلد مائة وسجن سنة. وقال أصبغ: يقتل السيد والعبد جميعاً؛ كان العبد فصيحاً أو لا. وعلى قول ابن القاسم: يقتل الآمر، فقال ابن القاسم: ويكون على عاقلة الصبي نصف الدية، وإن كثر الصبيان فالدية على عواقلهم، وإن لم يجب على كل عاقلة إلا أقل من الثلث فإنها
تحمله، ثم الخلاف في قتل الأب مقيد بما إذا لم يكن الأب حاضراً، وأما إن أرسله، أصبغ: وأما لو حضره وأمره فإنه يقتل أباً كان أو غيره، كما لو اجتمع رجلان على قتل رجل فقصدا له؛ أحدهما [697/أ] مباشر، والآخر يقول: اقتل، فإنهما يقتلان به جميعاً، قال أصبغ: ونزلت ومشايخنا متوافرون فرأوا أن يقتل بقوله: اقتل على هذه الصفة.
وَأَمَّا الْمَامُورُ لا يَخَافُ مُخَالِفَتَهُ فَعَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَيُضْرَبُ الآمِرُ وَيُحْبَسُ
يعني: أن ما تقدم إنما هو إذا كان المأمور يخاف مخالفة الآمر، أما إذا لم يخف فالقتل على المأمور وحده.
ابن القاسم وأشهب: ويضرب الآمر ويحبس سنة.
وَفِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصُ بِقَسَامَةٍ، وَالْقِصَاصُ بغَيْرِ قَسَامَةٍ إِنْ كَانَ قَرِيباً، وَعَلَى الآخَرِينَ نِصْفُ الدِّيَةِ
…
أي: وفي المتعمد الكبير العاقل يشارك مخطئاً أو صبياً أو مجنوناً، فحذف الأوصاف لدلالة مقابلها عليها، وحذف أيضاً المبتدأ؛ أي: ثلاثة أقوال استغناء بذكرها مفصلة.
وقوله: (إِنْ كَانَ قَرِيباً) أي: الموت. وقوله: (وَعَلَى الآخَرِينَ) أي: المخطئ والصبي والجنون، ولم أقف على مجموعها في الدواوين في هذه المسألة وسأوقفك على ما وقفت عليه، وظاهر كلامه: أن الأول وجوب نصف الدية على الكبير المشارك للصغير وإن كانا متعمدين، وهو مذهب المدونة على تقييد اللخمي وابن يونس؛ وذلك لأن مالكاً نص في المدونة وغيرها على أن في شريك الصبي القصاص إذا كان هو والصبي متعمدين، فقيده اللخمي وابن يونس بما إذا تعاقدا على قتله.
اللخمي: وإن لم يتعاقدا على قتله وقصد كل واحد رميه ولا يعلم بالآخر؛ لم يقتل الرجل، لإمكان أن تكون رمية الصبي القاتلة، وكذلك لو كانا رجلين والنافذة ضربة أحدهما ولم
يُعرف ولا يقتلان، وإن كان الكبير والصبي مخطئين أو كان الكبير مخطئاً كان فيه الدية، واختلف إذا كانت رمية الصبي خطأ ورمية الرجل عمداً، فقال ابن القاسم: عليه الدية ولايقتل الكبير؛ إذ لا يدري من أيهما مات. وقال أشهب: يقتل الكبير واختاره ابن المواز، واعترض حجة ابن القاسم بأنه إن كانت ضربة الصبي عمداً لا يدري أيضاً من أيهما مات.
اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن لئلا يقتل الرجل بالشك، إلا أن يدعي الأولياء أن ضربة أحدهما القاتلة فيقسوا عليها، فإن اقتسموا على ضربة الرجل قتلوه، وأما شريك المخطئ، فقال اللخمي: لا يقتل المتعمد عند ابن القاسم ويقتل عند أشهب. انتهى.
فالأول، قال عبد الملك: قال ولا قسامة في ذلك إن مات مكانه، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن الأولياء مخيرون بين أن يقسموا على ما شاءوا منهما، واستحسنه أصبغ.
ابن حبيب: ثم قال مرة يقسمون أن من ضربهما مات، ثم تكون نصف الدية من مال العامد ونصفها على عاقلة المخطئ. وحكى عبد الوهاب أنه متى اشترك في القتل القود، ومن لا يجب عليه كالعامد والمخطئ والبالغ والصغير والعاقل والمجنون؛ قتل من يلزمه القود وكان على الآخر بقسطه من الدية، وحيث ألزم الصبي شيء من الدية، فاختلف هل من ماله أو على العاقلة.
وأَمَّا شَرِيكُ السَّبُعِ وَجَارِحِ نَفْسِهِ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمَرِيضِ بَعْدَ الْجُرْحِ فَالأَوَّلانِ
أي: فالقولان الأولان؛ وهما نصف الدية والقصاص بالقسامة، وهما لابن القاسم.
وَلَوِ اصْطَدَمَ فَارِسَانِ أَوْ مَاشِيَانِ أَوْ مُخْتَلِفَانِ بَصِيرَانِ أَوْ ضَرِيرَانِ أَوْ مُخْتَلِفَانِ عَمْداً فَمَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَأَحْكَامُ الْقِصَاصِ وَإِلا فَعَلى عَاقِلةِ كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الآخَرِ، وَكُلُّ فَرَسٍ فِي مَالِ الآخَرِ، وَقِيلَ: نِصْفُ دِيَةِ الآخَرِ لأَنَّهُ شَرِيكٌ
…
أراد بالاختلاف الأول أن يكون أحدهما ماشياً والآخر راكباً، وبالاختلاف الثاني أن يكون أحدهما بصيراً والآخر ضريراً، وعدل عن قوله بالقصاص إلى قوله: (فَأَحْكَامُ
الْقِصَاصِ) وإن كان الأول أخص؛ لأنه يتصور القصاص في موتهما، ومعنى أحكام القصاص: أنهما إذا ماتا بطل حقهما؛ لأن من وجب له قصاص يبطل حقه بموت المقتص منه، ولأن قوله:(أَحْكَامُ الْقِصَاصِ) يشمل القولين إذا عاش أحدهما، هل لا يجب عليه إلا القصاص أو التخيير بينه وبين الدية، بخلاف قوله:(فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الآخَرِ) يريد: وكانا معاً مخطئين؛ لقوله: (عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ) وأما أن أحدهما متعمداً فعليه القصاص.
وقوله: (كُلُّ فَرَسٍ) أي: وقيمة كل فرس، وفي معنى الفرس: لو اصطدما وبأيدهما متاع فتلف، وقيل: إنما على كل واحد نصف دية الآخر: لأن كل واحد شارك في قتل نفسه وهذا لأشهب، نقله عنه ابن القصار، ونقله أبو عمران عن سحنون، وقد قال أشهب في المجموعة في حافري البئر ينهدم عليهما فيموت أحدهما: فإن على عاقلة الحي منهما نصف دية الآخر لشركة كل منهما في قتل نفسه.
وَالصَّبِيَّانِ كَذَلِكَ إِلا فِي الْقِصَاصِ
يعني: فإذا اصطدم صبيان كذلك؛ أي: من كونهما راكبين أو ماشيين
…
إلخ، وأن مجموع دية كل منهما على عاقلة الآخر على المشهور.
وَلَوِ اصْطَدَمَ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَثَمَنُ الْعَبْدِ فِي مَالِ الْحُرِّ وَدِيَةُ الْحُرِّ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ
المراد بالثمن القيمة، لكن المصنف تبع لفظ المدونة، وقال في المدونة: ويتقاصان- يعني: إن ماتا -فإن كانت قيمة العبد أكثر مندية الحر؛ كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء.
محمد: إلا أن يكون للعبد مال، فيكون بقية العقل [697/ب] في مالهن وأخذ ابن رشد من هنا أن مذهب المدونة في جناية العبد أنها حالَّة؛ لأن قيمة العبد في مال الحر حالَّة، فلما
قال: يتقاصان، ولم يقل يأخذها السيد ويؤدي الدية التي جناها العبد منجمة، دل ذلك على أنها حالَّة، وقال أصبغ خلاف هذا: وهو أن سيد العبد مخير في جنايته على الحر خطأٌ بين أن يسلمه فيها أو يفديه بها مؤجلة.
فلو اصْطَدَمَ سَفِينَتَانِ فَلا ضَمَانَ بشَرْطِ الْعَجْزِ عَنِ الصَّرفِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْعَجْزُ حَقِيقَةٌ لا لِخَوْفِ غَرَقٍ أَوْ ظُلْمَةٍ
…
قوله: (بِشَرْطِ الْعَجْزِ) يوهم أن هذا ليس شرطاً في الفارسين إذا أجمحا فرساهما ولم يُقدر على صرفهما فكان عن ذلك تلف، فإنه لا ضمان في ذلك، وإنما يختلف الفرسان من السفينتين والفارسين إذا جهل أمرهما في قدرتهما على الصرف حملاً على الاختيار، والسفينتان بالعكس. وقال أشهب في السفينة: إذا علم أن ذلك من أمر غلبهم وليس من أمر غرقوا فيه فلا شيء عليه، وإن لم يكن يعلم فذلك على عواقلهم، وظاهره التسوية بين الفارسين والسفينتين، والفرق على المذهب: أن جري السفينتين بالريح ويس من عملهم بخلاف الفارسين، ويناقش المصنف في قوله:(بشَرْطِ الْعَجْزِ) لأنه يقتضي أنه لابد من تحقيقه، ولا يشترط تحقيق العجز، فالأولى أن لو قال: فلا ضمان، إلا أن النواتية قادرون على صرفها.
وقوله: (لا لِخَوْفِ غَرَقٍ أَوْ ظُلْمَةٍ) يعني: أو كان النواتية يقدرون على صرف السفينة، ولكن يخشون مع ذلك على أنفسهم، فلم يصرفوها حتى هلكوا غيرهم فإنهم يضمنون؛ إذ ليس لهم أن يسلموا أنفسهم بهلاك غيرهم.
وقوله: (ظُلْمَةٍ) أي: كان اصطدامهم لظلمة، فإن ذلك لا يسقط الضمان عنهم كالمصطدمين في البر لظلمة، غير أن كلام المصنف يوهم أن مراده خوف الظلمة، وأنه مشارك لخوف الغرق في الحكم، والمسألة منقولة في الوجه الذي قلناه: أنه لا يصح حملها على ما فهم من كلام المصنف.
فَلَوُ جَذَبَ اثْنَانِ حَبْلاً فَانْقَطَعَ فَتَلِفَا فَكَالْمُتَصَادِمَيْنِ، وَلَوْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ مَتَاعٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
…
يعني: إذا ماتا أو أحدهما، فيجري على ما تقدم من حكم القصاص ووجوب الدية، ولو وقع أحدهما على إنسان أو متاع؛ فالضمان عليهما، لأن وقوع المباشر إنما كان من فعلهما، أما لو دفع رجل آخر فقتله فعلى الدافع العقل دون المدفوع.
فروع:
لو قاد بصير أعمى فوقع البصير ووقع أعمى عليه فقتله، فقال مالك في رواية ابن وهب: الدية على عاقلة الأعمى. الثاني: لو سقط ابنه من يده فمات لم يلزمه شيء، ولو سقط من يده شيء عليه فمات فالدية على عاقلته. أشهب: وإن كان الأرش أقل من الثلث ففي ماله. الثالث: لو طلب غريقاً فلما أخذه خشي على نفسه الهلاك فتركه فمات الرجل، فديته على عاقلة الساقط، قاله أشهب في المجموعة والموازية، ولو انكسرت سن الساقط وانكسرت سن الآخر، فقال ابن المواز: مذهب أصحابنا أن على الساقط دية سن الذي سقط عليه وليس على الآخر دية. وقال ربيعة: على كل واحد دية ما أصيبت، ودليل الأول أن الجناية سبب الساقط دون سبب الآخر.
فلَوْ طَرَأَتْ مُبَاشَرَةٌ بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ عَنْ مُمَالأَةٍ قُتِلَ الْجَمِيعُ، وَلا قِصَاصَ لَهُ فِي الْجِرَاحِ مَا لَمْ يَتَعمَّدِ الْمُثْلَةَ، وَإِلا قُدَّمَ الأَقْوَى وَعُوقِبَ الآخَرُ
…
يريد: وكذلك لو كان الجراح في قوت واحد، فإن كان عن ممالأة قتل الجميع، هو ظاهر، فإنهم يقتلون في الممالأة ولو كان بعضهم واقفاً، وهذا مقيد بأن يموت مكانه، وأما لو عاش وأكل وشرب؛ فإنه لا يقسم في العمد إلا على واحد، ولا قصاص في الجراح، يعني: إذا تميزت الضربات وعلم ضارب كل واحدة، والرجل الواحد لو جرح جراحات ثم قتل لم يقتص منه في الجراحات، والقتل يأتي عليها إلا أن يقصد الجارح المُثْلَة، فيجرح أولاً كما جرح، ثم يُقْتَل.
قوله: (مُمَالأَةٍ) يعني: وإن لم يتمالئوا بل قصد كل منهم إلى ضربه، قدم الأقوى: أي: من كان القتل عن ضربه ليتعين للقتل، ويقتص من كل واحد مما جرح وتلك عقوبته، هذا هو النقل لا كما يعطيه ظاهر كلام المصنف من أن المراد بالعقوبة خلاف القصاص، نعم يتعين التأديب في غير الجراحات كضرب بالعصا ونحوه.
تنبيه:
ما ذكره المصنف من تقديم الأقوى ومعاقبة الآخر مقيد بما إذا عرفت الضربات كما ذكرنا، وإن لم يعرف جرح كل واحد، ففي النوادر عن مالك: يقتلون كلهم إن مات مكانه، وإن لم يمت ففيه القسامة، وفي اللخمي خلافه، وانه إذا أنفذ أحد ولا يدري من هو أو من أي الضربات مات؛ أنه يسقط القصاص، أعني: إذا لم يتعاقدا على قتله وتكون الدية في أموالهم.
فَلَوْ جَرَحً الأَوَّلُ ثُمَّ جَزَّ الثَّانِي الرَّقَبَةَ قُتِلَ الثَّانِي
هذا مثال للمسألة السابقة، والله أعلم.
فَلَوْ أَنْفَذَ أَحَدُهُمَا الْمَقَاتِلَ ثُمَّ أَجْهَزَ الثَّانِي فَفِي تَعْيينِ ذِي الْقِصَاصِ مِنْ ذِي الْعُقُوبَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ
…
تصور المسألة ظاهر، واتفق على أنه لا يقتص منهما، واتفق على أنه يقتص من أحدهما، ويعاقب الآخر ويقتل الأول ومعاقبة الثاني، قال أشهب وغيره: وعليه ولا يرث ولا يورث، إلا أنه كالميت. ابن القاسم في تتميمه هذا القول [698/أ]: ويبالغ في عقوبة الثاني، وقد أتى عظيماً، وإن كان المجروح قد أكل وشرب.
سحنون: ويقتل بغير قسامة، لكن يلزم على الأول أمور شنيعة، وهو إذا كان كالميت لا تجوز وصاياه، وقد ذهب إلى ذلك أصبغ، وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة؛ لأن عمر
رضي الله عنه أوصى على تلك الحال، وأنفذ المسلمون وصاياه، ويلزم أيضاً ألا يخاطب بالصلاة، وهو خلاف ما أشار إليه عمر- رضي الله عنه من لزومها حينئذٍ بقوله: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
ابن رشد: ولو قيل: يقتلان معاً، لكان لذلك وجه.
الثَّانِي: الْقَتِيلُ، وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ بإِسْلامٍ، أَوْ جِزْيَةٍ، أَوْ أَمَانٍ، وَانْتِفَاءُ مُوجَبٍ لا عَفْوَ فِيهِ
…
الركن الثاني: (الْقَتِيلُ) أي: الذي يقتل قاتله أن يكون معصوم الدم، وعصمته إما بالإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وأما بجزية؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ باللهِ} إلى قوله:} حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].
وأما بأمان؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} [التوبة: 6].
قوله: (وَانْتِفَاءُ مُوجَبٍ) مرفوع بالعطف على (أَنْ يَكُونَ) أي: وشرطه انتفاء موجب لا عفو به، واحترازاً ممن وجب عليه القصاص؛ لأن للولي أن يعفو عنه، فلو قتله غير الولي قتل به.
وَلا قِصَاصَ فِي مُرْتَدٍّ وَلا زِنْدِيقٍ وَلا زَانٍ مُحْصَنٍ، نَعَمْ يُؤَدِّبُ فِي الافْتِئَاتِ
هذا بيان لما احترز عنه بقوله: (وَانْتِفَاءُ مُوجَبٍ) ويحتمل أن يعود إلى القيد الأول، هو العصمة بالإسلام، وإذا انتفى القصاص عن قاتل المرتد مع أن المذهب استنابته، فلأن ينتفي في الزنديق من باب أولى لتحتم قتله، ونص سحنون على نفي القصاص عن قاتل المرتد ولو كان القاتل نصرانياً، وتأديب قاتل هؤلاء ظاهر لافتئاته على الإمام.
وَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَمَعْصُومٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيُّ عَمْداً فَدَمُهُ لأَوْلِيَاءِ الأَوَّلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ أَرْضًاهُمْ أَوْلِيَاءُ الثَّانِي فَدَمُهُ لَهُمْ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا شَيْءَ لأَوْلِيَاءِ الأَوَّلِ كَمَوْتِهِ
…
قوله: (فَإِنْ قَتَلَهُ) أي: القاتل (أَجْنَبِيٌّ) أي: عمداً احترازاً من الخطأ وسيأتي (فَدَمُهُ) أي: دم الأجنبي لأولياء الأول؛ أي: المقتول الأول على المشهور، وهو مذهب المدونة؛ لأن أولياء الأول استحقوا نفسه فكانوا أحق بما يكون عيناً من قصاص ودية.
وقوله: (فَإِنْ أَرْضَاهُْ) هو تفريع على المشهور، وهو أن دم الأجنبي لأولياء الأول إلا أن يرضيهم أولياء القتيل الثاني فيكون دمه لهم، وظاهر قوله:(فإن أرضاهم) أنه موقوف على اختيار أولياء الأول، وأن لهم ألا يرضوا بما بذلوا لهم من الدية وأكثر منها وهو مذهب المدونة. وقال ابن الماجشون في المبسوط: لولي الثاني أن يدفع الدية إلى ولي الأول ويقتص هو لنفسه، وفهم اللخمي منه إجبار أولياء الأول على قبول الدية.
قوله: (وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا شَيْءَ لِأَوْلِيَاءِ الأَوَّلِ كَمَوْتِهِ) لأن حقهم كان معلقاً بعينه، وهذا يقابل المشهور.
وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ يَمِينُ قَاطِعِ الْيَمِينِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
فتأتى القولان، فعلى المشهور يكون القطع للمقطوع أولاً وهو ظاهر ابن القاسم في الموازية، وإن قطع يد رجل من المنكب فعدا رجل على القاطع فقطع يده من المنكب؛ أنه يقال للمقطوع يده من المنكب: إن شئت فاقتص من قاطع قاطعك من المنكب فقط ولا شيء لك غير ذلكن ويخلي بينه وبين من قطع كفه فيقتص منه ما بقي من يده بعد الكف من المنكب قصاصاً للمقطوع الأول. اللخمي: وقول محمد أحسن.
ابن عبد السلام: وفيه بعد؛ لأنه يقطع رجلين في موضعين مختلفين، ولم يتول قطعه منهما غير واحد.
فَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً جَرَى الْقَوْلانِ فِي الدِّيَةِ
فعلى المشهور تكون الدية لأولياء القتيل الأول، وعلى الشاذ لا يكون لأولياء الأول شيء من الدية ويكون لأولياء القتيل الثاني. وظاهر قوله:(جَرَى الْقَوْلانِ) ليسا منصوصين هنا، أو العقل وليس كذلك، بل هما منصوصان أيضاً.
فَإِنْ فُقِئَتْ عَيْنُ الْقَاتِلِ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَشِبْهُهُ عَمْداً أَوْ خَطَأً فَلَهُ الْقَوَدُ والْعَفْوُ وَالْعَقْلُ وَلَا سُلْطَانَ لِوُلاةِ الْمَقْتُولِ
…
يعني: أن الأطراف لا تدخل تحت النفس، فلا يلزم من استحقاق الأولياء دم القاتل أن يستحقوا أجزاءه، فلذلك كان القاطع إذا قطعت يده أو فقئت عينه أو فعل به شيء عمداً أو خطأً القود في العمد والعقل في الخطأ، واختلف في عكس هذا، وهو إذا قطعت يد رجل عمداً ثم قتل القاطع خطأ أو عمداً فصالح أولياؤه في العمد على مال، فقيل: لا شيء لمن قطعت يده؛ لأن الدية إنما أخذت عن النفس. وقال محمد: إن أخذ الدية في الخطأ أو العمد فللمقطوع يده أخذ حقه من ذلك، واستحسن اللخمي الأول.
فَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْقَاطِعَ فَكَذَلِكَ أَيْضَاً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ كَانَ سُلِّمَ لَهُ
أي: ولي المقتول هو الذي قطع من القاتل يده أو نحوها عمداً أو خطأ، والإشارة بذلك إلى القود والعفو والعقل، المشهور من مذهب المدونة، فيكون للقاتل أن يقتص من الولي، ثم للولي أن يقتله. وقال:(وَلَوْ كَانَ سُلِّمَ لَهُ) لئلا يتوهم المتوهم أن الخلاف قبل التسليم، وأما بعد فقد استحقوه حقيقة ولا يلزم الولي شيء، فبيَّن المصنف أنه لا فرق.
ابن عبد السلام: وأفاد تأخير المبالغة إلى القول الشاذ فيهما [698/ب] قبل تسليم الجاني، وأما قبل تسليمه فلا، بخلاف ما لو قال: ولو كان سلم له على المشهور فإنه يوهم أن الخلاف مقصور على ما بعد التسليم، وعزا في الجواهر الشاذ لابن القاسم في الواضحة،
وعلله بأن النفس كانت لهم، قال: وليعاقبهم الإمام، وأشار أبو عمران إلى أنه لو سلم القاتل إلى الأولياء ليقتلوه فجرحه الولي، ففلت بنفسه أنه لا شيء عليه. قال: وإنما يقتص منه إذا قصد إلى جرحه، وإن غاب عليه أولياء المقتول فأصيب- قد قطعت يداه أو رجلاه - فقالوا: إنما أردنا قتله، فاضطرب حتى أصابه ذلك، فالقول في ذلك قولهم.
الثَّالِثُ: الْقَاتِلُ، وشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ بَالِغاً، عَاقِلاً، غَيْرَ حَرْبيَّ، وَلا مُمَيَّزٍ عَنِ الْمَقْتُولِ بإِسْلامٍ مُطْلَقاً وَحُرِّيَّةٍ مَعَ تَسَاوِيهِمَا
…
الركن الثالث: القاتل الذي يقتص منه، وذكر لشرطه أربعة أجزاء؛ الأول:(أَنْ يَكُونَ بَالِغاً) فلا قصاص على صبي. الثاني: أن يكون (عَاقِلاً) فلا قصاص على المجنون. الثالث: أن يكون (غَيْرَ حَرْبيٍّ) لأن الحربي لا يقتص. الرابع: ألا يكون (مُمَيَّزٍ) بأحد وصفين؛ أولهما: الإسلام، فلا يقتل مسلم بكافر.
وقوله: (مُطْلَقاً) يعني: إن تميز القاتل بالإسلام، وغن كان عبداً مانعاً من القصاص، وإن كان مقتوله حرًّا.
ثانيهما: ألا يكون مميزاً عن المقتول بحرية، فلا يقتل حر بعبد. وقوله:(مَعَ تَسَاوِيهِمَا) أي: في الدين؛ لأنه لو تميز القاتل بالحرية والمقتول بالإسلام لاقتص من القاتل على المشهور كما سيأتي.
فَلا قِصَاصَ عَلَى صَبيٍّ وَلا مَجْنُونٍ بخِلافِ السَّكْرَانِ، وَعَمْدُهُمَا كَالْخَطَأِ، فَلِذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الُعَاقِلَةِ مُطْلَقاً إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ، وَإِلا فَفِي مَالِهِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ كَخَطَئِهِ وَخَطَأِ غَيْرِهِ
…
هذا بيان ما احترز عنه، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ". يعني: النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق.
رواه أبو داود. وفي الموازية: أن ما أصابه المجنون المطبق هدر في الدماء والأموال. وفي المجموعة: في المجنون والمعتق يكسر سن رجل أو يحرق ثوبه؛ أنه لا شيء عليه، ظاهر إطلاقه أنه لا فرق في الصبي بين المميز وغيره، وقد تقدم في غير المميز الخلاف في باب الغصب، بخلاف السكران فإنه يقتص منه، وقد تقدم غير مرة الكلام على حكم السكران.
وقوله: (وَعَمْدُهُمَا) أي: الصبي والمجنون كالخطأ في نفي القصاص. وقوله: (مُطْلَقًا) أي: في العمد والخطأ (وَإِلا) أي: وإن لم يبلغ الثلث ففي مال الصغير أو في ذمته كخطأ غير الصغير إذا كان دون الثلث، وفي بعض النسخ:(كَخَطَئِهِمَا) أي: كخطأ غير الصغير والمجنون، وفي بعض النسخ (كَخَطَئِهِ) أو خطأ غيره كخطأ من غيرهما أو خطأ وغيره؛ أي: إذا شارك أحدَهما مكلفٌ، فإن لكل حكمه.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فِي حَالِ إَفَاقَتِهِ فَكَالصَّحِيحِ
هو ظاهر، ويقتص منه في حال إفاقته.
ابن المواز: فإن أيس من إفاقته كانت الدية عليه في ماله. وقال المغيرة: يسلم إلى أولياء المقتول فيقتلون به إن شاءوا. قال: ولو ارتد ثم جن لم أقتله حتى يصح؛ لأني أدرأ الحدود بالشبهات، ولا أقول هذا في حق الناس. ورأى اللخمي أن يكون الخيار لأولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا هذا المجنون، وإن شاءوا أخذوا الدية إن كان له مال، وإلا اتبعوه بها.
وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ قِصَاصاً إِلا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً، وَيُقْتَلُ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ
أما قتل الكافر بالمسلم فمتفق عليه، وأما عدم قتل المسلم بالكافر فهو مذهبنا خلافاً للحنفية، ودليلنا ما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام:"لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
وقوله: (إِلا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً) الظاهر أن الاستثناء منقطع؛ لأنه في الحقيقة لم يقتل به، بل للفساد في الأرض، بدليل أنه لو عفا ولي الكافر لم يسقط القتل، ولا يقتل الحر بالعبد،
والغيلة بكسر الغين: القتل على المال، وفي معنى الغيلة الحرابة، فإن الحر يقتل فيها بالعبد والمسلم بالكافر، نص عليه ابن يونس وغيره.
وَالْكَافِرُ مِنْ نَصْرَانِيَّ أَوْ يَهُودِيَّ أَوْ مَجُوسِيَّ ذِمِّيَّ أَوْ ذِي أَمَانٍ وَمَنْ لا يُقْتَصُّ لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ مُتَكَافِئُونَ
…
(الْكَافِرُ) مبتدأ، (مِنْ) في (مِنْ نَصْرَانِيَّ) لبيان الجنس (وَمَنْ لا يُقْتَصُّ) معطوف على الكافر من عطف العام على الخاص؛ لأن هذا يشمل عبدة الأوثان ونحوهم، و (مُتَكَافِئُونَ) الخبر؛ لأن الكفر ملة واحدة، فلهذا لو قتل النصراني أو اليهودي مجوسياً قُتِلا به، ويحتمل أن يعطف قوله:(الْكَافِرُ) على (الْمُسْلِمِ) ويكون المعنى: أن الكافر بالمسلم، وبالكافر من نصراني أو يهودي أو مجوسي، ويكون ابتداء المسألة الثانية قوله:(وَمَنْ لا يُقْتَصُّ لَهُمْ) وعلى هذا الاحتمال مشى ابن عبد السلام، وعلى الأول مشى شيخنا وغيره، وكلاهما صحيح.
وَلا يُقْتَلُ حُرٍّ برَقِيقٍ وَلَوْ قَلَّ جُزْءُ رِقِّهِ، وَلا مَنْ فِيهِ عَقْدُ حُرَّيَّةٍ مِنْ مُكَاتَبٍ أَوْ مُدَبِّرٍ وَأُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُعْتَقٍ إِلَى أَجَلٍ، وَيُقْتَلُونَ بالْحُرِّ جَمِيعاً كَالرَّقِيقِ
…
تصور كلام المصنف ظاهر ولا خلاف فيه عندنا، وفي الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ". وروى أيضاً عن عليًّ رضي الله عنه أنه قال: من السنة ألا يقتل حر مسلم بذمي ولاحر بعبد. ونقل الباجي إجماع الصحابة على ذلك.
وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا عَمْداً خُيِّرَ وَلِيُّهُ فِي قَتْلِهِ، فَإِنِ اسْتَحْيَاهُ خُيِّرَ سَيِّدُهُ فِي [699/أ] فِدَائِهِ بالدِّيَةِ أَوْ إِسْلامِهِ. وَفِي الْخَطَأِ يُخَيَّرُ سَيَّدُهُ فِي الدَّيَةِ أَوْ إِسْلامِهِ، وَكَذَلَِ لَوْ ثَبَتَ الأَمْرَانِ عَلَيْهِ بالْقَسَامَةِ
…
هكذا الجملة وقعت في بعض النسخ، ومعناها: إذا قتل العبد حرًّا عمداً خُيِّر وليه- أي: ولي الحر- في قتل العبد واستحيائه، فإن قتله فلا كلام، وإن استحياه خُيِّر سيده في
فدائه بدية الحر وإسلامه للولي، وهذا ظاهر قول أشهب الذي يرى أن موجب العمد التخيير، وأما على قول ابن القاسم أنه ليس لولاة المقتول في العمد إلا أن يقتلوه ولا يلزموه الدية، فيفرق بين المطلوب هنا غير القاتل وهو السيد، ولا ضرب عليه في واحد من الأمرين اللذين يختارهما ولي الدم، بخلاف هذه الصورة فإن للقاتل الحر غرضاً في التمسك بماله لإغناء ورثته، وإن قتل حرًّا خطأ فالقصاص ساقط والجناية متعلقة برقبته، يخير سيده بين أن يفديه بدية الحر أو يسلمه لولي المقتول كما في سائر جنايته. قوله:(وَكَذَلك لَوْ ثَبَتَ الأَمْرَانِ عَلَيْهِ بالْقَسَامَةِ) العمد والخطأ.
وَمَنْ لا يُقْتَصُّ لَهُمْ مِنْ الْحُرِّ لِنُقْصَانِ الرِّقِ مُتَكَافِئُونَ
فتقتل أم الولد وغيرها بالعبد الْقِنِّ، وهو ظاهر.
وَلا يُقْتَلُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَحُرٍّ ذِمِّيٍّ، وَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ فِي افْتِكَاكِهِ بالدِّيَةِ أَوْ إسْلامِهِ فَيُبَاعُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ
…
كى صاحب البيان الاتفاق على ذلك إذا لم تتكافأ دماهما، فإن حرمة الإسلام أعظم، فيخيَّر سيده في افتكاكه بدية الحر الذمي وفي إسلامه في الجناية، فيباع لأولياء الذمي لعدم جواز ملك الكافر للمسلم، وظاهر كلامه: أنه إذا بيع يعطي جميع الثمن لأولياء الذمي وإن كان أكثر من دية الحر، وهو قول ابن القاسم في المدونة وقاله مطرف، وابن الماجشون: إن فضل فضل فهو لسيده. أصبغ: والأول أصوب.
وَيُقْتَلُ الْحُرُّ الذِّمِّيُّ بالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ كَالْحُرِّ بالْحُرِّ وَالْقِيمَةُ هُنَا كَالدِّيَةِ، وَقِيلَ: لا يُقْتَلُ وَهُوَ كَسِلْعَةٍ
…
قد يتبين بالمسألة السابقة أن العبد المسلم أعظم حرمة من الذمي الحر، فلذلك قتل الحر الذمي بالعبد المسلم؛ لأنه إذا قتل بالكافر فأحرى إذا كان المقتول أعظم حرمة،
وأشار بقوله: (وَالْقِيمَةُ هَنَا كَالدِّيَةِ) إلى أن سيد العبد لو أراد أن يلزم الذمي قيمة العبد لجرى على الخلاف بين ابن القاسم وأشهب في الدية، فعلى قول ابن القاسم ليس له إلا قتل الذمي وليس له أن يلزمه القيمة، وعلى قول أشهب له ذلك.
قوله: (وَقِيلَ: لا يُقْتَلُ) أي: الذمي بالعبد المسلم، هو قول سحنون وأحد قولي ابن القاسم.
وَلِلأُبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ أَثَرٌ فِي الدَّرْءِ باحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ إِذَا ادَّعَيَا عَدَمَ الْقَصْدِ كَمَا لَوْ حَذَفَهُ بالسَّيْفِ وَادَّعَى أَدَبَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ لا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ شَرَكَهُ أَحَدٌ فِي قَتْلِهِ قُتِلَ
…
لما فرغ من المانع مطلقاً؛ وهو الإسلام والحرية، شرع في المانع من جهة، ولهذا قال:(أَثَرٌ فِي الدَّرْءِ) ولو بعده مانعاً مطلقاً. والدرء: الدفع؛ أي: دفع القصاص. والباء في (باحْتِمَالِ) للسببية، والسببية هي الشفعة التي جبلا عليها، فلم يتهما على إرادة القتل إذا ادعيا عدم القصد؛ أي: إلى القتل، ثم مثَّل لذلك بما لو حذفه بسيف فمات، نحوه في الموطأ في قصة المدلجي، وفيه أن عمر رضي الله عنه غلَّظ عليه الدية؛ لأنه لما كان فعله يقتل به الغير وسقط عنه هو القتل للشبهة؛ غلظت عليه الدية توسطاً بين الحالتين. قوله:(وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الأَبِ لا يُقْبَلُ مِنْهُ) أي: عدم القصد إلى قتله.
ابن عبد السلام: وفاعل (شَرَكَهُ) ضمير يفهم من السياق؛ أي: شركه أجنبي. انتهى. وقد يقال: بل هو عائد إلى غيره.
وَلِذَلِكَ قُتِلَ مُكْرِهُ الأَبِ دُونَهُ
(مُكْرِهُ الأَبِ) بكسر الراء: اسم فاعل: أي: ولأجل الشبهة وتباين حكم الأب من غيره، لو أكره الأجنبي الأب على قتل ولده؛ قتل الأجنبي فقط، وقد تقدم إلى أن المكرِه والمكرَه يقتلان معاً، فلولا ما أشار إليه لقتل الأب أيضاً.
أَمَّا لَوْ قَتِلَ مَعَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ. كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَزَّ يَدَهُ فَقَطَعَهَا، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ فِي عَيْنَيْهِ فَأَخْرَجَهَا، وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَرَفَ بالْقَصْدِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يُقْتَلُ الأَبُ بابْنِهِ بِحَالٍ
…
الأول -هو المشهور-: أنه يقتل هب إذا انتفت شبهة إرادة التأديب، ويقول أشهب في نفي القصاص عن الأب ولو كان على وجه تتعين معه الشبهة قال الشافعي، وقد روى الترمذي أحاديث ظاهرها لقول أشهب، لكن قال عبد الحق في الأحكام: لا يصح شيء منها.
وَالأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ لِلأَبِ كَالأَبِ، وَفِي كَوْنِهِمَا مِنَ الأُمِّ كَالأُمِّ أَوْ كَالأَجْنَبيِّ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
…
نحوه في الجواهر واللخمي؛ لأنه قال في الجواهر: وكذلك لا يقتل الأجداد والجدات من قبل الأب والأم، من يرث منهم ومن لا يرث، وبهذا قال عبد الملك، وقال ابن سحنون عن أبيه: اتفقوا على أنه تغلَّظ في الجد والجدة من قبل الأب، واختلفوا في الجد والجدة من قبل الأم، فقال ابن القاسم: هما كالأم، وبه قال سحنون. وقال أشهب: هما كالأجنبيين.
اللخمي: وقول عبد الملك أحسن؛ لأن كل واحد منهما حناناً لايتهم معه على القتل. وروي عن ابن القاسم التغليظ في الجد أبي الأب والجدة أم الأب، ووقف في أبي الأم وأم الأب.
قال شيخنا- رحمه الله: وكان ينبغي أن يعكس ما قالوه هنا؛ إذ جهة الأم أشد شفقة، بدليل تقديم لجدات لأم في الحضانة، ولا خلاف أنها لا تغلظ [699/ب] على غير الأجداد والجدات من الأقارب.
وَشَرْطُ الْقِصَاصِ عَلَى الأَجْدَادِ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بالدَّمِ غَيْرَ وَلَدِ الأَبِ
يعني: إذا اقتص من الجد لإضجاعه ولد ابنه مثلاً، فشرط ذلك أن يكون القائم به عصبة غير الولد: لأنه ليس لابن أن يقتل أباه، وهكذا قال في الموازية فيمن قتل زوجته
وابنها ابنه؛ أنه ليس له قتل أبيه وأرى له الدية على عاقلته، وفرض المصنف المسألة في الأجداد؛ لأنه يؤخذ منه الحكم في الآباء بطريق الأولى، كما لو قتل رجل ابنه فليس لابنه الآخر القصاص منه، لا يقال: إن ما ذكره من هذا الشرط منافٍ لما في المدونة، ويكره قصاص الابن من أبيه، فإن الكراهة لا تنافي الجواز؛ لأنا نقول المراد بالكراهة المنع، وإنما عبر بها المصنف تبعاً للمدونة، وعلى المنع حملها أبو عمران وغيره.
وَلا أَثَرَ لِفَضِيلَةِ الرُّجُولِيَّةِ وَالْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَالشَّرَفِ وَسَلامَةِ الأَعْضَاءِ وَصِحَّةِ الْجِسْمِ، فَيُقْتَلُ الصَّحِيحُ بالأَجْذَمِ، وَالأَعْمَى وَالْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بالسَّالِمِ ....
قد تقدم أنه لا أثر للعدد، وأما بقية المسائل؛ فلقوله تعالى:(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[المائدة: 45] فعم؛ فلذلك قتل الرجل بالمرأة والصحيح بالمريض. وقوله: (وَالأعْمَى وَالْمَقْطُوعُ
…
إلخ). هو عكس الذي قبله، والمقصود: أنه كما يقتل السليم بالمعيب فكذلك العكس.
وقال ابن عبد السلام: وفي كلام المصنف قلب؛ لأن مقصوده قتل السالم بغيره ولا حاجة إلى دعوى القلب.
وَإِذَا صَادَفَ الْقَتْلُ تَكَافُؤَ الدِّمَاءِ لَمْ يَسْقُطْ بَزَوَالِهِ؛ كَالْكَافِرِ يُسْلِمُ، وَالْعَبْدُ يَعْتِقُ
لما تكلم على ما يمنع القصاص وما لا يمنعه، تكل في المانع إذا حصل بعد القتل، وبيَّن أنه لا عبرة به، كما لو أسلم الكافر بعد قتله كافراً، أو كما لو أعتق العبد بعد قتله عبداً، فإن القصاص لا يسقط عنهما؛ لأن العبرة التكافؤ حالة القتل وهو حاصل، ولا يعترض عليه بما أوصى لوارث فصار غير وارث أو العكس، فإن العبرة بالمثال؛ لأن الوصية عقد منحل، وفي المجموعة في نصراني قتل نصرانياً عمداً ولا ولي له إلا السلطان
ثم أسلم، قال: العفو عنه إذا صار أمره إلى الإسلام أحب إليَّ؛ لأن حرمته الآن أعظم من المقتول، ولو كان للمقتول أولياء لكان القود لهم.
فَلَوْ زَالَ حُصُولِ الْمُوجِبِ وَوُصُولِ الأَثَرِ كَعِتْقِ أَحَدِهِمَا أَوْ إِسْلامِهِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الإِصَابَةِ وَبَعْدَ الْجُرْحِ وَقَبْلَ الْمَوتِ. فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْمُعْتَبَرُ فِي الضَّمَانِ حَالُ الإِصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ رَمَى صيداً ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَسُحْنُونُ: حَالُ الرَّمْيِ، ثَم رَجَعَ سَحْنُونُ، فأَمَّا الْقِصَاصُ فَبِالْحَالْيْنِ مَعاً
…
(زَالَ) أي: التكافؤ بين (حُصُولِ الْمُوجِبِ) أي: السبب (وَوُصُولِ الأَثَرِ) أي: السبب. فقال ابن القاسم: المعتبر في الضمان- أي: ضمان دية الحر وقيمة العبد- حال الإصابة والموت؛ أي: حصول السبب، كما لو رمى صيداً أو أرسل عليه جارحاً ثم أحرم، ثم أصابه السهم أو الجارح فعليه جزاؤه، وقال أشهب وسحنون: المعتبر في الضمان حال الرمي وحال الجرح، ورجع سحنون إلى موافقة ابن القاسم، وأما القصاص: فيعتبر في الحالين معاص؛ أي: فيشترط دوام التكافؤ من حصول السبب إلى حصول المسبب اتفاقاً، ولو قيل باعتبار السبب في الجرح والمسبب في مسألة الرمي ما بعد، وفي كلام المصنف إشارة إلى ترجيح قول ابن القاسم بالوجهين، أولهما المسألة المقيس عليها، فإن أشهب وسحنوناً ليوافقا عليها، ما أحسن الاستدلال بها، وثانيهما ما اتفق عليه من اعتبار حال الإصابة في القصاص.
فَلَوْ رَمَى عَبْدٌ حُرًّا خَطَا ثُمَّ أُعْتِقَ فَالدِّيَةُ عَلَى الأَوَّلِ وَالْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى الثَّانِي
أي: ثم أعتق قبل الإصابة لزم الضمان على قول ابن القاسم الدية؛ لأنه حالَ الضرب كان حرًّا، وعليه القيمة على قول أشهب؛ لأن الرمي حالَ كان عبداً.
وَعَكْسُهُ الدِّيَةُ عَلَى الأَوَّلِ وَالْقِيمَةُ عَلَى الثَّانِي
عكس هذا الفرع لو رمى حر عبداً ثم أعتق العبد؛ فعلى الرامي الدية على قول ابن القاسم، لأنه حال الإصابة كان حراً، وعليه القيمة على قول أشهب؛ لأن الرامي كان عبداً، ولا فرق في هذه المسألة بين أن يكون رمي العبد خطأً أو عمداً.
وَلَوْ رَمَى مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَدِيَةُ مُسْلِمٍ عَلَى الأَوَّلِ وَلا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي
…
لأن الرمية خرجت حالَ كون الرمي مهدور الدم، ووصلت إليه حال كونه معصوم الدم وتصوره ظاهر، وهو صحيح بالنسبة إلى الحربي، وأما بالنسبة إلى المرتد، فإنما يصح على قول سحنون في المرتد أنه لا شيء على عاقلته، وأما على قول أشهب فلا، كأنه يرى على قاتل المرتد الدية، اختلف على قوله هل دية مجوسي أو دية الدين الذي ارتد إليه.
وَلَوْ رَمَى مُرْتَدٍّ مُسْلِماً خَطَأً ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى الأَوَّلِ، وَفِي مَالِهِ عَلَى الثَّانِي؛ إِذْ لا عَاقِلَةَ لمُرْتَدَّ
…
هذا عكس الذي قبله. وقيل بقوله: (خَطَأٌ) لأنه لو كان عمداً لقتل على القولين، فالدية على العاقلة؛ لأن القاتل كان حال الرمي مسلماً، وكلامه ظاهر التصور.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ مُسْلِمٌ نَصْرَانِياًّ أَوْ مَجُوسِياًّ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ تَمَجَّسَ أَوْ تَنَصَّرَ ثُمَّ مَاتَ؛ فَدِيَةُ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْلامِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الأَوَّلِ [700/أ] وَدِيَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَى الثَّانِي
…
(ثُمَّ أَسْلَمَ) أي: أحدهما، وهذا لأن العطف باقٍ، ووقع في بعض النسخ:(أَسْلَمَا)، وأما (تَمَجَّسَ أَوْ تَنَصَّرَ) فلا يصح إلا بالإفراد؛ أي: تمجس النصراني أو تنصر المجوسي، ولا يصح تمجسهما؛ لأن معناه حينئذٍ: تمجس النصراني والمجوسي، وهو في المجوسي تحصيل الحاصل.
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ فَالْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَلا قَوَدَ باتِّفَاقٍ فِيهِمَا
…
أي: لو قطع رجل يد رجل مسلم ثم ارتد المقطوعة يده ونزا في جرحه حتى مات وجب القصاص حين القطع؛ لحصول التكافؤ، فلا قصاص في النفس، كأنه صار إلى محل دمه فيه هدر.
وقوله: (فِيهمَا) يعود على القولين، ويحتمل أن يعود على القطع وعدم القود؛ لأن القولين يتفقان في الأمرين، وهذا موافق لقوله:(فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَبِالْحَالَيْنِ مَعاً).
فَأمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِبَانَةُ طَرَفٍ، وَكَسْرٌ، وَجُرْحٌ، وَمَنْفَعَةٌ
لما فرغ من الكلام على النفس شرع فيما دونها، وجعل ما دون النفس أربعة أقسام؛ لأن أثر الضرب إما في الذات، أو في المعنى القائم بها. الثاني: المنفعة، والأولى إما أن يقع بسبب ذلك الضرب انفصال بعض الأجزاء عن بعض أو لا، والأول: إبانة الطرف، والثاني: إما أن يكون الضرب هيئة لذلك الانفصال أو لا، والأول هو الكسر والثاني هو الجرح، فإن قيل: في كلامه هنا مع كلامه في أول الجراح تنافي؛ لأنه جعل الطرف بعض المقابل للنفس، وجعله في أول الجراح كل المقابل، ويمتنع أن يكون الشيء كلاًّ وبعضاً، قيل: تمام المقابل للنفس أولاً هو الطرف، فهو أعم من أن تحصل فيه إبانة أو كسر أو جرح أو زوال منفعة، وبعض المقابل للنفس هو إبانة الطرف وهو أخص، فلا تنافي، و (كَسْرٌ، وَجُرْحٌ) وما بعده مرفوع بالعطف على إبانة.
وَالأَمْرُ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَالْقَتْلِ
يعني: أن ما تقدم في أركان القصاص في النفس مشروط هنا فيما دونها.
إِلا أَنَّ مَنْ يُقْتَصُّ لَهُ فِي الْقَتْلِ مِنْ النَّاقِصِ لِشَرَفِهِ لا يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ فِي الأَطْرَافِ عَلَى الْمِشْهُور. كَمَا لَوْ قَطَعَ الْعَبْدُ أَوِ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. وَرُوِيَ: الْمُسْلِمُ مُخَيَّرٌ. وَرُوِيَ: يَجْتَهِدُ السُّلْطَانُ. وَرُوِيَ: تَوَقَّفَ فِيهِ. وَقِيلَ: الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْقَوَدِ
…
ما شهره المصنف، قال الأستاذ: هو ظاهر المذهب. وقال ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم: المسلم بالخيار إن شاء اقتص أو أخذ الدية، وجعله المصنف رواية، ولعله اعتمد على قول الأستاذ، وجعل أصحابنا هذه رواية مخرجة في العبد والكافر، فقالوا: للمسلم أن يقتص منهما، وخرجوا هذه الرواية من قول مالك ي النصراني يفقأ عين المسلم. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: يجتهد السلطان في ذلك. والرواية بالتوقف رواها أشهب في العتبية، وقيل: الصحيح وجوب القود، هكذا نقل الأستاذ عن الأصحاب، قال: وهو كما قالوا أو لتأيده بالعمومات، كقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله عليه الصلاة والسلام: "الْمُسْلِمُونَ تَتكَافَأ دِمَاؤُهُمْ". ولأن في عدم القصاص من الكافر إغراء لهم على المسلمين، وتأول جماعة- وأراه ابن عبد الحكم- من اجتهاد السلطان على وجوب القود. وروى ابن القصار عن مالك القصاص. وقوله:(وَرُوِيَ: الْمُسْلِمُ مُخَيَّرٌ) قد تقدم أن الأصحاب خرجوا ذلك في العبد أيضاً.
وَتُقْطَعُ الأَيْدِي بالْوَاحِدَةِ كَالنَّفْسِ
لعله إنما نص على هذه لئلا يتوهم أن المذهب كمذهب أبي حنيفة؛ حيث إنه قتل الجماعة بالواحد، ولا تقطع بالواحدة، وإلا فهي تؤخذ من قوله:(وَالأَمْرُ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَالْقَتْلِ).
أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَتِ الْجِنَايَتَانِ مِنْ غَيْرِ مُمَالأَةٍ اقْتُصَّ مِنْ كُلِّ بمِسَاحَةِ مَا جَرَحَ
احترز بقوله: (مِنْ غَيْرِ مُمَالأَةِ) مما لو تمالئوا فإنهم يقطعون، وذكر أنه يقطع من كل الجنايتين بمساحة ما جنى؛ أي: لا ينظر إلى تفاوت الأيدي بالغلظ مثلاً، بل لو قطع أحدهما النصف والآخر النصف، لقطع من يد كلٍّ منهما النصف، وهذا ظاهر إذا كان ابتداء أحدهما من غير الجهة التي ابتدأ الأول، وقطع باقي اليد مثلاً، فإنه يبتدأ في القصاص من الجهة التي بدأ بها الجاني، فتأمله.
الْجِرَاحُ: وَفِي الْمُوضِحَةِ؛ وَهِيَ: مَا أَفْضَى إِلَى الْعَظْمِ مِنَ الرَّاسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ إِبْرَةٍ، وَفِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الدَّامِيَةِ، وَالْحَارِصَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ، وَالسِّمْحَاقِ؛ وَهِيَ: الْكَاشِطَةُ لِلْجِلْدِ، وَالْبَاضِعَةِ؛ وَهِيَ: الَّتي تَبْضَعُ اللَّحْمَ؛ أَيْ: تَشُقُّهُ. وَالْمُتَلاحِمَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ كَثيراً مِنْ غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْمِلْطَاةٍ؛ وَهِيَ: الَّتِي يَبْقَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ سِتْرٌ رَقِيقٌ- الْقِصَاصُ
(الْقِصَاصُ) مبتدأ مؤخر (وَفِي الْمُوضِحَةِ) وما عطف عليها الخبر، وليس القصاص ترجمة كما يقع في بعض النسخ، ومعنى كلامه: أنه يقتص من الموضحة وما قبلها منالجراح، والذي قبلها ستة: ثلاثة متعلقة بالجلد، وثلاثة متعلقة باللحم.
فأما المتعلقة بالجلد؛ فأولها الدامية: وهي التي تسيل منها الدم، ثم الحارصة: وهي التي تشق الجلد، ثم السمحاق: وهي التي تكشط.
وأما الثلاثة المتعلقة باللحم؛ فأولها الباضعة: وهي التي تبضع اللحم؛ أي: تشقه، ثم [700/ب] المتلاحمة: وهي تغوص في اللحم في عدة مواضع، ثم الملطاة: وهي التي يبقى بينها وبين العظم ستر رقيق، ولم يفسر المصنف الدامية؛ لأن لفظها ينشد عن تفسيرها على أنه يمكن أن يكون مراد المصنف أن الدامية مرادفة للحارصة، وهكذا ذكر في التنبيهات،
فقال: أولها الحارصة بحاء وصاد مهملين: هي التي جرحت الجلد؛ أي: قطعته، وهي الدامعة بعين مهملة؛ لأن الدم ينبع منها كالدمع، ثم ذكر قولاً كما فسرنا به كلام المصنف أولاً، ويرجح حمل كلام المصنف على الأول، بأنه كذلك في الجواهر، وذكر ابن عبد البر قولاً ثالثاً فقال: أولها الحارصة، ويقال لها الحرصة: وهي حرصت الجلد؛ أي: شقته، قال: وقيل: بل الدامية، وهي تدمي من غير أن يسيل منها دم، ثم الدامعة، وهي: التي يسيل منها، وقيل: الدامية والدامعة سواء، ويقال: مِلطاء بكسر الميم بالمد والقصر، وملطاة. وقيل: إن الباضعة والمتلاحمة مترادفتان. وقيل: الحارصة هي السمحاق، وفي هذه الألفاظ خلاف كثير من غير ما ذكرت تركته خوف الإطالة.
وَلا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ، وَالْمُنَقَّلَةِ؛ وَهِيَ: مَا أَطَارَتْ فِرَاشَ الْعَظْمِ وَإِنْ صَغُرَ، وَالأمَّةِ؛ وَهِيَ: مَا أَفْضَى إِلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ بِقَدْرِ إِبْرَةٍ، وَالدَّامِغَةِ؛ وَهِيَ: الَّتِي تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: فِي الْهَاشِمَةِ الْقِصَاصُ إِلا أَنْ تَصِيرَ مُنَقَّلةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لابُدَّ أَنْ تَصِيرَ مُنَقَّلَةٌ
أي: بعد الموضحة، ويحتمل بعد الجراح السابقة، ويسقط على قول ابن القاسم ذكر الهاشمة؛ لأنها لابد أن تصير منقلة عنده، و (الْمُنَقَّلَة) بكسر القاف، وحكي فيها الفتح، (فَرَاشَ) بفتح الفاء وكسرها، ويقال: لأن (مَا) موصولة أيضاً، وفسر بعضهم الأمة بما فسر به المصنف الدامغة بالغين المعجمة.
ابن عبد السلام: والظاهر أنهما مترادفان أو كالمترادفين، وإذا قلنا بالقصاص في الهاشمة، فقال أشهب: يستفاد منه، فإن أدت إلى الهشم وإلا أخذ أرش الزائد.
محمد: وهو صواب إذا كان بذي جرح الأول موضحة ثم تهشمت، فأما إذا كانت الضربة هي التي هشمته فلا قود فيها.
اللخمي: يريد إذا رضت اللحم وهشمت ما تحتها من العظم، فأما لو كان ذلك بسيف أو سكين، فشقت اللحم فبلغت العظم ثم هشمته، فإن له أن يقتصَّ من موضحه. انتهى.
وما ذكره المصنف من نفي القصاص في المنقَّلة هو لمالك، وبه أخذ ابن القاسم وأشهب، وهو مروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر عبد الوهاب رواية ثانية بثبوت القصاص فيهما، وأقاد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه من المنقِّلة، وروي أنه أقاد من المأمومة، وروي من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا قَوَدَ فِي الْمَامُومَةِ وَلَا فِي الْجَائِفَةِ وَلَا فِي الْمُنَقِلَةِ". لكنهم ضعفوه.
وَفِي جِرَاح الْجَسَدِ مِنَ الْهَاشِمَةِ وَغَيْرِهَا وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهِ الْقَوَدُ بشَرْطِ أَنْ لا يَعْظُمَ الْخَطَرُ كَعِظَامِ الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَالْفَخِذِ، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ إِنْ كَانَ مَخُوفاً بخِلافِ الْعَضُدِ وَالتُّرْقُوَةِ
…
يريد: أن ما تقدم من عدم القصاص في الهاشمة والمنقَّلة الجائفة إنما هو إذا كان في الرأس العظيم الخطر، وأما هاشمة الجسد وغيرها فذلك غير مخوف فيقاد منه، ونقل في النوادر عن ابن القاسم وأشهب القصاص في منقلة الجسد، ونص المصنف على الظفر؛ لأن فيه خلافاً، ففي النوادر: واختلف قول مالك في الظفر، فقال: إن كان يستطاع القصاص اقتص منه، وروى ابن وهب في المجموعة أن فيه الاجتهاد، و (الْقَوَدُ) مبتدأ خبره (فِي الْجِرَاحِ) ثم بين أن القصاص مشروط بألا يعظم الخطر؛ أي: لا يكون متلفاً، لأنه إذا اقتص في المتلف يؤدي إلى أخذ النفس فيما دونها وهذا هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: يقتص من كل جرح وإن كان متلفاً، إلا ما خصه الحديث عنه من المأمومة والجائفة، وبقي على المصنف شرط آخر وهو أن تتحقق فيه المماثلة، فإن كان لا تتأتى فيه المماثلة، فلا قصاص فيه اتفاقاً، كبياض العين، وإن تأتت فيه المماثلة والغالب نفيها ككسر
العظام؛ فحكى عبد الوهاب فيه روايتين، و (الْخَطَرُ) بفتح الخاء المعجمة والطاء، الجوهري: وهو الإشراف على الهلاك.
قوله: (كَعِظَامِ الْصَّدْرِ) مثال لما يعظم فيه الخطر. وكذلك القطع لا قصاص فيه بخلاف العضد والترقوة ففيه القصاص.
ابن عبد السلام: قال غير واحد، ولابد من جراح العمد من تأديب القاضي للجارح، اقتص منه أو لم يقتص.
عياض: والترقوة بفتح التاء وضم القاف، وهو عظم أعلى الصدر المتصل بالعنق.
وَإِذَا بَرِئَ الْعَظْمُ الْخَطِرُ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ فَكَالْخَطَأِ فَلا شَيْءَ فِيهِ سِوَى الأَدَبِ فِي الْعَمْدِ، بخِلافِ الْعَمْدِ فِي غَيْرِه، فَإِنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثْمٍ
…
العثم بالعين المهملة والثاء المثلثة المفتوحة العين، هكذا رأيت مضبوطاً بفتح الثاء في نسخة صحيحة من الصحاح، وقال عياض: العثم والعثل بالميم واللام والعين المهملة المفتوحة والثاء المثلثة مفتوحة مع [701/أ] اللام ساكنة مع الميم كلاهما بمعنى؛ وهو الأثر والشَّين؛ يعني: أن ما لا قصاص فيه لخطره لو برئ على غير عثم فلا شيء، أما القصاص فلما تقدم أنها مخوفة، وأما العوض فلأن الشرع لم يسمِّ فيه شيئاً، وكل ما لاتسمية فيه فإنما هو بحسب الشِّين، والفرض أنه لا شَين، نعم يؤدِّب القاضي المتعمد لتعديه.
وقوله: (بخِلافٍ الْعَمْدِ فِي غَيْرِهِ) أي: غير الخطر، وهو ظاهر.
وَيُْتَصُّ فِي الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَالْعَيْنِ، وَالأَنْفِ، وَالأُذُنِ، وَالسِّنِّ، وَالذَّكَرِ، وَالأَجْفَانِ، وَالشَّفَتَيْنِ
…
لقوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِِصَاصٌ} [المائدة: 45] وجمع الأجفان وثنَّى الشفتين وأفرد ما قبلهما؛ لأن اليد وما بعدها متقاربة ي المنفعة، لأنه اتفق
على تساوي اليدين وما بعدهما في الدية، وليوافق في العين وما بعد نص الآية، وثنَّي الشفتين ليبين تساويهما؛ لأن ابن المسيب يعضد السفلى كما سيأتي، وجمع الأجفان لتعددهما وليبين تساويهما، فقد روي عن الشعبي في أحد قوليه أن في الأسفل ضعف ما في الأعلى، وعكس مكحول.
وَفِي اللِّسَانِ رِوَايَتَانِ، وَفِيهَا: إِنْ كَانَ مُتْلِفاً لَمْ يُقَدْ مِنْهُ
الروايتان مبنيتان على خلاف في تحقيق: هل القصاص منه خطر أو لا، وما ذكره عن المدونة: الظاهر أنه غير متلف فيه.
ابن عبد السلام: وظاهر المدونة خلاف ما حكاه المؤلف عنها، ففيها: وسمعت أهل الأندلس سألوا مالكاً عن اللسان إذا قطع وزعموا أنه ينبت، فرأيت مالكاً يصغي إلى أنه لا يعجل حتى ينظر إلى ما يصير إذا كان القطع منعه الكلام، قلت: في الدية أو القود؟ قال: في الدية، وهذا الترديد إنما هو في مسألة أخرى، هل ينتظر بالدية إلى البرء أم لا، وكذلك بالقود عند بعض الشيوخ، لا في أنه متلف. انتهى. وفيه نظر؛ لأن فيها قبل هذا: وفي اللسان القود إذا كان يستطاع منه القود ولم ينك متلفاً مثل الفخذ والمنقلة والمأمومة وشبه ذلك، وإن كان متلفاً لم يُقَد منه.
وَفِيهَا: فِي رَضِّ الأُنْثَثَيْنِ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفاً، وَمَا أَدْرِي مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ
هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها:(فِيهَا: فِي رَضَّ الأُنْثَيَيْنِ) وهي أحسن؛ لأنها كذلك في التهذيب، لأنه نص في المدونة على وجوب القصاص في إخراجهما.
وَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ نِصْفُ الدِّيَةِ بغَيْرِ تَفْصِيلٍ
هذه المسألة والتي بعدها لا تناسب ما تكلم فيه المصنف؛ لأنه إنما تكلم فيما يقتص منه، وإنما يناسب الكلام على الديات، ونبه بقوله:(بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ) على قول ابن المسيب
في اليسرى نصف الدية، وفي اليمنى الثلث، قيل له: لَمِهْ؟ قال: لأن اليسرى إذا ذهبت لم يولد له وإذا ذهبت اليمنى ولد لهن وعلى ما حكاه ابن حبيب أن في اليسرى الدية كاملة، وهو أشهر عند المذهب من قول ابن المسيب حتى أن بعضهم نسبه لابن حبيب، والصحيح أنه نقله ولم يسم قائله، وأبعد من قال أن المصنف أشار بعدم التفصيل إلى أنه لا فرق بين أن يتقدم قطعها عن الذكر أو يتأخر عنه، وسيتكلم على ذلك في فصل الديات.
وَالشَّفَتَانِ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: فِي السُّفْلَى ثُلُثُ الدِّيَةِ
علل ابن المسيب ذلك: بأن السفلى أحمل للطعامن ورد عليه في المجموعة بأن العليا أشد، كما لو قيد ابن شعبان في الشفة التي يجب بذهابها الدية كل ما زال جلد الذقن والخدين من أعلى أو أسفل مستدير بالفم، هو كل مرتفع من اللثات.
الباجي: وما كان في الجانبين فذلك الشدقان، فإن اتسعت الشفة ولم تظهر هناك مباينة أحد الجانبين للآخر ففيها حكومة، وإن ظهرت فيجب من ديتها بقدر ما ظهر؛ لأنه في معنى النقص، فإن نقص مع ذلك شيء من الكلام أعطي على أكثر الأمرين ما نقص من الشفتين من الكلام، قاله في المجموعة، وقال: هذا الأصل يجب له ما نقص من كل واحد منهما.
وَإِذَا قَطَعَ مِنْ لَحْمِهِ بَضْعَةً فَفِيهَا الْقِصَاصُ
وفي نسخة: (قَطَعَهُ) ومعناهما واحد. وقوله: (فَفِيهَا) البضعة، ويحتمل في المدونة بعدم موجب نسبة هذه المسألة للمدونة، وبضعة اللحم بفتح الباء لا غيرن وأما في العدد، فيقال: بضع وبضعة بفتح الباء وكسرها فيهما.
وَفِي ضَرْبَةِ السَّوْطِ الْقَوَدُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ
المشهور مذهب المدونة، والشاذ أيضاً فيها؛ لأنه لا قود فيها كاللطمة، والفرق على المشهور بين اللطمة وضربة السوط.
عيسى: إلا أن يقال الأصل أنه لا قصاص إلا في الجراح؛ لقوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)[المائدة:45] واللطمة لا جرح فيها، والخلاف في السوط مبني على أنه يستلزم الجرح غالباً أو لايستلزمه.
ابن عبد السلام: والمشهور أن الضرب بالعصا لا قود فيه.
وَأَمَّا الْمَعَانِي كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ فَإِنْ كَانَ ذَهَابُهُ بسِرَايَةِ مَا فِيهَ الْقِصَاصُ كَمُوضِحَةٍ اقْتُصَّ لَهُ فِيهَا. فَإِنْ ذَهَبَ اسْتَوْفَى وَإِلا فَعَلَيْهِ دِيَةُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ..
لما فرغ من الضرب والكسر والجرح تكلم على المعنى ومثله بالسمع والبصر، وأدخل كاف التشبيه ليدل على عدم الحصر، ليدخل فيه الذوق والشم وغيرهما. وقوله:(ذَهَابُهُ) عائد على المعنى؛ أي: فإن كان ذلك المعنى بسبب جرح فيه القصاص سرى [701/ب] إلى تلف ذلك المعنى، كما أوضحه موضحة عمداً ذهب منها بصره، ويقتص من الجاني بمثلها، فإن ذهب بصره فقد حصل المطلوب، وإن لم يذهب وجبت دية البصر للمجني عليه.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي مَالِهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ
أي: دية ما لم يذهب في ماله، وهو مذهب المدونة، وروى أشهب أنه من العمد الذي يتعدد القصاص بما شبه الجائفة.
وَكَذَلِكَ السِّرَايَةُ إِلَى يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَلا قِصَاصَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجَبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ وَهُوَ كَالخَطَأِ إِلا الأَدَبَ
…
أي: مثل السراية إلى المعنى السراية إلى الضرب، كما لو جرحه في كتفه فشلت يده، وهو ظاهر في أشفار العينين والحاجبين واللحية، وهو كالخطأ وعمد الأدب؛ لأن هذه ليست جراحاً وإنما ورد القصاص في الجراح.
خليل: والمراد إذا زال الشعر لا لحم الحاجب، ومعنى كلامه: أنه إذا لم ينبت الشعر ففيه حكومة ولا قصاص في عمد الأدب والخطأ، نعم يؤدب في العمد وهذا هو المشهور. وقال أشهب وأصبغ: في ذلك القصاص، وفي إزالة شعر الرأس.
وعن المغيرة في الرجل ينتف لحية الرجل أو رأسه أو شاربه أو بعض ذلك منه عمداً؛ فلا قود فيه وفيه الأدب بالاجتهاد، لاختلاف عظم الخطر فيها، ولو نتف جميع اللحية والشارب فاقدته منه لكان ذلك أقرب إلى الصواب، أن تكون لحية بلحية وشارب بشارب، وأما إن نتف بعض ذلك فليس إلا الأدب. قال في النوادر: وأعرب أصبغ فيما أحسب أن القصاص فيه بالوزن، وعاب ذلك غيره لاختلاف اللحية للصغر والكبر. وقال الباجي: لو قيل يقتص من الرأس، وباللحية من اللحية لكان صواباً.
وَفِيهَا: إِذَا ذَهَبَ الْبَصَرُ بضَرْبَةٍ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ؛ إِنْ كَانَ يُسْتَطَاعُ الْقَوَدُ مِنَ الْبَيَاضِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ أُقِيدَ، وَإِلا فَالْعَقْلُ
…
نسبها للمدونة لإشكالها؛ لأن القياس أن يضرب كما ضرب، وإن آل إلى الحساب عينه، وذكر أبو عمران أنه يقاد من العين التي ذهب بصرها بجناية وهي قائمة، قال: وأرفع ما في ذلك أن عثمان- رضي الله عنه أتى برجل لطم عين رجل فذهب بصره وعينه قائمة، فأراد عثمان بقيده فأعيي ذلك عليه وعلى الناس حتى أتى علِيَّاً رضي الله عنه، فأمر بالمصيب فجعل على عينه كرسف، ثم استقبل به عين الشمس وأدنيت من عينه مرآة فالتمع بصره وعينه قائمة، وروي: أن علِيَّاً رضي الله عنه، أمر بمرآة فأحميت ثم أدنيت قطعت عينه وبقيت قائمة مفتوحة.
وَلَوْ شَلُّتْ يَدُهُ بضَرْبِهِ ضُرِبَ مِثَلَها، فَإِنْ شَلَّتْ وَإِلا فَالْعَقْلُ فِي مَالِهِ
تصوره ظاهر، وأطلق المصنف بقوله:(ضُرِبَ مِثْلَهَا) تبعاً للمدونة، وقيده أشهب، فقال: هذا إذا كانت الضربة بجرح فيه القود، وإن ضربه على رأسه بعصا فشلت يده؛ فلا قود فيه وعليه دية اليد.
وَتُشْتَرَطُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَلا تُقْطَعُ الْيُمَنَى بالْيُسْرَى، وَلا بالْعَكْسِ، وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ وَالْعَيْنُ سَوْاءٌ، وَلا السََّبابَةُ بالْوُسْطَى، وَلا الثَّنِيَّةُ بالرَّبَاعِيَةِ، وَلا الْعُلْيَا بالسُّفْلَى، وَتَتعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِهَ الدِّيَةُ ..
يعني: أنه لابد من المماثلة في أمور ثلاثة؛ وهي: المحل، والقدر، والصفة؛ لقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
قوله: (وَلا تُقْطَعُ الْيُمْنَى بالْيُسْرَى) راجع إلى اتحاد المحل، ثم بين أنه لا فرق في ذلك بين اليد والعين من الرجل؛ لينبه على قول الحسن بن حي: أنه تؤخذ العين اليسرى باليمنى لا العكس. والرباعية بفتح الراء مخفف الياء، الجوهري: كالثمانية، هي بين الثنية والنياب. وقوله:(وَتَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِهِ) أي: محل الجناية، ويحتمل أن يعود على المماثل المفهوم من المماثلة، وإذا تعذر القصاص وجب المصير إلى الدية، كما إذا عدم المثل في المثليات، فإن القيمة تتعين، والدية هنا في مال الجاني اتفاقاً؛ لأن الجناية عمداً.
فَإِنْ قُطِعَتْ بعد جِنَايَتِهِ بسَمَاوِيٍّ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ لِغَيْرِهِ؛ فَلا شَيْءَ لِلْمَجْنِيٌ عَلَيْهِ ..
يعني: إذا قطع رجل يمنى آخر ثم قطعت يد الجاني بأحد الوجوه التي ذكر؛ فقد سقط حق المجني عليه، لأن حقه إنما كان في القصاص، وإذا تعذر لتعذر محله بطل حقه، وهذا بين على المشهور أنه لا حق للمجني عليه إلا في القصاص، وأما على قول أشهب أن الواجب التخيير في ذلك أو الدية بحث، وفي بعض النسخ، بغير جناية المجني عليه إذا قطعها فقد استوفى، وفي بعض النسخ:(بغَيْرِ جِنَايَةِ أَجْنَبيَّ)، واحترز بذلك بقطعها من جناية أجنبي، فإن للمجني عليه أولاً أن يقتص من الجاني ثانياً على المشهور كما تقدم.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ جَمَاعَةٌ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا قَطْعُهُ لَهُمْ أَوْ لأَحَدِهِمْ، كَمَا لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةً فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا قَتْلُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَو قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَصَالَحَهُ أَوْليَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى مالٍ فَلأَوْلِيَاءِ الآخَرِ قَتْلُهُ
…
يعني: ومثل ما تقدم في أن الجاني لا شيء عليه بعد القطع لو قطع جماعة وقاموا فإنه يقطع لهم، وكذلك إذا قام أحدهم ولو كان آخرهم جناية فقطع له؛ فلا شيء للباقي. [702/أ] وشبه المصنف ذلك بالقتل. وقوله:(لأَحَدِهِمْ) فيه تكرار مع قوله: (القصاص لغيره) إنما يتمشى على القول بأنه ليس لهم إلا القصاص، وأما على قول من يرى لهم الخيار في ذلك في الدية، فقال ابن عبد السلام: إذا تعمد القاضي قتله لأحدهم فقد منع الباقين من أخذ الدية، وفي تضمينه حينئذ ما منعهم منه نظر، ولاسيما من مذهبه التخيير فتأمله.
وَفِي اعْتِبَارِ الْقَدْرِ بالْمِسَاحَةِ أَوْ بالنِّسْبَةِ إِلَى قَدْرِ الرَّاسَيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعَلَيْهِمَا لَوْ كَانَتِ الشَّجَّةُ نِصْفَ رَاسِ الْمَشْجُوجِ وَهِي قَدْرُ رَاسِ الشَّاجَّ، ولا تَكْمُلُ بغَيْرِ الرَّاسِ اتِّفَاقاً
…
لما ذكر أنه لابد من المماثلة في القدر أخذ يبينه وذكر أن ابن القاسم يعتبره بالمساحة، وهذا مذهب المدونة، فيقتصر في طول الجرح وقصره، وصوبه ابن رشد، لقوله تعالى:(وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ)[المائدة: 45] وذكر أن أشهب اعتبر القدر بالمساحة؛ يعني: النسبة، فيجرح ربع الرأس بالربع والثلث بالثلث كذلك، ورجع إليه ابن القاسم في الموازية.
ابن المواز: وبه أقول. وذكر ابن المواز أن ابن القاسم خالف في قوله الأول أصحابه والعلماء قبله، وبقية كلام المصنف ظاهر، وإنما لم يكمل بغير الرأس اتفاقاً؛ لأنه تعتبر المماثلة بالمحل، وقال مالك فيمن قطع بعض أصبع وأصبعه أطول؛ فلا يقطع بقدره، ولكن إن كان قدر ثلث أصبع قطع من أصبع الآخر مثله، وكذلك في القصاص في
الأنملة، قال أبو عمران: يحتمل أن يكون ابن القاسم مثل في هذه الرواية أشهب، ويرى فيه كما يرى في الجرح أنه يقاس، ولم يوجد عنه نص فيهما.
وَلَوْ زَادَ الطَّبِيبُ الْمُقْتَصُّ عَلَى مَا اسْتُحِقَّ فَكَالْخَطَأِ
فإن كان أنقص من الثلث ففي ماله، وإلا فعلى العاقلة، أما لو زاد عمداً اقتص منه، فإن قيل: فإذا قصت زيادة الطبيب، يلزم منه أن يكون المصنف شبه الشيء بنفسه، قيل: شبه الخطأ المستند إلى عمد ما دون فيه بالخطأ المحض، فلا يلزم ما ذكرت، وما ذكرناه من الاقتصاص من الطبيب المتعمد نص عليه الشيوخ، إلا أنه لا يمكن في غالب الحال؛ لأن زيادته إنما تكون بعدما أذن فيه، فإذا طلب القصاص من الطبيب لم يوصل إليها منه إلا بعد تقدم جرح، وقد لا يكون جرح أحداً فضلاً عن الأدب، فيتعذر القصاص، غير أنه إن برئت الزيادة على غير عثم وجب أدبه فقط، وإلا وجب الأدب مع الحكومة في ماله، هذا خطأه بالنقصان ففي المجموعة عن ابن القاسم: لا يرجع فيقتص له من حقه؛ لأنه قد اجتهد لهن وكذلك الأصبغ يخطئ فيها بأنملة، ولا يقاد مرتين، وعنه في الموازية والعتبية: إن علم بمضرة ذلك قبل أن يبرأ وينبت اللحم أتم ذلك عليه وإلا فات، ولا شيء له في تمام ذلك ولا دية. وقال أصبغ: إن قص يسيراً فلا يعاود، وإن كان في موضعه قبل البرء وبعده، وإن كان كثيراً فإن كان يصوره اقتص له تمام حقه، وإن كان برئ وأخذ الدواء فلا يرجع إليه برئ أو لم يبرأ، ويكون في الباقي العقل، كان هو ولي القصاص أو من جعله إليه السلطان.
وَلا تُقْطَعُ الصَّحِيحُةُ بِالشَّلاءِ الْعَدِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ اتِّفَاقاً وَإِنْ رَضِيَا، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْمُسْتَحِقُ
…
لأن الصحيحة ليست كالشلاء، فلذلك لا تقطع الصحيحة بها، ولو رضي الجاني بأن يسلم يده الصحيحة لم يكن له ذلك، وهو بمنزلة من أسلم يده لرجل ليقطعها من
غير موجب، وكذلك لا يجوز، وفي بعض النسخ: رضيا، فيعود على الجاني والمجني عليه، وما ذكره المصنف من تقييده الشلاء بالعديمة النفع. ابن عبد السلام: نحوه لأشهب، وحملوا قوله على الوفاق. انتهى.
والذي في النوادر عن ابن القاسم وأشهب في أشل اليد والأصبع يقطعها أنه لا قصاص فيها، وكذلك إن شل بعضها؛ إذ لا يقدر أن يقاد له بقدر ما بقي، ولكن له من الدية بقدر ما بقي بالاجتهاد، قيل: وقول ابن عبد السلام أنهم حملوا قول أشهب على الوفاق وهْمٌ، فإن هذا إنما ذكره أشهب في العكس، وهو قطع الشلاء بالصحيحة؛ لأن الشلاء كالعدم، وهي كنوع آخر. وقيل: يخير المستحق في القصاص وتركه وأخذ الدية، وهذا رواه يحيى في العتبية. قال في البيان: والأول مذهب المدونة، ولأشهب ثالث: أنه ليس له أن يقتص إن كان جل منفعتها قد ذهب.
وَفِيهَا: وَلَوْ قَطَعَ أَقْطَعُ الْكَفِّ الْيُمْنَى يَمِينَ رَجُلٍ مِنَ الْمِرْفَقِ؛ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي أَشَلَّ تَعَيَّنَ الْعَقْلُ
…
لعله نسبها للمدونة إشارة إلى معارضة هذه المسألة التي قبلها؛ لأن يد الجاني ناقصة في الصورتين، ولهذا قال: ولو كان الجاني لا يقتص منه، وأما قطع الكف ببقية ساعده بعض حق المقطوعة يده، فله أخذه.
وَأَمَّا مَا فِيهِ نَفْعٌ فَكَالصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ الأَكْثَرُ بَاقِياً
هذا مقابل قوله أولاً: العديمة النفع. وحاصله: أنه في المشهور اعتبر مطلق النفع واعتبره أشهب بقيد الأكثر، وتأمل هذا مع قوله في البيان: لا خلاف إذا كان جل منفعتها [702/ب] قائمة أن المجروح بالخيار بني أن يستفيد منها بنقصانها وبين أن يأخذ عقلها، وعلى هذا فاليد الذي فيه نفع على قسمين؛ إذا كان الجل قد ذهب فهو محل خلاف، وإن
كان الجل باقياً فهو محل اتفاق، هذا فيما إذا كانت اليد هي الجانية، وأما إن كان المجني عليها؛ فلا قصاص من الصحيحة.
وَالذَّكَرُ الْمَقْطُوعُ الْحَشَفَةِ كَالأَقْطَعِ الْكَفِّ
يعني: إذا قطع صاحب ذكر مقطوع الحشفة ذكر سالمها: خير المجني عليه بين القصاص من الذكر المقطوع الحشفة وبين أخذ دية ذكره الصحيح، كما تقدم إذا قطع أقطع الكف يد شخص صحيحة من المرفق.
وَعَيْنُ الأَعْمَى وَلِسَانُ الأَبْكَمِ كَالْيَدِ الشَّلاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَحُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ اقْتَصَّ لَهُمَا أَوْ أَخَذَ العَقْلَ
…
في بعض النسخ: على المشهور، وسقط ذلك من بعضها، وهي الصواب، وفي ثبوتها قلق جدًّا؛ لأنك إما أن تحمل كلامه على أن صاحب اللسان الأبكم والأعمى جانيان أو مجنياً عليهما، فعلى أنهما جانيان يكون معنى كلامه: أن الأعمى والأبكم إذا جنيا على صحيح؛ فالمشهور لا يكون للصحيح عليهما إلا العقل، ومقابل المشهور أن الصحيح مخير في العقل والقصاص، والفرق على الشك بين ذلك واليد الشلاء، أن في عين الأعمى جمالاً، وفي لسان الأبكم الإحساس والذوق، وعلى هذا الخلاف راجع إلى المشبه به، ويحتمل على هذا أن يرجع إلى المشبه والمشبه به ويكون كرره للخلاف في اليد الشلاء ليعين المشهور إذ لم يعينه أولاً، وقد نص في البيان على أن لعين الأعمى كاليد الشلاء إذا جنيا على الصحيح في دخول الخلاف، لكن يرد على هذا كله قوله:(فَحُكُومَةٌ) لا يبقى له وجه؛ لأن الحكومة إنما تجب في الجناية على الأعمى والأبكم والأشل في جنايتهما، وإن حملنا كلامه على أن الأعمى والأبكم مجني عليهما؛ فيكون في لسان الأبكم وعين الأعمى حكومة على المشهور، فيقتضي هذا أن الشاذ فيهما دية، ولا يعلم هذا في المذهب. قوله: (وَإِنْ كَانَ اقْتَصَّ
…
إلخ). هو مبالغة على المشهور، وهو ظاهر.
وُتُقْطَعُ الْيَدُ النَّاقِصَةُ أَصْبُعاً بالْكَامِلَةِ، وَلا دِيَةَ لِلأَصْبُعِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَصْبُعٍ خُيَّرَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ تَامًّا، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَتَعَيَّنُ الْعَقْلُ
…
يعني: أن من كان له أصبع مقطوع من يد قطع يداً صحيحة، فإن المجني عليه يقتص من اليد الناقصة، واختلف بما يكون له عوض عن ذلك النقص، وهو لمالك أولاً وهو المشهور، وهو لمالك أيضاً، ولابن القاسم ثالث في الموازية أن المجني عليه يخير إما أن يقتص بغير دية الأصبع، وإما أن يأخذ عقل يده، فلا قصاص.
قوله: (فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ) أي: وإن كان النقص أكثر من أصبع كأصبعين أو ثلاثة؛ فمذهب المدونة أنه مخير بين أن يأخذ العقل تاماً أو يقتص. وقال أشهب وعبد الملك: ليس له إلا العقل، وفي العتبية قول ثالث: أنه تقطع كف تلك ويكون عليه عقل الأصبعين، غير أن قول المصنف:(فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ أَكْثَرَ) يدخل فيه أربع أصابع، والمنصوص أصبعان أو ثلاثة، لكن لفظه في البيان كلفظ المصنف.
ابن عبد السلام: والمستحسن عندي مذهب المدونة في الأصبعين ومذهب أشهب نفي القصاص مطلقاً، وإنما أربعة أخماس دية اليد، والأنملتان كالأصبع في الثلاثة.
فَإِنْ كَانَتِ النَّاقِصَةُ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ أَصْبُعاً فَثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَالْمُغِيرَةِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ غَيْرَ الإِبْهَامِ اقْتُصَّ مِنْهُ
…
قد علمت أن القول الثالث يدل على الأولين، وأن الأول من الأقوال للأول من القائلين، فمذهب ابن القاسم القصاص، سواء كان الأصبع الناقص هو الإبهام أو غيره، وهو قوله في المدونة. ومذهب أشهب نفي القصاص مطلقاً، وإنما أربعة أخماس دية اليد، والأنملتان كالأصبع في الثلاثة، كأن الأقل يتبع الأكثر، واستحسن في الأنملة القصاص ابن المواز، واختلف قوله فيه، وتصور الثالث ظاهر، ونسبه المصنف للمغيرة، وإنما رأيته منسوباً لابن الماجشون.
وإِنْ كَانَ أَصْبُعَيْنِ فَلا قِصَاصَ اتِّفَاقاً
يعني: وإن كان يد المجني عليه ناقصة الأصبعين لم يقتص له من الكاملة اتفاقاً، وإنما له ثلاثة أخماس دية اليد، وهكذا حكى ابن المواز اتفاق مالك وأصحابه على هذا.
وَلَوْ قُطِعَ مِنَ الْمِرْفَقِ لَمْ يَجُزْ مِنَ الْكُوعِ وَإِن رَضِيَا
لأن المماثلة في المحل شرط، وهو خلاف قوله:(وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)[المائدة: 45] ولو جاز هذا لجاز أن يقطع غير القاطع مع الرضا.
وَتُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ خِلْقَةً أَوْ مِنْ كِبَرٍ
لأنه كما يقتص للضعيف بالضعيف من القوي، فكذلك يقتص للعين الضعيفة من السالمة، ولأنا لو شرطنا التساوي في العوضين أدى ذلك إلى عدم القصاص غالباً لعدم تحقيق مساواتهما.
فَإِنْ كَانَ مِنْ جُدَرِيٌ أَوْ رَمْيَةٍ أو شِبْهِهَا فَلا قَوَدَ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِن كَانَ فَاحِشاً. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِن كَانَ يَنْظُرُ بهَا ثُمَّ أُصِيبَ عَمْداً فَالْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ لَهَا عَقْلاً، بِخِلافِ الْخَطَأِ
…
الجوهري في فصل الجيم مع الذال المعجمة: الجدري [703/أ] بضم الجيم وبفتح الدال وبفتحهما لغتان، يقال: منه جدر الرجل فهو مجدر، يعني: وإن كان الإبصار بطارئ على العين من جدري أو رمية أو قرحة أو غير ذلك؛ فلا قود فيها، وفيها: يحسب ما بقي. وقيد ابن الماجشون نفي القصاص بما إذا كان النقص فاحشاً، قال: وأما النقص اليسير فله النقصان. وفرق ابن القاسم في المدونة: بأن أصيبت عمداً فله القصاص ولو أخذ لها أولاً عقلاً، وإن أصيبت خطأ فليس له إلا بحساب ما بقي، ووقع في بعض النسخ قول ابن الماجشون مقدماً على قول ابن القاسم، والنسخة الأولى أظهر.
وَلَوْ فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ الأَعْوَرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ اقْتُصَّ أَوْ أَخَذَ دِيَتَهَا أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ بهِ الْخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ رضي الله عنهم
…
تصوره ظاهر، واستشكل تخيير مالك هنا بين القصاص والدية مع أن مشهور مذهبه تحتم القصاص في العمد، وأجيب بأن الموجب للتخيير هو عدم المساواة؛ لأن عين المجني عليه ديتها ألف دينار بخلاف عين الجاني، فكان كمن كفه مقطوعة وقطع يد رجل من المرفق، ولم يرتض بعضهم هذا الجواب وجعل قولاً ثالثاً بالجراح بالتخيير من هنا، والأقرب هنا الفوات الأول، ولا حاجة إلى هذا الإلزام، فإنه قد نقل عن مالك قول بالتخيير صريح.
قوله: (وَقَالَ بهِ) أي: تكون ديته ألف دينار من ماله، ولم يرد أنهم قالوا بالتخيير.
فَلَوْ فَقَأَ الأَعْورُ مِنْ ذِي عَيْنَيْنِ مِثْلَهَا لَهُ؛ فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ أَوْ أَخَذَ أَلْفَ دِينَارٍ دِيَةَ مَا تَرَكَ وَإِلَيْهِ رَجَعَ. وَعَنْهُ: خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ. وَعَنْهُ: الْقِصَاصُ فَقَطْ
…
هذه عكس التي قبلها، ومعناها: إذا فقأ الأعور لصاحب عينين مثل العين الباقية له، في المسألة لمالك ثلاثة أقوال؛ الأول: للمجني عليه أن يقتص من عين الأعور وله أن يأخذ دية عينه خمسمائة دينار. الثاني وإليه رجع مالك: أنه يخير الجاني بين القصاص وبين دية عين الأعور ألف دينار، وهذان القولان في المدونة. والثالث رواه أشهب في الموازية: ليس إلا القصاص، واستشكل أيضاً قول مالك بالتخيير هنا كما استشكلوه في المسألة السابقة، وأجيب أنا إنما خيرنا الصحيح هنا لأنه إن قصد القصاص فهو له؛ لأن الفرض أن للأعور مثل ما فقأ، وإن قصد الدية فقد دعا إلى الصواب، ورد بأنه يلزم منه إجبار القاتل على الدية؛ لأن أولياء المقتول دعوا أيضاً إلى الصواب.
وَلَوْ فَقَأَ الَّتِي لا مِثْلُهَا لَهُ؛ فَنِصْفُ دِيَةِ فَقَطْ فِي مَالِهِ
يعني: ولو فقأ الأعور الصحيح العين التي ليست له، فعليه نصف دية فقط، ولا خلاف في ذلك لتعذر القصاص فيه لانعدام محله، ولأن ديتها خمسمائة. وقوله:(فِي مَالِهِ) أي: في مال الأعور؛ لأنه جناية عمد، وإنما امتنع القصاص لعدمها في حقه.
وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَيِ الصَّحِيحِ فَالْقِصَاصُ وَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ فَقَأَهُمَا فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ وبَدَأَ بالْمَعْدُومَةِ، فَأَمَّا لَوْ بَدَأَ بالَّتِي مِثْلُهَا لَهُ ثُمَّ ثَنَّى بالأُخْرَى فَهُمَا كَالْمُتَقَدِّمَتَيْنِ
…
أي: ولو فقأ الأعمى عيني الصحيح، فقال ابن القاسم في المدونة: يقتص للمجني عليه منعين الأعور، ويأخذ نصف الدية للعين الأخرى، وظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يكون فقأهما في دفعة واحدة أو بدأ بالتي ليست له، وأما لو بدأ بالتي مثلها له؛ فعليه القصاص وألف؛ لأنه لما فقأ التي له مثلها وجب القصاص، ثم صار أعور، فيلزم أن يجب في عينه ألف دينار، وفي بعض النسخ عوض قوله: فألف مع القصاص فهما كالمتقدمتين، وهي معناها؛ لأن معناها كالصورتين المتقدمتين، فتبدأته بالتي مثلها له تشبه فقأ الأعور عين الصحيح التي مثلها له، فيكون له القصاص، وتثنيته بالأخرى التي لا مثلها له يشبه فقأ الصحيح عين الأعور، والنص عن ابن القاسم وأشهب مثله حكاه المصنف.
صاحب النكت: قول ابن القاسم هنا خلاف قوله في الأعور يفقأ عين الصحيح التي مثلها له، أن الصحيح مخير، يجب على مذهبه إذا فقأها الأعور أن يكون الصحيح مخيراً في فقأ عين الأعور بعينه أو يأخذ فيه ألف دينار أو خمسمائة دينار في عينه الأخرى التي ليس لها مثل، وإنما جواب ابن القاسم في المسألة على ما قاله مالك في أحد أقواله: أنه ليس له إلا القصاص. وأما قول أشهب فإنما بنى على مذهبه الذي اختار من قول علي، وأما على قول
ابن القاسم في المدونة فإن بدأ بالتي لا نظير لها فله فيها خمسمائة دينار، وهو في الأخرى مخير إما أن يقتص أو يأخذ ألف دينار، وإن بدأ بالتي مثلها للأعور؛ فهو مخير في أن يقتص منها بعين الأعور أو يأخذ ألف دينار، له في التي لا مثل لها ألف دينار بكل حال، لأنه عين أعور. انتهى.
وَلَوْ قُلِعَتْ سِنٍّ وَرُدَّتْ وَنَبَتَتْ فَالْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَفِي الْعَقْلِ فِي الْخَطَأِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَلَوْ أَخَذَ الْعَقْلَ قَبْلَ نَبَاتِهَا ثُمَّ نَبَتَتْ لَمْ يَرُدَّ الْعَقْلَ اتِّفَاقاً
…
اللخمي: إذا قلعت سن فردها فنبتت أو نبت مكانها [703/ب] أخرى، أو قطعت أذنه فردها فثبتت؛ فإن كان القلع والقطع عمداً أوجب القصاص اتفاقاً، لأن المعتبر في القصاص يوم الجرح، فأما في العقل، فإن أخذ العقل قبل الثبوت أو النبات، فحكى المصنف وصاحب البيان الاتفاق على عدم الرد، وإن لم يأخذ العقل، فقال ابن القاسم: لايمنع ثبوتها من أخذ العقل لأن لها عقلاً مسمى، فكانت كالموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة، ثم يعود الموضع كما كان قبلهن، فكأنه لا يسقط عقلهن بالاتفاق، وصرح اللخمي ورأى أشهب أن ثبوت السن يسقط العقل كسائر جراحة الخطأ غير المقدرة، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه لما كانت السن فيها مقدرة كان ردها إلى الموضحة وأخواتها أولى.
اللخمي: ويختلف على هذا في إشراف الأذنين إذا ردهما وكان القطع خطأ، فعلى القول أن فيهما حكومة لا يكون له شيء، وعلى القول أن فيهما الدية تكون فيهما الدية كالموضحة، وستأتي مسألة عود السن من كلام المصنف، وسيتكلم هناك على عود البصر.
وَوِلايَةُ الاسْتِيفَاءِ لأَقْرَبِ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ الذُّكُورِ.
أي: استيفاء النفس دون الجراح، ويدل عليه قوله:(لأقْرَبِ الْوَرَثَةِ) لأن حق الوارث إنما يكون بعد الموت. وقوله: (لأَقْرَبِ الْوَرَثَةِ) أي: فلا يكون للأبعد حق مع الأقرب
كالإخوة مع البنين. قال صاحب البيان: وترتيبهم في القيام بالدم كترتيبهم في ميراث الولاء والصلاة على الجنائز، وفي النكاح لا يشذ من ذلك على مذهب ابن القاسم إلا الجد مع الإخوة، فإنه بمنزلتهم في العفو عن الدم والقيام به.
وقوله: (الْعَصَبَةِ) احتراز من غير العاصب كالزوج والأخ للأم، واحترز بالذكور من الإناث، فإنه سيذكر ما فيهن من التفصيل والخلاف. قال في المدونة: وإن كان عشرة إخوة وجَد؛ حلف الجد ثلث الأيمان، وحمله ابن رشد على ظاهره من العموم في الخطأ والعمد، وقال: أما الخطأ فصواب، وأما العمد فالقياس على مذهبه أن تقسم الأيمان بينهم على عددهم، وحمله بعض شيوخ عبد الحق على الخطأ، وأما العمد فكما ذكر ابن رشد أنه القياس، وعن أشهب: لا حق للجد مع الإخوة في القيام ولا في العفو، فالإخوة على مذهبه يقسمون دونه، فإن استعانوا بالجد قسمت على عددهم، نقله صاحب المقدمات، ونقل عبد الحق عنه ما يخالف هذا فانظره.
وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ النِّسَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ كَذَلِكَ
عبر اللخمي عن الأشهر بالمعروف، فقال: من قوله أن للنساء مدخلاً في الدم، وحكى ابن القصار عن مالك أنه لا مدخل للنساء في الدم جملة، واحترز بقوله:(إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ) مما لو كان في درجتهن عصبة، كالبنات مع الابن، والأخوات مع الأخ، فإنه لا دخول حينئذٍ في عفو ولا قود باتفاق، والمراد بالعصبة العاصب؛ لأن العاصب الواحد يحجبهن، ويشترط في النساء على القول بدخولهن، أن يكن ممن يرثن، احترازاً من العمات وشبههن، وقد يؤخذ من كلامه هذا الشرط؛ لأنه قال في الذكور الورثة، فأشار إلى اشتراط الوراثة، وإذا اشترطت الوراثة في الذكور فأحرى النساء، ويشترط فيهن أيضاً أن يكن ممن لو كان في درجتهن ذكر ورث بالتعصيب احترازاً من
الأخوات للأم، وإذا فرعنا على الرواية بدخولهن مع العصبة، فاختلف قول مالك، هل يدخل في القتل دون العفو؟
ابن عبد السلام: والرواية بنقض ذلك على القتل هي التي يجري عليها أكثر فروع المدونة، وأشار المصنف بقوله:(كَذَلِكَ) إلى أن ولاية الاستيفاء للأقرب منهن، واختلف في الأمر؛ فرأى مالك وابن القاسم أن لها القيام بالدم، وأباه أشهب.
إِلا أَنَّ الْعَصَبَةَ الْوَارِثِينَ فَوْقَهُمْ سَوَاءٌ
لما كان قوله: (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةً) أعم من أن يكون أسفل منهن عصبة، وقوله:(فَوْقَهُمْ) حال من النساء؛ أي: في حال كون النساء كائنات فوق العصبة الوارثين، كالبنت مع الإخوة. وقوله:(سَوَاءٌ) خبر (أَنَّ) وقوله: (سَوَاءٌ) أي: في القيام بالدم، ومن قام به فهو أولى، ولا عفو إلا باجتماعهم، ولم يرد بالتسوية أنهم كإخوة أو أعمام سقط القتل بعفو بعضهم، وإن كان ذلك ظاهر التسوية، وهو مذهب المدونة، وزاد عياض قولين آخرين؛ أحدهما وهو لابن القاسم في العتبية: التفصيل بني أن يثبت الدم ببينة كمذهب المدونة، أو يثبت بالقسامة، فلا حق للنساء معهم في عفو ولا قيام؛ لأنهم هم الذين لا يستحقوا الدم بقسامتهم. والثاني لمالك من رواية مطرف وابن الماجشون: إن ثبت ببينة فالنساء أولى بالعفو، وإن ثبت بقسامة فلا عفو إلا باجتماعهم، ومن قال بالدم فهو أولى. وقال ابن عبد السلام:(قُرْبُهُمْ) بالقاف والراء والباء الموحدة، والأحسن رفع الباء على الابتداء، وقوله:(سَوَاءٌ) خبره، والجملة خبر، وليس كما رأيته في بعض النسخ (فَوْقَهُمْ) على الظرف؛ إذ لا معنى لها هنا، وقد بينا [704/أ] معناها، وهو أظهر.
وَالعَصَبَةُ غَيْرُ الْوَارِثِينَ إِذَا ثَبَتَ الْقَوَدُ بقَسَامَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ كَذَلِكَ
قوله: (غَيْرُ الْوَارِثِينَ) يريد أن النساء قد أخذن جميع المال، وهذا لا يجوز الجميع، وهن في درجة واحدة. وقوله:(إِذَا ثَبَتَ الْقَوَدُ بقَسَامَتِهِمْ) شرط في مساواتهم للنساء في
القيام بالدم، فله ذلك كما تقدم في الوارثين، وهو معنى قوله:(كَذَلِكَ) وهو مذهب المدونة من سماع عيسى، أن العصبة أحق بالقيام والعفو، وفهم من كلامه أنه لا حق للعصبة إذا لم يثبت الدم بقسامتهم، وهو متفق عليه.
وَفِي مُسَاوَاةِ الأَخِ لِلْجَدِّ أَوْ تَقْدِيمِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
أن الأخ وابنه مقدمان عليه، وهو الأظهر من باب التعصيب المحض، فكان كالولاء والنكاح والصلاة على التي، ولو كان كالميراث كما يقتضيه قول ابن القاسم لما سقط قول الأنثى مع من هو في درجتها.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لا تَدْخُلُ بنْتٌ عَلَى ابْنٍ، وَلا أُخْتٌ عَلَى أَخٍ مِثْلِهَا
أي: وعلى المشهور من أن للنساء مدخلاً في الولاية من حيث الجملة، فأشار بقوله:(عَلَى الْمَشْهُورِ) إلى أن مقابل الأشهر المتقدم ليس بمشهور، وهو كذلك، وقد تقدم أن اللخمي جعله مقابل المعروف، ولا إشكال في عدم دخولهن على الشاذ، وعلى هذا فما ذكره هنا متفق عليه. واحترز بقوله:(مِثْلِهَا) من الأخت الشقيقة مع الأخ للأب، فإنها تدخل عليه، وإذا لم تدخل الأخت للأب على الأخت لأب فأحرى ألا تدخل على الشقيق.
وَلا أُخْتٌ عَلَى أُمٌ، وَلا أُمٌّ عَلَى بِنْتٍ
ضابط دخول النساء بعضهن على بعض أنك تقدرهن ذكوراً، فإن صح دخولهن في الذكورة دخلوا في الأنوثة وإلا فلا، وذكر اللخمي في دخول الأم على البنات قولين؛ الأول: ما ذكره المصنف. والثاني رواه ابن القاسم عن مالك: لا تسقط الأم إلا مع الأب والولد الذكر.
وَتَدْخُلُ الْبَنَاتُ مَعَ الأَبِ وَالْجَدِّ، وَالأَخَوَاتُ الأَشِقِّاءُ عَلَى الإِخُوَةِ للأَبِ
أي: وتدخل الأخوات الأشقاء على الإخوة للأب.
وَلا تَدْخُلُ الأُمُّ عَلَى الابْنِ وَالأَبِ
هو متفق عليه. قال ابن القاسم: ولا تسقط الأم إلا مع الأب ومع الولد الذكر.
وَلا تَدْخُلُ الْعَصَبَةُ عَلَى الْبَنَاتِ وَالأَخَوَاتِ إِذَا حَرَزْنَ الْمِيرَاثَ
أي: إذا حرزن البنات والأخوات، وهذا محمول على ما إذا ثبت الدم ببينة، وإن لم يحمل على هذا لزم أن يعارض هذا بما قاله أولاً: أن العصبة غر الوارثين إذا ثبت الدم بقسامتهم كذلك، فوجب أن يقيد الأول بما إذا ثبت بقسامة، والثاني إذا ثبت ببينة.
وَإِنْ كَانَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ غَائِبٌ انْتُظِرَ وَكُتِبَ إِلَيْهِ إِلا أَنْ يُيْئَسَ مِنْهُ كَأَسِيرٍ وَشِبْهِهِ فَلا يُنْتَظَرُ
…
أي: فإن غاب بعض مستحقي الدم فلينتظر، هكذا في المدونة.
ابن يونس: إلا في البعيد الغيبة، بأن حضر القتل، ونقله محمد عن ابن القاسم، وقال أبو عمران: ظاهرها انتظار الغائب وإن بعدت غيبته، وفرق سحنون بين قريب الغيبة وبعيدها، أما إن أمكن الكتاب إليه كتب ليعلم ما عنده، ونص قول سحنون عند ابن يونس: هذا فيمن بعد جدٍّا كأسير بأرض الحرب وشبهه، وأما من بعد من إفريقية إلى أرض العراق فليس من ذلك، وإلى تقييد سحنون أشار المصنف بقوله: (إِلا أَنْ يُيْئَسَ مِنْهُ
…
إلخ).
ابن عبد السلام: والذي نزل عليه أصول الفقه أنه لا يسقط حقه، بل يقيم له القاضي وكيلاً ينظر بالإصلاح.
وَيُحْبَسُ وَلا يُكْفَلُ؛ إِذْ لا كَفَالَةَ فِي قِصَاصٍ وَلا جُرْحٍ كَمَا يُحْبَسُ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ فِي الْعَمْدِ حَتَّى يُزَكَّى وَلا يُكْفَلُ بخِلافِ قَتْلِ الْخَطَأِ وجِرَاحِهِ، فَإِنَّهُ مَالٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ عَلَيْهِ
…
أي: إذا انتظر الغائب حبس القاتل، ولايؤخذ من القاتل كفيل، وشبه المصنف هذا بما إذا أقام الولي شاهداً يوم العمد بأنه يحبس المشهود عليه حتى يزكى ذلك الشاهد، وهو تشبيه ظاهر بعيد الحكم بطريق الأولى؛ لأن الكفالة إذا لم تقبل وسجن مع عدم كمال البينة فأولى إذا كملت.
ابن عبد السلام: ولا يجري هنا الخلاف الشاذ في الكفالة تكون بالدماء على ما تقدم في الكفالة، وهو قول يشبه مذهب الليثي، وإذا عجز الكفيل على هذا القول أدى أرش الجرح، فإن من أجاز الكفالة على هذا الوجه إنما يجيزها بشرط رضا من له الحق، والفرض هنا أنه غائب.
وقوله: (بخِلافِ قَتْلِ الْخَطَأِ
…
إلخ). تصوره ظاهر. وقوله: (عَلَى الْعَاقِلَةِ) أي: في القتل والجراح إذا كانت الثلث فأكثر، وعليه إذا كان دون الثلث، ومذهب المدونة عدم الحبس في الخطأ، وقيده بما إذا كان مشهور العين لا يحتاج إلى الشهادة على عينه، وأما إذا كان غير مشهور فيحبس ليشهد على عينه، وقاله سحنون، ولا يبرئه من الحبس إلا حميل بوجهه. وفي العتبية: أنه يحبس في الخطأ. أبو عمران: ولعله يريد فيما دون الثلث ليشهد على عينه إذا كان مجهولاً، وإن كان سحنون فهم منه الخلاف.
وَوَرَثَةُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ مِثْلُهُ أُمَّاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُا، وَلَوْ كَانَتْ بِنْتٌ مَعَ ابْنِ فَمَاتَتْ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهَا مُتَكَلِّمٌ إِلا فِي الْمَالِ إِنْ عَفَا، بخِلافِ مَا لَوْ كَانَتْ مَعَ بنْتٍ أَوْ عَصَبَةٍ
…
[704/ب] يعني: إذا كان المستحق لقصاص واحد أو أكثر، فإذا مات المستحق تنزلت ورثته منزلته، فإن كان له حق في العفو والقتل فورثته كذلك، وإن لم يكن له حق في
العفو؛ كالبنت مع الابن، فورثتها كذلك لا حق لهم إلا في المال إن عفواً. وقوله:(أُمَّاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُا) يحتمل سواء كان المستحق أُماً أو غيرها، ثم بين المصنف ما ذكره بقوله:(وَلَوْ كَانَتْ بِنْتٌ مَعَ ابْنِ) وهو ظاهر.
فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ؛ فَثَلاثَةٌ لابْنِ الْقَاسِمِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَسُحْنُونٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيباً مِنَ الْمُرَاهِقِ لَمْ يُنْتَظَرْ
…
يعني: فإن كان في المستحقين صغيراً، فثلاثة أقوال؛ الأول لابن القاسم في المدونة: أنه لا ينتظر، وهذا مفهوم كلام المصنف، لأن عادته جعل الأول من الأقوال للأول من القائلين، وأن صدر الثالث هو القول الأول. والثاني لعبد الملك: أنه ينتظر كالغائب. والثالث لسحنون: أنه إن قارب البلوغ انتظر، وإن لم يقربه لم ينتظر، وقول من قال أن المصنف خالف قاعدته؛ لأن قاعدته تقديم الثبوت ليس بظاهر، بل عادته كما ذكرنا جعل الجزء الأول من الثالث لقائل الأول، سواء كان الجزء الأول ثبوتاً أو سلباً، وما ذكر المصنف من أن مذهب ابن القاسم عدم انتظار القتل، ولا ينتظر أن يكبر ولده فيبطل الدم، وإن عفوا لم يجز عفوهم إلا على الدية لا أقل، وإن كان أولاد المقتول صغاراً أو كباراً؛ فإن كان الكبار اثنين فصاعداً فلهم أن يقسموا ويقتلوا ولا ينتظر بلوغ الصغار، وإن كان عفا بعضهم فللأصاغر حظهم من الدية، وإن لم يكن إلا ولدان صغير وكبير؛ فإن وجد الكبير رجلاً من ولاة الدم يحلف معه، وإن لم يكن ممن له العفو حلفا خمسين يميناً، ثم للكبير وإن لم يجد من يحلف معه حلف خمساً وعشرين يميناً، واستؤني بالصغير فإذا بلغ حلف خمساً وعشرين واستحقوا الدم. انتهى.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ عَفَوْا فَلِلصَّغِيرِ نَصِيبُهُ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ
أراد بالمشهور قول ابن القاسم، فإذا قلنا: لا ينتظر وعفا الكبار، كان للصغير نصيبه من دية عمد. وفي قوله:(مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ) فائدة حسنة؛ وهي أنهم لو صالحوا على دية خطأ
أو على أقل لم يلزم الصغير ذلك، لكن في بناء هذا الفرع على المشهور تطويل، هو جار على المشهور وغيره.
فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُطْبقٌ لَمْ يُنْتَظَرْ، بخِلافِ الْمُغْمَى وَالْمُبَرْسَمِ
لو كان عوض الصبي مجنون مطبق لمي نتظر وليس كالصبي؛ لأن الصبا معلوم الزوال، بخلاف المغمى والمبرسم فإنهما ينتظران لرجاء إزالتهما عن قرب. والمبرسم بفتح السين اسم مفعول. الجوهري: وبرسم فهو برسم والبرسام علة معروفة. قال غيره: وهو ورم في الرأس يثقل منه الدماغ. الجواليقي: وهو معروف.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبيرٌ فَلِلْوَلِيِّ النَّظَرُ فِي الْقَتْلِ أو الدِّيَةِ كامِلَةٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ: أَوْ فِي أَقَلَّ مِنْهَا
…
يعني: فإن لم يكن مع الصغير كبير فوليه بالخيار، إن شاء اقتص له أو أخذ الدية.
ابن عبد السلام: إلا في الدية للعمد؛ أي في دية عمد لا في أقل منها، وهذا مذهب ابن القاسم. وقال أشهب: للولي أن يصالح بأقل من الدية، والمتبادر للذهن على قول ابن القاسم الذي يرى أن الواجب في العمد إنما هو القصاص، أن يكون للولي المصالحة على أقل من الدية، لقدرة الولي على تحصيل الدية، وهكذا أشار إليه ابن رشد، إن كان واحد لم يجز على أصله، وقيد أشهب بألا يتهم فيه بمحاباة لقلته، وكذلك قيد أيضاً قول ابن القاسم بما إذا كان القاتل مليًّا، وإن لم يكن مليًّا جاز الصلح بأقل منها.
ابن القاسم: فإن لم يكن للصغير ولي إلا السلطان فإنه يقيم لهم وليا فيكون كالوصي.
ابن عبد السلام: وهو حمل يقوي ما قلناه أولاً أن أصل المذهب أن يقدم للصغير أو للغائب ولي، ولا ينتظر ولا يسقط حقه أيضاً على القول الآخر.
وَإِذا قُطِعَ الصَّبيُّ عَمْداً؛ فَلِلأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ النَّظَرُ لا لِغَيْرِهِمَا، أَمَّا إِذَا قُتِلَ فَالأَوْلِيَاءُ أَوْلَى
…
يعني: أن الصغير ما دام حيَّاً فالناظر له في الجناية عليه أبوه أو وصيه كماله، وغيرهما أجنبي. وأما إذا قتل فالأولياء أحق من الوصي؛ لأن بموت الصبي نظر الوصي، وللمحجور عليه أن يعفو عن دمه عمداً أو خطأ، كان المحجور بالغاً أو غير بالغ، ويكون عفوه عن الخطأ من ثلثه بالاتفاق، واختلف في الجرح والشتم وما ينال من بدنه أو عرضه، فأجاز ابن القاسم في الواضحة عفوه عنه، كان الجرح عمداً أو خطأ، ومنع ذلك مطرف وابن الماجشون وأصبغ.
وَلَوْ صَالَحَ الأَبُ أَوِ الْوَصِيُّ عَنِ الصَّغِيرِ فِي جُرْحٍ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ عَلَى الْجَانِي بأَقَلَّ مِنْ دِيَتِهِ بالنَّظَرِ جَازَ لِعُسْرَتِهِ كَالْقَوَدِ ....
الضمير في (عُسْرَتِهِ) راجع إلى (الْجَانِي) قال: ويقع في بعض النسخ بإثر (عُسْرَتِهِ)(الْقَوَد) وليس لها معنى، ولعلها من خطأ الكاتب. لفظة (عَلَى) الداخلة على الجاني لا معنى لها. انتهى وفيه نظر. ويمكن أن يكون في (لِعُسْرَتِهِ) عائداً على الصبي. وقوله:(الْقَوَدِ) ليس لها معنى، إنما الثابت عندنا في النسخ (كَالْقَوَدِ) ومعناها: كما أجاز القود له جاز صلحه. وقوله: (عَلَى الْجَانِي) فيه حذف [705/أ] مضاف؛ أي: على جناية الجاني، فلا يدعي في ذلك غلط، وفي بعض النسخ (وَلِعَشِيرَتِهِ الْقَوَدُ) بالشين المعجمة، وهي ظاهرة.
وَأَخْذُ الْمَالِ فِي قَتْلِ عَبْدِ الصَّغِيرِ أَحَبُّ إِلَيْهِ؛ إِذ لا نَفْعَ لَهُ فِي الْقِصَاصِ
نحوه في المدونة، وهو ظاهر التصور. وقوله:(أحب إليه) هو عائد على ابن القاسم، فإن قلت: لمَ لمْ يتعين أخذ المال. قيل: قد يكون أخذ المال في بعض الأوقات سبباً للجرأة، فيرى الولي القصاص أولى.
وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ وَمُسْتَحِقُّ الطِّرَفِ قُتِلَ وَلَمْ يُقْطَعْ
يعني: إذا قطع يد واحد وفقأ عين آخر، فإنه يقتل لولاة المقتول ولا شيء للآخرين؛ لأن القتل يأتي على ذلك كله، إلا أن يقصد المثلة فيقتص منه أولاً ثم يقتل، كما في الرجل الواحد، وروى بعض العلماء خارج المذهب: أنه يقتص لصاحب اليد ونحوه ثم يقتل وإن لم يقصد المثلة، وهو القياس عند اللخمي.
وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَتْلَ لِلْمُسْتَحِقِّ خِلافاً لأَشْهَبَ، وَيُنْهَى عَنِ الْعَبَثِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ مَنْ أُذِنَ عُزِّرَ وَوَقَعَ الْمَوْقِعَ، وَلا يُمَكِّنُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
…
لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم القاتل للمستحق. فإن تولى المستحق القتل من غير إذن الحاكم عزر لتعديه على الإمام، ولئلا يجترأ على الدماء ووقع القتل في موقعه، ونص في المدونة على أنه إن قتلوه قبل أن ينهى به إلى الإمام أنه كذلك.
ابن الماجشون: وإن قتلوه بعد أن شهدت البينة لهم عليه بالقتل قبل الإعذار بالقتل، فإن جرح الذين شهدوا بالقتل عليه فإنهم يقتلون، وإن لم يجرحوا أدبوا، وفي سماع أصبغ إذا كان للمقتول وليان فقتل أحدهم القاتل؛ فليس عليه قتل ويغرم لصاحبه، يريد نصف الدية لأنه أبطل له حقه؛ إذ لعله يعفو عنه، وقاله أصبغ، ولا يمكن فيما دون النفس؛ أي: من القطع والجرح اتفاقاً، ولا سؤال على قول أشهب لمساواة النفس عند الجرح، والفرق للمشهور أن المتولي فيما دون النفس هو المجني عليه، أو بحضرته فيحمله على ما أصابه على شدة الخنق؛ يريد: أي في المثلة بخلاف القتل.
وَيَقْتَصُّ لَهُ مَنْ يَعْرِفُ الْقِصَاصَ، وَأُجْرَةُ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيلَ: عَلَى الْجَانِي
…
أي: ويقتص للمجروح من يعرف القصاص؛ إذ ليس كل الناس يعرف ذلك.
ابن عبد السلام: ولابد أن يكون من أهل العدالة، وأجرة من يستوفي القصاص على المستحق، هذا هو المشهور، والثاني ذكره ابن شعبان، ومنشأ الخلاف هل الواجب على الجاني التمكين من نفسه أو التسليم، والأول هو اختيار ابن رشد وابن شعبان وغيرهما.
وَلا يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ بالاسْتِنَادِ إِلَى الْحَرَمِ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ
أطلق في القصاص ليعم النفس والطرف، تنبيهاً منه- رحمه الله على تفصيل أبي حنيفة بين الطرف فيقتص منه في الحرم، وبين النفس فلا يقتص منه في الحرم، ولكن يلجأ إلى الخروج بألا يبايع ولا يكلم، فإذا خرج قتل، لا يعممه إذا قتل وهو في الحرم. قال في العتبية: والحرم أحق أن يقام فيه حدود الله ولا ينتظر أن يفرغ من حجه، والقياس على الطرف أو من قتل في الحرم، واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى:(وَمَن دَخَلَهُ كَانَءَامِناً)[آل عمران: 97] ولكل من الفريقين أدلة أكثر من هذا. وقوله: (وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ) إن جعلنا (أل) في المسجد للجنس فظاهر، لكن الظاهر بقرينة ذكر الحرم أنهما أرادا المسجد الحرام، لكن لا يفهم كلامه على الخصوصية بل لمساواة سائر المساجد له في منع إقامة الحدود فيها.
وَيُؤَخِّرُ قِصَاصُ مَا سِوَى النَّفْسِ حَتَّى يَبْرأَ
قوله: (مَا سِوَى النَّفْسِ)(ما) عامة فتعم سائر الجراح؛ لما رواه الدارقطني من حديث محمد بن خالد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من الجراح حتى ينتهي. ومحمد بن خالد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وغيره.
وروى يحيى بن أبي أنيسة ويزيد بن عياض عن أبي الزبير عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يُسْتَاتَى بالجراحِ سنةٌ". لكن يحيى ويزيد متروكان.
وروى عن جابر أيضاً: أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيد، فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل واستقاد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فعنتت رجله وبرأت رجل المستقاد منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:"ليس لك شيء إنك أبيت". وهذا أشبه عندهم من الأولين.
وظاهر قوله: (حَتَّى يَبْرَأَ) أنه ينتظر البرء ولو زاد على السنة، وهو مذهب المدونة. وقال أشهب: ليس بعد السنة انتظار، لكن قيده عياض بالخطأ، فقال: يريد في الخطأ، ويعقل الجرح بحالها عند تمامها ويطالب بما زاد بعد، وظاهر كلامه أيضاً أنه إذا برئ قبل السنة اقتص منه وهو قول الأكثر، وذهب ابن شاس إلى أنه لابد من الاستيناء سنة لتتم عليه الفصول الأربعة مخافة أن يقتص.
فَإِنْ أَفْضَى إِلَى النَّفْسِ قُتِلَ وَسَقَطَ [705/ب] الْقَطْعُ وَالْجُرْحُ إِلا عِنْدَ قَصْدِ الْمُثْلَةِ
أي: فإن أفضى الجرح إلى النفس قتل الجاني بعد القسامة إن شاء الأولياء القتل، ولهم أن يبقوا على حقهم في الجرح والقطع لاندراجهما في النفس، إلا أن يقصد بهما المثلة ولا يسقطان. وعلى هذا فقوله:(إِلا عِنْدَ قَصْدِ الْمُثْلَةِ) استثناء متصل. وقول ابن عبد السلام: أنه منفصل، وأنه لو حمل على الاتصال إلى أن يفعل في الجاني أكثر مما فعل بمجرد قصده ليس بظاهر؛ لأن المستثنى قصد المثلة بالقطع والجرح لا مجرد القطع، والله أعلم.
وَإِن تَرَامَى إِلَى زِيَادَةٍ دُونَ النَّفْسِ أَوْ لَمْ يَتَرَامَ اقْتُصَّ مِنْهُ فَإِنْ سَرَى مِثْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ اسْتَوْفَى، وَإِنْ وَقَفَ دُونَهُ أَخَذَ أَرْشَ الزَّائِدِ
…
أي: فإن ترامى دون النفس قطع أو جرح إلى زيادة النفس، أو لم يترام اقتص من الجاني قدر ما جرح الجاني، مثل جرح المجني عليه أو زاد على جرح المجني عليه وأن يموت الجاني، فقد استوفى المجني عليه حقه من القصاص، ولا شيء للجاني في الزائد
وإن لم يصل إلى ما وصل إليه جرح الجاني، وهو معنى قوله:(وَقَفَ دُونَهُ) أي: جرح الجاني وقف دون ما سري إليه جرح المجني عليه، وأخذ المجني عليه أرش الزائد.
وَيُؤَخِّرُ الْعَقْلُ فِي الْخَطَأِ أَيْضاً، فَإنْ بَرِئَ عَلَى عَثَمٍ فَحُكُومَةٌ، وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ فَلا شَيْءَ فِيهِ، وَفِيمَا لا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْقَوَدُ
…
وتؤخر الدية، وهو معنى قوله:(الْعَقْلُ) إلى البرء، وإلى ذلك أشار بقوله:(أَيْضاً) لأنه قد يتول الأمر إلى النفس أو يصير إلى ما تحمله العاقلة، فإن برئ على شين فعلى الجاني حكومة، وسيأتي تفسيرها، وإن برئ على غير شين فلا شيء فيه؛ أي: لا عقل ولا أدب، أما نفي الأدب فلأنه لم يتعهد، وأما نفي العقل؛ لأنه غير مقدر فيه شيء، وكل ما ليس بمقدر فإنما فيه بحسب الشين، والفرض انتفاؤه، وسيتكلم المصنف على ما فيه عقل مسمى.
وقوله: (وَفِيمَا لا يُسْتَطَاعُ) هو معطوف على قوله: (فِي الْخَطَأِ) أي: يؤخر العقل في الجرح الذي لا يستطاع فيه القود إذا كان عمداً، ككسر عظام الصدر والعنق والصلب، فإن برئ على غير شين فلا عقل فيه، وعليه هنا الأدب لكونه عمدا، وإن برئ على شين فحكومة.
وَفِي تَأَخِيرِ الْمُقَدِّرِ وَنَحْوِ الْجَائِفَةِ وَالْمَامُومَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَيَُخَّرُ الْمُقَدَّرُ فِيهِ وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ اتِّفَاقاً
…
أي: وفي تأخير عقل الجرح المقدر فيه شيء نحو الجائفة والمأمومة وعدم تأخيره إلى أن يبرأ، فحذف معطوفاً، وغاية التأخر لابن القاسم، وعلله في المجموعة بأنه قد يجب على العاقلة دية نفس بقسامة، ونفي التأخير لأشهب؛ لأنه لما كان في هذا عقل مسمى لم يكن للتأخير فائدة، ألا ترى أنه لو برئ على غير شين لكان ذلك القدر فيه بالاتفاق كما صرح به المصنف، وأطلق المصنف قول أشهب، وقيده أشهب بأن يبلغ الثلث؛ لأن عقل الموضحة والمنقلة لا يعجل عنده، ولا يقال: إنه مثَّل بما بلغ الثلث؛ لأن المثال لا يختص.
أشهب على نقله في النوادر: لا جرح وتحمل العاقلة أو له كالجائفة والمأمومة، ومواضح تبلغ ثلث الدية فقد لزم العاقلة الثلث الآن، وله تعجيل ما حل منها، وما تناهى إلى زيادة فله ما تناهي ويقع، وفي غير المقدر في نحو الجائفة فيكون فيه حذف مضاف؛ أي: وفي تأخير، ويكون (فِي نَحْوِ الْجَائِفَةِ) بدل من قوله:(وَفِي غَيْرِ الْمَقَدَّرِ).
وَالْمَازِنُ إِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثَمٍ فَحُكُومَةٌ، وَقَالَ سُحْنُونٌ: بحِسَابِهِ؛ لأَنَّهُ مُقَدَّرٌ
القول بالحكومة هو المشهور، وأكثرهم حمل قول سحنون على الخلاف، ورآه في النكت وفاقاً، وقال: إن خرم العظم وسلم المارن ففيه الاجتهاد، وإن خرم ما دون العظم، فذلك الخرم كالقطع فيكون ذلك بحساب ما نقص المارن بعد البرد، وهكذا في الموازية. قال: وإلى هذا يرجع ما قال ابن القاسم وسحنون، ولا يخرج عن هذين الوجهين.
وَيُؤَخَّرُ لِلْحَرَّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَمرضِ الْجَانِي
هذا خاص بما دون النفس. وقوله: (الْمُفْرِطَيْنِ) لأنهما اللذان يخشى فيهما على الجاني، ونص مالك على التأخير في السرقة لشدة البرد. ابن القاسم في كتاب السرقة: وإن كان الحر مما خوفه كالبرد فأراه مثله، وجزم بذلك في كتاب الرجم، فقال: والحر عندي بمنزلة البرد، وظاهر الموازية عدم التأخر، والخلاف مبني على الخلاف في تحقيق العلة. وقوله:(وَمَرَضِ) أي: يؤخر الجاني؛ لأنه قد يتهم عليه الموت فيؤدي إلى أخذ النفس بالطرف.
وَتُؤَخَّرُ الْمُوَالاةُ فِي قَطْعِ الطَّرَفِ، بخِلافِ قَطْعِ الْحِرَابَةِ
يعني: إذا اجتمع عليه قطع طرفين فأكثر وخيف عليه من قطعهما في فور واحد؛ فرَّقا عليه، فإن جنى على اثنين كان يقدر في الحال على جناية أحدهما قدمت، وإن كان يطيق على واحدة منهما على الانفراد وكأن الجنايتين في فور واحد تنازعا في الابتداء، فينبغي [706/أ] أن يُقرع بينهما.
ونقل أبو الحسن: أنه إذا اجتمع على رجل حدان لله جميعاً، أو لآدمي، أو أحدهما لله، فإن كان فيه محل لأحدهما وهما جميعاً لله؛ يرى أكثرهما كالحد للزنى وشرب الخمر، فيحد للزنى إلا أن يخاف عليه من الثمانين، وإن كان الخوف أضعف ابتدئ بالحد عن الزنى، فأقيم عليه ثم يستكمل وقتاً بعد وقت، فإذا كمل المائة ضرب لشرب الخمر، وإن كان الحقان لآدمي؛ لأنه قطع هذا وقذف هذا، اقترعا أيهما يبدأ بإقامة حقه من غير مراعاة للآخر، وإن كان فيه محل لأحدهما دون الآخر أقيم عليه الأدنى من غير قرعة، وإن كان أحدهما لله والآخر لآدمي؛ بدئ بحق الله، إلا أن يكون فيه محمل إلا لما هو لآدمي فيقام عليه ويؤخر ما هو لله تعالى لوقت لا يخاف عليه، وإن كان الخوف في أي وقت وكان الحق لله تعالى ابتدئ به. انتهى.
وكذلك أيضاً إذا خيف عليه التلف للموالاة في حق الله تعالى وحق الآدمي لا يوالي عليه بذلك، قال في المدونة: ولو قطع السارق شمال رجل؛ قطعت يمينه في السرقة وشماله قصاصاً، وللإمام أن يجمع ذلك ويفرقه بقدر ما يخاف عليه أو يأمن، وكذلك الحد والنكال يجتمعان جميعاً على رجل، فإن اجتمع عليه حد لله تعالى وحد للعباد بدئ بالحق الذي لله؛ إذ لا عفو فيه، فإن عاش أخذ منه حق العباد، وإن مات بطل حقه.
قال في المدونة: إن سرق وقطع يمين رجل؛ قطع في السرقة فقط؛ إذ هي آكد ولا عفو فيه ولا شيء للمقطوعة يده، كما لو ذهبت يد القاطع بأمر من الله تعالى. وقوله:(بخِلافِ قَطْعِ الْحِرَابَةِ) هكذا في الموازية وغيرها، وعلل ذلك بأن حده إما القطع وإما القتل.
ابن عبد السلام: وليس عندي بالبين؛ لأنا لا نخير الحاكم في قصاص المحارب مجرداً. انتهى. وإنما يجعل له الاجتهاد فيمن تعين له بعض تلك الحدود، وفي آية الحرابة، وعلى هذا فمن يستحق القطع في الحرابة لا ينبغي أن يقضي عليه بالنفي فلا يزاد عليه. انتهى. وهذا كلام ظاهر.
وَيُؤَخَّرُ الْحَامِلُ فِي النَّفْسِ لا بدَعْوَاهَا. وَقِيلَ: فِي الْجِرَاحِ الْمَخُوفَةِ
لأن الحامل لو قتلت؛ لقتلت من غير تأخير- كما قلنا- نفسين، ولا تؤخر بمجرد دعواها. قال في المدونة: وينظرها النساء فإن صدقتها لم يعجل عليها، وظاهره أنه جعل القول بالتأخير في الجراح مخالفاً للأول وليس بظاهر، وهو تقييد ولا ينبغي أن يختلف فيه، وإنما ساقه في الجواهر على أنه تقييد، فقال: وتؤخر الحامل في النفس لعذر الحمل عند ظهور مخايله، ولا يكفي مجرد دعواها.
محمد: وفي القصاص- الشيخ أبو محمد- يريد وفي الجراح المخوفة.
وَتُؤَخَّرُ الْمُرْضِعُ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَنْ يُرْضِعُ
هو ظاهر، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث العامرية.
وَتُحْبَسُ الْحَامِلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَوْ بَادَرَ الْوَلِيُّ فَقَتَلَهَا؛ فَلا غُرَّةَ، فَإِنْ زَايَلَهَا قَبْلَ مَوْتِهَا؛ فَالْغُرَّةُ إِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ
…
حبست إذ لا كفالة في ذلك، فإن بادر الوي بقتلها فلا غرة؛ لأن من شرط الغرة أن يزايلها قبل موتها. وقوله:(إِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ) يريد: وأما إن استهل ففيه الدية بالقسامة، كما سيأتي.
وَمَنْ قَتَلَ بِشَيْءٍ قُتِلَ بهِ، إِلا الْخَمْرَ وَاللَّوَاطَ
لقوله تعالى: {فَمَنِ اعتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ} [النحل: 126] وللحديث الصحيح: أنه رضخ رأس اليهودي الذي رضخ المرأة. ونبه على خلاف الحنفية في تخصيصهم القود بالسيف، لما ذكره البزار من حديث الحر أبي سهل بن مالك
عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا قَوَدَ إِلَاّ بِالسَّيْفِ". قال أبو حاتم: والحر لا بأس به، ومبارك ذكره ابن حبان في الثقات وضعفه ابن معين في أحد قوليه، وذكر أيضاً عن الثوري عن جابر الجعفي عن أبي عازب مسلم بن عمرو عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الْقَوَدُ بِالسَّيْفِ، وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ".
عبد الحق: وكلها ضعيفة، وما ذكره المصنف يختص بمن قتل بقسامة، فإنه حكى في البيان والمقدمات أنه لا يقتل إلا بالسيف، وأشار إلى أن ذلك متفق عليه في المذهب. وقوله:(إِلا الْخَمْرَ وَاللّوَاطَ) الأولى ذكر القدر المشترك بينهما، وهو المعصية كما فعل صاحب التلقين.
وَفِي النَّارِ وَالسُّمِّ قَوْلانِ
أما النار، فقال الباجي: المشهور أنه يقتص به للعمومات السابقة، خلافاً لابن الماجشون، ولنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بعذاب الله. رواه البخاري. وأما السم، ففي المدونة: ومن سقي رجلاً سُماً فقتله؛ فإنه يقتل بقدر ما رأى الإمام، فحملها في البيان على أنه يقاد به، ويكون-أي الإمام- راجعاً إلى قلة السم وكثرته؛ لأن من الناس من يسرع موته باليسير، ومنهم من لا يسرع موته إلا بالكثير؛ لاختلاف أمزجة الناس، وهو ظاهر لفظ الإمام وظاهر الواضحة، وتأولها ابن أبي زيد على غير ظاهرها، فقال: يعني يجب القود بغير السم، وهذا المعنى المشار إليه نحوه لأبي عمران.
فَيُخْنَقُ، وَيُغَرَّقُ، وَيُحَجَّرُ، وَلا عَدَدَ [706/ب] فِي ذَلِكَ، فَإِنْ قَتَلَهُ بعَصَوَيْنِ ضُرِبَ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ
…
يعني: ويقتص بالخنق والتغريق، وإذا قتله بالحجر قُتل به، وإن كان إذا كتف يغرق، فقال أشهب: يقتل، وكذلك كل ما هو من هذا المعنى من طرحه من مكان مرتفع،
وشرط عبد الملك في الحجر أن يكون ما يشدخ، قال: ولا يقتل بالرمي بالنبل ولا بالرمي بالحجارة؛ لأنه لا يأتي على ترتيب القتل، وهو من التعذيب. وقوله:(فَلَوْ ضَرَبَهُ بعَصَوَيْنِ) أي: ضربتين، ضُرب بالعصا حتى يموت، وهكذا قال مالك في المدونة. قال عنه ابن نافع: وذلك إذا كانت الضربة تجهزه، فأما أن يضربه ضربات فلا.
اللخمي: واختلف إذا ضرب مثل العدد الأول فلم يمت، فقال ابن القاسم: يضرب بالعصا حتى يموت، وقال ابن مالك عند محمد: إن كانت العصا تجهز في ضربة ولا يكون شيء بين مختلف، فله أن يقتله بالعصا وإن شاء بالسيف، وأما ضربات فلا وليقتله بالسيف. وقال أشهب: إن رأى أنه إن زِيدَ مثل الضربتين مات زِيدَ وهذا أحسن، فإذا مات الأول عن خمس ضربات ضرب مثل ذلك العدد، فإن لم يمت ورأى أنه إن زِيدَ مثل الضربة والضربتين مات؛ فعل وإلا أجهز عليه بالسيف.
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُطَوِّلُ فِي قَتْلِه؛ فَبالسَّيْفِ عَلَى الأَصَحِّ
الأصح نص عليه في التلقين، وكذلك صححه القاضي أبو بكرن فقال: الصحيح من قول علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن يدخل في حد التعذيب فليترك إلى السيف، ومقابل الأصح هو ظاهر الإطلاقات.
فَلَوْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَفَقَاً عَيْنَيْهِ قَصْداً لِلتَّعْذِيبِ فُعِلَ بهِ، وَإِنْ كَانَ مُدَافَعَةً فَالسَّيْفُ
…
يعني: أن ما دون النفس يدخل فيها إلا أن يقصد التعذيب والُمثْلَة، ولو ضرب بالسيف فانكسر قبل قتله، فأخذ رمحاً وطعنه به، أو ألقاه في نهر فمات لقتله بالرمح أو التغريق، وعلى هذا فقوله:(فَالسَّيْفُ) مخصوص بمن قتل به.
وَمَهْمَا عَدَلَ الْمُسْتَحِقُّ إِلَى السَّيْفِ مُكِّنَ
لأن عدل إلى الأخف.
وَلَوْ قَطَعَ يَداً لِرَجُلٍ، وَرِجْلاً لآخَرَ، وَقَتَلَ آخَرَ، فَالْقَتْلُ يَاتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ
هذا تكرار مع قوله أولاً: (وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ وَمُسْتَحِقُّ الطَّرَفِ قُتِلَ وَلَمْ يُقْطَعْ) وقد تقدم أنه ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يقصد المثلة، ووقع فرع يدل على خلاف هذا المعنى؛ وهو إذا قطع يد رجل عمداً، ثم قطع القاطع خطأ أو عمداً فصالح أولياؤه في العمد على مال، فقيل: لا شيء لمن قطعت يده؛ لأن الدية إنما أخذت على النفس. وقال محمد: إن أخذوا الدية في الخطأ أو العمد، فللمقطوع يده أخذ حقه من ذلك.
اللخمي: والأول أحسن؛ لأن الدية إنما أخذت عن النفس ولم تؤخذ عن اليد.
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ خَطَا فَلا يَسْقُطُ
يعني: وأما ما كان من القطع خطأ فلا يسقط، كما لو قطع يد شخص خطأ، وفقأ عين آخر كذلك، ثم قتل آخر عمداً؛ فإن على العاقلة دية اليد والعين، ويقتص من الجاني في القتل، وهذا لا يختلف فيه.
وَلَوْ قَطَعَ أَصَابِعَ عَمْداً ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ قُطِعَتْ مِنَ الْكَفِّ، إِلا أَنْ يُفْهَمَ التَّعْذيبُ فَيُفْعَلُ بِهِ كَذَلِكَ
…
يعني: لا يندرج الجزء في الكل في النفس، فكذلك أيضاً لا يندرج الجزء في الكل والطرف، وكلامه ظاهر التصور.
وَفِي مُوَجَبِ الْعَمْدِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ: تَعَيُّنُ الْقَوَدِ، وَالتَّخْبيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ
…
(مُوجَبِ) بفتح الجيم، اختلف فيما يوجب العمد، هل القصاص فقط وهي رواية ابن القاسم، أو التخيير بينه وبين الدية وهي رواية أشهب، وبها قال أشهب واختيار جماعة من المتأخرين؛ لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُؤَدِي، وَإِمَّا أَنْ يُؤّدِي، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ". قال جماعة: هذا الخلاف إنما هو في النفس، وأما الجرح العمد فإن أشهب يوافق المشهور، ونقل عن ابن عبد الحكم التخيير في جراح العمد كالنفس، وفرق الباجي بين الجراح والنفس على رواية أشهب؛ بأن الجارح يريد استيفاء الحال لنفسه، والقاتل إذا قتل ترك المال لغيره، فهو مضار بامتناعه من الدية.
فَعَلى الأَوَّلِ لَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ أَوْ مُطْلَقاً سَقَطَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ. قَالَ: إِلا أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ أَرَادَهَا فَيَحْلِفُ ....
يعني: إذا فرعنا على رواية ابن القاسم وهي تعين القود، فإذا عفا عنه لم تبق له مطالبة، وسواء قال: عفوت عن القصاص، أو قال: عفوت وأطلق، فقوله:(مُطلَقاً) صفة لمصدر محذوف؛ أي: عفواً مطلقاً غير مقيد سقط القصاص لتصريحه بالعفو عنه، والدية لأنها غير واجبة له في الأصل. وفاعل (قَالَ) عائد على مالك، ولعله نسبه لمالك لإشكاله على عادته وعادة غيرهم أنهم يتبرءون من بعض المسائل ينسبونها لأهل المذهب بقولهم: قالوا. أو ينسبونها لمالك إشارة منهم إلى أنه ليس فيها إلا النقل، ووجه الإشكال الذي أشار إليه المصنف هنا ظاهر؛ لأن الدية إذا لم تكن واجبة له في الأصل فلا يقبل قوله في إرادتها، وعبر المصنف بقوله:(أَنْ يَظْهَرَ) وفي المدونة: لفظة (بَيْنَ) أقوى، ولهذا [707/أ] قال ابن عبد السلام: التحقيق إن كان الذي ظهر من ولي الدم أمارة قوية تدل على انه ما عفا إلا لأجل الدية؛ فيحلف ويبقى على حقه في القصاص إذا امتنع القاتل من
إعطاء الدية، وإن كانت تلك الأمارة ضعيفة لا تفيد إلا الشك أو ظناً ضعيفاً، فيحتمل ألا تعتبر ولا يمين، ويحتمل أن يقال إنها كالأمارة القوية؛ لأن القول بالتخيير قوي، ومن حق الولي أن يقول: إنما أنا اعتقدت، وإذا كان الخصم يعذر بالجهل فهنا أولى. قال: وينبغي أن يحمل قول المصنف: (إِلا أَنْ يَظْهَرَ) على القسم الأول من قسمي الأمارة؛ لأن لفظه في المدونة يدل عليه؛ لأنه قال: (بَيْنَ) هذا معنى كلامه، ثم هذا متقيد بما إذا قال في الحضرة: إنما عفوت عن الدية، وأما لو سكت حتى طال فلا شيء لهم، قاله مالك في الواضحة، وقاله ابن الماجشون وأصبغ.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا عَنِ الْعَبْدِ، وَلا طَلَبَ لَهُ بوَاحِدٍ مِنْهُمَا
أي: عن القصاص الواجب على العبد، ثم قال: إنما عفوت لآخذ العبد، لم يكن له ذلك، إلا أن يتبين ذلك فيحلف. وقوله:(وَلا طَلَبَ لَهُ بوَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي: بالعبد، ولا بدية الحر المقتول، وفي معناها قيمة العبد المقتول.
فرع:
ولو حلف الولي في مسألة العبد، خيرنا السيد في دفعه له وفي دفع الدية. قال في العتبية والموازية: منجمة، وأشار ابن يونس إلى أنه تفسير للمدونة. قال ابن رشد: مذهب المدونة هنا أنها حالَّة، وقد تقدم التنبيه على ذلك في مسألة اصطدام الحر والعبد. في جعله مسألة العبد مفرعة على رواية ابن القاسم نظر؛ لأن الحكم فيها تخيير الولي في القتل أو العفو على أخذ العبد، ثم تخيير السيد على ما تقدم، فالتخيير فيها حاصل اتفاقاً لهم، إلا أن يقال: لم يقصد المصنف أن مسألة العبد مفرعة على قول ابن القاسم، وإنما عطفها على مسألة الحر لارتباطها بها، وتشبيه ابن القاسم إحداهما بالأخرى.
وَلا لِمَنْ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ؛ كَالْبَنَاتِ مَعَ الابْنِ، وَالأَخَوَاتِ مَعَ الأَخِ
هذا معطوف على الحر المتقدم؛ أي: لا طلب لهؤلاء لمن يعتبر عفوه عن غير الأولياء وإن كان وارثاً، وهذا استفيد مما قدمه المصنف بقوله:(وَلا تَدْخُلُ بِنْتٌ عَلَى ابْنٍ وَلا أُخْتٌ عَلَى أَخٍ مِثْلِهَا) وهو ظاهر المذهب وبه قال ابن القاسم وأشهب. وروى أشهب عن مالك أيضاً: إن عفا الذكور كلهم فحق أخواتهم في الدية باقٍ.
ابن المواز: وبالقول الأول قال من أدركنا من أصحاب مالك، ثم إن الأول مقيد بأن يعفو كل من له العفو في فور واحد، وأما لو عفا بعض من له ذلك ثم بلغ من بقي وعفا؛ فلا يضر ذلك من معهما من أخت وزوجة، لأنه مال ثبت بعفو الأول، قاله محمد.
فَإِنْ بَقِيَ مَنْ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ نَصِيبُ الْعَافِي خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَ مُفْلِساً صَحَّ، إِلا أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ أَنْ تَعَيَّنَ الْمَالُ باتِّفَاقِهِمَا
…
كما لو كانوا ثلاثة بنين فعفا أحدهم؛ فإنه يسقط نصيبه ويكون لمن لم يعفُ نصيبه من دية عمد، فإن كان مفلساً صح، إلا أن يعفو بعد أن تعين المال باتفاقهما؛ أي: ولو كان العافي مفلساً صح العفو، وهو واضح على قول ابن القاسم الذي لا يرى للولي إلا القصاص، وكذلك نص أشهب ورأى أن قدرة الولي على تملك هذا المال لا تصيره ملكاً له.
وقوله: (إِلا أَنْ يَعْفُوَ) ظاهره أسقط مالاً بعد وجوبه. الضمير في (اتِّفَاقِهِمَا) يعود على الولي والجاني.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ بشَيْءٍ، فَلَهُ أَخْذُ حِصَّتِهِ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ
…
يعني: فإن عفا الولي بعد عفو الأول فللثاني حصته من دية عمد، وسواء كان عفو الأول على مال أو لا، وكان بعد عفو الأول عاد نصيب الثاني مالاً، وإن كان مفلساً لا يصح عفوه.
وَإِذَا عَفَا بَعْضُ مَنْ لَهُ الاسْتِيفَاءُ، فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ رِجَالاً سَقَطَ الْقَوَدُ
لما تكلم على العفو باعتبار ما يتعلق به من سقوط الدية وعدم سقوطها، شرع فيما يتعلق به من سقوط القود وعدمه، ثم إن المستحق تارة يكون جميعهم رجالاً، وتارة يكون جميعهم نساءً، وتارة يجتمعان، وتكلم المصنف على الثلاثة، فقال:(إِنْ كَانَ الْجَمِيعُ رِجَالاً سَقَطَ الْقَوَدُ) وظاهره سواء كانوا أولاداً أو إخوة أو غيرهم كالأعمام والموالين ولا خلاف في الأولاد والإخوة، وأما الأعمام ونحوهم فما ذكره المصنف هو لمالك وابن القاسم. وروى أشهب عن مالك في الموازية: عدم السقوط، وأن لمن بقي أن يقتل، وإن ثبت الدم بقسامة ونكل أحدهم؛ أقيم مكانه رجل من العشيرة،
ابن رشد: وإذا عفا أحد الأولياء عن الدم بعد ثبوته بالبينة أو بالقسامة أو أكذب نفسه بعد القسامة، فثلاثة أقوال؛ أولها لابن الماجشون: الدم والدية يبطلان. ثانيها: أن لمن لم يعفُ ولا أكذب نفسه حظه من الدية. والثالث: إن عفا كان لمن بقي حقه، وإن أكذب نفسه لم يكن لمن بقي شيء من الدية، وإن كانوا قد قبضوها ردوها، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها. قال: ويأتي في بطلان الدية بعفو أحد الأولياء من الدم ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها تبطل ولا شيء لمن بقي، وهو قول ابن الماجشون. [707/ب] الثاني: أن لمن بقي حظه من الدية بغير قسامة إن كان العفو بعد ثبوت الدم، أو بقاسمة إن كان العفو قبلها. والثالث: تفرقة ابن القاسم بين أن يكون العفو قبل ثبوت الدم أو بعده، وساوى ابن القاسم بين العفو والنكول عن اليمين قبل القسامة، وفرق بعد القاسمة بين أن يعفو أحد الأولياء أو يكذب نفسه، فجعل تكذيب نفسه بعد القسامة كعفوه عن الدم قبل القسامة، لا شيء لمن بقي من الدية.
وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً نَظَرَ الْحَاكِمُ
هذه الصورة الثانية. قال في المدونة: وإن لم يترك إلا بنته أو أخته، فالابنة أولى بالقتل وبالعفو، وهذا إذا مات مكانه، وقال أيضاً فيها فيمن أسلم من أهل الذمة، أو رجل لا تعرف عصابته فقتل عمداً أو مات مكانه، وترك بنات: فلهن أن يقتلن، فإن عفا بعضهن وطلب بعضهن القتل، نظر في ذلك السلطان بالاجتهاد إذا كان ذلك عدلاً، فإن رأى العفو أو القتل أمضاه، وهذا الكلام هو الذي اختصره المصنف، والكلام الأول أولى بالذكر؛ لأن النساء فيه يحزن الميراث، فتتم المقابلة بسببه بين هذه المسألة والتي قبلها.
أبو عمران في مسألة المصنف: وإنما كان للإمام في ذلك؛ إذ هو بمنزلة العصبة، لأنه يرث لبيت المال ما بقي. قيل لأبي عمران: أرأيت إن لم يكن إمام عدل كوقتنا هذا، فقال: الذي يتبين لي ألا سبيل له في القتل إلا أن يكون فيه جماعة عدول مجتمعون وينظرون، فإن رأوا القتل قتلوا وينوبون مناب السلطان.
فَإِنْ كَانُوا رِجَالاً وَنِسَاءً؛ لَمْ يَسْقُطْ إِلا بهِمَا أَوْ ببَعْضَهِمَا، وَإِلا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ
…
هذه هي الصورة الثالثة، وهي إنما تتصور إذا كانت النساء أقرب؛ لأنه قدم أنه لا كلام لهن مع المساوي. وقوله:(لَمْ يَسْقُطْ) أي: القود إلا باجتماعهما على العفو أو بعضهما؛ أي: بعض هذا الصنف وبعض هذا الصنف، وأحرى إذا اجتمع جميع صنف مع بعض الآخر.
وقوله: (إِلا) أي: وإن لم يكن ما تقدم، بل عفا أحد الصنفين وأراد الصنف الآخر القتل، وهذا مذهب المدونة؛ أن العفو لا يتم إلابهما أو ببعضهما، وأن القول قول من أراد القتل منهما جميعاً، وهو إذا ثبت الدم بقسامة. وروي عن مالك: أن القول قول العصبة في
العفو والقتل. وروي أيضاً: أن القول قول من أراد القتل منهما جميعاً، ولو ثبت الدم ببينة وحاز النساء الميراث؛ فلا كلام للعصبة كما تقدم.
وَمَهْمَا أسَقَطَ الْبَعْضُ تَعَيَّنَ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ نَصِيبُهُمْ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا الْبعْضُ أَوِ الْجَمِيعُ عَلَى الدِّيَةِ
…
أي: مهما سقط القود بعفو بعض من له القود تعين لباقي الورثة نصيبهم من دية عمد، وكذلك لو عفا البعض أو الجميع على الدية لوجبت عليهم دية عمد.
ابن عبد السلام: ولو عفا البعض على جميع الدية فللباقين نصيبهم من حساب دية عمد، ثم يقيمون كلهم ما حصل لهم ويقتسمونه كأنهم اجتمعوا على الصلح به.
وَلَوْ قَالَ الْقَاتِلُ: إِنْ قَتَلْتَنِي فَقَدْ وَهْبْتُ لَكَ دَمِي، فَقَوْلانِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَحْسَنُهُمَا أَنْ يُقْتَلَ، بخِلافِ عَفْوِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَلَوْ أَذِنَ فِي قَطْعِ يَدِهِ عُوقِبَ وَلا قِصَاصَ
…
هذا الذي نسبه المصنف لابن القاسم، وذكر في الجواهر أن أبا زيد رواه عن ابن القاسم، وهو في العتبية لسحنون ففيها: سئل سحنون عن الرجل يقول: يا ليتني أجد من يقتلني، فقال له رجل: أشهد على نفسك أنك وهبت دمك وعفوت عني وأنا أقتلك، فأشهد لي على ذلك، فأشهد وقتله، فقال لي: قد اختلف في ذلك أصحابنا، والأحسن في ذلك أن يقتل القاتل؛ لأن المقتول عفا عن شيء لم يجب له وإنما يجب لأوليائهن ولا يشبه من قتل فأدرك حياًن فقال: أشهدكم أني قد عفوت عنه، قيل له: فلو قال له اقطع يدي فقطعها، قال: لا شيء عليه: لأن هذا ليس بنفس، وإنما هو جرح. وزاد في البيان ثالثاً: نفي القصاص لشبهة عفو المقتول عن دمه، وتكون الدية عليه ي ماله، قال: وهو أظهر الأقوال.
وَلَوْ عَفَا عَنْ جُرْحِهِ أَوْ صَالَحَ فَمَاتَ، فَلِلأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقْسِمُوهَا وَيَقْتُلُوا فِي الْعَمْدِ، والدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، وَيَرْجِعُ الْجَانِي فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ. قَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَزِيدَ: وعَمَّا يَتَرَامَى إِلَيْهِ
…
يعني: لو عفا المجروح عن جرحه أو صالح عليه بمال ثم مات المجروح، خير أولياء المجروح في إمضاء العفو والمصالحة، وفي نقض ذلك ويرجعون إلى حقهم في النفس في العمد والدية في الخطأ بعد قسامتهم، وإن نقضوا ذلك رجع الجاني فيما دفع للمجروح إن كان دفع إليه شيئاً. قوله: (قَالَ أَشْهَبُ
…
إلخ) ظاهره أن المذهب: يخيرون ولو قال ذلك، وأشهب يقول: ليس لهم خيرة إذا قال ذلك.
ابن عبد السلام: اختلف شارحو المدونة هل يجوز الصلح عند ابن القاسم على هذه الزيادة التي ذكرها أشهب أولا؟ واعلم أن الصلح إما أن يقع بدون هذه الزيادة أو بها، فإن وقع بدونها في العمد والخطأ فثلاثة أقوال: أولها: التخيير كما قال المصنف. ثانيها: ليس لهم التمسك بذلك الصلح في العمد والخطأ إلا برضا القاتل؛ لأن من حقه في العمد أن يقول [708/أ]: عادت الجناية نفساً فليس لكم إلا القسامة والقود، وكذلك يقول في الخطأ: الدية وجبت على العاقلة، وهو قول أشهب. والثالث لابن القاسم: الفرق، فيخيرون في العمد ولا يختارون في الخطأ، وهو ظاهر المدونة عند صاحب البيان.
وأما الصلح على الزيادة المذكورة، فإن كان في جراح الخطأ والتي دون النفس كالموضحة؛ فلا خلاف أن الصلح فيها على هذه الزيادة لا يجوز، لأنه إن مات كانت الدية على العاقلة، فهو لا يدري يوم صالح ما يجب عليه، وهي خطأ، ففي البيان: يتخرج على قولين؛ أحدهما: لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في العتبية، وظاهر ما في الواضحة. والثاني: أنه جائز؛ إذ لا غرر فيه، لان دية الجراح إنما تجب على العاقلة كنفس، فإنه صالح عنها.
وأما جراح العمد فيما فيه القصاص والمصالحة فيه جائزة، على ظاهر المدونة ونص عليه ابن حبيب في الواضحة، خلاف ما نص عليه ابن القاسم في العتبية من المنع. وأما جراح العمد التي ليس فيها القصاص؛ فلا يجوز فيه الصلح على الموت، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة. قال في البيان: ولا أعرف فيه نص خلاف، وأما الصلح فيه على الجرح وحده دون الموت؛ فأجازه ابن حبيب فيما لهدية مسماة كالمأمومة والمنقلة والجائفة، وقال أيضاً: لايجوز فيه بعينه على ما يترامى إليه من زيادة، ولم يجز فيما الدية فيه مسماة إلا بعد البرء.
وَلَوْ صَالَحَ فِي الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ إِلَى أَيِّ أَجَلٍ كَانَ جَازَ؛ لأَنَّهُ دَمٌ لا مَالٌ
…
أي: لو صالح الجاني. وما ذكره ظاهر على قول ابن القاسم؛ لأن الواجب إنما هو القصاص؛ إذ لا مانع، وأما على قول أشهب فيحتمل أن يقال فيه بالمنع إذا صالح على مال أكثر لا يلزم من فسخ الدين في الدين، لكن شرط أن يضم إلى هذا اعتبار قاعدة: من خير بين شيئين يعد منتقلاً، وقد يقال: إن دية العمد لم تتقرر، وهذا هوا لذي نص عليه أشهب، فقد أجاز في الواضحة الصلح على ذهب أو رق أو عرض مثل الدية أو أكثر منها إلى أجل نقداً.
وَلَوْ صَالَحَ فِي الْخَطَأِ اعْتُبِرَ بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ لأَنَّهُ مَالٌ
لأن الواجب في الخطأ مال. وقوله: (بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ) إنما يظهر إذا كان المصالح الجاني. وأما إن صالحت العاقلة؛ فهو فسخ الدين ي الدين. ثم قوله: (اعْتُبِرَ بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ) فيه قصور؛ لأنه يقتضي الجواز في النقد مطلقاً، الورق عن الذهب وبالعكس؛ لأنه صرف مستأخر، وهو ظاهر.
وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَتُحَاصُّ الْعَاقِلَةُ مَعَ ذَوِي الْوَصَايَا فِي ثُلُثِهَا وَثُلُثِ غَيْرِهَا إِنْ كَانَ
…
أي: ولأجل أن الخطأ مال إذا عفا عنها لم يصح عفوه عنها إلا في الثلث، فإن خرجت من الثلث صحت الوصية، وإلا وقف الزائد على الثلث على رضا الورثة، ولو أوصى بوصايا أُخَر لتحاصت العاقلة مع أهل الوصايا الأُخَر في ثلث الدية وثلث غيرها، (إِنْ كَانَ) أي: إن كان له مال غير الدية.
وَيَدْخُلُ فِي ثُلُثِهَا مَنْ أَوْصَى لَهُ بَعْدَ سَبَبِهَا، أَوْ بِثُلُثِهِ قَبْلَهَا، أَوْ بشَيْءٍ إِذَا عَاشَ بَعْدَهَا مَا يُمْكِنُهُ التَّغْييرُ فَلَمْ يُغَيِّرْ
…
أي: في ثلث الدية وصية من أوصى له بعد طروء سببها، وهو الجرح أو إنفاذ المقاتل، وكذلك يدخل في ثلثها وصية من أوصى له بثلث ماله قبلها: أي: حدوث سببها، وكذلك أيضاً يدخل في ثلثها من أوصى له بشيء معين كدار وعبد.
قوله: (إِذَا عَاشَ) شرط فيما يوصى به قبل سببها، و (مَا) في قوله:(مَا يُمْكِنُهُ) مصدرية ظرفية؛ أي: مدة يمكنه فيها التغيير، واحترز بذلك مما لو غم بعد الضرب أو الجرح أو الموت، فإنه لا يدخل الوصايا فيها.
بخِلافِ الْعَمْدِ، فَإِنَّهُ لا مَدْخَلَ لِلْوَصِيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُورَثُ كَمَالِهِ وَيَغْرَمُ الدَّيْنَ مِنْهُ
…
أي: لأن العمد ليس بمال، فإذا قبلت الدية بعد موته؛ فهو مال طارئ بعد الموت فلا تدخل فيه الوصايا. قال في المدونة: ولو أن الموصي قال: إن قبل أولادي الدية فوصيتي فيها أو أوصي بمثلها؛ لم يجز، ولا يدخل منها في ثلثه شيء؛ لأن ذلك عند الموت يوم أوصى مال مجهول، محمد: بل لا مال له، ولهذا قال بعضهم: لو أنفذ له مقتل وبقي حياً
يتكلم فقبل أولاده الدية وعلم بها لدخلت فيها وصاياه؛ لأنه مال علم به قبل زهوق نفسه. وقوله: (وَإِنْ كَانَ يُورَثُ كَمَالِهِ
…
إلخ). فيعني أنه لا يضر في سلب المالية كونه يورث عنه، ويغرم منه الدين؛ لأنه مال لم يعلم، أو ليست بمال حقيقة، فتأمله.
وَصُلْحُ الْجَانِي يَمْضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالْعَكْسِ
هذا ظاهر؛ لأن العاقلة تؤدي الدية من أموالهم ولا يرجعون بها عليه، فكما لا يلزم الأجنبي ما صالح عنه غيره كذلك هنا، وكذلك العكس.
وَلِلْقَاتِلِ الاسْتِحْلافُ عَلَى الْعَفْوِ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ يَمِيناً وَاحِدَةً، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنِ ادَّعَى بَيَّنَةً غَائِبَةً تُلُوِّمَ لَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَمِينَ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ؛ لأَنَّ يَمِينَ الدَّمِ لا يَكُونُ إِلا خَمْسِينَ
…
يعني: إذا ادعى القاتل على ولي الدم أنه عفا عنه وأنكر؛ فله أن يستحلفه على أنه لم يعفُ، هذا هو المشهور. وقال أشهب [708/ب] في الموازية: ليس له أن يستحلف؛ لأن اليمين لا تكون في استحقاق الدم إلا خمسين يميناً، والقاتل يريد أن يجيب عليه قسامة أو بينة، ولو قال: يحلف؛ أي: يميناً واحدة: لم يكن له ذلكن أرأيت لو استحلفه فلما قدم ليقتل قال: قد عفا عني استحلفه، ولو رد على المشهور أن لاعتبار الدعوى بمجردها معارضاً بعدم اعتبار دعوى المرأة الطلاق على زوجها، والعبد على سيده الحرية، وفرق بأن القتل نادر.
وقوله: (فَإِنْ نَكَل) هو تفريع على المشهور؛ أي: نكل ولي الدم ردت اليمين على القاتل. قال ابن يونس: فيحلف يميناً واحدة لا خمسين؛ لأن المدعى عليه إنما يحلف يميناً واحدة أنه ما عفا، وهي المردودة، فإن حلف القاتل برئ وإلا قتل. وقوله:(وَإِنِ ادَّعَى بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ تُلُوِّمَ لَهُ) هكذا قال في المدونة.
وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصاً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قِسْطاً مِنْهُ سَقَطَ الْقَوَدُ، كَأَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَاقِينَ؛ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلِبَقِيَّةِ الإِخْوَةِ حَظُّهُمْ مِنَ الدِّيَةِ ....
يعني: إذا ملك بالميراث دم نفسه سقط القود عنه؛ لأنه لا يباح له قتل نفسه، وكذلك أيضاً إذا ورث جزءه؛ لأنه ملك من دمه حصة فهو كالعضو، ولبقية أصحابه حظهم من الدية. قال: إلا أن يكون من الأولياء الذين من قام منهم بالدم فهو أولى، فلمن بقي أن يقتلوا، وإذا سقط عنه القصاص بالإرث فنه يضرب مائة ويحبس سنة.
وقوله: (ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَاقِينَ) الثلاثة .... ثلث دم القاتل منه ثلثه وهو التسع، فيسقط عنه القصاص، ويكون لكل آخر عليه أربعة أتساع الدية.
أَوْ يَقْتُلُ الثَّانِي الْكَبِيرَ، ثُمَّ يَقْتُلُ الثَّالِثَ الصَّغِيرَ؛ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي وَيَثْبُتُ لَهُ عَلَى الثَّالِثِ، فَإِنْ عَفَا قَاصَّهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ
…
يقتل الثاني في مسألة الإخوة الأربعة الكبير منهم فيرث الأخ المقتول الثالث والصغير، فيكون بينهما دم الأخ الثاني للقاتل نصفين، فلما قتل الثالث الصغير ورث الآخر الثاني الصغير دون الثالث، فيصير له نصف دم نفسه الذي كان بيد الصغير، فيسقط القصاص ويكون هو ولي الصغير في القيام، فإن عفا عن الثالث قاصه بنصف الدية الذي كان عليه من قبل أخيه الكبير وأخذ منه النصف الباقي، وإن قتله دفع لورثته ما وجب لميتهم عليه؛ وهو نصف ديته.
فَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الابْنَيْنِ أَبَاهُ وَالآخَرُ أُمَّهُ، فَقِيلَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ، وَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي الْبِدَايَةِ؛ فَمَنَ بَدَأَ بهِ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقْتُلُوا الآخَرَ. وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا وَيِجِبُ لأَحَدِهِمَا دِيَةُ الأَبِ وَلِلآخَرِ دِيَةُ الأُمِّ
…
صورة المسألة من كلامه ظاهرة، واجتهاد الحاكم على القول الأول ليس بظاهر، وينبغي أن يقرع، والقول الثاني لسحنون وابن عبدوس، واحتجا بأن لكل واحد أن يقول: اقتلوا هذا قبلي، وهو قول ابن المواز، قال: ويسجنان سنة ويجلدان مائة.
وَفِي كَوْنِ إِرْثِهِ عَلَى نَحْوِ الْمَالِ أَوْ عَلَى نَحْوِ الاسْتِيفَاءِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
…
الضمير في (إِرْثِهِ) عائد على القصاص، والقتل المفهوم من السياق نحو ميراث المال، فيدخل الذكور والإناث، وإن تساووا في الدرجة، وتدخل الزوجة وغيرها ويكون لهم العفو والقصاص كالعصبة، وهو قول ابن القاسم في المدونة، أو على نحو ميراث استيفاء الدم، فلا تدخل الإناث إلا أن يكون أعلى من الذكور، وهو قول أشهب.
وَيُكْرَهُ قِصَاصُ الابْنِ مِنْ أَبيهِ. قَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ تَحْلِيفُهُ فَكَيْفَ بقَتْلِهِ
هكذا عبر مالك بالكراهة، حملها أبو عمران على المنع وهو ظاهر، وقد قدم المصنف ما يدل عليه، وهو قوله:(وَشَرْطُ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بالْدَمِ غَيْرَ وَلَدِ الأَبِ) قيل: وإذا لم يقتص منه فإنه يضرب مائة ويسجن عاماً.