المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الشُّرْبُ الْمُوجِبُ: شُرْبُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلِّفِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ مُخْتَاراً مِنْ - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٨

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الشُّرْبُ الْمُوجِبُ: شُرْبُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلِّفِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ مُخْتَاراً مِنْ

‌الشُّرْبُ

الْمُوجِبُ: شُرْبُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلِّفِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ مُخْتَاراً مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلا عُذْرٍ

هذه هي الجناية السابعة.

قوله: (الْمُوجِبُ) أي: للحد، واحترز بالمسلم من الكافر وبالمكلف من الصبي والمجنون، وأسند السكر للجنس؛ ليدخل القليل؛ لأنه وإن لم يسكر فجنسه سيسكر، واحترز بالمختار من المكره، ولغير ضرورة من المضطر إلى إساغة، وبلا عذر ممن يشرب خمراً يسقى ماءً ونحو ذلك.

فَيَجِبُ بالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ

الضمير في (يَجِبُ) يعود على الوجب وهو الحد؛ لأن الموجب المتقدم يدل عليه، ونبه بهذا على قول الحنفية أنه لا يحرم القليل الذي لا يسكر إلا من ماء العنب، ولنا ما رواه مسلم أن عمر رضي الله عنه خطب على منبره عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر ما خامر العقل. وفي الترمذي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"، وقال: حسن غريب، وفي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٌ حَرَامٌ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ".

فإن قيل: المسكر حقيقة ما حصل عنه السكر، قيل: لا نسلم، وما يذكر في أصول الفقه من اشتراط حصول المعنى في كون المشتق حقيقة إنما هو إذا كان المشتق يحكم به، وأما إذا كان متعلق الحكم فلا، ولوسلم فينقض بالخمر، وأما استدلالهم بما رواه البزار

ص: 330

عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها سواء، والمسكر من كل شراب. فهو إن صح إسناده وروي مرفوعاً من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، لكن قال عبد الحق: رواته كلهم ما بين ضعيف ومجهول.

وَلا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ وَلا مُضْطَرٍّ إِلَى الإِسَاغَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حَرَامٌ

لما رواه ابن ماجه: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"، وذكر ابن شاس في باب الأطعمة أنه لا تحل الإساغة للغصة بها على خلاف فيها، وإلى القول بالتحريم أشار المصنف بقوله:(وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حَرَامٌ)، وفي الجلاب عن أبي الفرج: لا بأس أن يشربها ليدفع بها غصة وهو الظاهر ولا يبعد الوجوب.

ابن عبد السلام: والظاهر أن الضمير في (إِنَّهُ حَرَامٌ) على الإساغة وحدها دون الإكراه، والخلاف في الصورتين، ولكن التحقيق أنه ليس بحرام فيهما، وربما أنكر بعضهم عدم الخلاف في الغصة، والمنصوص عدم شربها للجوع وللعطش.

مالك: ولا يزيده إلا عطشاً، وقيل: بجوازه وهو اختيار ابن العربي وغيره، فإن ذلك تخفيفاً على الجملة ولو لحظة.

وَالصَّحِيحُ أَنُّهُ لا يَجُوزُ التَّدَاوِي بمَا فِيهِ الْخَمْرُ وَلا بنَجِسٍ

الباجي وغيره: إنما هذا الخلاف في ظاهر الجسد؛ يعني: ويمنع في الباطن اتفاقاً، وما عبر عنه المصنف بالصحيح عبر عنه ابن شاس بالمشهور.

ابن عبد السلام: وأجاز مالك لمن عثر أن يبول على عثرته، وفي مسلم: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن جعلها في الدواء، فقال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ"، وكره مالك أن يداوي بها دبر الدواب.

ص: 331

وَفِي الْبَدَوِيَّ يَدَّعِي جَهْلَ التَّحْرِيمِ قَوْلانِ، بخِلافِ مُدَّعِي الْجَهْلِ الْحَدُّ

أي: مع كونه يعلم التحريم فإنه يحد اتفاقاً، والقول بالحد لمالك وأصحابه إلا ابن وهب فإنه قال: لا حد عليه.

مالك: وقد ظهر الإسلام وفشا فلا يعذر جاهل في شيء من الحدود.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لا حَدَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ يَرَى حِلِّ النَّبيذِ، وَمُقَلِّدِهِ

المحكي عن مالك وأصحابه وجوب الحد عليه، وعدم قبول شهادته إلا أن الباجي تأوله، فقال: لعل هذا فيمن ليس من أهل الاجتهاد والعلم، فإن كان من أهل العلم والاجتهاد، فالصواب أنه لا حد إلا أن يسكر منه، قال: وقد جالس مالك سفيان الثوري وغيره من الأئمة، ممن كان يرى شرب النبيذ مباحاً، فما أقام على أحد منهم الحد ولا دعا إليه مع إقراره بشربه، وظاهرهم وناظرهم عليه، وصحح هذا [743/أ] القول غير واحد من المتأخرين؛ لأنا إن قلنا كلمجتهد مصيب فواضح، وإن كان المصيب واحداً فلا أقل من أن يكون هذا شبهة.

وقوله: (عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَمُقَلِّدِهِ) فهو بكسر اللام، وأورد على قول مالك بحده أنه قد نفى الحد عن المتزوج بال ولي، وأجيب بأن مفسدة النكاح يمكن تلافيها بالصلاح وردها إلى العقد الصحيح كغير هذه الصورة من النكاح الفاسد، ولا يمكن مثل ذلك في الأشربة من الزجر عنها وهو الحد، وفيه نظر.

وَمَنْ ظَنَّ مُسْكِراً شَرَاباً آخَرَ فَلا حَدَّ

كما عذر من وطئ الأجنبية يظنها زوجته.

وَيَثْبُتُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَبالإِقْرَارِ

أي: لا خلاف في ذلكفإن رجع عن الإقرار؛ فإما إلى شبهة، أو لا وهو كالزنى.

ص: 332

وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّمِّ مِمَّنْ يعْرِفُهَا كَالشُّرْبِ، وَحَكَمَ بهِ عُمَرُ

ذكر أبو عمر ان هذا قول مالك وجمهور أهل الحجاز، خلافاً للشافعي وجمهور أهل العراق لاحتمال أن يكون يتمضمض بها، ورأى مالك أن هذا مرجوح.

وقوله: (مِمَّنْ يعْرِفُهَا) ظاهره سواء تقدم شربه لها كالكافر والعاصي ثم يتوب أولاً، وهو قول الباجي وغيره، واشترط ابن القصار تقدم الشرب.

ابن عبد السلام وغيره: الأول هو الصحيح إذ لاتخفى رائحتها على كثير من الناس وإن شهد شاهدان علىرائحة الخمر وخالفهما غيرهما، فقال ابن عبد السلام: قالوا يحد وهومشبه باختلاف القولين في المسروق، ومذهب المدونة إعمال شهادة من شهد بأن قيمته ربع دينار، ورأى بعضهم أن ذلك الاختلاف شبهة، هكذا ينبغي أن يكون هنا وإن شك شهود بالرائحة فالمنصوص أن يسلم إلى حال المشهود عليه، فإن كان من أهل السفه نكل وإن كان من أهل الخير ترك، ثم إن جاء الشهود من غير طالب أو أقام محتسب فلابد أن يكونوا اثنين أو أكثر، وإن أمر القاضي بالاستنكاه فاستحب أصبغ اثنين وأجاز الاكتفاء بواحد وهو بعيد؛ لأنه يئول إلى حكم القاضي بعلمه في الحدود وإن شهد عليه بالعمد وجب الحكم عندنا، وحكم به عمر وعثمان رضي الله عنهما وهو أقوى من الشم. انتهى كلام ابن عبد السلام.

اللخمي: ويستدل عند الشك بالرائحة تخليط عقله فإن حصل ذلك حد وإلا فلا.

عبد الملك: وقد يختبر بالقراءة التي لا شك في معرفته من الصور القصار فإن ذلك يحسن عند الإشكال.

ص: 333

وَمُوجَبُهُ: ثَمَانُونَ جَلْدَةً بَعْدَ صَحْوِهِ، وَيُتَشَطَّرُ بالرِّقِّ

لما في الموطأ أن عمر رضي الله عنه استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال علي رضي الله عنه: نرى أن تجلده ثمانين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجلد عمر رضي الله عنه في الخمر ثمانين.

أبو عمر: وقد انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم في حد الخمر على الثمانين ولا مخالف لهم منهم، وعلى ذلك جماعة التابعين وجمهور فقهاء المسلمين، والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور.

وقوله: (بَعْدَ صَحْوِهِ) هكذا نص عليه ابن القاسم وغيره.

اللخمي وصاحب البيان: فإن جلد في حال سكره اعتد بذلك إن كان عنده ميز، فإن كان طافحاً أعيد علهي الحد، وإن لم يحس بالألم في أول الحد ثم حس في أثنائه حسب له من أول ما أحس به.

(وَيُتَشَطَّرُ بالرِّقِّ) أي: كله أو بعضه.

وَالْحُدُودُ كُلُّهَا بسَوْطٍ وَضَرْبٍ مُعْتَدِلَيْنِ

يعني: حد الزنى والقذف والشرب، والأصل في هذا ما في الموطأ: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله علهي وسلم، فأتى بسوط مكسور فقال:"فَوْقَ هَذَا"، وأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال:"دُونَ هَذَا"، فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشهور ما ذكره المصنف من تساوي الضرب في الحدود، وقال ابن حبيب: ضرب الخمر أشدها.

ص: 334

قَاعِداً غَيْرَ مَرْبوطٍ مُخَلِّى الْيَدَيْنِ عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا

أي: ويضرب قاعداً، قال في المدونة: ولا يقام وتخلى له يداه، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد في الخمر: اضرب ودع له يديه يتَّقي بهما. وإذا اضطر بأن لا يصل الضرب معه إلى موضعه فإنه يربط.

قوله: (عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا) هو قول مالك في الموازية، وقال ابن شعبان: يعطى كل عضو حقه من الجلد إلا الوجه والفرج، واستحسن اللخمي الأول لما أخرجه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم لهلا بن أمية فيمن قذف زوجته:"وَإِلَاّ حَدُّ فِي ظَهْرِكَ".

وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ، وَيُتْرَكُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا لا يَقِيهَا، وَاسْتُحْسِنَ أَنْ تُجْعَلَ فِي قُفًّةٍ

هكذا قال مالك في المدونة: أن يجرد الرجل.

قوله: (وَيُتْرَكُ) أي: يترك عليها من الثياب ما يسترها ولا يقيها الضرب، ابن القاسم: ولا بأس بثوبين وينزع ما سوى ذلك.

ابن الجلاب: وتنزع الجبة والفرو، وبلغ مالكاً أن بعض الأمراء أقعد المرأة في القفة فأعجبه.

اللخمي: ويجعل عليها تراب وماء للستر.

وَيُؤَخَّرُ حَيْثُ يُخْشَى الْهَلاكُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّانِي

أي: حد المحدود وهو ظاهر، فإن كان هرماً أو شبهه ويخشى عليه الهلاك بسبب ولا ترجى له صحة فإنه يفرق عليه الضرب في أوقات، فإذا أقيم الحد على الشارب أطلق، ووقع في بعض الأقوال: المشهور بالفسق فطاف به ويلزم السجن [743/ب]

ص: 335