الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوَصَايَا
أَرْكَانُ
والوصايا جمع وصية. الجوهري: أوصيت له بشيء وأوصيت إليه: إذا جعلته وصيك، والاسم الوِصَاية والوَصَاية بالكسر والفتح، وأوصيته ووصيته إيصاءً وتوصية بمعنى. انتهى. والوصية مشتقة فيما ذكر الأزهري من قولهم: وصَى الشيء بكذا يصيه، إذا وصله به.
وَحَدَّهَا بعض الحنفية بأنها: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع.
المازري: وهي مندوبة عندنا إلا أن يكون عليه حق يخشى تلفه على أصحابه إن لم يوص له فتجب. ونحوه لبعض القرويين أنه إذا كان عليه حق أو له حق فهي واجبة، وإلا فهي مستحبة. وإنما تجب عليه الوصية في ذلك فيما له بال، وجرت العادة فيه بالإشهاد من حقوق الناس، وأما اليسير من ذلك مما يجري بين الناس من المعاملات فلا تجب عليه؛ إذ لا يكلف بذلك كل يوم وليلة للمشقة. وأوجبها الظاهرية.
ولنا في مسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين - وفي رواية: يبيت ثلاث ليال- إلا ووصيته عنده مكتوبة". ولو كانت واجبة لماوكلها إلى إرادته، وحمل بعض شيوخ عبد الحق هذا الحديث على أن قوله عليه الصلاة والسلام:"يبيت ليلتين" محمول على ما إذا كان موعوكاً. وقال صاحب المقامات: الصواب حمله على إطلاقه في الموعوك والصحيح؛ لان الصحيح قد يفجأه الموت.
وقوله: (أَرْكَانُ) أي: لها أركان أربعة، فحذف الخبر والصفة.
الْمُوصِي حُرٌّ مُسْلِمٌ مُمَيِّزٌ مَالِكٌ
هذا هو الركن الأول، وذكر له ثلاثة شروط، أو شرط مركب من ثلاثة أجزاء. واحترز بكُلِّ مِنْ مقابله: فاحترز بالحر من العبد؛ لأنه وإن كان يملك فلا تنفذ وصيته؛ لحق السيد.
وبالمميز [767/ب] من المجنون والصغير غير المميز، أما لو كان المجنون يفيق أحياناً وأوصى في حال إفاقته لصحت.
وبالمالك من غيره، والمراد بالمالك: من يملك ملكاً تامَّاً؛ ليحترز من المستغرق الذمة.
فَتَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ، وَالصَّبيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا عَقَلَ الْقُرْبَةَ وَلَمْ يَخْلِطْ
لأن الحجر عليهما إنما كان لأجلهما، فلو حجر عليهما في الوصية لكان الحجر لغيرهما. وقيد اللخمي إمضاء وصية السيه بأن يصيب فيه وجه الوصية.
مالك في الموازية: وإذا أدان المولى عليه ثم مات لم يلزمه ذلك، إلا أن يوصي به فتجوز في ثلثه.
ابن كنانة: وإن سمي ذلك ليقضي من رأس ماله ولم يجعله في ثلثه لم يجز ذلك على ورثته. وإن أوصى به على وجه الوصايا فهو مبدأ على وصاياه.
ولابن القاسم: إذا باع المولى عليه فلم يُرَدُّ بيعه حتى مات أنه ينفذ بيعه.
ابن زرقون: فعلى هذا يلزمه الدين بعد موته، فتأمله.
وذكرا لمصنف لإمضاء وصية الصغير ثلاثة شروط:
الأول: التمييز؛ لأن غير المميز لاتصح وصيته بالاتفاق.
والثاني: أن يعقل القربة، وهذا قد يستغنى عنه بالتمييزز
والثالث: ألا يخلط، وهذا قد ذكره في المدونة فقال: إذا أصاب وجه الوصية، وذلك إذا لم يكن فيه اختلاط.
وفسر اللخمي عدم الاختلاط بأن يوصي بما فيه قربة لله تعالى أو صلة رحم، فأما إن جعلها فيما لايحل من شرب خمر أو غيره فلا يُمْضَى.
وقال أبو عمران: يريد إذالم يخلط في كلامه، مثل أن يذكر في كلامه ما يبين أنه لم يعرف ما ابتدأ به.
اللخمي: واختلف في السن الذي تجوز وصيته فيه؛ فقال مالك في المدونة: عشر سنين أو أقل بيسير. وقال في الموازية: سبع سنين. وقال أصبغ وابن شهاب في الواضحة: تجوز وصيته إذا عقل الصلاة. وقال مالك في العتبية: إذا أَثْغَرَ وأُمِرَ بالصلاة وأُدِّبَ عليها. وهذا أقل ما قيل. وقال ابن الماجشون: إذا كان يافعاً مراهقاً، وهذا أكثر ما قيل، وأشار اللخمي إلى أن النظر غلى حال كل صبي بانفراده.
أشهب: وقد أوصى بوصيته وجعل إنفاذها إلى غير الوصي فذلك إلى وصيه.
ابن عبد السلام: وهذا مما ينظر فيه، فَإِنَّ نَظَرَ الوصي ينقضي بموت الصبي، ألاترى أن جراح الصبي ينظر فيها وليه، وديته إذا قتل ليس للوصي فيها نظر، وإنما هو للورثة، إلا أن يقال: ملك الصبي للدية متعذر بعد وته، وإنفاذ الوصية بعد موته إنما يكون على تقدير ملكه، والوصي هو الناظر في أملاك الصبي، وهذا منها.
وقال أشهب أيضاً: من أوصى لبِكْرٍ بمائة دينار ولا ولي لها فدفع الورثة ذلك إليها بغير أمر الإمام فقد برئوا. واختار اللخمي إن كان لها وصي ألا يدفع إلا إليه، إلا أن يكون ما يعلم أن الميت أراد دفع ذلك إليها؛ لتتسع به في مطعم أو ملبس فيدفع إليها.
وَمِنَ الْكَافِرِ إِلا بِمِثْلِ خَمْرٍ لِمُسْلِمٍ
أي: وتصح الوصية من الكافر؛ لأنه حر مميز مالك، إلا أن يوصي لمسلم بما لا يصح تملكه من خمر ونحوه.
ومفهوم قوله: (لِمُسْلِمٍ) - وهو مفهوم كلام ابن شاس- أنه لو أوصى لكافر لصحت، وهو ظاهر؛ لأنه أوصى بها لمن يصح تملكه لها، ولم أر ذلك نصاً، وقد يؤخذ
ذلك مما لابن القاسم في العتبية في نصراني أوصى بجميع ماله لكنيسته ولا وارث له، قال: يدفع إلى أساقفتهم ثلث ماله، وثلثاه للمسلمين.
وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ
قال: (وَإِنْ تَقَدَّمَتْ) ليفيد أنه لا فرق في البطلان بين ما أوصى به في حال رِدَّتِهِ أو قبلها، وهذا مقيد بأن يموت على رِدَّتِهِ، سواء قتل أو مات عليها. وأما إن رجع للإسلام فقال أصبغ: إن كانت مكتوبة جازت، وإلا فلا. وكذلك لو أوصى بها وهو مرتد وهو كالمريض إذا صح ثم مات.
وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ بمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْصَى فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ
حكى غير واحد الإجماع على أن الوصية عقد جائز، وللموصي أن يرجع عنها، سواء كانت بعتق أو غيره، وسواء كان أوصى في سفر أو مرض.
الباجي وغيره: وإنما له أن يرجع ما لم يمت.
وقوله: (مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) بيان لما يدل على الرجوع. وأضرب عن بيان الرجوع بالقول لوضوحه.
قال في الوثائق المجموعة: إذا قال: اشهدوا أني قد أبطلت كل وصية تقدمت فإنها تبطل، إلا وصية قال فيها: لا رجعة لي فيها، فلا تبطل إلا أن ينص عليهاز
وَالْفِعْلُ كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالاسْتِيلادِ
أتى بحرف العطف ليدل على معمطوف عليه محذوف؛ أي: فالقول ظاهر، (وَالْفِعْلُ) كذا؛ يعني: إن باع الثوب الموصى به مثلاً، أو أعتق العبد او كاتبه، أو استولد الأمة فذلك رجوع؛ لخروج الموصى به عن ملك الموصي.
وينبغي إذا عجز المكاتب في حياة السيد أن تعود الوصية فيه كما تعود في المبيع الموصى به على أحد القولين، وههنا أولى: لأن الكتابة لا تنقل الملك.
بخِلافِ الرَّهْنِ وَتَزْوِيجِ الرَّقِيقِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْوَطْءِ مَعَ الْعَزْلِ
أي: فإن هذ لا تكون رجوعاً في الوصية؛ لأنها لم تنقل الملك ولم تغير الاسم، وعلى الورثة خلاص الرهن.
وفي العتبية لأصبغ: إذا علمه الكتابة لا يكون ذلك رجوعاً، ويكون الورثة شركاء بقدرها.
وتبع في قوله: (وَالْوَطْءِ مَعَ الْعَزْلِ) ابن شاس، ومقتضاهما: أن الوطء من غير العزل يكون موجباً للرجوع، ومقتضى المذهب خلافه.
فقد قال ابن القاسم في الموازية: من أوصى لرجل بجارية فله وطؤها، وليس ذلك برجوع. وكذلك رواه عنه أصبغ وأبو زيد في العتبية. وفي البيان: لا اختلاف أن الوطء والاستخدام ليس برجوع.
أبو زيد عن ابن القاسم: وإن وقفت [768/أ] الأمة بعد موته؛ خيفة أن تكونحاملاً فقتلها رجل فقيمتها للميت؛ إذ قد تكون حاملاً، ولا شيء للموصى له. وخالفه ابن عبدوس ورأى أن القيمة للموصى له وهذا كله يدل على أن الوطء مطلقاً لا يكون رجوعاً، ولم يعدوا نقل هذه الأشياء دليلاً على الرجوع في الوصية. وعدوها دليلاً على الرضا في بيع الخيار وفي العيب؛ لأن الموصى به على ملك الموصي قبل الموت؛ فله التصرف فيه. وإنما يتعلق حق الموصى له بالموت، بخلاف الخيار والعيب. والله أعلم.
وَبخِلافِ مَا لَوْ أَوْصَى بثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ بَاعَ جَمِيعَهُ
هذا معطوف على (خِلافِ) الأول؛ يعني: فلا يكون هذا رجوعاً؛ لأن ثلث المال لا يختص بما عنده حال الوصية، بل المعتبر ما يملكه حال الموت سواء زاد أو نقص.
قال في النوادر: وإذا أوصى برقيقه ثم بدلهم، أو زاد أو نقص فإنما للموصى له مَنْ يكون عنده يوم مات، لا يوم أوصى.
وفي الجلاب: ومن أوصى لرجل بثيابه- وله ثياب يوم الوصية - فباعها واستخلف غيرها ثم مات، فللموصى له ثيابه التي استخلفها، إلا أن يبين تلك الثياب الأولى بأعيانها فلا يكون للموصى له شيء مما استخلفه.
فَلَوْ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَفِي رُجُوعِ الْوَصِيَّةِ قَوْلانِ
أي: إذا أوصى بمعين "كقوله: هذا العبد لفلان" ثم باعه واشتراه ففي رجوع الوصية قولان؛ بناءً على أن بالبيع حصل الرجوع؛ فلا تعود الوصية إبا بإيصاء جديد، أو لأن الفوت قد انتفى.
ابن عبد السلام: والذي نص عليه ابن القاسم وأشهب، ولا أعلم فيه خلافاً أنه يعود إلى الوصية، كما أنه لا خلاف إذا عين الموصى به فباعه واشترى مثله أن الوصية لا تعود فيه.
واختلف إذا لم يعين ولكن وصفه بصفة ثم هلك أو باعه واستحدث مثله في صفته؛ فقال ابن القاسم: تسقط الوصية. وروى هو وأشهب عن مالك فيمن قالت: ثوبي الخز لفلانة، فذهب ثوبها واخلفت مثله- أنه لا شيء للموصى لها.
وقال أشهب فيمن أوصى برقيقه وسماهم، أو وصف سلاحه وثيابه بصفة ذلك بعينه ثم استهلكت، واستفاد مثله ثم هلك، قال: فلا يكون ذلك للموصى له، إلا أن يوافقه في الاسم والصفة، مثل أن يقول:"عبدي نجيح النوبي وقميصي المروزي لزيد، وسيفي الهندي في السبيل" أن الوصية تقع في الثاني، الذي هو مثل الأول في الاسم والصفة.
أشهب: وإذا أوصى فقال: "غلامي نجيح الصقلي حر" فباعه واشترى مَنْ اسمه نجيح، وهو نوبي- فلا وصية له فيه حتى يوافقه في الاسم والجنس. ولو قال:"حر" ولم يصفه
واشترى من اسمه مبارك، فسماه نجيحاً لعتق. ولو قال:"غلامي نجيح حر" فسمي مباركاً لم تزل الوصية عنه؛ لأنه عبد بعينه، وقال أشهب: فهذا الخلاف الذي وقفت عليه في هذه المسألة. انتهى.
صاحب البيان: وإن عين الموصى به بالإشارة مثل أن يقول: "إن مت فهذا العبد لفلان" ثم هلك العبد واستبدل غيره- فلا خلاف أنه يتعين، ولا تنقل الوصية إلى بدله. وأما إن تعين بالإضافة كقوله:"عبدي لفلان" ولا عبد له غيره، أو "درعي أو سيفي" فثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يتعين، ولا تنتقل الوصية إلى غيره إن استبدل غيره.
والثاني: عكسه، وأجراها على الخلاف فيمن حلف الا يستخدم عبد فلان فاستخدمه بعد أن عتق، أو بعد أن خرج عن ملكه.
والثالث: رواه أشهب بالفرق؛ فتعود الوصية في بدل السيف والدرع، ولا تعود في العبد، قال: ولا فرق في القياس.
خليل: وفي فرائض الحوفي: إذا أوصى معين ثم باعه ثم اشتراه ثم مات وهو في ملكه فإن الوصية تبطل فيه. فهذا قول ثان ببطلان الوصية، وبه يصح القولان اللذان ذكرهما المصنف.
وَلَوْ دَرَسَ الْقَمْحَ وَكَالَهُ وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ فَرُجُوعٌ، بخِلافِ الْحَصَادِ وَجَزِّ الصُّوفِ وَجُذَاذِ الثَّمَرَةِ
…
يعني: أن من أوصى بزرع فحصده ودرسه وكاله وأدخله بيته فذلك رجوع؛ لأنه يبطل اسم الموصى به؛ لأنه أ [طل اسم الزرع ونقله إلى اسم القمح، بخلاف جز الصوف وجذاذ الثمرة، فإنه لم ينقل الملك ولم يبطل الاسم، فلا يعد رجوعاً ولو أدخلها بيته. ومسألة درس القمح هو نص قول ابن القاسم في المجموعة، وقال الباجي: وهو ينتقل بالحصاد والدراس. قال: وقوله: (وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ) تأكيد لمقصده. قال: وكذلك قوله: (وَكَالَهُ) وإنما يريد بلغ حد الاكتيال.
وَلَوْ جَصَّصَ الدَّارَ، وَصَبَغَ الثَّوْبَ، وَلَتِّ السِّوِيقَ فَلِلْمُوصَى لَهُ بزِيَادَتِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْوَرَثَةُ شُرَكَاءُ بمَا زَادَ
…
الجوهري: الجص: ما يبني به، وهو معروف. (وَلَتِّ) بالتاء المثناة، والقول بأن ذلك جميعه للموصى له لابن القاسم وأشهب، ورأياً أنه لما اتفق على أن تلك الصنعة ليست برجوع؛ لبقاء الاسم وما أضيف إليه تابع- وجب أن يكون الجميع للموصى له. ورأى أصبغ أن الأصل بقاء الزيادة على ملك الموصي، فلا تخرج إلا بدليل.
وظاهر قول المصنف: (بمَا زَادَ) أنه لو لم يكن للصنعة زيادةلا يكون للورثة شيء، وهو خلاف ما نقله الباجي وابن يونس عن أصبغ أنه يكون شريكاً بقيمة تلك الصنعة، إلا أن يقال: إن مراد المصنف أنه شريك بما زاد الموصي، لا بما زاد الصبغ.
وَلَوْ أَوْصَى بشَيْءٍ فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ سَفَرِهِ وَقَالَ: إِنْ مِتُّ فِي مَرضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي وَأَشْهَدَ، فَبَرِئَ أَوْ قَدِمَ بَطَلَتْ
…
ذَكَرَ هذه في مسائل الرجوع لمناسبتها لذلك؛ لأن كلامه يفهم منه الرجوع إن لم يمت من ذلك المرض أو السفر.
قوله: (وَأَشْهَدَ) أي: من غير كتاب؛ لأنه يذكر الكتاب- فلا خلاف انها تبطل إن برئ من مرضه ذلك أو قدم من سفره ذلك، ولا خلاف أنها تصح إن حصل الموت فيهما.
واحترز [768/ب] بقوله: (فِي مَرَضِهِ) مما لو أوصى في صحته فقال: "متى مت" وأشهد على ذلك بغير كتاب أو بكتاب، أقره عند نفسه أو وضعه عند غيره- فإن وصيته تنفذ على كل حال. قاله في البيان.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بكَتَابٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَوْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ بَعْدَ بُرْئِهِ أَوْ قُدُومِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ لَمْ تَبْطُلْ
…
الإشارة عائدة إلى مسألة الإشهاد بدون كتاب؛ أي: وكذلك تبطل وصيته إذا قال: إن مت من مرضي أو سفري، وكتب وصيته في كتاب ولم يخرجه، ومات من غير ذلك المرض والسفر، فظاهره أشهد في الكتاب أم لا.
وأما إن أشهد ولم يخرجها فحكى الباجي وغيره إن قول مالك اختلف فيه؛ فمرة قال مثل ما ذكره المصنف: لا تنفذ إلا ان يموت من ذلك المرض أو السفر، وهو اختيار ابن القاسم وابن عبد الحكم وسحنون، وهو القياس عند أشهب، لما يقتضيه ظاهر اللفظ من التقييد. ومرة قال: ينفذ وإن مات في غير ذلك المرض أو السفر، وهذا هو الاستحسان عند أشهب؛ لِمَا علم أنه ليس من قصده تخصيص ذلك بالمرض والسفر، ألا ترى أنه لو بغته الموت قبل أن يسافر أن وصيته نافذة. وذكر الباجي أن هذا الثاني هو مشهور قول مالك من رواية ابن القاسم وغيره، وقال غير واحد: والقولان قائمان من المدونة.
ولأشهب قول ثالث بالفرق؛ إن مات في مرض آخر أو في سفر آخر صحت، وإن مات في غير مرض ولا سفر لم تصح، ورواه أشهب وابن القاسم وابن نافع عن مالك، واستبعده ابن رشد.
وأما إن كتب ولم يشهد ولم يخرجها من يده ففي العتبية والمجموعة في الميت توجد وصيته في بيته بخطه، ويشهد عدلان أنه خطه- فلا يجوز ذلك حتى يشهدهم عليها، وقد يكتب ولا يعزم.
وتأولها عياض وقال: معناه إذا كتبها ليشهد عليها، وأما إذا كتبها بخطه وقال: إذا مت فلينفذ ما كتبته بخطي فلينفذ ذلك إذا عرف أنه خطه، كما لو أشهد. وأما إن أخرجه فصورتان:
الأولى: ألا يسترده بعد قدومه أو برئه فلا تبطل بالاتفاق.
والثانية: أن يسترده فتبطل بالاتفاق، نقلها عياض.
وَتَصِحُّ أَيْضاً إِذَا قَالَ: مَتَى حَدَثَ الْمَوْتُ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ مَرَضِي أَوْ سَفَرِ]
لما كانت الوصية على ضربين؛ مقيدة ومطلقة، وقدم الكلام على المقيدة، تكلم على المطلقة؛ يعني: وإذا أطلق الوصية فقال: متى حدث بي الموت، أو إن مت، أو إذا مت، أو متى ما مت - فإنها ماضية. وظاهره سواء كتبها في كتاب أم لا، استرجعها أم لا. أما إن لم يكتبها فقال غير واحد: إنها نافذة أبداً لا ينقضها إلا بتغييرها، قالها في صحته أو في مرضه. وإن كانت في كتاب وأشهد فيه فهي ماضية بالاتفاق، سواء أقرها عنده إلى الموت أو جعلها على يد غيره حتى مات. وأما إن قبضها من يد من جعلها على يده- سواء قبضها في الصحة أو المرض- فحكى صاحب المقدمات الاتفاق على بطلانها.
وذكر عياض أن ابن شبلون وغيره تأول الكتاب على ذلك، وأن ظاهر تأويل أبي محمد أنه إنما يضر استرجاع المقيدة لا المبهمة، وأنا أبا عمران تردد في ذلك، فيكون كلام المصنف باقياً على إطلاقه على تأويل أبي محمد، ويقيد بما إذا لم يسترجعها على قول ابن شبلون.
وَأَمَّا مَا يُبْطِلُ اسْمَ الْمُوصَى بهِ كَنَسْجِ الثَّوْبِ، وَصِيَاغَةِ الْفِضَّةِ، وَحَشْوِ الْقُطْنِ، وَتَفْصِيلِ الثَّوْبِ، وَذَبْحِ الشَّاةِ فَرُجُوعٌ
…
هذا إشارة منه إلى أن الرجوع يكون بأحد الوجهين:
أحدهما: ما ينقل الملك أو يمنع من نقله، كالبيع والعتق والاستيلاد.
ثانيهما: أن يفعل فعلاً يبطل اسم الموصى به. وكان ينبغي أن يذكر مسألة درس القمح في هذا القسم.
ولما فرغ من الأول تكلم على الثاني. ونص ابن القاسم وأشهب على مسألة الغزل.
أشهب: لأنه لم يقع عليه الاسم الذي أوصى به.
خليل: وينبغي أن يقيد حشو القطن بما إذا حشي في الثياب. وأما إذا حشي في المخدة ونحوها فلا.
ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف صحيح إلا في مسألة الثوب؛ فإن لفظ (الثوب) لا يتغير بالتفصيل.
ابن القاسم: إذا قال: ثوبي لزيد، ثم قطعه قميصاً أو لبسه ي مرضه فليس برجوع، وهو للموصى له. قال: ولو أوصى له بشقة، ثم قطعها قميصاً أو سراويل كان رجوعاً.
الباجي: فاتفق ابن القاسم وأشهب على مراعاة الاسم الذي أوصى به. وكذلك نص أشهب على البطلان إذا أوصى له بقميص، ثم قطعه قباً أو جبة، أو ببطانة ثم بطن بها ثوباً، أو بظهارة ثم ظهر بها ثوباً.
وقد يجاب عما أورده ابن عبد السلام بأن ما ذكره المصنف أحد الأقوال، فقد قال صاحب البيان: وأما الثوب يوصي به ثم يقطعه ويخيطه فيتحصل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الوصية تبطل.
الثاني: أنها لا تبطل.
الثالث: أنه إن قال: "شقتي أو ملحفتي لفلان" فيقطع ذلك قميصاً، أو سراويل - بطلت الوصية، وإن قال:"ثوبي" ثم يقطعه كذلك فلا تبطل؛ لأن الشقة والملحفة قد انتقل اسمهما بما أحدث فيهما؛ إذ لا يسمى القميص ولا السراويل شقة ولا ملحفة، بخلاف الثوب؛ لأن القميص والسراويل يسمى كل منهما ثوباً. قال: وإذا لم تبطل فاختلف هل يكون له الثوب مخيطاً، أو يكون مع الورثة شريكاً؟
وَفِي بنَاءِ الْعَرْصَةِ قَوْلانِ؛ الرُّجُوعُ، وَالشَّرِكَةُ
أي: إذا أوصى له بعرصة ثم بناها داراً أو نحوها فقال أشهب [769/أ] في المجموعة: ذلك رجوع. وقال ابن القاسم في العتبية: ليس برجوع ويكونان شريكين بقمية البناء من العرصة.
الباجي: والأول أظهر؛ لانتقال الاسم.
وَِفي نَقْضِ الْعَرْصَةِ قَوْلانِ
يعني: إذا أوصى له بدار ثم نقضها وصارت عرصة فهل يعد ذلك رجوعاً أو لا؟ قولان. وعلى هذا فـ (نَقْضِ) مصدر بفتح النون. والقول بأن ذلك ليس برجوع لأشهب؛ لأنه أوصى له بعرصة وبناء، فأزال البناء وأبقى العرصة.
الباجي: وهذا من أشهب رجوع في تعلقه بالأسماء. وفي العتبية قول آخر أنه رجوع.
ويحتمل أن يكون النون من قوله: (نُقْض) مضموم؛ أي: ما ينقض، ويكون إنما ذكر الخلاف في النقض، وأما العرصة فهي للموصى له، والمعنى صحيح؛ فإن أشهب قال: لا وصية له في النقض، وأما العرصة فهي للموصى له، والمعنى صحيح؛ فإن أشهب قال: لا وصية له في النقض، وروى ابن عبدوس أن النقض للموصى له.
وحصل ابن رشد في هذه المسألة والتي قبلها ثلاثة أقوال:
الأول لسحنون: تنفذ الوصية فيهما.
الثاني لغيره في العتبية: تبطل فيهما.
الثالث لأشهب بالتفرقة.
قال: ويختلف على القول بأن الوصية بالعرصة لا تبطل ببنائها هل تكون للموصى له أو يكون شريكاً مع الورثة؟ فإذا قلنا: الهدم ليس برجوع، فقالأشهب: لا وصية في النقض. وقال ابن القاسم: النقض للموصى له.
وَلَوْ أَوْصَى بشَيْءٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بهِ لِعَمْروٍ، فَلَيْسَ برُجُوعٍ وَيَشْتَرِكَانِ
نحوه في المدونة وغيرها.
ابن المواز: ذلك في كتاب أو كتابين، إلا أن يقوم دليل على رجوعه بلفظ أو بمعنى. قال في المدونة: ولو قال: "العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان" كان رجوعاً، وكان جميعه للآخر.
محمد: ولو قال: بيعوه من فلان كان رجوعاً، اشتراه أو لم يشتره، قال: وكذلك لو قال: "بيعوه" ولم يقل: "مِنْ فلان"، سمي ثمناً أو لم يسمه.
ولو أوصى بعبده لفلان والعتق في كتاب أو كتابين عمل بالأخيرة: عتقاً أو غيره، قاله في المدونة. وقال أشهب: العتق أولى، تقدم أو تأخر.
سحنون: وإن أوصى أن تباع داره من فلان بمائة، ثم أوصى أن تباع من آخر بخمسين، فإن حملها الثلث بيع نصفها لهذا بخمسين، ومن هذا بخمسة وعشرين، وإلا خير الورثة فإما أجازوا أوتبرأوا من ثلث الميت في الدار، فتكون بينهما نصفين.
وَلَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ بوَصِيَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ؛ فَاكَثَرُ الْوَصِيَّتَيْنِ، وَقِيلَ: الْوَصِيَّتَانِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتِ الثَّانِيةُ أَكْثَرَهُمَا أَخَذَهَا فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَخَذَهُمَا، أَوْ مِنْ صِنْفَيْنِ فَالْوَصِيَّتَانِ
…
يعني: إذا أوصى لرجل واحد بوصية بعد أخرى؛ فإما أن يكونا من صنف أو من صنفين، فإن كانا من صفين فله الوصيتان، سواء كانا من جنسين أو من جنس واحد، فقد نص ابن القاسم على أنه لوأوصى له بصحياني وبرني: أن له الوصيتين.
محمد: وكذلك القمح والشعير والدراهم والسبائك.
الباجي: ولا خلاف أن الدراهم من سكة واحدة متماثلة، وكذلك الأفراس والإبل والعبيدن وأما الدنانير مع الدراهم فروى ابن الماجشون عن مالك انهما صنف كالزكاة.
وقال ابن القاسم وأصبغ: بل هما صنفان، ويلحق بالصنفين ما إذا كانا معينين كقوله:"عبدي مرزوق لفلان" ثم قال في تلك الوصية أو غيرها: "وعبدي ناصح له" قال أشهب: إن كان معيناً وغيره فقال له: "عبدي فلان" ثم قال: "عبد من عبيدي" فله الوصيتان جميعاً.
اللخمي: وهو أصوب إذا كان بكتاب. ونسقهما من كلامه بغير كتاب. فإن لم يكن نسقاً ففيها نظر. وإن هو قدم النكرة ثم عين أيضاً ففيه إشكال؛ هل أراد تعيين ما أبهم أو وصية ثانية؟ وإن كان من صنف واحد فحكى اللخمي وغيره ثلاثة أقوال:
الأول لمالك وابن القاسم في المدونة: أن له أكثر الوصيتين، تقدمت أو تأخرت.
والثاني رواه علي بن زياد عن مالك: إن تأخر الأكثر فهو له فقط، وإن تقدم فله الوصيتان. ونقله ابن زرقون عن مطرف.
والثالث: إن كانا في كتابين فله الأكثر تقدم أو تأخر، وإن كانا في كتاب فقدم الأكثر فهما له، وإن أخره فهو له فقط. وعزاه اللخمي لمطرف.
والقول الثالث في كلام المصنف، هو رواية علي بن زياد. ونقل ابن زرقون عن ابن الماجشون أنه له الأكثر إذا كانا في كتابين، وإن كانا في كتاب واحد فله الوصيتان جميعاً، وإن كانت الثانية أكثر بمنزلة ما إذا عطف فقال:"لفلان عشرة، ولفلان عشرون". ولو قال: "لفلان عشرة، ولفلان عشرون" كان له الأكثر. قال: وإن كانتا في كتاب واحد بينهما وصايا فكرواية علي من الفرق بين أن يبدأ بالأقل أو بالأكثر. وتبع المصنف في القول الثاني أن له الوصيتين جميعاً ابن شاس، وعزاه ابن شاس لمالك من رواية مطرف وابن الماجشون وعلي بن زياد، وفيه نظر؛ لأن الذي نقله اللخمي عن علي بن زياد بالفرق. والذي نقله ابن أبي زيد وغيره من رواية مطرف وابن الماجشون بالفرق بين الكتاب
الواحد والكتابين، كما ذكر اللخمي عن مطرف. ولم أقف على القول بأن له الوصيتين مطلقاً، ولكل قولوجه لا يخفى عليك.
الباجي: وعلى حسب هذا تجري الوصيتان في الذهب والفضة والحيوان والعروض والثياب وغير ذلك، ما لم يكن في شيء معين. قاله أشهب في المجموعة وابن القاسم عن مالك. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أن ذلك في المكيل والموزون، وأما العروض فله الوصيتان، تفاضل ذلك أو تساوى، كانا في كتاب أو كتابين [769/ب].
ابن زرقون: وقال ابن الماجشون: إن أوصى بعرضين مختلفين فإن كانا في وصية واحدة كانا له. وإن كانا في وصيتين كان له الأكثر من قيمتها.
وقول المصنف: (وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ) يخرج ما إذا كانا متساويين، وذكر الباجي في المتساويين قولين، مثل أن يوصي له بعشرة ثم يوصي له بعشرة.
الأول لمالك وأصحابه: له العددان جميعاً.
وحكى في المعونة أن له أحدهما؛ لجواز تأكيد الأول بالثاني. وهذا ينحو إلى قول أشهب فيمن أوصى لرجل بثلاثة، ثم أوصى له بثلثه.
ابن زرقون: انظر قوله: "هذا قول مالك وأصحابه" وفي الموازية عن مالك من رواية ابن القاسم: أن له أحدهما، مثل قول عبد الوهاب.
فرع:
واختلف إذا أوصى له بجزء وعدد، كما لو أوصى له بالثلث ثم بدنانير، على ثلاثة أقوال:
الأول: أن له الأكثر، وبه يحاص، كان ماله عيناً أو عرضاً، وهو ظاهرمذهب ابن القاسم.
والثاني: أنهما له ويحاص بهما من غير تفصيل، وهو مذهب أشهب.
والثالث: إن كان ماله عيناً، وأوصى له بعين ضرب بالأكثر، وإن كان ماله عرضاً وأوصى له بعرض ضرب بهما، وهو قول سحنون وأصبغ، قاله المازري.
الْمُوصَى لَهُ مَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ، فَتَصِحُّ لِلْحَمْلِ الثَّابِتِ، وَلِحَمْلٍ سَيَكُونُ
الركن الثاني: الموصى له، من يتصور منه قبول أن يملك، فلذلك صحت الوصية لحمل سيكون؛ لأنه يقبل أن يملك.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ بَطَلَتْ
يعني: أن استحقاق الحمل الموصى له مشروط باستهلاله صارخاً، وهكذا قال في المدونة.
وَلَوْ تَعَدَّدَ وُزِّعَ عَلَيْهِ
أي: فإن تعدد الحمل بأن وضعت توءمين فأكثر وزع الموصى به عليهما؛ بسبب صدق الحمل عليهما.
ابن رشد: والذكر والأنثى في ذلك سواء.
وَتَصِحُّ لِلْعَبْدِ، وَلا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ فِي الْقَبُولِ
قد قدم المصنف هذا في الحَجْرِ حيث قال: وله أن يتصرف في الوصية له والهبة ونحوها، ويقبلهما بإذن سيده، ويغير إذنه، وكذلك غير المأذون.
وللسيد أن ينتزع ما أخذه العبد، إلا أن يعلم أن الموصي قصد بذلك التوسعة على العبد، وألا يتصرف فيهما سيده فينبغي أن يعلم قصد الوصي كما تقدم في الوصية للمحجور. وإليه أشار اللخمي.
وَلَوْ كَانَ عَبْدَ وَارِثٍ؛ لَمْ يَصِحَّ إِلا بالتَّافِهِ كَالدِّينَارِ
أي: فإن كان الموصى له عبد وارث لم تصح له إلا بالتافه. وبقي عليه قيد آخر، وهو أن يريد ناحية العبد. ففيها: ولا تجوز وصية رجل لعبد وارثه إلا بالتافه كالثوب ونحوه مما يريد به ناحية العبد لا نفع سيده، كعبد كان خدمه ونحوه. وَمَثَّلَ ابن القاسم وأشهب اليسير بالدينار كما ذكر المصنف. قالا: وأما الشيء الكثير فهو مردود، إلا أن يكون على العبد دين يغترق وصيته، أو يبقى منها ما لا يتهم فيه فذلك جائز.
بعض القرويين: وفيه نظر؛ لأن زوال الدين يزيد في قيمته، فيكون الوارث قد انتفع، إلا أن يكون بقاء الدين عليه وهو مأذون له لا ينقص من ثمنه كثيراً، وزواله عنه لا يزيد في ثمنه كثيراً فتصح ويصير كأنه أوصى له بشيء يسير.
أشهب: وتجوز الوصية لمكاتب الوارث بالتافه، وأما الكثير فتجوز بشرط ملاء العبد وقدرته على أداء الكتابة.
وقال اللخمي: أرى أن يجوز، وإن كان الأداء أفضل؛ لأن القصد بهذه الوصية خروج المكاتب من الرق. قال: وقد اختلف فيمن زوج ابنته في مرضه وضمن الصداق، فقيل: هي وصية للزوج، وإن كانت المنفعة تصير للابنة. وقيل: لا يجوز الضمان. والأول أحسن.
وقول المصنف: (عَبْدَ وَارِثٍ) مقيد بما إذا تعدد الوارث، ولو كان واحداً لصح. قال في المدونة: وإن أوصى لعبد ابنه ولاوارث له غيره جاز.
اللخمي: وحيث أجزنا الوصية لعبد الموصي أو لعبد وارثه لم يكن لسيد العبد أن ينتزعها.
ابن القاسم: ولو انتزعها لكانت وصية الميت غير نافذة.
وإن باعه الورثة باعوه بماله، وكان للمشتري انتزاعه. وقال أشهب: يقر ذلك بيد العبد حتى ينتفع به ويطول زمن ذلك، ولا ينتزعونه إن باعوه قبل أن يطول.
وَمَنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بثُلُثِ مَالِهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ يَحْمِلُ رَقَبَتَهُ عَتَقَ كُلَّهُ وَأَخَذ الْبَاقِي، وَإِلا قُوِّمَ بَقِيَّتُهُ فِي مَالِهِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ؛ لا يُقَوَّمُ فِي مَالِهِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَعْتِقُ ثُلُثَهُ فِيهِمَا وَيَاخُذُ الْبَاقِيَ
…
يعني: وإن أوصى لعبده بجزء من ماله- وذكر الثلث على جهة المثال- فاتفق أولاً على أنه يعتق ثلثه؛ لكونه ملكه من نفسه، ثم اختلف:
فقال المغيرة: لا يزاد على الثلث فيهما؛ أي: في الصورتين، وهما: إذا حمل ثلث المال بقيته أو لم يحمله، وهو ظاهر. ووجهه: أنه لما ملك ثلثه عتق عليه جبراً، فلذلك لم يكمل في ماله، كما لو ورث بعض رقبته، ول يكمل في مال الميت، إذ لا تكميل على ميت وقوله:(وَيَاخُذُ الْبَاقِي) أي: باقي الثلث.
وقال ابن القاسم وابن وهب: بل يكمل العتق، ثم اختلفا فيما يكمل به، ولنذكر مثالاً ليتضح لك ما قالاه؛ فإذا كان العبد يساوي مائة وله مال مائة أيضاً وخلف السيد مائة فاتفق ابن القاسم وابن وهب على أنه يعتق منه الثلثان، ثم اختلفا:
فابن القاسم يعتقه كله؛ لأنه يُقَوِّمُهُ في ماله. وابن وهب لايقول بذلك، فلا يعتق منه إلا الثلثان. وعلى قول المغيرة يعتق ثلثه فقط، ويأخذ من ماله ستة وستين وثلثينز
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ وَالْقَنْطَرَةِ وَشِبْهِهِمَا؛ لأَنَّهُ بمَعْنَى الصَّرْفِ فِي مَصَالِحِهِمَا
لَمَّا قَدَّمَ أن الموصى له من يصح تملكه، وكانت القنطرة وشبهها لا يصح تملكها، أشار إلى الاعتذار عنها فقال إن الوصية لها ليست على معنى التملك، وإنما هي على معنى الصرف [570/أ] في مصالحها فاللام الداخلة على (الْمَسْجِدِ) هي التي يقول الفقهاء: إنها لبيان المصرف وليست لام الملك، والمال الموصى به لم يزل على ملك ربه.
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بمَوْتِهِ؛ فَيُصْرَفُ فِي دَيْنِهِ أوَ كَفَّارَاتِهِ أَوْ زَكَاتِهِ، وَإِلَاّ فَلِوَرَثَتِهِ ..
هذا أيضاً من معنى ما قبله؛ لأن الميت لا يصح تملكه. واحترز بقوله: (عَلِمَ الْمُوصِي بمَوْتِهِ) مما لو لم يعلم، فإن الوصية تبطل؛ لأن الميت لا يصح تملكه. صرح بذلك في المدونة، وإن علم بموته، فإن لمشهور نفوذ الوصية.
وفي مختصر ابن عبد الحكم: بطلانها. ولا يبعد أن يتخرج هذا القول في التي قبلها، وعلى المشهور فتكون لورثته وتصرف في دينه.
وتبع المصنف في قوله: (أوَ كََّارَاتِهِ أَوْ زَكَاتِهِ) ابن شاس.
واعترض ابن عبد السلام عليهما بأن المذهب أن الكفارة والزكاة المفرط فيهما لا يجب إخراجهما من ثلثه، إلا أن يوصي بهما والموصى له لم يذكر أنه أوصى بهما.
ويمكن أن يجاب بأنهما أطلقا إحالةً على ما عرف في المذهب أنها لا تكون في الثلث إلا إذا أوصى بها، وفيه بُعْدٌ.
وقوله: (وَإِلَاّ فَلِوَرَثَتِهِ) أي: وإن لم يكن عليه دين فلورثته. ولا يصح أن يريد: وإن لم يعلم؛ لأن الوصية هناك تبطل.
وَتَصِحُّ لِلذَّمِّيِّ
لأنه ممن يصح تملكه، واختلف قول مالك في كراهة الإيصاء له، والذي أخذ به ابن القاسم الجواز إذا كان على وجه الصلة كما لو كان أبوه نصرانياً.
قال في البيان: وأجاز أشهب ذلك في القرابة والأجنبيين من غير كراهة، قال: ومعنى ذلك في الأجنبيين إذا كان لهم حق من جوار، أو يد سلفت لهم، وأما إن لم يكن لذلك سبب فالوصية لهم محظورة؛ إذ لا يوصي للكافر من غير سبب ويترك المسلم إلا مسلم
سوءٍ مريض الإيمان. وتقييده بالذمي محتمل أن يكون له مفهوم؛ ليخرج الحربي فلا تصح الوصية له، وهذا قول أصبغ أنها تجوز للذمي ولا تجوز للحربي؛ لأن ذلك قوة لهم على حربهم، ويرجع ذلك ميراثاً، وكذلك من أوصى بما لا يحل. ونحوه في المجموعة فيمن أوصى لبعض أهل الحرب، وقال: فإن أجيز ذلك، وإلا فهو في السبيل لم يجز في سبيل ولا غيره، ويورث.
الباجي: وهو يدل على عدم الجواز. ويحتمل ألا يكون له مفهوم؛ لمساواة المسكوت عنه للمنطوق، وهو قول عبد الوهاب في "الإشراف" قال: تجوز الوصية للمشركين؛ أهل حرب أو أهل ذمة.
وقال القاضي أبو الحسن: تكره للحربي، فإن كانت الكراهة على بابها ففي المسألة ثلاثة أقوال.
وَلِلْقَاتِلِ إِنْ عَلِمَ الْمُوصَى بالسَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَوْلانِ
يعني: وتصح للقاتل إذا علم الموصي بسبب القتل، كما لو ضربه ضرباً أدى إلى قتله وعلم أنه هو الذي ضربه - جازت وصيته له.
وقوله: (بالسَّبَبِ) هو على حذف مضاف؛ أي: بذي السبب، أو على حذف معطوف؛ أي: بالسبب وصاحبه، وليس المراد تعلق العلم بنفس السبب.
ثم إن كان الضرب خطأً فالوصية في المال والدية، وإن كان عمداً فهي في المال دون الدية؛ لعدم العلم بها، والوصية إنما تكون فيما علمه الميت.
ابن القاسم: ولو أنه أوصى فقال: إن قبل أولادي الدية فوصيتي فيها، أو أوصي بثلثها لم يجز، ولا يدخل منها في ثلثه شيء؛ لأن ذلك عند الميت مال مجهول.
ابن يونس: ولو أنفذ مقاتله، مثل أن يقطع نخاعه أو مصرانه، وبقي حياً يتكلم، فَقبِلَ أولاده الدية وعلمها لدخلت فيها وصاياه؛ لعلمه به.
وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَوْلانِ) مفهوم المدونة البطلان.
وقال محمد: تصح؛ لأن له إنشاء الوصية بعد الضرب فلا يتهم على الاستعجال.
وحمل اللخمي وغيره قوله على الخلاف، وعليه يتمشى كلام المصنف. وحمله ابن أبي زيد وغيره على الوفاق.
وَإِنْ قَتَلَهَ عَمْداً بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بَطَلَتْ
لأنه يتهم بالاستعجال فيمنع كالميراث، ولمراعاة التهمة.
قال أشهب: لو أوصى لمعتوه فقتلا الموصي- أن الوصية لهما نافذة؛ لعدم تهمتهما.
فَإِنْ قَتَلَهُ خَطأً فَمِنْ مَالِهِ لا مِنْ دِيَتِهِ
أي: فالوصية من المال دون الدية. مالك: كالميراث.
محمد: لأن الدية أُدَّيَتْ عنه، وهو أيضاً يودي فيها، فلا يودي عن نفسه لنفسه.
وقيد هذا بعض القرويين فقال: هذا إذا مات بالفور، وإن حيي وعرف ما هو فيه دخلت الوصايا في ديته. وقاله بعض الصقليين. وقال بعضهم: بل الحكم على إطلاقه.
واختلف أيضاً إذا لم يعلم؛ ففي الموازية: سواء علم أو لم يعلم يأخذ القاتل خطأً وصيته فيهما. وحمله أكثرهم على الوفاق للمدونة؛ لأن الدية قد علم أنها من حقه قبل الوصية فصارت كمال له. وظاهر كلام آخرين حمله على الخلاف.
واختلف إذا كان الموصى له عبد القاتل خطأً؛ فقيل: تكون الوصية له في المال والدية؛ لأن الموصى له ليست الدية عليه. وقيل: هو كالأول.
واعترض اللخمي تشبيه هذا بالإرث؛ وإن منع الميراث من الدية شرع، حتى لو أوصى بأن يرث القاتل منها ما جاز، ولو أوصى للقاتل غير الوارث أن يعطي ثلث الدية
جاز. ونقض أيضاً تعليل محمد بأنه يأخذ مما يؤدي بما لو أوصى لغريمه بثلث ماله- فإن للغريم من الدين الذي عليه ثلثه.
وَلَوْ عَلِمَ فَلَمْ يُغَيِّرْهَا فَكَمَا لَوْ أَنْشَأَهَا
يعني: وإن كانت الوصية قبل القتل وتراخى الموت عن القتل وعلم الميت بقاتله ولم يغير الوصية- فذلك كما لو أنشأها بعد القتل. وقد تقدم هذا قول محمد، ورأى أن سكوته عنها كالإجازة لها. وظاهره سواء كانت [770/بي الوصية بكتاب أو لا، وهو ظاهر كلام ابن يونس. وحكى قولاً أنها بطلت بالقتل، كما قال في المدبر إذا قتل سيده وحيي بعد ضربه ثم مات: إن تدبيره يبطل حتى يجدد له التدبير.
ابن عبد السلام: وهذا القول أظهر؛ لِمَا عُلِمَ أن التدبير أقوى من الوصية، فإذا بطل ولم يكن السكوت موجباص للتجديد فأحرى الوصية التي هي أضعف.
ابن يونس: وعلى الأول يكون سكوته كالمجيز لما تقدم من التدبير. وفَصَّلَ اللخمي في هذا؛ فذكر أنها تبطل إذا لم تكن بكتاب كما لو مات بالفور، وذكر الخلاف إذا كانت بكتاب.
وإذا أوصى لمكاتب فقتله سيد المكاتب، فإن كان ضعيفاً وأداؤه خير لسيده بطلت الوصية للتهمة، وإن كان قوياً على الأداء وعجزه خير لسيده فالوصية جائزة. ولو كان القتل خطأً جازت له من الثلث مطلقاً واستحسن أشهب هنا أن تكون من ثلث عقله.
قال: فإن أوصى لعبد رجل أو مدبره أو معتقه لأجَلٍ أو معتق بعضه فقتل سيده الموصي عمداً- فتلك الوصية باطلة، إلا أن يكون شيئاً تافهاً لا يتهم بالقتل على مثله فتنفذ.
ولو كان له الانتزاع يوماً ما أو أتبعه بذلك؛ فإن كان تافهاً فذلك نافذ في العمد والخطأ، وإن كان له بال بطلت في العمد وجازت في الخطأ في ثلث المال. وأستحسن هنا أن تكون في ثلث العقل.
ومن أوصى لرجل فقتله ابن الموصى له أو أبوه أو أمه أو زوجته أو بد أحدهما أو أم ولد الموصى له -فالوصية جائزة، قتله عمداً أو خطأً.
ولو وهب لرجل في مرضه فقتله الموهوب له جازت من الثلث، قتله عمداً أو خطأً، قبضها أو لا، عاش أو مات، ولم تكن وصية؛ لأن قتله أضر به؛ لأنه لو عاش كانت من رأس ماله.
ولو أقر له بدين في مرضه فقتله ثبت الدين؛ لأن أم الولد إذا قتلت سيدها عمداً اعتقت إن عفا عنها.
ولو أقر لوارثه بدين أو وهب له هبة بتلاً فقتله الوارث فلا شيء له من ذلك، بخلاف الأجنبي.
وَتَصِحُّ لِلْوَارِثِ، وَتَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَزَائِدٍ الثُّلُثِ لِغَيْرِهِ
يعني: أن الوصية للأجنبي بالثلث فما دونه جائزة ولا خيار للورثة، وإنما لهم الخيار فيما زاد بَيْنَ أن يجيزوا الزائد أو يردوه، وكذلك لهم الخيار في الوصية للوارث. فالتشبيه ي قوله:(كَزَائِدٍ الثُّلُثِ) لإفادة الحكم فيهما.
وإن قلت: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث".
فروى الدارقطني عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية للوارث، إلا أن يشاء الورثة". لكن عطاء الخرساني لم يدرك ابن عباس، وقد وَصَلَهُ يونس بن راشد فرواه عن عكرمة عن ابن عباس. عبد الحق: والمقطوع هو المشهور.
وقال أبو عمر: لا يصح عندهم مسنداً، وإنما هو من قول ابن عباس.
على أنه اختلف إذا زاد الموصي على الثلث يسيراً؛ فقيل فيمن أوصى بعتق عبده: إن حمله الثلث فزادت قيمته على الثلث شيئاً يسيراً أنه يعتق ولا يتبع بشيء. وقيل: يتبع بذلك القدر. وقيل: يكون ذلك القدر رقيقاً. وقيل: يرق جميعه؛ لقول الميت: إن وسعه الثلث.
وَفِي كَوْنِهَا بالإِجَازَةِ تَنْفِيذاً أَوِ ابْتَدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ - قَوْلانِ
الضمير في (كَوْنِهَا) يحتمل أن يود على الوصية للوارث، ويحتمل أن يود على الوصية للوارث وغيره؛ لأن هذا الخلاف فيهما، ويبعد أن يعود على الوصية بزائد الثلث للأجنبي؛ لأن المصنف لم يذكر هذه إلا بطريق التشبيه.
ومذهب المدونة في الوصية للوارث أنها ابتداء عطية، ففيها: إذا أوصى الأب بأكثر من ثلثه، فأجاز الابن وعليه دين، فقال ابن القاسم: للغرماء أن يردوا ذلك. واستحسنه اللخمي.
والقول الثاني لابن القصار وابن العطار، وهو الذي نقله القاضي أبو محمد والباجي عن المذهب.
وعلى الأول فيكون فعل الميت على الرد حتى يجاز، وعلى الثاني عكسه، وعلى الأول فلا يحسن أن يقال: إن الوصية تصح للوارث. واختلف إذا أجاز الوارث ولا دين عليه فلم يقبل ذلك الموصى له حتى استدان الوارث أو مات؛ فقيل: إنَّ غرماء الابن أو ورثته أحق بها؛ لأنها هبة منه ولم تحز.
وقال أشهب: يبدأ بوصية الأب قبل دين الابن، وبالجملة فعلى الأول تجري على أحكام الهبة؛ من اشتراط الحوز وغيره.
فَإِنْ قَالَ: إِن لَمْ يُجِيزُوا فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ وَشِبْهِهِ - فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَ مِيرَثاً، وَإِنْ أَجَازَوا - فَقَوْلانِ
…
أي: إذا أوصى لوارثه بعبد- مثلاً- أو بثلثه وقال: "إن لم يجيزوه لولدي فهو للمساكين"، أو بعتق العبد، فإن لم يجيزوا الوصية للوارث رجعت ميراثاً، ولا تنفذ للمساكين؛ لأنه قصد بالوصية الضرر فتبطل لقوله تعالى في الموصي:{غَيْرَ مُضَراٍ} [النساء: 12]، وقال محمد بن عبد الحكم: تنفذ، ويعتق العبد.
اللخمي: وهو أحسن؛ لأن العتق مما يراد به البر، وإنما أراد أن يُؤثِرَ به ولده، فإن لم يكن قَدَّمَهُ لآخرته فأدنى منازله أنه مشكوك هل أراد الضرر أم لا؟ فلا تبطل بالشك. وإن أجازها الورثة لوارثه فذكر المصنف وابن شاس قولين:
ابن شاس: جاز في رواية ابن أبي أويس.
وروى ابن القاسم أنها مردودة على كل حال وإن أجازوها.
خليل: وما نسبه لرواية ابن القاسم مشكل، ولا وجه لردها بعد الإجازة؛ لأن الحق لورثته وقد أسقطوه.
فإن قيل: بل هو لله تعالى، قيل: يلزم ذلك في الوصية المطلقة للوارث، ولم يحك المصنف ولا غيره خلافاً في إمضائها بالإجازة، ثم إن مفهوم المدونة خلاف ما ذكر؛ لأن فيها: إذا أوصى بعبده لوارثه وقال: إن لم [771/أ] يجيزوا فمفهوم قوله: (إِنْ لَمْ يُجِيزُوا) أنه لا يورث إن أجازوا. والله أعلم.
وهذا الفرع مقصور على الوصية للوارث، ولا يتناول الزيادة على الثلث.
فَإِنْ قَالَ: لِلْمَسَاكِينِ إِلا أَنْ يُجِيزُوهُ لابْنِي، فَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: تَجُوزُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: هِيَ كَالأُوَلى
…
هذه عكس التي قبلها؛ لأنه في الأولى قدم الوارث، وفي هذه قدم المساكين، فلهذا قال المدنيون بإجازةهذه، وهو المشهور. وتخصيص المدنيين به ليس بظاهر، بل قال به كبراء المصريين؛ ابن القاسم وابن وهب وأصبغ استحساناً. قال: وفيه مغمز، والقياس البطلان.
وذكر أبو الحسن ي هذه المسألة والتي قبلها ثلاثة أقوال:
الإجازة فيهما، سواء بدأ بالوارث أو بغيره. وهو قول ابن عبد الحكم.
والثاني-مقابله- لأشهب؛ لأن ذلك تحيلعلى الإيصاء للوارث فيهما.
والثالث لابن القاسم: لا تجوز إن بدأ بالوارث، وتجوز في العكس.
وَإَجَازَةُ الْوَرَثَةُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَصِيَّةٌ غَيْرُ لازِمَةٍ
أي: إذا أوصى الوارث بأكثر من الثلث فأجاز الورثة فلهم ثلاثة أحوال:
الأول: أن تكون في الصحة من غير سبب، وهو الذي بدأ به المصنف وذكر أن إجازتهم غير لازمة؛ لأنه كمن أعطى شيئاً قبل ملكه أو جريان سبب ملكه. هذكا أشار إليه مالك في الموطأ.
وروي عن مالك أن ذلك لازم، ومثله في الموازية فيمن قال: ما أرث من فلان صدقة عليك، وفلان صحيح، قال: يلزمه ذلك، إذا كان في غير هزل.
اللخمي: والأول أشهر، وهذا أقيس؛ لأنه التزم ذلك بشرط حصول الملك فأِبه من أوجب الصدقة بما يملك إلى أجل وفي بلد سماه أن يعتق ذلك، أو بطلاق ما يتزوج فيه.
قال ابن الحاج: انظر على ما في الموطأ: لو أوصى رجل لرجل بمال فلم يقبل ذلك الموصى له في صحة الموصي ورده، ثم مات الموصي ورجع الموصى له إلى قبول المال فذلك له؛ لأنه لم تجب له الوصية إلا بعد موت الموصي.
فَإِنْ كَانَ لِسَبَبِ كَسَفَرٍ وَغَزْوٍ فَقَوْلانِ
هذا هو الوجه الثاني يعني: وإن أجاز الورثة في الصحة لسبب كالسفر والغزو فروى ابن القاسم في العتبية أن ذلك يلزمهم كالمريض. وقاله ابن القاسم.
وقال ابن وهب في العتبية: كنت أقول هذا ثم رجعت إلى أن ذلك لا يلزمهم؛ لأنه صحيح. وقاله محمد. أصبغ: وهو الصواب.
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ وَلَمْ تَتَخَلَّلُهُ صِحَّةٌ فَكَالْمَوْتِ عَلَى الأَشْهَرِ
هذا هو الوجه الثالث.
وقوله: (وَلَمْ تَتَخَلَّلُهُ صِحَّةٌ) أي: بين الوصية والموت- لزمت الورثة، كما لو أجازوا بعد الموت على الأشهر، وهذا مذهب المدونة والموطأ وغيرهما. وقيده عبد الوهاب بالمرض المخوف، وأما غيره فكالصحيح. ومقابله لعبد الملك.
ومفهوم قوله أنه لو تخللت الصحة لما لزمت. وكذلك نص عليه ابن القاسم، قال: لأنه صح واستغنى عن إذنهم؛ فلا يلزمهم حتى يأذنوا له في المرض الثاني.
ابن كنانة: ولكن يحلفون أنهم ما سكتوا رضّي بذلك.
إَلا أَنْ يَتَبَيَّنَ عُذْرُهُ؛ مِنْ كَوْنِهِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ دَيْنُهُ أَوْ سُلْطَانُهُ
هذا استثناء من اللزوم المفهوم من قوله: (فَكَالْمَوْتِ) أي: يلزم الوارث إذنه لموروثه، إلا أن يتبين عذر الوارث في الإذن؛ من كون الوارث عليه نفقة المريض أو عليه دينه، وقال: إنما أجزت خيفة أن يقطع عني نفقته، أو يطالبني بدينه. فـ (مِنْ) من قوله:(مِنْ كَوْنِهِ) سببية.
ونص في المدونة على أ، لمن في عياله من ولد قد احتلم وبناته وزوجاته- الرجوع. وكذلك قال ابن القاسم في المجموعة: إنما يلزم إّن الوارث للمريض إذا كان بائناً عنه. وأما بناته الأبكار وزوجاته وَمَنْ في عياله فلهم الرجوع بعد موته.
ابن القاسم في المدونة: وليس للسفيه ولا للبكر إذن، وظاهره ولو كانت معنسة. وقال ابن كنانة: إلا المعنسة فيلزمها.
واختلف في الزوجة؛ فقال مالك وابن القاسم: لها أن ترجع. وقال أشهب في المجموعة: ليس كل زوجة لها أن ترجع، رُبَّ زوجة لا تهابه ولا تخافمنه فهذه لا ترجع، وكذلك الابن الكبير.
وهو في عيال أبيه إذا كان ممن لا يخدع. وقال غيره: لا يلزمه إذا كان في رفق الأب، ويحلف أنه إنما أجزت خيفة أن يصح فيقطع عني معروفه.
اللخمي: وقول أشهب في الزوجة حسن، فأما الولد فقول غيره أصوب.
اللخمي: وإن كان الولد رشيداً وليس في نفقة الميت لزمه ذلك، ولم يكن له أن يرجع، سواء كانت إجازته ابتداءً أو بعد السؤال.
ولم يذكر هو وغيره في ذلك خلافاً إن لم يكونوا في عياله. وظاهر كلام المصنف أن لمن في العيال والمديان ونحوهما الرجوع سواء تبرعوا بالإذن ابتداءً، أو طلب الموروث ذلك منهم. ذكره صاحب النكت عن غير واحد من شيوخه؛ لأن الورثة تقول بادرناه بالإجازة لتطييب نفسه، وخشينا إن لم نفعل أن يمنعنا رفده.
وذهب التونسي واللخمي إلى أنهم إذا تبرعوا بالإذن ابتداءً فليس لهم الرجوع. وفي المجموعة عن مالك: إن سأل بعض ورثته أن يهب له ميراثه حين تحضره الوفاة ففعل ثم لم يقض فيه شيئاً فإنه يرد إلى واهبه.
قال عنه ابن وهب: إلا أن يكون سمي له من يهبه له من ورثته فذلك ماض، ولو وهب له ميراثه فأنفذ بعضه فما بقي فيرد إلى معطيه، ويمضي ما أنفذ. وهو معنى ما في الموطأ.
وَلَوْ قَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ لِي رَدِّهَا، وَمِثْلُهُ يَجْهَلُ؛ حُلِّفَ
أي: لو قال الوارث بعد أن أجاز الوصية [771/ب] في حال تلزمه إجازتها: "لم أعلم أن لي رد الوصية" فإن كان مثله يجهل حلف ولم يلزمه. وهذا مبني على أن من دفع شيئاً يظن أنه يلزمه فتبين أنه لا يلزمه.
وذكر في البيان في كتاب الصدقات: أنه اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، قال: واختصار ذلك أن تقول: اختلف هل يعذر بالجهل أو لا؟ وعلى أنه يعذر ففي تصديقه قولان. وإذا صدقناه فقيل: بيمين، وقيل: بغير يمين. انتهى.
ومن هذه القاعدة ما إذا أنفق لحمل ثم تبين أنه لا حمل، وفيها أربعة أقوال تقدمت من كلام المصنف في باب النفقات.
وَلَوْ كَانَ وَارِثاً فَصَارَ غَيْرَ وَارِثٍ أَوْ بالْعَكْسِ، وَالْمُوصِي عَالِمٌ -اعْتُبرَ الْمَالُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَولانِ ....
كما لو أوصى لأخيه ولد ولد له، ثم ولد له ولد، أو أوصت لزوجها ثم أبانها- اعتبر ما آل الأمر إليه فتصح الوصية في الأولى، وتبطل في الثانية.
وقوله: (فَقوْلانِ) مذهب ابن القاسم أن الوصية تبطل، وهو مفهوم المدونة، لقوله: ومن أوصى لأخيه بوصية في مرض أو صة وهو وارثه لم يجز، فإن وُلِدَ له وَلَدٌ يحجبه جازت الوصية وإن مات إذا علم بالولد؛ لأنه قد تركها بعد ما وُلِدَ له فيصير مجيزاً لها.
ومفهومه إن لم يعلم بالولد لم تجز.
ولابن القاسم في العتبية والمجموعة في امرأة أوصت لزوجها ثم طلقها ألبتة ثم ماتت: فإن علمت بطلاقه فالوصية له جائزة، وإن لمتعلم فلا شيء له؛ لأنها كانت تظن أنه وارث.
والقول بعدم البطلان لأشهب والمخزومي. وابن نافع وابن كنانة أن الوصية له جائزة؛ سواء علم الموصي بأنه صار غير وارث أم لا. وروي عن ابن القاسم أيضاً مثل قولهم.
واستظهر ابن رشد قول ابن القاسم في مسألة الزوجة، وهودم جواز الوصية إلا أن تكون علمت بطلاقه؛ لأنها إنما أوصت له لِمَا بينهما من مودة الزوجية، ولعلها لو علمت بالطلاق لم توص له بشيء. واستظهر في مسألة الأخ وشببها قول غير ابن القاسم.
وَإِذَا أَوْصَى لأَقَارِبَ فُلانٍ دَخَلَ الْوَارِثِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْجَهَتَيْنِ، بخِلافِ أَقَارِبهِ؛ لِلْقَرِينَةِ الشَّرْعِيَّةِ
…
مراده بالجهتين: جهة الأب وجهة الأم.
وقوله: (بخِلافِ أَقَارِبهِ) فإنه لا تدخل إلا القرابة التي لا ترثه؛ للقرينة الشرعية في منع الإيصاء للوارث.
ولاخلاف أنه إذا أوصى لقرابته وليس له قرابة من قبل أبيه أن الوصية تكون لأقاربه من جهة أمه. واختلف إذا كان له قرابة يوم الوصية من جهة أبيه- على ثلاثة أقوال؛ قال ابن القاسم: لا تدخل قرابته من قبل الأم بحال.
وروى مطرف وابن الماجشون دخولهم مطلقاً.
وقال عيسى: إن لم يكن من قبل أبيه إلا القليل- كالواحد والاثنين - دخلوا.
واختلف في دخول ولد البنات على قولين.
وما ذكره المصنف من عدم دخول الوارث إذاأوصى لأقاربه هو منصوص لمالك في الموازية.
وقال ابن حبيب: إذا أوصى لقرابته أو رحمه أو أهله أو أهل بيته - فقال مالك وأصحابه: إنه لجميع قرابته من قبل أبيه وأمه ومن يرثه ومن لا يرثه.
وفائدة دخول الوارث علىهذه المحاصة بنصيبه ثم يرجع ميراثاً.
ونقل الشيخ أبو محمد عن أبي بكر بن محمد أنه قال لهم: "إن قال: على قرابتي" نُظِرَ إلى المال فإن كان قليلاً كان لأهل حرمه دون غيرهم، وإن كان كثيراً دخل فيه الخؤولة وغيرهم.
وَيُؤُثَرُ فِي الْجَميِعِ ذُو الْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ
يعني زاد ذو الحاجة، ولا يطي الجميع.
مالك: ويعطي فقراء بني الورثة، وهو لمن حضر القسم، ولا شيء لمن غاب.
ابن القاسم: والرجالوالنساء في ذلك سواء.
الباجي: ولعل هذا على مذهب من يرى أن المؤنث يدخل في جمع المذكر.
أشهب: ومن أوصى لقرابته وله قرابة مسلمون ونصارى- فهم في ذلك سواء، ولا يؤثر الأحوج.
ابن كنانة: في الموصي لأقاربه، وسماها صدقة، ولم يسم أهل الحاجة ولا غيرهم- فلا يعطى إلا الفقراء خاصة. فإن لم يذكر صدقة فأغنياء قرابته وفقراؤهم سواء، إلا أن يريد الفقراء دون الأغنياء.
وَلأَقَارِبهِ وَلأَرْحَامِهِ سَوَاءٌ
يعني: إذا أوصى لأرحامه فهو كما أوصى لأقاربه- فيدخل القريب من الجهتين؛ يريد: ويؤثر الأحوج وإن كان أبعد. وإلى ذلك أشار بقوله: (سَوَاءٌ).
وفي كلام ابن الماجشون ما يقتضي خلافه؛ لقوله: يقسم بينهم على الاجتهاد ويؤثر الأقرب فالأقرب، والأحوج فالأحوج إن اتسع المال.
ولابد من عمومهم كلهم، فإن ضاق المال سوي بينهم فيه؛ لأنهم كلهم قرابة؛ إذ مقتضاه عدم الإيثار في الضيق. ودخل الوارث في قرابة فلان دون قرابته؛ للقرينة الشرعية
وَلَوْ أَوْصَى لِلأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ؛ فُضِّلَ وَإِنْ كَانَ أَكُثَرَ يَسَاراً
(الأَقْرَبُ) فعل تفضيل يفيد التقديم بحسب القرب، والفاء تفيد الترتيب في منازل القرب، وكلامه صريح في إعطاء الأقرب الأكثر، وإن كان من دونه أفقر منه. ثم فرع على ذلك فقال:
فَيُفضَّلُ الأَخُ عَلَى الْجَدِّ، وَالأَخُ للأَبِ عَلَى الأَخِ لِلأُمِّ
لأن الأخ وابنه يدليان بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، والبنوة أقرب. ويقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب.
وَلا يُعْطَى الأَقْرَبُ الْجَمِيعَ بخِلافِ الْوَقْفِ
هكذا نص عليه ابن القاسم في العتبية في الجد والأخ: أنالأخ لا يعطى الجميع، قال: ولو كان الذي أوصى به حبساً فالأخ أولى، فإذا هلك صارت لجده، ثم من بعده للعم. وقيده ابن رشد بالسكنى، قال: وأما الغلة فإن الأبعد يدخل مع الأقرب بالاجتهاد كالوصية.
قال في العتبية: وإن كانوا ثلاثة إخوة مفترقين فالأخ الشقيق [772/أ] أولى، ثم الذي للأب. فإن كان الأقرب موسراً والأبعد معدماً-فليعط الأبعد على وجه ما أوصى، ولا يكثر له وإنما لم يعط الأقرب هنا الجميع بخلاف الوقف؛ لأنه لو أعطى الأقرب الجميع حرم الأبعد الكلية، بخلاف الوقف فإنه وإن حرم الآن فسيتحصل له في المستقبل.
وَإِذَا أَوْصَى بثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ؛ أُعْطِيَ باجْتِهَادٍ بحَسَبِ فَقْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ لَهُ فَلا شَيْءَ لِوَرَثَتِهِ، وَالثُّلُثُ لِلْمَسَاكِينِ
…
أعطي بالاجتهاد؛ أي: لا نصف المال، وهكذا في المدونة. ورأى أن ضم المعلوم إلى المجهول قرينة تدل على إرادة الموصي لِسَدِّ خَلَّةِ الموصى له؛ لأن القسمة على المجهول بالاجتهاد، فكذا نصيب المعلوم الذي ضم إليه. وإذا صح كون ذلك قرينة لم تصح معارضة هذه المسألة بمذهب ابن القاسم فيمن صالح بشيء عن موضحة عمد أو موضحة خطأ أن للعمد النصف.
قوله: (فَإِنْ مَاتَ) أي: المعين فلا شيء لورثته. هكذا قال محمد، ووجهه أن القسمة لما كانت بالاجتهاد وصار زيد كواحد منهم، وكان المعتبر من الفقراء إنما هو من حضر القسمة- لم يكن لورثته شيء. وهذا يحسن إذا كان زيد فقيراً، وأما إن كان غنياً فينبغي أن يكون سهمه لورثته، بل لو قال بذلك ولو كان فقيراً لكان حسناً. وقد ذهب بعض الأئمة خارج المذهب إلى أن له النصف.
وَإِذَا أَوْصَى لِجيرَانِهِ فَفِي إِعْطَاءِ الأَوْلادِ الأَصَاغِرِ وَالْبَنَاتِ الأَبْكَارِ قَوْلانِ، وَتُعْطَى الزَّوْجَةُ وَلا يُعْطَى الْعَبْدُ سَاكِناً مَعَهُ
…
القول بإعطاء ولده الأصاغر وبناته الأبكار لسحنون. ومقابله لعبد الملك، قال: إذا أوصى لجيرانه أعطي الجار الذي له اسم المسكين ولا يعطى أتباعه، ولا ابنته البكر، ولا
ضيف ولا نزيل. ويعطى الولد الكبير البائن عنه بنفقته. واتفقا على إعطاء الزوجة. وقال ابن شعبان: لاتعطى.
قوله: (وَلا يُعْطَى الْعَبْدُ سَاكِناً مَعَهُ) أي: مع سيده، ويعطى منفرداً، كان سيده جاراً أو لا. هكذا نص عليه عبد الملك.
فرعان:
الأول: قال عبد الملك: ومن أوصى لجيرانه فهو مِنْ المجهول؛ فمن وجد يوم القسم جاراً دخل في ذلك؛ لأنه لم يقصد المعينين، فلو انتقل بعضهم أو كلهم، وَحَدَثَ غيرهم، وبلغ صغير- فذلك لمن حضر القسمة. وكذلك لو كان ذا جيران قليل فكثروا.
الثاني: لم يفسر المصنف الجوار، وفسره عبد الملك فقال: حد الجوار الذي لا شك فيه: ما كان يواجهه، وما لصق بالمنزل من ورائه وجانبيه، فإن تباعد ما بين العدوتين حتى يكون بينهما السوق المتسع فليس كذلك.
قال: وقد تكون دار عظمى ذات مساكن كثيرة، كدار معاوية، فإذا أوصى بعضهم لجيرانه قاتصر على أهل الدار. وإن سكن هذه الدار ربها- وهو الموصي - وشغل أكثرها، وسكن معه غيره فالوصية لمن كان خارجها، لا لمن كان فيها. وإن سكن أقلها- كالمكتري- فالوصية لمن كان في الدار خاصة.
ولو شغلها كلها بالكراء فالوصية للخارجين عنها من جيرانه. وقال مثله كله سحنون في كتاب ابنه.
عبد الملك: وجوار البادية أوسع من هذا وأشد تراخياً إذا لم يكن مَنْ دُونَهُ أقرب منه، وَرُبَّ جَارٍ وهو على أميال إذا لم يكن دونه جيران إذا جمعهم الماء في المورد، والمسرح للماشية. وبِقَدرِ ما يَنزِلُ يُجتَهَدُ فيه.
سحنون: والجوار في القرى أن كل قرية صغرة ليس لها اتصال في البنيان والحارات- فهم جيران، وإن كانت كبيرة كثيرة البنيان كقشتالة فهي كالمدينة في الجوار. وذكر ابن شعبان حديثاً مرسلاً أنه عليه الصلاة والسلام قال:"أربعون داراً جار" ونقل عن علي رضي الله عنه أن الجا مَنْ سَمِعَ النداء.
وَلَوْ أَوْصَى لِتَمِيمٍ أَوْ بَنِي تَمِيمٍ فَثَالِثُهَا: قَالَ أَشْهَبُ: يَدْخُلُ الْمَوَلِي فِي الأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَعَابَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ
…
يعني: إذا أوصى لقبيلة، فقال ابن الماجشون: يدخل مواليها، سواء قال: لتميم- مثلاً-أو لبني تميم، لما في الحديث:"مولى القوم منهم".
وقال مالك وابن القاسم في المدونة: لا يدخلون. وهو أظهر من حيث العرف.
وفرق أشهب؛ فإن قال: لتميم دخلوا، وإن قال: لبني تميم لم يدخلوا.
وعاب ابن الماجشون قول أشهب، وقال: قد تكون قبائل لا يحسن أن يقال فيها: بنو فلان، منها: قيس وربيعة وجهينة ومزينة، وغيرهم. والأمر واحد حتى يقول: للصلبية دون الموالي.
ولأشهب أن يقول: إنما قلت هذا في القبيلة التي يقال فيها: بنو تميم، ولو رد قول أِهب بأنَّ المراد عرفاً بتميم: بنو تميم - فكان لا فرق- لكان حسناً.
وَلا يَلْزَمُ تَعْمِيمُ الْقَبيلَةِ الْكَبيرَةِ كَالْمَسَاكِينِ وَالْغُزَاةِ وَنَحْوِهِمْ
لتعذر التعميم عادة.
وقوله: (كَالْمَسَاكِينِ وَالْغُزَاةِ) تشبيه لإفادة الحكم، وإلا فإن المساكين ونحوهم ليسوا قبيلة حقيقية؛ إذ القبيلة بنو أب واحد.
ووصف القبيلة بالكبيرة يُفْهَمُ منه ولو كانت صغيرة يمكن حصرها؛ للزوم تعميمها.
وَيَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ فِي الْمَسَاكِينِ وَبالْعَكْسِ
نحوه في الجواهر، هذا والله أعلم لأنهما كالمترادفين عرفاً. وينبغي على ما تقدم في الزكاة- من ان المشهور تباينهما - أنه إذا أوصى مَنْ هو عالم بذلك ألا يدخل أحدهما على الآخر، ولا إشكال فيهذا متى نَصَ على ذلك فقال: للمساكين لا للفقراء أو بالعكس.
الْمُوصَى بهِ كُلُّ مَا يُمْلَكُ، فَلا يَصِحُّ بخَمْرٍ وَشِبْهِهِ
الركن الثاثل: الموصى به، فتصح بكل شيء يملكه الموصى له؛ فلذلك لم تصح بخمر وشبهه ولو أوصى به كافر لمسلم؛ لأن المسلم لا يصح تملكه لذلك.
وَتَصِحُّ بالْحَمْلِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ [772/ب] وَالْمَنَافِعِ
إذ لا يشترط أن يكون معلوماً، بل تصح الوصية بالغرر والمجهول كالحمل الثمرة التي لم يبد صلاحها؛ لأنها هبة، بل هي أخف لعدم لزومها.
وَيَدْخُلُ الْحَمْلُ فِي الْجَارِيَةِ مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ
إذا أوصى لرجل بجاريةوهي حامل فإن الحمل يندرج في الوصية؛ لأنه كالجزء منها، وهذا بشرط أن تضعه بعد موت السيد، وأما إن وضعته في حياته فإن الوصية لا تتضمنه على المنصوص.
ابن عبد السلام: ومقتضى النظر دخوله. ولا يصح تمكين السيد من الرجوع في الوصية؛ فإن هذا المعنى ملغي في حق الأم.
وقوله: (مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ) هذا الاستثناء لا يجري في العتق عند أهل المذهب. قال في الموازية: صح.
أبو محمد: وأراه لأشهب إذا أوصى بولد أمته لرجل وبرقبتها لآخر فهو كذلك، فلهذا ما تلد ما دام حياً وعليه نفقتها. فإذا مات فرقبتها للموصى له بالرقبة.
ابن المواز: هذا إذا لم تكن يوم أوصى حاملاً، فإن كانت يومئذ حاملاً فليس له إلا حملها فقط.
وفي العتبية عن ابن وهب فيمن قال: أوصيت لفلان بما ولدت جاريتي هذه أبداً، فإن كانت يوم أوصى حاملاً فهو له، وإن لم تكن يومئذٍ حاملاً فلا شيء له.
وَإِذَا أَوْصَى بتَرْتِيبِ اتُّبِعَ
الترتيب إما بصريح اللفظ كقدموا كذا على كذا، وإما بحرف كقوله: ثم.
وأما التقديم في اللفظ فلا عبرة به عندنا خلافاً للحنفية، ففي المدونة: ولايقدم ما قدم الميت في لفظ أو كتاب، ولا يؤخر ما أخر، وليقدم الأوكد، إلا أن ينص على تبدئة غير الأوكد.
وقيده ابن الماجشون بما له الرجوع عنه، وإما ما لا رجوع له عنه مِنْ عتق بتل وعطية بتل فلا يُبَدَّى، ولا يلزم جواز الرجوع عما ليس للموصي الرجوع عنه.
ورأى الباجي أن تقييده مخالف لأكثر فروعهم أو لكثير منها كما سيأتي.
فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَجْهُولٌ كَوَقُودِ مِصْبَاحٍ عَلَى الدَّوَامِ، وَتَفْرِقَةِ خُبْزٍ وَنَحْوَهُ -ضُرِبَ لَهُ بالثُّلُثِ وَوُقِفَتْ حِصَّتُهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: بالْمَالِ كُلِّهِ
…
يعني: فإن كان في وصايا الميت مجهول كوقود مصباح على الدوام أو تفرقة خبز؛ أي: على الداوم، وحذفه لدلالة ما قبله؛ فإن المشهور أنه يضرب له مع الوصايا بالثلث؛ لأنه لو سلط على الثلث لأفناه، فكان ذلك بمنزلة ما لو أوصى بالثلث. وقال أشهب: بل يضرب له بجميع المال؛ فإنه بالوجه الذي قدر أن الموصي أوصى له بالثلث يكون الموصي موصياً له بالجميع؛ لأن الوصى به يستغرق الجميع كما يستغرق الثلث.
اللخمي: والأول أَبْيَن، وليس قصد الميت أن يخرج ولده وأهله من جميع المال.
فَإِنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَجْنَاسٌ ضُرِبَ لَهَا كَالُوَاحِدِ وَقُسِمَ عَلَى عَدَدِهَا
أي: فإن اجتمعت من المجهولات أجناس كوقود مصباح على الدوام، وتفرقة خبز على الدوام، وسيبقى راويةماء كل يوم- فإنه يضرب لها كما يضرب للواحد؛ فيضرب لها بالثلث. وهذا قول ابن الماجشون، قال: وكأنها صنف واحد. وقيل: يضرب لكُلِّ مجهول بالثلث. ويجري فيها قولاً آخر: أنه يضرب لكُلِّ بجميع المال.
قوله: (وَقُسِمَ عَلَى عَدَدِهَا) نحوه لابن الماجشون في المجموعة. وفي الموازية قول آخر أنه يفاضل بين هذه المجهولات على قدرها كما لو كان للوقيد كل يوم نصف درهم، وللسقي كذلك، وللخبز درهم، فنهم يتحاصون أ {باعاً، وإليه ذهب التونسي.
وَمَنْ أَوْصَى بمُعَيَّنٍ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ، أَوْ بمَا لَيْسَ فِيهَا مُطْلَقاً، وَلا يَخْرُجُ مِمَّا حَضَرَ؛ خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ أَنْ يَجِيزُوا الْمُعَيَّنَ وْيُحَصِّلُوا الآخَرَ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوا ثُلُثَ الْجَمِيعِ عَلَى اخْتِلافِهِ وَإِنْ كَانَ أضْعَافَهُ أَوْ دُونَهُ
…
يعني: إذا أوصى بمعين كدين ونحوه، سواء كان ذلك المعين في التركة من المال الحاضر أو الغائب، أو ليس فيها؛ بأن قال: اشتروا له كذا. (مُطْلَقاً) أي: سواء حمله ثلث الحاضر أم لا.
وقوله: (وَلا يَخْرُجُ مِمَّا حَضَرَ) هو مقيد فيما هو في التركة؛ أي: ولا يخرج المعين منث لث ما حضر، ولكن يخرج من ثلث الحاضر والغائب. واحترز بذلك مما لو كان يخرج من ثلث الحاضر فإن الوصية تنفذ. وإنما لم تنفذ إذا كان لا يخرج من ثلث الحاضر؛ لأن الورثة يقولون: لا نأمن أن يتلف رأس المال قبل قبضه وتحصيله؛ فيفوز هذا الموصى له بهذا المعين دوننا.
وقوله: (خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ أَنْ يَجِيزُوا الْمُعَيَّنَ) أي: الذي أوصى به، وهو في التركة، ويحصلوا الآخر؛ أي: الذي ليس فيها، وبين أن يعطوا ثلث جميع التركة من حاضر وغائب، وَعَيْنٍ وغيرها، وإن كان الثلث أضعاف الموصى به.
وهذه المسألة تعرف بمسألة خلع الثلث، وخالفنا فيها أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، ومال إليه بعض شيوخنا. ووجه مذهبنا أنه يقال للورثة: كما لَمْ تُمكَّنُوا الميت من بخس حقوقكم فلا تبخسوا أنتم حقه؛ فإما أجزتم فعله وإلا فأعطوه جميع ما له، وهو الثلث. ويشمل قوله:(الْمُعَيَّنَ) الين وغيرها، ونص عليه في المدونة. ولا خلاف فيه إذا كانت العين لا تخرج إلا من مال غائب أو دين. قاله الباجي.
وإنما اختلف إذا كانت التركة عروضاً حاضرة، وذكر ابن زرقون وغيره في ذلك أربعة أقوال:
قال أشهب فيمن أوصى بعشر ة دنانير معينة أو غير معينة، ولم يخلف عيناً غيرها، وله عروض- أبو محمد: يريد حاضرة-: تدفع إليه العشرة، ولا يخير الورثة. [773/أ] ولو لم يخلف من العين إلا خمسة لأخذها، وبيع له بخمسة.
وقال مالك وابن القاسم: يخير الورثة بين الإجازة أو القطع بالثلث.
وقال ابن الماجشون: إن كان في بيع العروض بطء خير الورثة، وإلا لم يخيروا.
وقال أصبغ: إن عين الدنانير خير الورثة وإلا لم يخيروا.
وقوله: (بمُعَيَّنٍ) يشمل الذات والمنفعة.
وقال ابن عبدالسلام: المشهور اختصاصه بالمنفعة كما لو أوصى له بخدمة عَبدٍ سِنِينَ، أو بسكنى دار.
والفرق على أصل المذهب أنا لو أعطينا الموصى له محمل الثلث في منافعالعبد أو الدار خاصة فنحن بين أمرين؛ ألا نعطيه شيئاً من رقبة الدار والعبد، أو نعطيه ما قابل المنفعة من الرقبة، والأول يلزم عليه ألا يستوعب الموصى له جميع ثلث الميت؛ وذلك أن الدار والعبد يجعل في الثلث، فإذا وسع الثلث- مثلاً-نصف رقبة الدار، وأعطينا الموصى
له نصف المنفعة خاصة- كان قد أخذ أقل من ثلث الميت، وإن أعطيناه نصف رقبة الدار بمنفعتها كنا قد أعطيناه خلاف ما جعل له الموصي؛ لأنه إنما أعطاه المنفعة. انتهى.
وعلى هذا فتكون المنفعة خاصة بما إذا أوصى بدين أو منفعة.
وأما لو أوصى بعبد ونحوه فلا يأتي هذا الحكم. وهذا إشارة إلى ما في المدونة؛ لأن فيها بعد أن فرض المسألة في الدين: وذكر أن الورثة يخيرون إلا في خصلة واحدة، فإن مالكاً اختلف فيها قوله؛ فقال مرة: إذا أوصى له بعبد بعينه أو بدابة بعينها وضاق الثلث- فإن لم يجيزوا قطعوا له بالثلث من كل شيء. وقال مرة: بمبلغ ثلث التركة في ذلك الشيء بعينه، وهذا أحب إليَّ.
وَلَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدٍ لايَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْحَاضِرِ؛ وُقِفَ الْعَبْدُ كُلُّهُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْمَالُ إِنْ كَانَ فِي أَشْهُرٍ يَسِيرَةٍ وَإِلا عُجِّلَ عِتْقُ ثُلُثِ مَا حَضَرَ ثُمَّ يُتِمُّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَشْهَبُ؛ لا يُوقَفُ، بَلْ يُعَجِّلُ مَا حَضَرَ وَلَوْ ثُلُثَهُ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يُتِمُّ
…
أي: إذا أوصى بعتق عبده وله مال حاضر وغائب، ولا يخرج العبد من ثلث الحاضر، ولكن يخرج من ثلث الجميع- فقال مالك في رواية ابن القاسم وأِهب: يوقف العبد حتى يحضر الغائب، وأطلق.
وقال ابن القاسم: إن كان يرجى اجتماع المال لأشهر يسيرة انتظر ليعتق جميع العبد. قال في المدونة: وليس له أن يقول: اعتقوا مني ثلث الحاضر الساعة.
وإن كان لا يجتمع إلا لأشهر كثيرة، أو لسنة - هكذا حده ابن المواز- فإنه يعتق منه ثلث الحاضر، ثم مهما حضر من المال الغائب شيء عتق من العبد مقدار ثلثه.
وَحَدَّ اللخمي الغيبة التي لا ينتظر فيها الغائب من خراسان أو من مصر إلى الأندلس.
ابن عبد السلام: والأكثرون على أن قول أشهب مخالف للقول الأول، وإن كان أبو عمران ترجح في كونه تفسيراً لقول مالك، وهو بعيد، ولعل مراده أن القولين يتفقان ويكون
قول ابن القاسم تفسيراً لقول مالك وأشهب، وأن معنى قول مالك الانتظار في قريب الغيبة، ومعنى قول أشهب التعجيل في البعيد الغيبة.
والذين ذهبوا إلى أن قول أشهب مخالف اختلفوا في أي القولين أرجح:
فقال يحيى: قول أشهب هو القياس؛ لأن وقف عتق العبد مضرة عليه من غير منفعة للورثة.
وقال سحنون وغيره: لو كان ما قال أشهب صحيحاً لأخذ الميت أكثر من الثلث؛ لأنه أعتق ثلث الحاضر، وباقي العبد موقوف لا تصرف فيه للورثة.
وَلَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بشَهْرٍ وَلَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ؛ خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزُوا أَوْ يَعْتِقُوا مَحْمَلَ الثُّلُثِ بَتْلاً، فَإِنْ أَجَازُوا خَدَمهُمْ شَهْراً
…
تصوره ظاهر، وهو جار على ما تقدم من خلع الثلث.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدَ فُلانٍ لِلْعِتْقِ زِيدَ ثُلُثَ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَبَى اسْتُؤْنِيَ بالْثَمَنِ، فَإِنِ بيْعَ وَإِلا رَجَعَ ثَمَنُهُ مِيرَاثاً
…
ما ذكره من زيادة ثلث ثمن العبد هو المشهور. وقال ابن وهب: يزاد إلى ثلث الميت.
وقال أصبغ: لو قال: اشتروه بالغاً ما بلغ، فإني استحسن أن يزاد في هذا إلى مبلغ ثلث الميت.
ابن عبد السلام: والأقرب عندي ألا يزاد في ثمن العبد إلا ما جرت العادة بالتغابن فيه.
وَوَجَّهَ بعض شيوخ عبد الحق المشهور بأن الناس لما كانوا يتغابنون في البيوع، والميت لم يَحُدَّ ما يُقتَصَرُ عليه- وجب أن يقتصر على ثلث ذلك؛ لأن الثلث حد بين القليل والكثير.
واختلف هل لا يعلم ربه بالوصية وهو قول ابن القاسم، أو يعلم بذلك وهو قول أشهب؟ وكذلك اختلف في الإعلام إذا قال:"بيعوا عبدي فلاناً من فلان" بخلاف ما إذا لم يعين العبد ولا بائعه ولا مشتريه فإنه لا يعلم بالوصية.
وقوله: (فَإِنْ أَبَى) أي: سيد العبد من بيعه.
وقوله: (اسْتُؤْنِيَ) أي: بثمن العبد وبالزيادة عليه، وهذا هو المشهور. وقال أشهب: لا يستأنى إذا أبى ربه البيع.
وعلى المشهور فقال في الوصايا الأول مثل ما قال المصنف: إنه يستأني بثمنه. قالوا: معناه: وثلث ثمنه، ويبدى على الوصايا، فإن لم يبعه ربه رجع ميراثاً.
وقال في الوصايا الثاني: بعد الاستيناء والإياس من العبد.
وروى ابن وهب عن مالك أن الثمن يوقف ما رجي بيع العبد، إلا أن يفوت بعتق أو موت.
سحنون: وعليه أكثر الرواة. وجعل ابن يونس ما في الوصايا الثاني موافقاً لما في الوصايا الأول موافقاً [773/ب] لابن وهب. وجعل اللخمي قول ابن وهب خلافاً.
عياض: وفي حاشية ابن عتاب: سحنون: بعد الإياس من العبد ليس من لفظ ابن القاسم. فعلى هذا ليس بخلاف من قوله وإنما أتى به سحنون من كلام غيره. وذهب ابن كنانة إلى أنه إذا امتنع سيده من البيع أن يجعل ثمنه وثلث ثمنه في رقاب.
فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى لِفُلانٍ زِيدَ كَذَلِكَ، فَإِنْ أَبى الزِّيَاَدَةَ دُفِعَ الْمَبْذُولُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِنْ أَبَى بَطَلَتْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يُوقَفُ فِيهِمَأ، فَإِنْ أَيسَ رَجَعَ الْمَالُ مِيرَاثاً.
كلامه ظاهر التصور، وخلاف أصبغ السابق منصوص هنا. فإن أبى مالك العبد من بيعه فإبايته إما أن تكونطلباً للزيادة في الثمن أو اغتباطاً بعبده؛ والأول يدفع الثمن
مع الزيادة للموصى له؛ لأن قصد الموصي منفعته بالعبد مباشرة، وجعل الثمن وسيلة إلى ذلك، فإن تعذر نفعه بالعبد أعطي الثمن الذي هو وسيلة إليه.
فإن قيل: يلزم مثله إذا امتنع سيد العبد به ضناً-أي: بخلاً، وهو بالضاد- قيل: الوصية في الأول بعرضية الثبوت؛ لأن يد العبد لم يمتنع من بيعه، وإنما طلب زيادة في الثمن، منع من دفعها له حق الورثة، بخلاف القسم الثاني فإن الوصية باطلة لبخل سيد العبد بهن ولعل هذا هو الذي لاحظه أشهب في قوله:(يُوقَفُ فِيهِمَا) أي: في الوجه الأول، وهو طلب السيد للزيادة وفي الثاني، وهو بخله، حتى يتحقق بطلان الوصية بالإياس من بيع العبد فحينئذ يرجع ثمنه ميراثاً.
وتردد بعض الشيوخ هل تدخل الوصايا في الثمن هنا إذا لم يتم البيع أو لا؟
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ لِعِتْقٍ نَقَصَ ثُلُثُ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَبَى خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ بَيْعِهِ بأَقَلَّ أَوْ عِتْقِ ثُلُثِهِ مِنْهُ
…
اتفق هنا على مقدار النقص، وهو أنه ينقص ثلث ثمنه، وبه يترجح قول ابن القاسم على قول ابن وهب وأصبغ فيما تقدم.
وقوله: (فَإِنْ أَبَى) أي: فإن لم يوجد من يشتريه للعتق إلا بأكثر من نقص الثلث- خير الورثة بين بيعه بما طلب المشتري وبين عتق ثلثه؛ لأن ثثل العبد هو الذي أوصى به الميت في العتق.
ابن القاسم في المدونة والموازية: وهو مما لم يختلف فيه قول مالك.
محمد إثر ذلك: بل اختلف قوله بما هو أصوب، وبه أخذ أكثر رواة أصحابه؛ فروى عنه أشهب في المبيع للعتق أو ممن أحب: أنه إن حمله الثلث فإنهم إن لم يجدوا من يأخذه بوضيعة ثلث الثمن واستؤني به فلم يوجد- فلا شيء عليهم فيه، وإن لم يحمله الثلث
خيروا بين بيعه بوضيعة ثلث ثمنه وإلا اعتقوا منه مبلغ ثلث الميت كله؛ لأنه يصير عتقاً مبدي على وصية فلان. هذا في المبيع للعتق.
وأما ممن أحب فإن بذلوه بوضيعة ثلث الثمن ولم يجدوا من يبتاه واستؤني به- فلا شيء عليهم فيه. كذلك عن أشهب في المجموعة. ووجهه ظاهر؛ لأنه إذا حمله الثلث لم يلزمهم إلا عرضه على من يشتريه، فإن لم يوجد بعد الاستيناء فقد بطلت الوصية من غير سببهم؛ فلا شيء عليهم. وكذلك إن لم يحمله الثلث فإنهم إن لم يجيزوا الوصية أعتقوا منه محمل ثلث الميت على أصل المذهب في خلع الثلث. وإن بذلوه لمن يشتريه فقد أجازوا الوصية؛ فيكون كما لو وسعه الثلث.
وَإِنْ أَوْصَى ببَيْعِهِ مِمَّنْ أَحَب نَقَصَ كَذَلِكَ
أي: ثلث ثمنه.
ابن عبد السلام: هذا أيضاً متفق عليه. انتهىز
وفيه نظر؛ لأن في الواضحة عن أصبغ أنه قال: خالف ابن وهب مالكاً رحمه الله في القائل: "بيعوا عبدي ممن أحب، واشتروا عبد فلان فَأَعْتِقُوهُ" فقال: يزاد في المشترى، وينقص ي المبيع ما بينه وبين ثلث الميت، لا ثلث الثمن.
والظاهر أنه يتخرج في الموصى ببيعه لعتق، وقد تقدم أن ابن عبد السلام حكى فيها الاتفاق.
فَإِنْ أََبَى رَجَعَ مِيرَاثاً، وَقِيلَ: كَالَّتِي قَبْلَهَا
يعني: فإن لم يوجد من يشتريه بنقص ثلث ثمنه، فروى غير واحد عن مالك: أنه يرجع ثمنه ميراثاً؛ لأنه لما أبى رَدَّ الوصية؛ إذ الميت إنما أوصى له بالحطيطة بشرط شرائه.
وقوله: (وَقِيلَ: كَالَّتِي قَبْلَهَا) أي: فيخير الورثة بين بيعه بأقل أو يعتقون ثلث العبد. وهو قول ابن القاسم في المدونة، وروي أيضاً عن مالك. ونقل ابن وهب عن مالك أن العمل عندهم على الأول.
فرعان:
الأول: قال ابن أبي زمنين: ولو باعوه ممن أحب ولم يعلموا المشتري بالوصية ثم علم فقام عليهم- فلا شيء له. ورواه أشهب عن مالك.
الثاني: إنما يتأتى القولان السابقان إذا لم يوجد من يشتريه بالكلية، وأما لو أحب العبد شخصاً وأبى فله أن ينتقل إلى ثان وإلى ثالث ما لم يطل ذلك حتى يضر بالورثة. قاله أشهب.
فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ فُلانٍ نَقَصَ كَذَلِكَ
أي: ثلث ثمنه، ويلزمهم ذلك. واختلف أولاً هل عليهم أن يخبروا لاناً بما أوصى به الميت وهو قول أشهب، أو لا وهو قول ابن القاسم؟ وعلى الأول فإن لم يعلم رجع بما زاد على ثلثي قيمته.
فَإِنْ أَبَى خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ بَيْعِهِ بِمَا أَعْطَى أَوِ الْقَطْعِ لَهُ بِثُلُثِ الْعَبْدِ، وَقِيلَ: كَالَّتِي قَبْلَهَأ
…
أي: فإن أبى فلان من شرائه فقولان:
الأول: مذهب المدونة.
والثاني لأشهب في الموازية: أنه يرج ميراثاً. وهو معنى قوله: (وَقِيلَ كَالَّتِي قَبْلَهَأ) واستحسنه اللخمي؛ لأن الموصى له لم يقبل الوصية، وهذا كله مقيد بما إذا حمله الثلث، فإن لم يحمل خيروا بين بيعه منه بوضيعة الثلث أو خلع ثلث الميت.
وَمَنْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى لِتَطَوُّعٍ أَوْ ظِهَارٍ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَناً أُخْرِجَ بالاجْتِهَادِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ
…
هو المشهور، وهو مذهب المدونة، قال فيها: وليس من ترك مائة ديناراً كمن ترك ألفاً [774/أ].
ابن القاسم في الموازية: وبذلك يحاص في الوصايا.
وقال أشهب في الموازية: لا ينظر إلى قلة المال وكثرته، ولنك يشترى وسطٌ من الرقاب. ولا يُنْظَرُ لقدر المال، وبه يحاصُّ، والقياس أن يحاصَّ بأدنى الرقاب مما يجزئ في الظهار والقتل، والأول أحب إلي. كما قيل فيمن تزوج على خادم، فلأشهب رحمه الله تعالى قياس واستحسان. واختيار اللخمي قريب منه؛ لأنه قال: الوسط حسن مع عدم الوصايا، فأما إذا كانت وصايا وضاق الثلث فإنه يرجع إلى أدنى الرقاب؛ لأن المعلوم من الميت أن يقصد إنفاذ وصاياه جملة، فإذا علم أن المال لا يتسع إلى الأعلى ولا إلى الأوسط رجع إلى الأدنى، ما خلا الرضيع والمعيب؛ لأنهما لا يقصدهما الميت.
فَإِنْ سَمَّى يَسِيراً أَوْ كَانَ الثُّلُثُ يَسِيراً شُورِكَ بهِ فِي عَبْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أُعْتِقَ بهِ مُكَاتَبِّ فِي آخِرِ نُجُومِهِ
…
أي: إن سمي ثمناً يسيراً أكان الثلث يسيراً لايبلغ ثمن رقبة - شورك به في عبد، وإن لم يبلغ أعين به مكاتب ي آخر نجومه. وهكذا في المدونة، وهو خاص برقبة التطوع. كذلك ذكر ابن يونس وغيره، وهو ظاهر. ولعل المصنف رحمه الله اعتمد على ما قدمه في الظهار من منع الشركة.
اللخمي: ويطعم به في الظهار، فإن فضل منه على الإطعام فضلة فالفاضل لهم.
وَلَوِ اشْتَرَى فَأَعْتَقَ فَلَحِقَ دَيْنٌ يَغْتَرِقُ الْمَالَ رَجَعَ الْعَبْدُ رِقَّاً، فَإِنْ لَمْ يَغْتَرِقْ فَبحِسَابهِ، وَلا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ مَا لَمْ يَعْلَمْ
…
يعني: ولو اشترى الموصَى رقبة فأعتقها عن الميت ثم لحق الميت دين يستغرق المال ففي المدونة: يرجع العبد رقاً كما ذكر المصنف، وإن لم يغترقه أعطي صاحب الدين دينه، ثم عتق من العبد بقدر ما بقي من ثلث الميت. وهذا معنى قوله:(فَإِنْ لَمْ يَغْتَرِقْ فَبحِسَابهِ). ولا يضمن الموصى إذا لم يعلم بالدين؛ لأنه قد اجتهد، ولم يكن عليه سوى ما صنع.
وفي الموازية: يمضي العتق ويغرم الموصى. وهو مقتضى قول غير ابن القاسم في الوصايا الثاني من المدونة؛ لأن فيه في الموصِي أن يُحَجَّ عنه بعوض: لا يجزئ أن يحج عنه عبد أو صبي أو من فيه علقة رق؛ إذ لا حج عليهم؛ فيضمن الدافع، إلا أن يظن أن العبد جر-وقد اجتهد ولم يعلم- فإنه لا يضمن، وقال غيره: لا يزول عنه الضمانب جهله.
ابن عبد السلام: وهذا الذي قاله غيره هو الجاري على ما في كتاب الحج الثاني، وفي كتاب النذور، ولولا الإطالة لجلبناه.
وقال في الواضحة في مسألة المصنف: إذا علم الموصى وكان له مال ضمن، وإن لم يعلم أو علم إلا أنه عديم فلا ضمان، إلا أنه يَرُدُّ العتق حتى يقضي الدين.
فرع:
ولو اشترى الوصي يهودياً أو نصرانياً كان ضامناً، وإن اشترى معيباً لا يجزئ في الواجب، والعتق واجب؛ فإن علم الموصى أنه للكفارة ضمن عمداً كان أو خطأ، وإلا فلا.
وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْعِتْقِ اشْتُرِيَ آخَرُ إِلَى مَبْلَغِ الثُّلُثِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قُتِلَ وَجَبتْ قِيمَتُهُ
…
يعني: أن المشترى لا يكون حراً بنفس الشراء؛ فلذلك إذا مات بعد الشراء لزمهم شراءٌ آخر إلى مبلغ الثلث وهذا مذهب المدونة، والمشهور، وبه قال أصبغ. ولابن القاسم
في الموازية: يشترونه من ثلث ما بقي أبداً، كأنه لم يكن مال إلا ما بقي. وقال ابن حبيب: القياس ألا يرجع في بقية الثث بشيء، واستحسن أن يشترى من بقية الثلث.
وقال ابن المواز: إن عزل ثلثه للوصية، وقسم الورثة الثلثين كان عليهم بقية الثلث.
اللخمي: ولا وجه لهذا؛ لأن الميت لم يوص بجزء فيكون عليهم أن يقسموه، وإنما أوصى بشراء رقبة لا غير ذلك، وقولابن حبيب في هذا أحسن.
وقوله: (وَلِذَلِكَ) أي: ولأجل أن العبد لا يكون حراصبنفس الشراء، بل حتى يعتقه الورثة- لمتجب على قاتله الدية؛ لأن أحكامه أحكام العبيد حتى يعتق.
ووقع في بعض النسخ (وكذلك) والأولى أحسن.
محمد: ولو أخرج ثمن العبد فسقط فعليهم أن يشتروا عبداً من ثلث ما بقي ما لم يتلف بعد القسم، وإنما يشترى إن بقي من الثلث الأول شيء. وهذا الكلام قريب مما في المدونة، مخالف لما تقدم عنه.
ولو جنى العبد قبل عتقه خير الورثة؛ فإمَّا أسلموه واشتروا غيره من ثلث ما بقي، أو فدوه فأعتقوه هو أو غيره. فإن أسلموه فكأنه لم يكن، أو مات فيعتقون غيره من ثلث ما بقي. وإن فدوه فمن ثلث ما بقي لا أكثر منه كأنهم ابتدءوا شراءه، وذلك إن لم يكن قسم الثلث.
وقال أصبغ: يرجع في هذا إلى باقي الثلث الأول.
محمد: يريد: إذا كان قد قسم به، وقسم للورثة بالثلثين ينفذ لهم- لا يرجع عليهم بشيء في موت الرقبة ولا إسلامها؛ لأنه صار ضمان كل قسم من أهله. محمد: وذلك بعد اقتسام المال والفراغ منه.
وَإِذَا أَوْصَى بشَاةٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ ببَعِيرٍ أَوْ أَوْ بعَبْدٍ كَانَ شَرِيكَاً بجُزْئِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبيرِهَا، ضَانِهَا وَمَعَزِهَا، ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا
…
أي: إذا أوصى له بشاة من امله أو ببعير أو بعبد أو نحو ذلك، وفي ماله غنم أو إبل أو عبيد. ويدل على أن مراد المصنف أن في ماله ذلك قوله:(كَانَ شَرِيكَاً بجُزْئِهَا) وَلِذِكْرِهِ مُقَابِلَّهُ بعد ذلك: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ).
ومعنى: (بجُزْئِهَا) أنه يكون شريكاً بنسبة الشاة من سائر الغنم، فإن توفى عن خمس كان له الخمس، وعن عشر كان له العشر، وعن مائة فله عشر العشر.
خليل: وفي هذه المسألة نظر؛ لأنه يبقى تحجير على الورثة، لا سيما إذا كانت الشياة كثيرة، والأقرب أنه لا يكون شريكاً بل تكون له شاة.
وَلَوْ لَمْ يَبْقَ إِلا شَاةٌ أَوْ عَبْدٌ يَعْدِلُ الْجَمِيعَ؛ فَهْوَ لَهُ إِنْ حَمَلَهُ الثُّلُُثُ، أَوْ مَا حَمَلَ مِنْهُ
…
يعني: ولو لم يبق في المسألة المتقدمة إلا العدد الذي سما الموصي فإنه للموصى له، ولو كان الباقي يعدل جميع المال، بشرط أن يحمل الثلث ما بقي.
وخالف ابن الماجشون في هذا ولم يوجب له إلا الجزء الموصى به من الباقي.
والحاصل أن ابن القاسم اعتبر الشركة بالجزء مع الالتفات إلى العدد على الوجه الذي ذكره المصنف، وابن الماجشون اعتبر الجزئية وألغى العدد.
بخِلافِ: "ثُلُثِ غَنَمِي" فَتَمُوتُ أَوْ تُسْتَحَقُّ كُلَّهَا أَوْ بَعْضُهَا
أي: فلا يكون للموصى له إلا ثلث ما بقي، وهذه المخالفة إنما هي على قول ابن القاسم، وأما على قول ابن الماجشون فلا.
فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَلَهُ شَاةٌ وَسَطٌ
يعني: فإن لم تكن له غنم في المسألة المفروضة، وهي ما إذا أوصى له بشاة من ماله ففي الموازية ما ذكره المصنف، لكن إنما قال في الموازية: له قيمة شاة وسط، وظاهر كلام المصنف أنه تشتري له شاة وسط.
فَلَوْ قَالَ: شَاةٌ مِنْ غَنَمِي فَكَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَلا شَيْءَ لَهُ
يعني: فإن أوصى له بشاة من غنمه فكذلك، ولا يريد المصنف رحمه الله تعالى بالتشبيه أخذ شاة وسط، بل هو راجع إلى أصل المسألة؛ أي: فيكون شريكاً بجزئها، وإن لم تكن له غنم فلاشيء له.
كَمَا لَوْ أَوْصَى بعِتْقِ عَبْدٍ مِنْ عَبيدِهِ فَمَاتُوا أَوِ اسْتَحَقُّ بَطَلَتْ كَالْعِتْقِ
شَبَّهَ الوصية بشاة من غنمه فتموت في أنه لا شيء عليه وتبطل الوصية، بما إذا أوصى بعتق عبد من عبيده فماتوا أوا ستحقوا أن الوصية تبطل. ويفهم من هذا التشبيه أنه لو استحقت الغنم فيما إذا أوصى له بشاة أن الوصية تبطل أيضاً.
وقوله: (كَالْعِتٌِْ) أي: كالعتق المعين إذا قال: "إذا مت فأعتقوا عبدي فلاناً" ثم مات فلان أو استحق، ويحتمل أن يريد بقوله:(كَالْعِتْقِ) إذا أوصى بعتق عبد من عبيده، وليس له عبيد.
وَلَوْ أَوْصَى بعَدَدٍ سَمَّاهُ فَشَرِيكٌ بالْعَدَدِ الْمُسَمَّى كَشَرِكَةِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ لا كَشَرِكَةِ الثُّلُثِ
…
أي: إذا أوصى بعشرة-مثلاً من عبيده، وعبيده خمسون - فإنه يكون شريكاً بالعدد المسمى، كشركة الواحد؛ بمعنى أنه يكون شريكاً بالجزء، وإن لم يبق إلا العدد المسمى
فهو له. وهذا هو المشهور. وقال عبد الملك: يكون كشركة الثلث؛ أي: لا يكون له إلا نسبة العدد الموصى به لغنمه، كما لو أوصى له بالثلث.
ولكن قَصْرُ المصنف الخلاف على العدد يوهم نفيه عن الواحد، وقد تقدم أن عبد الملك خالف في الواحد.
وَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ قُدِّمَ الْمُدَبَّرُ فِي الصِّحَةِ
هذه المسألة متسعة وقد أفرد لها عبد الحق تأليفاً. ومعنى كلام المصنف أنه إذا ضاق الثلث عما يجب إخراجه منه- سواء كان وصية أو غيرها- فلا يَرِدُ إذن قول من قال: إن المدبر في الصحة ليس من جنس الوصايا لا يذكر معها، ولا قول من قال: لم يذكر مؤنة الدفن وشبهها؛ لأن ذلك من رأس المال.
ولم يتعرض المصنف لصداق المنكوحة في المرض.
والمشهور تقديم المدبر عليه؛ نظراً إلى كونه من تصرف الصحة. وقاله ابن القاسم. ولابن القاسم قولان آران أحدهما تقديم الصداق؛ نظراً إلى كونه معاوضة، ونظراً إلى أن بعضهم يجيزه ويقول: إن الصداق من رأس المال. ويقول: إنهما يتحاصانز
ثم المدبرون في الصحة إن تعاقبوا قُدِّمَ الأول، وإلا فالمشهور أنه يعتق منهم بالحصص، وقيل: يقرع بينهم.
ثُمَّ الزَّكَاةُ الْمُوصَى بهَا، إِلا أَنْ يَعْتَرِفَ بحُلُولِهَا حِينَئِذٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا؛ فَمِنْ رَاسِ مَالِهِ
…
يعني: ويخرج بعد تقديم الزكاة الموصى بها، والزكاة تعم زكاة العين والحرث والماشية وزكاة الفطر، وهو مذهب ابن الماجشون، والمشهور خلافه؛ وهو أن زكاة المال مقدمة على زكاة الفطر.
وَقَدَّمَ المدبر والمنكوحة على الزكاة؛ لأنهما معلومان والزكاة لا يدري أَصَدَقَ في بقائها أم لا؟ ولأنهما لمعين بخلافها. وقدمت زكاة الأموال على زكاة الفطر على المشهور؛ لأن زكاة الفطر قد قيل بسنيتها.
وقوله: (الْمُوصَى بهَا) يعني: وإن لم يوصِ فلا تخرج ولو قال في مرضه: سأخرجها.
قوله: (إِلا أَنْ يَعْتَرِفَ) استثناء من قوله: (ثُمَّ الزَّكَاةُ) أي: إلا أن يعترف بحلول الزكاة وأنه لم يخرجها؛ يريد: ويوصي بها فتكون من رأس ماله. هكذا قال ابن القاسم. ورأى أشهب: أنها حينئذٍ من رأس المال وإن لم يوصِ بها.
ابن عبد السلام: وهو أقرب إلى كلام المصنف. انتهى.
وقد يقال: الأقرب إلى كلامه قول ابن القاسم؛ لأنه استثناء من الزكاة الموصى بها.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أيضاً أنه يكفي في هذا اعتراف الموصي، سواء عرف ذلك من غيره أو لا. وفي موافقته للرواية نظر؛ أي: لأن في المدونة: فما عرف من هذه فأخرجها في مرضه أو أمر بإخراجها ثم مات فإنها من رأس ماله.
وهذا الذي ذكرنا فيه قول ابن القاسم وأشهب إنما هو في زكاة العين، وأما زكاة الحرث والماشية فإنها تخرج من رأس المال إذا لم يفرط فيها، إلا أن تيبس الثمرة وتطيب أو يجذها ويخلفها في الجرين ببلد لا ساعي فيها، والظاهر على قول ابن القاسم أنه لا يلزم الورثة إخراجها؛ لأنه لو أخرجها لأجزأته، فكان ذلك كزكاة العين المفرط فيها.
وأما إن لم تيبس فيجب على الورثة إخراجها؛ لأنه لو أخرج الزكاة قبل الجذاذ لم يجزأه. ذكره عبد الحق عن ابن مسلمة في المبسوط، قال: وما رأيت خلافه.
ثُمَّ الْمُبَتَّلُ فِي الْمَرَضِ وَالْمُدَبَّرُ فِيْهِ
ظاهر كلامه أن هذ المرتبة بعد ما تقدم، وفيه نظر؛ بل الذي بعدها زكاة الفطر على ما ذكره عبد الحق وصاحب المقدمات.
ثم العتق في الظهار وقتل النفس؛ لأن الزكاة لا عوض عنها، بخلاف عتق الظهار والنفس فَإِنَّ عنه عوضاً [775/أ] عند العدم. فإن لم يحمل الثلث إلا رقبة واحدة عبد الحق: فرأيت لأبي العباس الإبياني أنه يقرع بينهما. وهو معنى المدونة.
وذهب بعض القرويين إلى أن يحاصص، فما وقع للظهار أطعم به، وما وقع للقتل شورك به في رقبة. وقيل: يخير الورثة، فإن اختلفوا رجع إلى القرعة. وقيل: يبدأ بكفارة النفس. وذلك إذا لم يكن في الثلث إلا رقبة واحدة. فإن كان فيه رقبة وإطعام ستين مسكيناً أعتقت الرقبة في القتل وأطعم عن الظهار اتفاقاً. وقيل: إذا لم يكن فيه إلا رقبة واحدة، وما لم يبلغ الإطعام فإنه يبدأ بالظهار ويشرك فيما بقي في كفارة قتل النفس، ثم بعدهما كفارة اليمين؛ لأنها مخير فيها، بخلاف كفارة الظهار والقتل.
ثم كفارة الفطر في رمضان متعمداً؛ لأن كفارة اليمين واجبة بكتاب الله عز وجل. ثم كفارة التفريط في قضاء رمضان. قال في المقدمات: وهذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة. وقيل: إن الإطعام لقضاء رمضان يُبَدَّى على كفارة اليمين عند ابن القاسم. والأول أظهر.
ثم النذر؛ لأن إطعام رمضان واجب بنص السنة، والنذر أدخله على نفسه.
(ثُمَّ الْمُبَتَّلُ فِي الْمَرَضِ وَالْمُدَبَّرُ فِيْهِ) وفي بعض النسخ: (ثم المدبر فيه معاً) وليست بظاهرة؛ لأن (ثم) منافية للمعية، والنسخة الأولى أصح، وتسويتهما هو ظاهر المذهب. وقيل: يُبدَأُ بالمبتل؛ لأنه لو صح خرج من رأس المال. وقيل: يُبدَأُ بالمدبر. وهذا الخلاف مقيد بما إذا كان في فور واحد.
ابن القاسم: ولو بدأ بأحدهما ثم ذكر الآخر بدئ بالأول؛ لأنه يثبت له ما لا يرجع فيه.
أشهب: والكلام المتصل لا صمات فيه كاللفظ الواحد.
وقال ابن القاسم: ما كان في كلمة واحدة وفور واحد فهما معاً، وما كان في فور بعد فور فالأول مُبَدَّى.
عبد الملك: وإن بتل المريض عتق عبده، وأعتق من آخر نصفه فالمعتق جميعه يُبَدَّى، ويبدى استتمام ذلك النصف على الموصى بعتقه الذي له أن يرجع فيه، وهذا شيء يلزمه.
ثُمَّ الْمُوصَى بعِتْقِهِ مُعَيَّناً عِنْدَهُ أَوْ يُشْتَرَى
ألحق بهذين عبد الحق وصاحب المقدمات الموصى بعتقه إلى أجل قريب، كالشهر ونحوه، أو على مال فعجله على مذهب ابن القاسم.
وزاد ابن رشد: والموصى بكتابته إذا عجل الكتابة.
وقال أشهب: الموصى بعتقه أو بشرائه للعتق يُبَدَّى على العتق إلى أجل قريب، وعلى الموصى بعتقه على مال وإن عجل المال، وعلى الموصى بكتابته وإن عجل الكتابة.
وقيل: الموصى بعتقه معيناً يُبَدَّى على الموصى بشرائه للعتق.
وحكى عبد الوهاب في المعونة أن الوصية بالعتق المعين تُبَدَّى على الزكاة.
قال في المقدمات: وهو بعيد في القياس، ووجهه إتباع ظاهر الحديث؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بتبدية العتق على الوصايا، فعم صلى الله عليه وسلم ولم يخص.
ثُمَّ الْمُكَاتَبُ بعَيْنِهِ
يعني: أن الموصى بكتابته يلي من تقدم ذكره، وهذا مذهب المدونة، وقدم عبد الملك عليه المعتق إلى أجل، وإن بعد الأجل.
محمد: لأنه لا يخاف عليه العجز.
وقال في الموازية: يتحاصان إذا كان الأجل سنة ونحوها.
وقام عبد الحق المعتق إلى سنة عليه وجعله يتحاص عم المعتق إلى أجل بعيد كالعشر سنين، ومع المعتق على مال فلم يعجله.
وقال في المقدمات: ويقدم الموصى بعتقه إلى سنة على الموصى بعتقه إلى سنتين.
وقيل: إن الموصى بعتقه إلى سنتين يُبَدَّى على الموصى بعتقه إلى سنة.
ثُمَّ الْمُوصَى بعِتْقِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْحَجُّ مَعَاً، وَقِيلَ: ثُمَّ الْحَجُّ
وقوله: (وَالْحَجُّ) أي: للصرورة، وأما غير الصرورة فيبدأ بالعتق باتفاق، إلا على ما نقله عياض عن أصبغ من التساوي. والقول الأول مذهب المدونة، والقول الثاني أظهر؛ لتشوف الشرع إلى العتق، وكراهة الوصية بالحج عندنا.
عبد الحق: وعليه فإذا كان هناك وصايا تَحَاصَّ الثلاثة، فما ناب الحج كانت القربة به. وزاد ابن رشد قولين آخرين؛ أحدهما: أن الحج يُبَدَّى، ثم يتحاص المال والعتق. وقيل: يُبَدَّى العتق، ويتحاص المال والحج.
ابن عبد السلام: وانفرد ابن وهب فقدم وصية الصرورة على الرقبة المعينة. انتهى.
وحكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تُبَدَّى على كل شيء؛ المدبر وغيره. حكاه في المقدمات.
وَأَخِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الزَّكَاةَ الْمُوصَى بهَا عِنِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَرَضِ
وجهه أن للموصى بالزكاة أن يرجع، بخلاف المبتل والمدبر في المرض.
وفي المجموعة: أن الزكاة تُبَدَّى على المدبر في الصحة. وقيل: إنها بعد العتق المعين وقبل الوصايا. وقيل: إنها مع الوصايا.
وَيُقَدِّمُ الْوَاجِبُ عَلَى التَّطَوُّعِ
لما رأى أن ما ذكره المصنف من الفروع لا يعم جميع ما ذكره الشيوخ أراد أن يذكر ما يجري مجرى الكليات.
ابن عبد السلام: وهذا ظاهر إن كان الواجب والتطوع من جنس واحد، كالعتق في رقبتين إحداهما وجبة، والأخرى تطوع. وإن كانا من جنسين فهو خلاف النقل في كثير من المسائل، وقد قدم الأكثرون المدبر في الصحة على الزكاة، وقدم عبد الملك عليها المدبر في المرض. انتهى.
وأجيب بأنا لا نسلم أن المدبر تطوع؛ لأنه وجب بالتدبير.
وَالْعِتْقُ الْمُعَيَّنُ عَلَى الْمُطْلَقِ
هذا مستفاد من قوله: (ثم الموصى بعتقه معيناً عنده، أو يشترى، ثم المكاتب بعينه، ثم الموصى بعتقه غير معين). ولعله ذكره ليرتب عليه [775/ب] ما بعده، وهو قوله:
وَفِي الْعِتْقِ الْمُطْلَقِ مَعَ مُعَيَّنٍ غَيْرِ عِتْقٍ قَوْلانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَاصَّانِ
يعني: إذا أوصى بعتق غير معين، وبمال لرجل معين فقال ابن القاسم: يتحاصان.
ابن يونس: ولم يختلف قوله في ذلك. وقال غيره: يقدم العتق لتشوف الشرع إليه.
وَفِي مُعَيِّنِ غَيْرِهِ مَعَ جُزْءٍ شَائِعٍ ثَالِثُهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَاصَّانِ
المراد بـ (المعين): العدد المسمى كعشرة دنانير ونحوها.
(مَعَ جُزْءٍ) أي: كثلث أو ربع. والثلاثة الأقوال روايات حكاها عبد الوهاب وغيره. وقول ابن القاسم هو مذهب المدونة، هكذا مشَّى هذا المحمل ابن راشد وابن عبد السلام وغيرهما، ويحتمل من حيث اللفظ "مع جزء عتق" ويكون الكلام السابق في العتق الكامل، لكن يحتاج إلى نقل يعضده.
قال في المقدمات: وكان أبو عمرو الإشبيلي رحمه الله تعالى يرى تبدية مال أوصى به في فك أسير على جميع الوصايا؛ المدبر في الصحة وغيره، ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب الجهاد.
وحكى ذلك عنه ابن عتاب وقال: إن الشيوخ أجمعوا على ذلك، وهو صحيح.
وهذا الفصل متسع جداً، ولذلك احتمل التواليف، وتعرض الشعراء لنظمه، فمن ذلك قول بعضهم:
صداق المريض في الوصايا مقدم
…
ويتلوه ذو التدبير ي صحة الجسم
وقيل: هما سيان حكمهما معاً
…
وقيل: بذي التدبير يُبَدَّى في الحكم
وإن ضيع الموصي زكاة فإنها
…
تُبَدَّى على ما بد هذين في النظم
وكفارتان بعدها لظهاره
…
وللقتل هما لا لعمد ولا جرم
ويتلوهما كفارة الحلف توبعت
…
بكفارة الموصى عن الصوم ذي
ونذر الفتى تالٍ لما قد قصصته
…
وما بتل الموصى ودَبَّر في السقم
هما تلوان النذر ثم وصية
…
بعتق الذي ي ملكه يا أخا الفهم
مع المشترى من ملك زيد معيناً
…
ليعتق عنه للنجاة من الإثم
وما أعتَّق الموصي لتوقيت حينه
…
كشهر ونحو الشهر من أجل حتم
وإن كان عتق بعد مال مؤجل
…
فعجله ذو العتق قبل انقضاء القسم
يساوي بهم عند الحصاص حقيقة
…
كذا حكمهم يا صاح في موجب العلم
وبعده ما كان عتقاً مؤجلاً
…
ببعد من التأجيل في مقتضى الرسم
فذاك مع الموصى له بكتابة
…
ومن كان بعد المال يعتق بالغرم
يُبْدَّون قبل المشترى لعتاقة
…
بلا نص تعيين عليه ولا حسم
ومن بعده الحج وموصى بفعله
…
وقيل: هما سيان في مقتضى الحكم
وهذه المبادئ نظمها نظم لؤلؤ
…
فدونكها نظماً صحيحاً بلا وهم
ونص ابن زرقون رحمه الله تعالى عل أن زكاة الفطر مبداة على الظهار وقتل الخطأ؛ لأنه قد قيل بفرضيتها، والظهار والخطأ هو الذي أدخله على نفسه. قال: والمشهور أن عتق المريض وتدبيره بعد كفارة فطر الصيام.
وَلَوِ اشْتَرَى ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ جَازَ وَعَتَقَ وَوَرِثَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ بُدِّيَ الابْنُ، وَقِيْلَ: يُعْتَقُ الابْنُ مِنْ رَأسِ الْمَالِ
…
خص الابن تبعاً للمدونة على سبيل المثال لا الاختصاص؛ فإن مذهب مالك وابن القاسم أن للمريض أن يشتري في مرضه من يعتق عليه بثلث ماله؛ كان ابناً أو أباً أو أخاً.
وقال أشهب مرة في الولد والأب والأم والإخوة والأجداد: يعتقون من رأس المال، وقال مرة: ذلك إذا لم يكن معهم وارث، فإذا كان له وارث فليس له أن يشتري الولد وغيره إلا بثلث ماله.
ولابن الماجشون قولان آخران:
أولهما في الواضحة: أنه يجوز له اشتراء ابنه خاصة، ولو بجميع ماله ويرثه؛ لأن له استلحاقه، ولا يجوز له أن يشتري غيره لا أباً ولا أماً ولا أخاً؛ لأنه لا يستلحقهم.
ابن رشد: يريد: إلا بثلث ماله، ولا يرثه.
وثانيهما في الثمانية: يشترى الولد وولد الولد خاصة بجميع المال؛ كان له ولد آخر أو لم يكن، ويلحقهم بولده.
وقال ابن وهب في العتبية: إن كان المشترى يَحْجِبُ من كان يرث حتى يصير جميع الميراث له كان أحق أن يشتريه بجميع المال، ويرث إن كان بقي شيء، وإن كان ثَمَّ من يشركه في الميراث لم يشتره إلا بالثلث، ولم يرث؛ لأنه إنما يعتق بعد موت المشتري وقد صار الملك لغيره.
وقال ابن القاسم: إن اشترى أخاه في المرض ورثه إن حمله الثلث، وإلا عتق منه محمل الثلث معجلاً.
وقال أصبغ: لا يرثه إلا أن يكون له أموال مأمونة.
وقوله: (جَازَ) أي: الشراء. ومذهب ابن القاسم أنه من الثثل، خلافاً لابن الماجشون في كونه من رأس المال كما تقدم.
وقوله: (وَعَتَقَ وَوَرِثَ) أي: من الثلث، وورث. وهذا مذهب ابن القاسم. وقد يقال: إرثه مشكل؛ لأن ما يخرج من الثلث إنما ينظر فيه بعد الموت، فإذن لا يتم العتق إلا بعد الموت، فكيف يرث وهو إنما حدث له شرط الميراث بعد الموت؟! ويجاب عنه بأنا لا نسلم أنه إنما يعتق بعد الوت، بل يعتق ناجزاً إذا كان له مال مأمون، أو يكون موته كشف أن العتق كان وجب له قبل موته؛ لحمل الثلث له، فلذلكورث.
ابن القاسم: وإن لم يحمله الثلث عتق منه محمل الثلث، ولم يرث.
وقال أصبغ: لا يرثه وإن حمله الثلث؛ لأنه لا تتم حريته إلا بعد موت الميت، إلا أن يكون للميت أموال مأمونة من عقار وغيرها فيرث ويورث.
واخترا اللخمي عدم إرثه مطلقاً؛ لأنه إن لم يكن له مال مأمون لم يتم العتق إلا بعد الموت، وإن كان له مال مأمون كان ذلك إخراجاً للأول عن الميراث، أو عن بعضه إن كان ثَمَّ من يشركه. قال: وقد يستخف إرثه إذا كان ماله مأموناً؛ للاختلاف في تزويج المريض، وهو إدخال وارث.
وللإشكال المتقدم استثقل ابن عبد الحكم في الموازية، قال: وكيف يرثه وهو لو أعتق عبداً لم تتم حريته حتى يقوم في الثلث بعد موت السيد، إلا أن يكون له مال مأمون؟! إلا أنه استسلم لقول مالك.
فإن قيل: فما الفرق [576/أ] على قول ابن القاسم بين هذا ونكاح المريض، والجامع بينهما إدخال وارث؟ قيل: سبب الولد مقدم، والزوجة طارئة.
وقوله: (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ بُدِّيَ الابْنُ) يحتمل أن يريد: فإن اشترى مع الابن غيره ممن يعتق عليه- بُدِّي الابن. وعلى هذا مشَّاه ابن عبد السلام رحمه الله تعالى. ويحتمل أن يكون يريد: فإن كان مع الابن معتق غيره، كما لو أعتق عبداً له في مرضه، واشترى ابنه فأعتقه وقيتمه الثلث. قال في المدونة: فالابن مُبَدّى ويرثه، كما لو اشتراه صحيحاً.
وهذا الثاني أرجح؛ لأن المسألة كذلك في المدونة والجواهر، قال في المدونة في تعليل بداية الابن: لأن مالكاً لما جعله وارثاً كان كمن اشتراه صحيحاً.
ابن يونس: وفي هذا الاحتجاج نظر؛ لأنه إذا كان كعتق في الصحة فيجب أَنْ لو بتل عتق عبده واشترى ابنه أن الابن يُبدَّى، وفي ذلك رجوع عن التبتيل، وهو لا يقدر أن يرجع، وإنما الحجة فيه أنه لو بتل عتقه في مرضه؛ لأنه لو صح لم يكن له الرجوع فيه، وإنما ورثه استحساناً؛ لأنه لم يزل حراً من يوم اشترائه، ألا ترى أن المبتل في أحد القولين إذا اغتل غلة بعد التبتيل أنه يقوم وحده في الثثل، وكأن الغلة لم تكن ملكاً له من يوم التبتيل. انتهى.
وتمشية ابن عبد السلام رحمه الله تعالى أظهر من جهة اللفظ، إلا أن النقل لا يساعدها على إطلاقها؛ لأنه إن كان واحداً بعد واحد، فإنه يبدى بالأول. وإن كان صقة فقال أشهب: على قياس قول مالك يتحاصان.
وفي قوله: (بُدّيَ الابْنُ) فأعتقه وإن كان أكثر من الثلث، وورثه.
ابن يونس: يريد على مذهب الذي يرى أنه يشتريه بجميع المال، إن لم يكن معه وارث.
محمد: بل إن حمله الثلث بدئ به وعتق، وإن بقي من الثلث شيء عتق فيه الأخ أو ما حمل منه. وإن اشترى أخاه أولاً؛ فإن لم يحمله الثلث عتق منه محمل الثلث وعتق الابن في بقية
ماله، وورثه إن خرج كله، وإن لم يخرج كله لم يعتق منه إلا بقية الثلث بعد الأخ. وقاله أيضاً أشهب. وقال في رواية البرقي: إذا كانا في صفقة واحدة تحاصا.
وقال ابن القاسم: إذا اشترى أخاه في مرضه عتق منه محل الثلث معجلاً ورق ما بقي، وإن صار إلى من يعتق عليه عتق بقيته. انتهى.
وَلَوْ أَوْصَى بشِرَاءِ أَبيْهِ بَعْدَ مَوْتِه اشْتَرِيَ وَعُتِقَ مِنْ ثُلُثِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: وَأَعْتَقُوهُ
لأن هذا هو مدلول الوصية عرفاً، ولا خلاف أنه لا يرث هنا شيئاً، وقوله:(بشراء أبيه) يريد: وكذلك كل من يعتق عليه، وفرضها في المدونة في الأب، وفي الموازية في الأخ.
وَلَوْ أَوْصَى بعِتْقِ كُلِّ عَبْدٍ لَهُ مُسْلِمٍ لَمْ يُعْتَقْ إِلا مَنْ كَانَ مُسْلِماً يَوْمَ الْوَصِيَّةِ
هذه مسألة المدونة، وأغفل المصنف رحمه الله تعالى منها:"وله عبيد مسلمون ونصارى" ولابد منه؛ إذ لو لم يكن في عبيده يوم الوصية مسلم، لدخل فيها من أسلم من عبيده أو اشتراه مسلماً. قاله محمد، ونصه في المدونة: وإن قال في وصيته: "إن مت فكل مملوك لي مسلم حر" وله عبيد مسلمون ونصارى، ثم أسلم بعضهم قبل موته لم يعتق منهم إلا من كان مسلماص يوم الوصية.
واستشكلت المسألة لمخالفتها لما علم من أصلهم أن المعتبر في الوصية يوم تنفيذها، فيما يطلق عليه الاسم من الخروج من الثلث، ولهذا قال التونسي: لعله فهم منه إرادة عتق هؤلاء بأعيانهم، قال: وإن لم يكن له قصد في ذلك فالأشبه دخول من أسلم في الوصية على الأصل.
واختلف فيمن اشترى من المسلمين بعد الوصية؛ فقال ابن القاسم: يدخلون، وقال أصبغ: لا يدخلون.
وَإِذَا أَوْصَى بنَصِيبِ ابْنِه أَوْ بمِثْلِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَالْوَصِيَّةُ بالْجَمِيعِ أَوْ بقَدْرِ مَا يَبْقَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ اثْنَانِ فَالنَّصْفُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلاثَةٌ فَالثُّلُثُ، وَعَلَى هَذَا. وَقِيلَ: يُقَدَّرُ زَائِداً
…
يعني: إذا أوصى بنصيب ابنه أو بمثله فهما سواء. وهكذا ذكر ابن شاس. وفيه نظر. والخلاف إنما هو منقول إذا قال: "بمثل نصيب ابني" فقال مالك وابن القاسم وأشهب وأصبغ: إذا أوصى له بمال ابنه؛ فإن كان واحداً فقد أوصى له بجميع المال، إن لم يكن معه وارث، وإن كان مع الابن وارث فقد اوصى له بما يبقى للابن. وهذا معنى قوله:(فَالْوَصِيَّةُ بالْجَمِيعِ أَوْ بقَدْرِ مَا يَبْقَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ) وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف، وإن كان له ثلاثة أولاد فالوصية بالثلث.
(وَعَلَى هَذَا) أي: فإن كانوا أربعة فالوصية بالربع، أو خمسة فالوصية بالخمس.
وأهل الفرائض يقدرونه زائداً؛ فإذا لم يكن له إلا ولد واحد فتكون الوصية له بالنصف، وإن كان له ابنان فالوصية بالثلث.
والمشهور أقرب إلى لفظ الموصي، والشاذ أقرب إلى قصد الموصي عرفاً؛ إذ القصد من ذلك عرفاً إنما هو التشبيه لا إحرام الوارث.
أما إذا قال: "له نصيب ولدي" فنص أبو الحسن على أن الفرضيين يوافقون مالكاً، وعلى هذا فلا يقدر زائداً باتفاق، ونحوه لابن عبد السلام.
وقال اللخمي: وإذا خلف الميت ثلاثة من الولد وأوصى لرجل بمثل نصيب أحد بنيه كان له الثلث، وإن كانوا أربعة فالربع، أوخمسة فالخمس، وهذا قول مالك.
وقال ابن أبي أويس في ثمانية أبي زيد: له السدس إذا كانوا خمسة.
وإن قال: "أنزلوه منزلة أحد ولدي، أو اجعلوه كأحدهم" كان له السدس قولاً واحداً. وكذلك إذا قال: "له نصيب أحد ولدي" ولم يقل: مثله. انتهى.
فانظر قوله: (وكذلك) هل أراد التشبهي بالجملة الأخيرة المتفق عليها فيكون عكس كلام أبي الحسن، أو أراد التشبيه بالخلاف فيكون موافقاً لكلام المصنف، ويكون ناقضاً لكلام أبي الحسن، أو يكون تشبيهاً لقول مالك [776/ب] الأول فقط؟ ولا إشكال على القولين أن للورثة ألا يجيزوا ما زاد على الثلث.
وَفِي: "أَلْحِقُوهُ بوَلَدِي، أَوِ اجْعَلُوهُ وَارِثاً مَعَ وَلَدِي" وَشِبْهِهِ-يُقَدَّرُ زَائِداً باتِّفَاقٍ
يريد بـ (شِبْهِهِ) فلان من عدد ولدي، أو وارث مع ولدي، أو ألحقوه بميراثي، أو ورثوه من مالي نص عليه محمد.
فرع:
واختلف إذا أوصى بمثل أحد نصيب بنيه، وترك رجالاً ونساء على أربعة أقوال:
الأول قول مالك: يقسم المال على عدد رؤوسهم، الذكر والأنثى سواء، ويعطي حظ واحد منهم ثم يقسما بقي على فرائض الله عز وجل. لكن إنما فرض المسألة في المدونة إذا قال: له نصيب أحد ورثتي.
الثاني: أنه كرجل من ولده.
الثالث: أنه يزاد سهم على السهام ويكون له.
وقال ابن زياد: يكون له نصف نصيب رجل، ونصف نصيب أنثى. هكذا حكى ابن زرقون هذه الأقوال.
والمعتبر هنا في عدد الأولاد من كان موجوداً يوم موت الوصي، ولا ينظر إلى من زاد فيهم بعد الوصية ولا من مات. رواه أشهب عن مالك.
ابن القاسم: وإن أوصى بمثل نصيب أحد ولده ولا ولد له، وجعل يطلب الولد فمات ولم يولد له فلا شيء للموصى له.
وَلَوْ أَوْصَى بمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَلَهُ جُزْءٌ مُسَمّى بعَدَدِ رُؤُسِهِمْ
تصوره ظاهر؛ فإن كان عدد ورثته عشرة فله العُشْرُ، أو تسعة فله التُسْعُ، ولا التفات إلى اختلاف ما يستحقه كل واحد.
وَإِذَا أَوْصَى بجُزْءٍ أَوْ بسَهْمٍ فَقِيلَ: سَهْمٌ مِنْ فَرِيضَتِهِ، وَقِيلَ: الثُّمُنُ، وَقِيلَ: السُّدُسُ، وَقِيلَ: الأَكْثَرُ مِنْهُمَا
…
يعني: أنه اختلف إذا أوصى بجزء أوسهم على أربعة أقوال:
الأول لأصبغ: أن له سهامً مما تنقسم عليه الفريضة من غير وصية، قَلَّت السهام أو كثرت. واختاره ابن عدب الحكم ومحمد، وذكر أن عليه جل أصحاب مالك.
والثاني لأشهب: له الثمن؛ لأنه أقل سهم ذكره الله تعالى من الفرائض.
والقول الثالث: أنه يعطى السدس، ورأى أنه أقل السهام، والثمن إنما يستحق بالحجب.
والقول الرابع: أنه له الأكثر منهما؛ أي: من السدس أو الثمن، وسهم من سهام الفريضة.
وَنَقَّصَ المصنف من هذا القول؛ لأن الذي نقله صاحب النوادر وغيره أن في المسألة قولاً بأنه يعطى سهماً من سهام الفريضة ما لم يَزِد على الثلث فَيَرُدُّهُ الورثة إلى الثلث، أو يَنقُصُ عن السدس فلا يُنقَصُ من السدس؛ لأنه أصل ما تقوم منه الفرائض.
وعلى القول بأنه يعطى سهماً من سهام الفريضة فلو كان أصل المسألة من ستة وهي تعول إلى عشرة- فله سهم من عشرة، وقيل: يعطى سهماً ما لم يزد على الثلث، وما لم ينقص عن السدس.
ابن القاسم: يعطى سهماً من الفريضة، فإن لم يكن له وارث أعطي الثلث. ومثله لأشهب إلا أنه قال: إذا لم يكن له وارث أعطي الثمن.
وَلَوْ أَوْصَى بضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِه فَلا نَصَّ، فَقِيلَ: مِثْلُهُ، وَقِيلَ: مِثْلاهُ
أي: لا نص عن مالك وأصحابه المتقدمين، وهكذا قال القاضي أبو الحسن: لست أعرف حكمها منصوصاً، غير أني وجدت لبعض شيوخنا: أنه مثل نصيب ولده مرة واحدة، فإن قال: ضعفين، فمثل نصيبه مرتين. ثم حكى عن أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما أنهما يقولان ضعف النصيب: مثله مرتين، قال: وهو أقوى من جهة اللغة. انتهى.
وفيه نظر؛ ففي الجوهري: ضِعف الشيء: مثله، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله. نعم هو أقوى من جهة العرف، وانظر كيف عده المصنف قولاً، وإنما أشار ابن القصار رحمه الله تعالى إلى قوته فقط من جهة اللغة.
وَلَوْ أَوْصَى بمَنَافِعَ عَبْدٍ وُرِثَ عَنِ الْمُوصَى لَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، أَمَّا إِذَا بَيَّنَ الْمُوصِي أَحَدَهُمَا أُتْبِعَ
…
أي: إذا أوصى بمنافع عبد لفلان، وأطلق ولم يقيدها بِأَجَلِ ولا بحياة الموصى له ولا بحياة العبد فحمله ابن القاسم في المدونة على ظاهره من حياة العبد؛ فلذلك إذا مات الموصى له يكون لورثته ما بقي من خدمته.
قال في المدونة: إلا أن يستدل من قوله أنه إنما أراد حياة المُخدَمِ.
وحمله أشهب على مدة حياة الموصى له، ورأى ان الموصي لو أراد ما قاله ابن القاسم لكانت عطية للرقبة، والفرض عدمه.
واختار اللخمي وغيره الأول؛ لأن الأصل حمل الكلام على حقيقته، وما اعتقد أنه مانع فليس بمانع؛ لأنه يصح بقاء الرقبة على ملك ربها للجناية وانتزاع المال، أو ليرى صنيعه فيه، أو ببقيه في يده كالحبس لئلا يتلفه.
أما لو بين الموصي أحدهما-أي: حياة العبد أو حياة فلان- فإنه يتبع، ولا خلاف فيه.
ابن المواز: ولو قال في وصيته: يخدم عبدي لاناً، ثم مات ولم يكن وقَّتَ وقتاً فليس بين أصحابنا اختلاف عَلِمْتُهُ أن ذلك حياة الْمخدَمِ، قال: وهو إن شاء الله قول ابن القاسم وأشهب.
وَلَوْ وَقَّتَهُ بزَمَانٍ مَحْدُودٍ كَانَ لِلْوَارِثِ فِي بَيْعِهِ مَا فِي الْمُسْتَاجَرِ
يعني: ولو وقت الموصي الانتفاع. وأعاد رحمه الله تعالى الضمير على ما فهم من قوله: (بمنافع عبد)(بزمان محدود) فأراد وارث الموصي بيعه واستثناء المدة الموصى بها فإن لهم في بيعة ما للمالك في العبد المؤجر. فإن كانت المدة قريبة، او ما بقي منها قريب كاليومين جاز، وإن كانت بعيدة فليس لهم ذلك.
وقوله: (الْمُسْتَاجَرِ) هو بفتح الجيم اسم مفعول.
واحترز بالزمان المحدود مما لو أوصى بخدمته أبداً، أو إلىمر أحدهما فإن الوارث حينئذٍ لا يملك بيعه.
ويحتمل أن يريد المصنف رحمه الله تعالى: كان لورثة الموصى له ما كان للمستأجر - بكسر الجيم- ويكون على هذاشبه بالمستأجر؛ تنبيهاً على الجواز في مسألة الوصية؛ لأن كثيراً من المخالفين منعوا البيع في الوصية ووافقوا عليه في مسألة الاستئجار.
ثم هذه المسألأة على هذا الوجه مقيدة بغير عبد الحضانة، ففي المدونة: وإن أخدمت عبدك رجلاً أجلاً مسمى فمات السيد قبل انقضاء الأجل-خدم العبد ورثته [777/أ] بقية الأجل إذا لم يكن من عبيد الحضانة والكفالة، وإنما هو من عبيد الخدمة.
واحترز (بزَمَانٍ مَحْدُدٍ) مما لو وَقَّتَهُ بزمان غير محدود، كما لو أخدم رجلاً حياته عبداً. قال في المدونة: فليس له أن يبيع من خدمته إلا مدة قريبة كسنة أو سنتين قال: أو أمداً مأموناً، ثم فرق بينه وبين ما أجازه مالك رحمه الله تعالى من كراء العبد عشر سنين بأن السيد إذا مات لزم وارثه بقية المدة في الكراء، بخلاف المخدم يموت فإنه يرجع لورثة المالك.
فإن قلت: الحمل الثاني أقرب لموافقته للمدونة. قيل: لا نسلم ذلك، ب ل الأول أقرب لكلامه؛ أما أولاً: فلأن المسألة في الجواهر عليه، ويغلب على الظن اتباع المصنف له.
وأما ثانياً: فلقول المصنف رحمه الله: (بَيْعِهِ) وظاهره: بيعه بنفسه لا بيع منافعه.
وأما ثالثاً: فلأنه يكون أخل بتقييده المسألة كما تقدم.
وأما رابعاً: فلأن الورثة في المسألة التي بعد هذه ورثة الموصي، فالمناسبة تقتضي حمل الوارث في المسألتين على شيء واحد وهو قوله:
فَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ عَمْداً فَلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ أَوْ الْقِيمَةُ، وَلا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ
يعني: لو قُتِلَ العبد الموصَى بخدمته عمداً فلوارث الموصي القصاص أو أخذ القيمة؛ لأنه المالك للرقبة، ولا كلام للموصَى له؛ لأن حقه إنما كان في المنفعة وقد ذهبت. وقيده بالعمد وإن كان الخطأ مساوياص له في وجوب القيمة؛ لقوله:(الْقِصَاصُ) والخطأ إنما فيه القيمة فقط، والقصاص مخصوص بما إذا كان قاتل العبد مكافئاً له، وأما لو كان قاتله حراص فتتعين القيمة كالخطأ.
سحنون: ولم يختلف في هذا قول مالك، واختلف فيه قول أصحابه.
وقال محمد: لميختلف فيه قول مالك ولا أصحابه، وإنما اختلف قول مالك وأصحابه في الذي أخدم رجلاً سنة، ثم رجع لفلان بتلاً فقبضه المخدم، ثم قُتِلَ في الخدمة، هل لصاحب البتل أو للسيد؟
وصحح الأكثرون كلام سحنون؛ لأنه عدل حافظ فيقدم، ولأن المغيرة خالف في ذلك نصاً وأوجب أن يُستَاجَر من قيمة العبد من يخدم الموصى له إلى تلك المدة، إن كان في القيمة وفاء بذلك، حتى أجرى بعضهم من هذا الخلاف خلافاً فيمن أعار رجلاً ثوباً مدة فاستهلكه أجنبي قبل الأجل، وهو مما ينقصه اللبس. وخرج الخلاف إذا استهلكه ربه من الخلاف إذا أخدم السيد أمته رجلاً ثم وطئها سيدها فحملت. وهي في آخر كتاب أمهات الأولاد من المدونة.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى الْعَبْدُ فَأَسْلَمَهُ الْوَرَثَةُ، أَمَّا لَوْ فَدَوْهُ اسْتَمَرَّ
يعني: فإن جنى العبد الموصى بخدمته على غيره خير وارث الموصي بين أن يفديه أو يسلمه.
فإن فداه بأرش الجناية استمر على خدمة الموصى له إلى انقضاء الأجل، وإن أسلموه في الجناية بطل حق الموصى له في الخدمة. هذا ظاهر كلام المصنف وابن شاس، وهو خلاف النقل؛ لأنه لا يبطل حق الموصى له بمجرد إسلام الورثة، ب ل يخير الموصى له بعد ذلك في فدائه أو إسلامه.
وما ذكرناه من البداية بتخيير الورثة هو الذي رجع إليه مالك، وكأن أولاً يقول: يبتدأ بتخيير المخدم؛ إذ لا تخيير لصاحب الرقبة إلا بتمامها، فإن فداه خدمة بقية الأجل ثم لا يكون لصاحب الرقبة إليه سبيل حتى يعطيه ماافتكه به، وإلا كان للذي فداه رقاً.
وإن أسلمه المخدم سقط حقه، وقيل لصاحب الرقبة: أسلمه أو أفتكه! فإن أٍلمه استرقه المجني عليه.
وإن فداه صار له وبطلت الخدمة، واختاره سحنون. واختار أشهب قولاً ثالثاً؛ وهو أن يكون فيه كالشريكين؛ يقوم ربع رقبته، فإن قيل: عشرة دنانير قومت خدمته أيضاً، فإن كانت أيضاً عشرة دنانير صار حقهما فيه سواء النصف والنصف.
فإن فدياه جميعاً دفع كل احد منهما نصف دية الجرح، وكان العبد على حاله. وإن أسلماه رق للمجني عليه.
وإن افتكه أحدهما بنصف دية الجرح وأسلم الآخر، فإن أسلم المخدم لم يكن للمجني عليه غير بقية الخدمة، وإن أسلمه صاحب الرقبة كان للمجني عليه بعد الخدمة. واختار أصبغ قول مالك الذي رجع إليه.
فإن قيل: هذا الخلاف إنما هو في الموهوب خدمته مدة، والمصنف رحمه الله إنما كلامه في الموصى بخدمته. قيل: هما سواء؛ لأن الوصية بعد الموت لازمة لزوم الهبة في الحياة، ويدلك على ذلك أن سحنون سأل ابن القاسم في المدونة عن مسألة الموصى بخدمته فأجابه بمسألة العبد الموهوب خدمته.
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مَاشِيَةً أَوْصَى بنِتَاجِهَا لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ
أي: يجوز بيع الوارث ماشية قد أوصى الميت بنتاجها لرجل معين أو غيره، ويستثنى النتاج الموصى به. وعلل الجواز ببقاء بعض المنافع؛ يعني: من الصوف واللبن، وهكذا في الجواهر.
ابن عبد السلام وغيره: وهو خلاف المذهب؛ إذ لا يجوزبيع الأمهات واستثناء الأجنة، فكيف بما لم يخلق؟ ّ ففي العتق الثاني من المدونة: والذي يعتق مافي بطنها في صحة السيد لا تباع وهي حامل، إلا في قيام دين استحدثه قبل عتقه أو بعده، فتباع إذا لم يكن مال غيرها، ويرق جنينها؛ إذ لا يجوز استثناؤه.
ونقل اللخمي عن ابن حبيب جواز بيعها واستثناء جنينها؛ فيكون حراً. ولعل ما ذكره المصنف هنا يتمشى على قول ابن حبيب.
وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ الْمَوْجُودِ يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ
أي: كون الموصى به؛ لأنه يتكلم فيه. ولما كانت الوصية إنما تخرج من الثلث بَيَّنَ المصنف أن المعتبر أن يكون ثلث المال [777/ب] يوم مات، ولا يعتبر ثلث المال يوم الوصية؛ سواءٌ كانت الوصية في المرض أو في الصحة؛ لأن الوصية عطية بعد الموت يجوز الرجوع عنها في الحياة، فلا يصح الالتفات فيها إلى يوم الوصية.
ابن عبد السلام: وهذا خلاف المهذب، فإن المعتبر على المذهب في الوصية أن تخرج من الثلث يوم تنفيذ الوصية لا يوم الموت؛ حتى لو كانت الوصية يسعها الثلث يوم الموت فطرأت على المال جائحة أذهبت بعضه فصارت لا يسعها ثلث ما بقي كان حكمها يوم القسمة حكم من أوصى بأكثر من الثلث، ولا أعلم في ذلك خلافاً في المذهب إلا في فروع يسيرة لا يتأتى منها إطلاق الخلاف في أصل المسألة.
خليل: وقد يجاب عن المصنف بأن قوله: (يَوْمَ الْمَوْتِ) بمعنى: يوم التنفيذ؛ لأنه إذا هلك شيء من التركة بسماوي فهو من الموصى له والورثة، فكان لا فرق بين كون الموصى له الثلث يوم الموت أو يوم التنفيذ، ولو أتلف الورثة بعض المال قبل تنفيذ الوصية لكان الإتلاف منهم، وكان للموصى له الثلث كاملاً، فكان قول المصنف:(يَوْمَ الْمَوْتِ) أحسن.
وأعاد ابن راشد رحمه الله تعالى الضمير في: (كونه) على العبد المخدم، وهو بعيد.
وَلا مَدْخَلَ لِلْوَصِيَّةِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ إِرْثِ، وَلا فِيمَا أَقَرَّ بهِ- وَلَوْ فِي مَرَضِهِ- مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَوْصَى بهِ لِوَارِثٍ وَلَوْ رُدَّ، بخِلافِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَرَضِ وَمَا يَرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ تَعْمِيرٍ وَحَبْسٍ. وَفِي الْعَبْدِ الآبقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ إِنْ اشْتَهَرَ مَوْتُهُمَا ثُمَّ ظَهَرَتِ السَّلامَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ قَوْلانِ، كَغَرَقِ السَّفِينَةِ، بخِلافِ الْمُدَّبَرِ فِي الْمَرَضِ
…
يعني: أن وصايا الميت لا تدخل إلا فيما علم به الميت؛ لأن الميت لم يرد ما لم يعلم به، وهذا هو المعروف. وقال اللخمي والمتيطي: اختلف في ذلك، واختار اللخمي التفصيل؛
فلا يدخل الموصى لهم فيا لم يعلم به، بخلاف الكفارات والزكوات؛ لأن قصده فيهن براءة الذمة.
قوله: (وَلا فِيمَا أَقَرَّ بهِ) أي: ولا دخول للوصايا فيما أقر به الموصي لغيره وهو يظن أن إقراره عامل، وحكم الشرع بإلغائه، كما لو أقر بدين لمن يتهم عليه، أو أقر أنه كان أعتقه في صحته أو تصدق به.
وبالغ بقوله: (وَلَوْ فِي مَرَضِهِ) لأنه إذا لم يعد فيالمرض الذي يتوهم فيه الرد، فأولى إذا كان في الصحة لكن رد لسبب.
وقوله: (أَوْ أَوْصَى بهِ) أي: ولا مدخل للوصايا فيما أوصى به للوارث ولو رَدَّ الوارث- الموصى له-الوصية؛ لاعتقاد الميت أن الموصى به ليس من ماله، بخلاف المدبر في المرض فإنه يدخل فيما لم يعلم به، وفيما أقر به ورد، وفيما أوصى به لوارث ورد، وهو أحد القولين. لكن الذي ثبت عليه ابن القاسم أنه لا يدخل المدبر في المرض فيما لم يعلم به. وهذان القولان أيضاً في المبتل في المرض.
عياض: والذي حَمَلَ عليه المدونة محققو الشيوخ أنهما لا يدخلان فيما لم يعلم. وحُكِيَ في المقدمات ثالثاً بدخول المدبر في المرض فيما لم يعلم دون المبتل، وهو بعيد. وعكسه أظهر.
أما مدبر الصحة فالذي رجع إليه مالك وثبت عليه أنه يدخل فيما علم به وما لم يعلم. ويستفاد من كلامه دخول المدبر في الصحة من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا دخل المدبر في المرض فيما لم يعلم به، فأحرى مدبر الصحة.
والفرق على ظاهر المذهب بين المدبر في المرض في كونه لا يدخل فيما لم يعلم به، بخلاف المدبر في الصحة-أن الصحيح قصد عتقه من مجهول؛ إذ قد يكون بين تدبره ومته السنون الكثيرةن بخلاف المريض فإنه يتوقع الموت من مرضه وهو عالم بماله، فإنما يقصد أن تجري أفعاله فيما علمه.
أما لو صح المريض ثم مات فهو كالمدبر في الصحة. وصداق المنكوحة في المرض كالمدبر في الصحة.
وحيث حكمنا للمدبر بدخوله فيما لم يعلم به الميت فاختلف: هل يدخل فيما علم به الميت وما لم يعلم به دخولاً واحداً، أو يبدأ بما علم به؟ فإن بقيت من المدبر بقية لم يسعها ثلث ما علم به تممت من ثلث ما لم يعلم به. وتظهر ثمرة هذين القولين عند ضيق الثلث عن الوصايا.
وما تقدم من حَمْلِ قوله: (بخِلافِ الْمُدَبَّرِ) على ما ذكرناه هو حَمْلِ ابن عبد السلام وغيره.
خليل: والأقرب أن يحمل على أن المدبر في المرض تدخل الوصايا فيه إذا بطل بعضه، ويدل على ذلك قوله (وَمَا يَرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ تَعْمِيرٍ وَحَبْسٍ). وهذا الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر؛ لأنه قال في كتاب محمد- وفي المجموعة نحوه-: قال مالك وأصحابه: لا تدخل وصايا الميت لا في ثلث ما علم به من ماله، ولا تدخل في كل ما بطل فيه إقراره في المرض لوارث، وما أقر به في مرضه أنه كان أعتقه في صحته أو تصدق به أو أوصى به لوارث فرده الورثة.
وأما ما كان يعلمه مثل المدبر في المرض، وكل دار ترجع بعد موته من تعمير أو حبس فهو من ناحية التعمير- فالوصايا تدخل فيه؛ فيرجع فيه ما ينقص من وصيته ولو بعد عشرين سنة، وكذلك ما رجع بعد موته نم عبد آبق أو بعير شارد، وإن كان أيس منه.
وأما إن اشتهر عنده وعند الناس غرق السفينة وموت عبده، ثم ظهرت سلامة ذلك بعد موته فروى أشهب فيه عن مالك قولين: فمرة قال: لاتدخل فيه الوصايا. ومرة قال: تدخل، وقد ينعى إليه العبد وهو يرجوه.
هذا كله فيما عدا المدبر في الصحة، فإنه يخرج مما علم به ما لم يعلم به. انتهى. وبه ظهر بقية كلام المصنف، وظهر أن معنى قوله:(وَحبْسٍ) الحبس الذي بمعنى الْعُمْرَى، وأما الحبس المطلق فلا يرجع إليه أصلاً.
وقوله: (كَغَرَقِ السَّفِينَةِ) تشبيه لإفادة الحكم؛ لأنه قد تبين أنه منصوص في الجميع.
الصِّيغَةُ [778/أ] كُلُّ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ يُفْهَمُ مِنْهَا قَصْدٌ الْوَصِيَّةِ
هذا هو الركن الرابع، ومعناه: أنه لا تتوقف صيغة الوصية على لفظ خاص، بل هو كل ماي فهم منه قصد الوصية، وكذلك الإشارة.
قال في الموازية: وإذا قرأ الشهود الوصية على الموصي، وقالوا: أتشهد أنها وصيتك؟ فقال: نعم، أو قال برأسه:"نعم" ولم يتكلم فذلك جائز.
ابن شعبان: وإذا مُنِعَ المريض من الكلام وأشار إشارة مفهومة جاز أن يشهدوا بها عليه بمنزلة الأخرس.
وتُعُقِّبَ عليه تفسير الصيغة بالإشارة. وأجيب بأن المراد بالصيغة: مايدل على مراد المتكلم، ويكون استعمال الصيغة في هذا المعنى مجازاً، أو حقيقة عرفية.
وَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ التَّشَهُّدِ
أي: يستحب لمن كتب وصية أن يقدم ذكر التشهُّد قبل الوصية. قال في المدونة: كذلك فعل الصالحون، وما زال ذلك من عمل الناس بالمدينة، وأنه ليعجبني وأراه حسناً.
وروى أشهب في المجموعة: كل ذلك لا بأس به، تشهَّد او لم يتشهَّد، وقد تشهَّد ناس فقهاء صالحون، وترك ذلك بعض الناس رضي الله عنهم، وذلك قليل.
ابن القاسم: ولم يذكر لنا مالك كيفيته. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كانوا يوصون أنه يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم إن كانوا مسلمين، وأوصى بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (يَبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الْدِينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132].
وروى أشهب: أن رجلاً كتب في وصيته: أو من بالقدر خيره وشره حلوه ومره. فقال: ما أرى هذا إلا من الصفريةوالإباضية! قد كتب من مضى وصاياهم فلم يكتبوا مثل هذا.
وَلَوْ ثَبُتَ أَنَّهَا خَطُّهُ، بَلْ لَوْ أَقْرَأَهَا لَمْ تُفِدْ مَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا
أي: لو وجدت وصية مكتوبة وشهد عدلان أنها خطه، فقال مالك في العتبية والمجموعة: لا تجوز حتى يشهدهم عليها، وقد يكتب ولا يعزم. قال في الموازية: بل لو قرأها لم يفد حتى يُشهِدَ عليها. نقله صاحب النوادر.
ابن يونس عن الموازية: وإذا أتى الشهود بوصية وقرأها عليهم لم يفد.
وقيد عياض ما تقدم من أنها إذا وجدت بخطه لا تنفذ بما إذا كتبها ليُشهد فيها، قال: وأما إذا كتبها بخطه وقال: إذا مت فلينفذ ما كتبت بخطي فلينفذ ذلك إذا عرف أنها خطه كما لو أشهد. انتهى.
وانظر قوله: "وقال: إذا مِتُّ" هل المراد: شهد على قوله من غير خطه، أو المراد أنه وجد ذلك بخطه وشهد عليه؟ والأول أقرب إلى حقيقة اللفظ؛ إذ القول حقيقة إنما هو في الملفوظ به.
وَلَوْ أَشْهَدَ وَلَمْ يَقْرَاهَا فَلْيَشْهَدُوا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ إِذَا عَرَفُوا الْكِتَابَ بعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَخْتُوماً
…
قال في المدونة: وإن كتبها بغير محضر البينة ولا قرأها عليهم فدفعها إليهم وأشهدهم على ما فيها، فإن عرفوا الكتاب بعينه فليشهدوا بما فيه.
قال عنه ابن وهب: ولو طبع عليها ودفعها إليهم وأشهدهم على أن ما فيها منه، وأمرهم ألا يفضوا خاتمه حتى يموت- جاز أن يشهدوا بما فيه بعد موته.
قال في البيان: وعلى رواية ابن وهب ليس للشهود أن يشهدوا إلا أن تكون الوصية عندهم.
قال غير واحد: ورواية ابن القاسم يحتمل أن تكون كذلك، فتكون وفاقاً لرواية ابن وهب، ويحتمل أن يجيز عليها الشهادة ولو رجعت إليه، فيكون خلافاً. قاله عياض وغيره.
وقال أشهب: لا يشهد إذا لم يكن الكتاب عنده وشك في طابعها، إلا ألا يشك في الطابع.
وقال عبد الملك: ذلك إذا كانت بطابع الشاهد، وأما بطابع الميت فلا؛ لأنه قد يزيد فيها ثم يعيد طبعه.
وذهب بعض الشيوخ إلى تصويب هذا كله وجواز الشهادة به ولو زاد فيه؛ لأنه إنما أشهدهم على ما فيها وعَيَّنَها، فكأنه أشهدهم على ما يزيد فيها ويستقر عليه أمرها. وإليه نحا اللخمي.
وقال غيره: متى كان فيها بياض قبل الطبع فلا يشهد؛ إذ لا يصح أن يشهد بما لميكتب بعد. وإليه أشار أبو عمران،
صاحب البيان: والذي استحسنه الشيوخ ومضى عليه عمل الناس انه إذا طوى الكتاب من أوله إلى موضع الإشهاد على نفسه وطبعه، وقد أبقى الإشهاد على نفسه خارج الطبع، وكتب الشهود شهادتهم على ذلك، وأمسك الموصي الوصية عند نفسه، فوجدت بد موته خطأ واحداً وعملاً على صفة التقييد الذي كان خارج الطبع، ولم تظهر في
الكتاب ريبة- جاز للشهود أن يشهدوا عليه، بخلاف ما إذا لم يبقَ من الكتاب خارج الطبع ما يستدل به على أن الوصية كانت مكتوبة على بياض.
وذكر عن الحسن وأبي قلابة أنهما كرها الشهادة في الوصية، حتى يُعلم ما فيها؛ لأنه لا يدري لعل يها جوراً، قال: ولذلك يستحب للعالم إذا أشهده المتعاملان على أنفسهما في ذكر الحق بما تعاملا فيه ألا يكتب شهادته فيه، إذا أشهداه على أنفسهما بما تضمنه حتى يقرأه؛ لئلا تكون المعاملة فاسدة.
ابن عبد السلام: ولعل ما استحبه للعالم لا يخالف ما ذكره الباجي في وثائقه: أن للشاهد أن يضع شهادته، وليس عليه أن يقرأ الكتاب كله، إلا في عقود الاسترعاء، فإنه يلزمه فيها قراءة جميعها؛ لأنه يخبر عن جميعها أنها في علمه.
وقال اللخمي: لا يخلو أن يقر وصيته عنده، أو يودعها أو يسلمها إلى البينة لتكون عندهم، وهي في كل ذلك مختومة أو غير مختومة؛ فإن كانت عنده فأخرجت بعد موته وكانت غير مختومة، وعلمت البينة أنه الكتاب [778/ب] بعينه وليس فيه محو ولا لحق- قبلت شهادتهم، وإن كان فيها محو أو لحق لا يغير ما قبله ولا ما بعده لم يثبت ذلك المحو ولا اللحق ويثبت ما قبله. وإن شك هل يغير ما قبله أو يغير موضعاً منها؟ لم ينفذ منها ذلك الموضع خاصة وأنفذ ما سواه.
وأما إن أودعها وجعلها بيد أمين فإنها تنفذ ولم تبطل لما فيها من محو أو لَحْقٍ؛ لأن الميت جعله أميناً عليها، وهو بمنزلة من قال: صدقوا فلاناً فيما يقول: أنه أوصى به.
وإن أسلمها للبينة فجعلاها في موضع وأغلقا عليها فكذلك. وقال أشهب في الموازية: إن غاب عليها أحدهما، فأجوزهم شهادة من كانت عنده.
مالك: ولا أدري كيف يشهد الآخرون.
وقال أشهب: يشهدون بمبلغ علمهم، ويحملون على ما تحملوا.
اللخمي: ولا أدري أن تجوز إلا أن يعلموا أنه الكتاب بعينه؛ بعلامة أو بغير ذلك مما يتيقن أنه كان مختوماً.
فرع:
أصبغ: سألت ابن وهب عن امرأة أوصت وَدَعَتْ شهوداً فقالت: "هذه وصيتي، وهي مطبوعة، اشهدوا عليَّ بما فيها لي وعلي، وقد أسندتها إلى عمتي، وما بقي من ثلثي فلعمتي" ثم ماتت ففتح الكتاب فإذا فيه: "ومابقي من ثلثي فلليتامى والمساكين والأرامل" قال: أرى أن يقسم بقية الثث بين العمة وبين الصنوف الآخرين نصفين بالسواء كما لو كانت لرجلين. قال: وسألت نها ابن القاسم فقال مثله سواء.
وَلَوْ قَالَ: "كَتَبْتُ وَصِيَّتِي وَجَعَلْتُهَا عِنْدَ فُلانٍ فَصَدِّقُوهُ" صُدِّقَ
هكذا في المدونة، ولكنه زاد قبل قوله:(فَصَدِّقُوهُ)"فأنفذوها". ورأى المصنف رحمه الله تعالى أن قوله: (صدقوه) يغني عن قوله: (أَنْفِذُوهَا) وهو ظاهر، ونحوه لأبي الحسن رحمه الله تعالى.
وقال فضل: لو لم يقل: "أنفذوها" وإنما قال: "وصيتي عند فلان" فلا يمضي منها شيء حتى يقول: أنفذوها.
وقوله: (صُدِّقَ) قال ابن القاسم: بشرط أن يكون عدلاً. وعنه أيضاً: يقبل وإن كان غير عدل، وهو قول سحنون وقول مالك في الواضحة. قيل: وهو ظاهر المدونة، واختاره التونسي واللخمي؛ لأن الميت ائتمنه وأمر أن يقبل قوله، ولأنا لو لم نقبل قوله أدى إلى إبطال الوصية مع علمنا أن الميت مات عن وصيته.
وَلَوْ قَالَ: "أَوْصَيْتُ فُلاناً بثُلُثِي فَصَدِّقُوهُ" صُدِّقَ
هكذا في المدونة، وهو يدل على أن قوله في المسألة السابقة:(وأنفذوها) ليس بشرط، ومعنى (أوصيت له بثلثي) أجزته بما صنع.
فَلَوْ قَالَ الْوَصِيُّ: "لابْنِي" لَمْ يُصَدَّقْ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُصَدَّقُ
الأول لابن القاسم في المدونة، واستشهد عليه بقول مالك فيمن أوصى أن يَجْعَلَ فلان ثلثه حيث يراه، فإنه إن أعطاه لولد نفسه أو لوارثه فلا يجوز إلا أن يظهر لذلك وجه يظهر صوابه.
واستحسن بعضهم قول أشهب، وفرق بين المسألة وما قاس عليه ابن القاسم بأن مسألة مالك أحال الموصي فيها على نظر الوصي، وصواب ذلك النظر، وخطؤه يظهر للناس. فإذا أعطى لولد نفسه وشبهه ظهر خطؤه وتهمته فيرد، بخلاف مسألة النزاع بين ابن القاسم وأشهب؛ أحال الميت فيها على اختيار الوصي، وذلك أمر لا يعلم إلا من جهة الوصي، ولا يظهر فيه صواب ولا خطأ.
أشهب: في الموازيةوالمجموعة بإثر الكلام الذي ذكره المصنف عنه: وليس هو مثل الذي يشهد لابنه، ولا مثل الذي يوصي إلى فلان أن يجعل ثلثه حيث يراه- فيجعله لنفسه أو لابنه، وهذا ليس له ذلك؛ لأنه فوض إليه ليجتهد، ولو أعطاه لابنه أو أقاربه كما يعطي الناس حسبما يستحق لجاز، وأكره أن يأخذ منه شيئاً، فإن فعل حسب استحقاقه لم آخذه منه.
وقاله ابن القاسم وقال: فإن قال: "لولدي أوصي به" جَعَلْتُهُ كشاهد له، وكمسألة مالك إذا قال: فلان يجعل ثلثي حيث يراه.
محمد: قال مالك في هذه: إنه لا يأخذ هو منه، وإن كان محتاجاً، وإن أعطى منه ولده وكان موضعاً جاز.
وقال مالك في المجموعة في الذي أوصى أن يجعل ثلثه حيث يراه: أرى أنه لا يجوز أن يعطي ذلك أقارب الميت، ولكن يعطيهم كما يعطي الناس.
مالك: وإن كان قد علم حين أوصاه أن يجعل ثلثه حيث يراه الله تعالى أنه أراد أن يرده على بعض الورثة- فلا يجوز، وليرجع كله ميراثاً.
وَلَوْ قَالَ: "اشْهَدُوا أَنَّ فُلاناً وَصِيِّ" وَلَمْ يَزِدْ كَانَ وَصِيّاً فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ وَفِي إِنْكَاحِ صِغَارِ الذُّكُورِ وَبَوالِغِ الإِنَاثِ بإِذْنِهِنَّ
…
هكذا في المدونة. وفي الموازية: وإن قال: فلان وصيي قد بالغ في الإيصاء، ويكون وصياً على كل شيء. وفي المجموعة مثله ولا أعلم فيه خلافاً.
ابن رشد: الإيصاء والوكالة إذا قصرا طالا، وإذا طالا قصرا؛ أي: إذا طول بالتنصيص على أشياء اقتصر عليها.
وقوله: (صغار بنيه) يدخل فيه الحفدة. وفي دخولهم خلاف إذا كان الأب محجوراً عليه.
محمد: وإن قال وصيت وصيي على مالي دخل فيه الولد. وإن قال: "على ولدي" دخل المال. ويدخل في قوله: "على ولدي" الذكران والإناث إلا أن يخص فيقول: الذكران، أو بناتي. وقد تقدم الكلام في الناكح على جبر الوصي الصغارَ والإناث.
وَلَوْ قَالَ: "وَصِيِّي عَلَى كَذَا" خُصِّصَ، وَرُوِيَ: كَالطَّلاقِ
الأول: مذهب المدونة والمشهور، وهو الظاهر؛ لأن الوصي يتصرف [779/أ] بالنيابة فلا يتعدى نظره الوجه الذي أذن له فيه كالوكيل.
والرواية بأن ذلك كالإطلاق ذكر ابن شاس أن ابن عبد الحكم رواه، ونقله صاحب المعونة.
لَوْ قَالَ: "وَصِيِّي حَتَّى يَقْدِمَ فُلانٌ" عُمِلَ بهِ
أي: عمل بالإيصاء إلى هذه الغاية، فإذا قدم فلان فهو الوصي. ومفهوم الغاية أن فلاناً لو مات قبل قدومه لاستمرت الوصية، وقاله ابن يونس. ومفهومها أيضاً أنه لو قدم ولم يقبل أن الوصي الأول ينعزل؛ لأنه علق نظره بإتيان فلان، وقاله بعض علمائنا، قال: إلا أن يفهم عن الموصي: إذا جاء فقبل، فإذا لم يقبل وجب أن يبقى الأول على ما جعل له.
ابن عبد السلام: وفي النوادر في الحالف ألا يفعل كذا حتى يقدم فلان فمات قبل قدومه، ما يؤخذ منه؟ قولان؛ هل يحمل على أجل قدومه وينوي في ذلك، أو لا يفعله أصلاً؟ فانظر هل يتخرج منه في الفرع الأول شيء أم لا؟
وَلَوْ قَالَ: "وَصِيِّي عَلَى قَبْضِ دُيُونِي وَبَيْعِ تَرِكَتِي" وَلَمْ يَزِدْ، فَزَوَّجَ بَنَاتِهِ؛ رَجَوْتُ أَنْ يَجُوزَ
…
قوله: (فَزَوَّجَ) أي: الوصي.
وقوله: (رَجَوْتُ) هو عائد على مالك، وهذه مسألة المدونة، قال فيها: وأحب إليَّ أن يرفع إلى السلطان فينظر السلطان في ذلك هلفيه ضرر أو بخس في صداق؟
وقال أشهب: له أن يزوِّج ولا يرفع إلى السلطان.
محمد: وقاله ابن القاسم إن شاء الله. اللخمي: والأول أحسن.
ابن القاسم: وقاله مالك فيمن أوصى بميراث بنت له صغيرة تدفع إلى فلان، أترى أن يلي بضعها؟ قال: نعم، وأراه حسناً لو رفع ذلك إلى الإمام فينظر.
وإن جعل وصيته لثلاثة؛ جلع لأحدهم اقتضاء الدين، وللآخر النظر في الفاضل والتصرف فيه بالبيع والشراء، وللآخر بضع بناته جاز.
وليس لأحدهم أن يلي غير ما جُعِل له، فإن تعدى من له النظر في الفاضل والتصرف فيه فاقتضى أو قضى مضى ما فعله ولم يُرَدُّ قضاؤه واقتضاؤه، وإن باع أو اشترى من جعل له النكاح رُدَّ فعله، وإن زوَّج من جعل له النظر في المال رد فعله؛ لأنه معزول عن ذلك وقد أقيم له غيره. وليس هو بمنزلة قوله: فلان وصيي على قضاء ديني، وذكر مسألة المصنف.
وَقَبُولُ الْمُعَيَّنِ شَرْطٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لا قَبْلَهُ، فَإِنْ قَبلَ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِلْكُهُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ-عَلَى الأَصَحِّ-لا مِلْكَ الْمُوصِي.
أي: وقبول الموصى له- المعين للوصية- شرط في وجوبها له؛ لأنها أحد أنواع العطايا؛ فاشترط فيها القبول كالهبة وغيرها. وبَيَّنَ المصنف أن ذلك القبول لابد أن يكون بعد الموت، وأما قبله فلا؛ لأن للموصي أن يرجع ما دام حياً.
واحترز بـ (الْمُعَيَّنِ) مما لو أوصى لمثل الفقراء والغزاة، فإنه لا يشترط في حقهم القبول.
واختلف إذا قبل بعد الموت، وقد كان تأخر القبول عن الموت؛ فالأصح أن القبول كاشف أن الموصى به مِلْكٌ للموصى له من حين الموت. وقيل: إنما حصل له الملك حين القبول، فيكون الملك قبل القبول لورثة الموصي.
والقولان هنا كالقولين في بيع الخيار، هل هو نحل أم لا؟ فإن قيل: الأصح هنا مبني على أنه منبرم، بلاف المشهور في بيع الخيار، فما الفرق؟ قيل: الملك يَثُبتُ للبائع في الخيار فاستصحب حتى يتحقق الانتقال، والملك هنا قد تحقق زواله بزوال ملك الموصي بموته، والله أعلم.
وَعَلَيْهِمَا مَا يَحْدُثُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ مِنْ وَلَدٍ أَوْ ثَمَرَةٍ
أي: فعلى الأصح يكون للموصى له، وعلى مقابله يكون للورثة، ويتخرج أيضاً على هذين القولين ووب زكاة الفطر وما أفادته الأمة والعبد بعد الموت من المال وغير ذلك، كما لو أوصَى له بزوجته الأمة فأولدها ثم علم فقبل: هل تصير بهذا الولد أم ولد أم لا؟
وحكى المصنف الخلاف في الولد تبعاً لابن شاس، وحكى بعضهم الاتفاق على أنه للموصى له، ويقرب منه كلام التونسي الذي ذكره المصنف في قوله رحمه الله:
وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي تَقْوِيمِ الأُصُولِ بغَلَاّتِهَا أَوْ دُونَ غَلَاّتِهَا ثُمَّ يَتْبَعُهَا-قَوْلانِ. قَالَ التُّونُسِيُّ: وَبغَلاِّتِهَا أَشْبَهُ، كَنَمَاءِ الْعَبْدِ وَوَلَدِ الأَمَةِ
…
أفاد قوله: (وَعَلَى الْمَشْهُورِ) أن الأصح المتقدم مشهور؛ يعني: أنه اختلف إذا قلنا: إن الغلات الحادثة بعد موت الموصي للموصى له، فهل تُقَوَّم الأصول بغلاتها، أو بدون غلاتها ثم تتبعها؟ قولان.
فلو أوصى له بحائط يساوي ألفاً وهو ثلث الموصي، لكن زاد لأَجْلِ ثمرته مائتين؛ فعلى الأول- وهو الذي قال التونسي: إنه أشبه - لا يكون للموصى له إلا خمسة أسداس الحائط، وعلى الثاني يكون جميع الحائط للموصى له.
وقوله: (كَنَمَاءِ الْعَبْدِ وَوَلَدِ الأَمَةِ) ظاهره أنه يتفق على ذلك وإلا لما حسن به استشهاد. وقد يفرق بأن نماء العبد منفصل، وولد الأمة كالجزء منها.
سحنون: وتقويم الأصول بالغلات أعدل أقوال الأصحاب، وهو قول أكثر الرواة، وهو لابن القاسم. وقال أيضاً في المدونة: إنه تُقَوَّم الأصول دون الغلات.
ابن القاسم في المدونة: وإن أوصى لرجل برقبة جنانه فأثمر الجنان قبل موت الموصي بسنة أو سنتين، ومات الموصي، والثلث يحمل الجنان وما أثمر- فالثمرة للورثة دون الموصى
له، وذلك إذا أُبْرَتِ النخل وأُلقِحَتِ الشجر قبل موت الموصي. ثم ذكر عن مالك: إذا مات الموصي قبل الإِبَارِ أن الغلة للموصى له كالبيع.
ابن يونس: [779/ب] وحيث قَوَّمْنَا الأصول وحدها فخرجت من الثلث، وكنات الغلات تبعاً لها، وقد كنا أنفق على الجنان نفقة من مال الميت إلى أن تمت ثمرته- فيجب أن تكون تلك النفقة على الموصى له؛ لأنه لما حمله الثلث كأنه لم يزل ملكاً للموصى له، ولأن الميت لم ينتفع بالغلة ولا كثَّر بها ماله؛ فلذلك تكون النفقة على الموصى له.
وَلا يُفْتَقَرُ إِلَى قَبُولِ الرَّقِيقِ إِذَا أَوصَى بعِتْقِهِ
كان الموصى بعتقه معيناً أم لا؛ لأنه وإن كان معيناً ففيه حق لله تعالى فلا يتوقف على قبوله، كما لو أعتقه في حال الحياة فإنه لا يتوقف على خياره.
ابن عبد السلام: نعم لو خر في عتق نفسه أو ملكه ذلك كان له القبول أو الرد.
وَفِيهَا: إِذَا أَوْصَى ببَيْعِ جَارِيَةٍ لِلْعِتْقِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جَوَارِي الْوَطْءِ فَذَلِكَ لَهَا
نسبها للمدونة؛ لأن ظاهرها معارض لما قبلها، ولكن لا معارضة في الحقيقة؛ لما يحصل لجوار الوءط من الضياع غالباً بالعتق.
وقيل: لا خيار لها كانت رائعة أم لا، وتباع للعتق، إلا ألا يوجد من يشتريها بوضيعة ثلث الثمن.
وقال أصبغ: يكون لها الخيار في هذه المسألة وفي المسألة السابقة؛ أعني: إذا أوصى الميت بعتقها فقال: أعتقوها.
اللخمي: وهو أبين؛ لأن العتق لم ينفذ في الموضعين، والضرر في الموضعين سواء.
قال أصبغ: وهذا إذا قال: افعلوا، ولم يقل: هي حرة، وأما إذا قال هذا فلا ينظر إلى قولها وتنفذ لها الوصية.
وإذا فرعنا على مذهب المدونة فاختارت أحد الأمرين ثم أحبت الانتقال إلى الآخر، فقال ابن القاسم: ذلك لها ما لم ينفذ فيها الذي اختارته أولاً، أو يكون ذلك بتوقيف من سلطان.
وقال أصبغ: إذا شهد على اختيارها أحد الوجهين لم يكن لها الرجوع إلى الآخر.
مالك: وإن أعتقها الورثةقبل أن تختار لم يكن ذلك لهم إن أحبت البيع. وكذلك إن قال: بيعوها ممن أحبت، فأعتقوها وأحبت البيع رُدَّ عتقها.
ابن القاسم: وإن أحبت أن تباع بغير شرط العتق فللورثة حبسها أو بيعها.
محمد: فإن بيعت بغير شرط العتق لم يوضع من ثمنها شيء، وإن بيعت بشرط العتق وضع ثلث ثمنها.
الْوَصِيَّةُ أَرْكَانٌ
أي لها أركان. ومراده الوصية على النظر، والمتقدم ف الوصية بالمال، ولهذا لما كان هذا نوعاً واحداً أفرده.
وقوله: (أَرْكَانٌ) أي: ثلاثة؛ الموصي، والموصى له، والموصى فيه. فإن قلت: هو لم يذكر الموصى فيه. قيل: لما ذكر الموصي اقتضى ذكر موصى فيه. وترك الصيغة لتقدم الكلام عليها في الوصايا.
الْمُوصَى إِنْ كَانَ عَلَى مَحْجُورٍ عَلَيْهِمْ فَيَخْتَصُّ بالأَبِ وَالْوَصِيِّ
قوله: (الْمُوصَى) المراد: الجنس؛ فيدخل وصي الأب، وووصي وصيه وإن بعد، ولا يلحق به مقدم القاضي على المنصوص. نص عليه ابن الهندي وابن أبي زمنين وغير واحد.
ابن راشد: وقال بعض الأندلسيين: إن الذي مضى به الحمك أَنَّ حكم مقدم القاضي حكم الوصي في جميع أموره؛ لأن القاضي أقامه مقام الوصي.
بعض الشيوخ: وعلى هذا فيكون له أن يوكل في حياته من يقوم مقامه، ويوصي بذلك بعد مماته. انتهى كلام ابن راشد رحمه الله.
ولا خفاء أن مراد المصنف إذا كان الأب رشيداً، ولو كان محجوراً عليه لم يكن له نظر على ولده، ولا أن يوصي عليهم.
وَلا وَصِيَّةَ لِجَدِّ وَلا لأُمٍّ
لا خلاف أن الجد لا إيصاء له، ومنع في المدونة إيصاء الأخ على أخيه، قال: ولا يقاسم عليه. وأجاز أشهب المقاسمة عليه.
اللخم: فعلي قوله- تجوز وصيته بما يورث عنه، إذا لم يكن له وصي. وأجاز ابن القاسم في اللقيط المقاسمة عليه، فإجازته في الأخ أولى.
وَفِيهَا: تَصِحُّ مِنَ الأُمِّ فِي اليْسِيرِ كَسِتِّينَ دِينَاراً، وَقِيلَ: لا
إجازة ذلك استحسان بثلاثة شروط؛ يسارة المال، وأن يكون موروثاً عنها، وألا يكون لهم أب ولا وصي.
سحنون: وقول غيره: إنها لا تجوز أعدل.
تنبيه:
كل هذا في الوصية بما صار له من مال الميراث، وأما ما تطوع الميت بالوصية به فتجوز الوصية، ويقبض له من وصايا الميت، فلو قال:"لفلان الصغير، ويكون على يد فلان حتى يرشد" لم يكن لأبيه ولا وصيه أن يقبض ذلك، ولا يحجر عليه فيه؛ لأنها هبة من الموصي علىصفة فلا تُغَيَّر. نص عليه اللخمي وغيره.
وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَفْرِيقِ الثُّلُثِ، فَلا يَخْتَصُّ الْمُوصَى
أي: وإن كان الموصي أوصى على غير محجور عليهم، وهذا مقابل قوله أولاً:(إذا كان على محجور عليهم).
وقوله: (مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَفْرِيقِ الثُّلُثِ) هو بيان لغير المحجور عليهم، فلا يختص الموصي على هذا بأن يكون أباً أو وصياً، بل يصح من كل من عليه حق أو له.
وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِمُسْلِمٍ فَلا بَاسَ بذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ خَمْراً أَو الْتِزَامَ جِزْيَةٍ
وقع في نسخة ابن عبد السلام هنا قبل قوله: (وَلَوْ أَوْصَى)(الموصي) ولم يقع ذلك عندنا إلا فيما يأتي.
والضمير في قوله: (يَكُنْ) عائد على الموصى به المفهوم من أوصى، وهكذا في المدونة وغيرها، ففيها: وإن أوصى ذمي إلى مسلم فإن لم يكن في تركته خمر ولا خنزير، ولم يَخَفْ أن يُلْزَمَ بالجزية فلا بأس.
وقال أشهب في الموازية: أنا أكرهه؛ خوفاً أن يلزم بجزية.
وليس بَيِّناً في الكراهة. ولو قَبِلَ لجاز ولزمته، وإن كان غيرذلك فلا بأس به وإن كان فيها خمر وخنازير، وتكون الوصية فيما سوى الخمر والخنازير.
وأما وصية الذمي إلى الذمي، فلا يمنعون منها، إذا كان فيها الخمر ونحو ذلك مما يستحلونه، قاله ابن الماجشون.
قوله: (وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِمُسْلِمٍ) نص أشهب أيضاً على جواز وصية الحربي للمسلم.
أشهب: ولو أوصى ذمي إلىحربي لم يجز، وإن كان مستأمناً. قال: ولو أوصى الحربي المستأمن إلى ذمي جاز.
الْمُوصَى شَرْطُهُ: التَّكْلِيفُ، وَالإِسْلامُ، وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفَاءَةُ
أسقط ابن عبد السلام هنا (الْمُوصَى) لتقدمه في نسخته، وذكر أربعة شروط:
الأول: التكليف، فلا تجوز الوصية إلى صبي أو إلى معتوه.
الثاني: الإسلام، فلا تجوز الوصية لذمي ولا حربي؛ لعدم العدالة.
الثالث: العدالة، فلا تجوز لفاسق.
قال في المدونة: ولا تجوز الوصيةلذمي أو مسخوط أو من ليس بعدل، ويعزل إن أوصى إليه.
ولو اكتفى بالدالة عن الإسلام لكان أخصر.
ونقل بعضهم عن ابن المواز أنه قال: لم أرد هنا بالدالة عدالة الشاهد؛ حتى لا يجوز غيره، ولكن العدالة هيالأمانة والرضا فيما يصير إليه، والقوة عليه.
الرابع: الكفاءة؛ أي: في التصرف، فلا تجوز الوصية إلى عاجز عن التصرف.
محمد وابن عبدوس: ولا مأبون.
وَكَانَ أَجَازَهَا قَبْلُ لِلْكَافِرِ، قَالَ مَرَّةً: وَإِذَا كَانَ قَرِيْباً كَالأَبِ وَالأَخِ وَالْخَالِ وَالزَّوْجَةِ فَيُوْصِيْهِ عَلَى الْصِّلَةِ فَلا بَاسَ بِذَلِكَ
…
حاصله أن في الوصية للكافر ثلاثة أقوال:
المشهور: عدم الصحة مطلقاً، وهو قول مالك الذي رجع إليه.
والثاني: أنها تصح إليه.
والثالث: التفصيل بين القريب وغيره، لكن لم ينسب ابن أبي زيد وابن رشد وغيرهما الثالث إلا لابن القاسم.
فإن قلت: في حكاية الثاني والثالث نظر؛ لأن نص الرواية في العتبية: وكره مالك الوصية لليهود والنصارى، ثم ذكرقول ابن القاسم، وهذا يمكن حمله على الوصية لهما بالمال لا بالنظر، وقد فهمها ابن رشد على ذلك، قيل: هو معارض بفهم غيره، فإن الذي فَهِمَ منها ابن أبي زيد وابنيونس هو ما ذكره ابن شاس والمصنف.
وَلا تَصِحُّ لِمَسْخُوطٍ، وَلَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عُزِلَ
هذا هو الذي احترز عنه بالعدالة، ونبه بقوله:(وَلَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عُزِلَ) على أن هذا الشرط تعتبر استدامته كابتدائه؛ لأن بعض الشروط يُشْتَرَطُ ابتداءً لا دواماً. وما ذكره من العزل بطروء الفسق هو المشهور.
وقال المخزومي: لا يعزل، ولكن يجعل معه وصي آخر عدل. وهذا الذي ذكره المصنف خاص بالوصي على أموال اليتامى، أو على اقتضاء دين أو قضائه؛ خيفة أن يدعي غير العدل الضياع. وأما فيما يختص بالميت كالوصية بالثلث أو بالعتق فتجوز إلى غير العدل.
ابن المواز: عن ابن القاسم وأشهب: ومن أوصى إلى محدود في قذف فذلك جائز إذا كانت منه فلتة، وكان ممن ترضي حالته، وإن لم يتزيد حسن حال إذا كان يوم قذهف غير مسخوط.
وأما من حُدَّ في زنى أو سرقة أوخمر- فلا يقع في مثل هذا من له ورع- فلا تجوز الوصية إليه إلا أن تحدث له توبة، أو تورع يعرف فضله فيه فتجوز الوصية إليه.
مالك في الموازية: وإن كانت الوصية بعتق او بشيء في السبيل ولم يكن وارثاً- لم يكشف عن شيء إلا عما يبقى للورثة منفعته، مثل: العتق؛ لهم الولاء، إلا أن يكون الوصي سفيهاً سارافاً فيكشف عن ذلك كله، فرب وصي لا ينفذ من الوصية شيئاً، وهذا صحيح؛ لأن الميت وإن أوصى لغير عدل، فلم يُرِدْ إلا إنفاذ الوصية فلا يمنع الورثة من الاطلاع على ذلك؛ حتى يعلموا أنه أنفذها.
مالك: وإن كان الوصي وارثاً فلباقي الورثة أن ينظروا في ذلك، ويكشف عنه الوصي.
وَلا تَصِحُّ لِعَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ
هذا هو الذي احترز عنه بـ (الكفاءة).
وَتَصِحُّ لِلْعَبْدِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَيَتَصَرَّفُ بإِذْنِ السَّيِّدِ
لما تكلم على شروط الوصي وموانعه، أتبعه بالكلام على ما يُظَنُّ مانعاً، وليس بمانع.
قال في المدونة: ومن أسند وصيته إلى عبده، أو مكاتبه جاز، قال في المدونة: وكذلك مدبره وأم ولده والمعتق إلى أجل والمعتق بعضه.
وقال سحنون: إنما يكونالعبد المملوك وصياً للصغار إذا كان بينهم بالسواء فيما يتكلف لهم العبد، أو يكون تكلفه لهم على قدر مواريثهم، وصححه ابن رشد. سحنون: وإن كان فيهم كبير، وكان عبداً قَنَّاً أو معتقاً إلى أجل فهي وصية لوارث، فإن أجازها الكبار، وإلا بطلت، وهو قول عبد الملك.
ابن رشد: وقول مالك أصح إذا قلنا: إنما ينظر للأصاغر في الأيام التي لهم.
مالك في الموازية: والمكاتب مثل العبد.
أشهب: وليس فيه تقويم، إلا أن يعجز.
وقوله: (وَيَتَصَرَّفُ بإِذْنِ السَّيِّدِ) هو خاص بعبد غيره.
اللخمي: وتجوز الوصية لعبد الأجنبي إذا رضي سيده، وكان سيده ممن لايخاف أن يغلب على ما في يد عبده. وأخل المصنف بهذا الشرط.
ابن القاسم وأشهب في الموازية والمجموعة: وإذا جاز السيد الوصية للعبد فليس له بعد ذلك رجوع إلا لعذر مِنْ بيع أو سفر أو نقلة منه أو من العبد إلى غير الموضع الذي الورثة به، فيقيم لهم الإمام غيره.
اللخمي: وهذا بخلاف المعروف منقوله، والمعروف في هذا الأصل أن للعبد أن يقيم غيره مقامه عند سره، او غيره من غير حاجة إلىلسلطان. ولا فرق في ذلك بين حر وعبد، وإن رضي المشتري أن يبقيه على الوصية جاز.
وَتَصِحُّ للأَعْمَى وَالْمَرْأَةِ
لا أعلم في ذلك خلافاً.
وَإِذَا أَوْصَى لِعَبْدِهِ فَأَرَادَ الأَكَابرُ بَيْعَ الْجَمِيعِ اشْتُرِي لِلأَصَاغِرِ
نحوه في المدونة، وظاهرها أنه لا يؤخذ نصيب الأكابر إلا إذا شاءوا البيع. قيل: ويشترى بالقيمة كاخذ ما يجاور المسجد إذا احتيج إلى توسعته، وفيه مخالفة للأصول. وأشار بعضهم إلى أنه يشترى نصيب الأكابر بالقيمة إن لم يريدوا البيع. ولعل ذلك إذا منع الأكابر العبد من النظر للأصاغر. ولو قيل: إنه يعرض للبيع فإذا وقف على ثمن اشترى حينئذٍ للأصاغر نصيب الأكابر لكان أخف، وفيه مع ذلك مخالفة للأصول؛ لأن الأصل أنه لا يأخذه أحد الشريكين بالثمن الذي بلغ إلا برضا الآخر، أو يزيد عليه الآخر. ولعلهم إنما قالوا هنا بهذا؛ ارتكاباً لأخف الضررين بالتقويم، كما في الدار تجاور الجامع تؤخذ بالقيمة إذا احتيج إلى توسعته بها. وأصل هذا من السنة التقويم في عتق الشريك.
ثم إن الشراء للأصاغر مقيد بما إذا كان في أموالهم ما يحمل. قال في المدونة: وإن لم يحمل ذلك نصيبهم، وأَر بهم بيعه باع الأكابر حصتهم منه خاصة إلا أن يضر ذلك بالأكابر ويأبوا فيقضي على الأصاغر بالبي معهم. قال في الواضحة: ويفسخ الإيصاء حينئذٍ، ونحوه في الموازية.
وفي مختصر حمديس: إن لمشتريه فسخ وصيته إذا كان يضر به ويشغله، واعترضه عبد الحق، وقال: لا يكاد يصح عندي.
وَلا يَبيعُ الْوَصِيُّ عَبْداً يُحْسِنُ الْقِيَامَ بهِمْ
نحوه في المدونة، ووجهه أن في بقائه مصلحة لهم، والوصي إنما ينظر بالأصلح.
وَلا يَبيعُ عَقَارَهُمْ إِلا لِحَاجَةٍ أَوْ غِبْطَةٍ
قد تقدم هذا وما فيه في الحَجْرِ.
وَلا يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ شَيْئاً، فَإِنْ فَعَلَ تُعُقَّبَ بالنَّظَرِ
أي: لا يشتري لنفسه، ولا يدس من يشتري له، صرح به في المدونة. فإن اشترى تعقب بالنظر؛ أي: بنظر الحاكم، وقال في كتاب كراء الدور والأرضين: يعاد إلى السوق، قال في المدونة: فإن كان فضل كان لليتامى وإلا ترك.
عياض: ظاهره أنه ينظر فيه الآن، وإن لم يكن فيه فضل فلابد من النظر فيه يوم البيع بالقيمة والسداد.
وكذا قال عبد الملك: ينظر فيه الحاكم يوم يرفع إليه، فإن كان سداداً أمضاه. وقال ابن كنانة: ينظر فيه الحاكم يوم الشراء.
وانظر قوله في كراء الدور: أنه يعاد إلى السوق- ونحوه في المجموعة- فإن ظاهره أنه يفسخن ويحتمل أن يعاد ليعطوا الفضل.
وَفِيهَا: سَأَلَهُ وَصِيٌّ عَنْ حِمَارَيْنِ أَرَادَ أَخْذَهُمَا لِنَفْسِهِ بمَا أُعْطِيَهُ؛ فَاسْتَخَفَّهُ لِقِلَّةِ الثَّمَنِ ..
هذا تخصيص لعموم قوله: (لا يَشْتَرِي) واستغنى بقلة الثمن عن تعيينه. ونقصه من التعليل: "الاجتهاد في تسويقهما" كان ينبغي ذكره؛ لأن له أثراً في الاستخفاف.
قال فيها: وأرخص مالك لوصي سأله عن حمارين من حمر الأعراب في تركة الميت ثمنهما ثلاثة دنانير، تسوق بهما الوصي في المدينة والبادية، فأراد أخذهما لنفسه بما أعطي- فأجاز ذلك، واستخفه.
وَلا يَبيْعُ الْوَصِيُّ التَّرِكَةَ عَلَى الأَصَاغِرِ إِلا بحَضْرَةِ الأَكَابرِ، وَإِلا رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ
…
لأنه لا نظر على الأكابر.
وقوله: (وَإِلا رَفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ) أي: وإن لم يكن الأكابر حضوراً رفع الوصي للحاكم. قال في المدونة: فيأمر من يلي معه البيع للغائب إذا كانت التركة عروضاً أو حيواناً.
وَإِذَا أَوْصَى لاثْنَيْنِ مُطْلَقاً نُزِّلَ عَلَى التَّعَاوُنِ، فَلا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا إِلا بتَقْييدٍ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا اسْتَقلَّ
…
قوله: (مُطْلَقاً) أي: من غير تقييد، فلم ينص على الاجتماع، ولا على الانفراد؛ لأنه لا إشكال إذا نص على شيء أنه يتبع. وكلامه ظاهر التصور، ووجه عدم استقلال أحدهما أن لكل واحد منهما من التصرف ما لصاحبه؛ فكانا في فعلهما كفعل رجل واحد. ولعدم استقلال أحدهما قال في المدونة: ليس لأحدهما أن يزوج دون صاحبه إلا أن يوكله صاحبه، وإن اختلفا نظر السلطان.
ابن القاسم: ولا يجوز لأحدهما بيع ولا شراء ولا أمر دون الآخر.
اللخمي: فإن فات ما باعه أحدهما فعلى الذي انفرد بالبيع الأكثر من الثمن أو القيمة، فإن اشترى وفات البائع بالثمن كانت السلعة المشتراة له وغرم الثمن.
أشهب: إلا في الشيء التافه الذي لابد لليتيم منه مثل أن يغيب أحدهما، فيشتري الآخر الطعام والكسوة، وما يضر باليتيم استئجاره.
وإن ادعى رجل بدعوى على الميت لم يخاصم أحدهما دون الآخرن إلا أن يكون الآخر غائباً، فإن انحصر الحاضر، وقضي على الميت - وَقَفَ الغائب على حجته، وَنَظَرَ ما عنده بعد قدومه. وكذلك إذا كان للميت دعوى فلا يخاصم أحدهما دون الآخر إلا أن يكون ذلك بوكالة، أو يكون الآخر غائباً.
وقوله: (فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا اسْتَقلَّ) أي: الآخر بالنظر، وهذا خلاف ما قاله اللخمي، فإنه قال: إن مات عن غير وصية لم يكن للحي أن يلي النظر وحده، وينظر السلطان في ذلك؛ فإما أقره وحده إن رأى لذلكوجهاً، أو يشرك معه غيره.
وكذلك قال ابن راشد: إِنَّ ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى مشكل؛ لأن الموصي لم يجعله مستقلاً، فكيف يستقل؟! والذي جرى عليه عمل القضاة في عصرنا ببلدنا أن يجعل معه آخر. وإذا شهد عندهم أنه أهل لذلك الاستقلال جعلوا له ذلك. انتهىز
وفي النوادر عن علي بن زياد: أنه يجعل معه غيره، لكن ذكر في النوادر عن ابن القاسم: إذا مات أحدهما ولم يوصِ فن كان الباقي بيِّن العدالة والكاءة لم أرَ أن يَجْعَلَ معه القاضي غيره، وإن لم يكن بيِّن الدالة، أو كان مبرزاً ويحتاج إلى معرفة فليجعل معه غيره، فيكون كالميت.
وعلى هذا فيحمل كلام المصنف على ما إذا كان الباقي بيِّنَ العدالة والكفاءة، ويكون اعتمد على ما قدمه من اشتراط الكفاءة والعدالة، والله سبحانه أعلم.
وَفِي انْتِقَالِهَا لِمَنْ يُوْصَى إِلَيْهِ قَوْلانِ، بخِلافِ مَا لَوْ أَوْصَيَا مَعَاً
أي: لو مات أحدهما وأوصى بما له ففي انتقال الإيصاء لمن يوصي إليه قولان؛ الإمضاء ليحيى بن سعيد في المدونة وأشهب، والمنع لسحنون.
اللخمي: وهو أصل ابن القاسم؛ لأنه لا يجوز لأحدهما أن ينفرد بالنظر دون غيره، ولا أن يقيم غيره في التصرف ي الحياة في شيء دون مؤامرة صاحبه فكذلك عند الموت.
ونقل ابن شاس الثاني عن مالك وابن القاسم نصاً، وهو ظاهر المذهب، ورأى في الأول أن الميت مستقل بذلك القدر الذي أوصى به.
وقوله: (بخِلافِ مَا لَوْ أَوْصَيَا مَعَاً) أي: فإنها تنفذ على القولين؛ لاجتماعهما عليها، فكان ذلك كاجتماعهما على شيء في حياتهما.
اللخمي: وإن جعل الميت منهما النظر للحي، ورضي الحي بذلك جاز. وكذلك إن أقام آخر معه، وواقه عليه الحي جاز من غير مؤامرة حاكم.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي أَمْرِ تَوَلِّي الْحَاكِمُ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ
ذكر (أمراً) ليعم البيع والشراء وترشيد المحجور عليه وتزويجه وغير ذلك.
وقوله: (تَوَلَّى) أي: نظر، فإن كان الصواب مع أحدهما أمر الآخر بموافقته، وإن كان في غير ما قالاه أمرهما به ومنعهما مما عداه.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنهما معزولان عما اختلفا فيه، وأن القاضي حينئذٍ يتولى النظر في ذلك الشيء الذي اختلفا فيه، وإن كان الصواب مع أحدهما. وليس كذلك، وعلى ما فسرنا به كلامه يندفع هذا.
فَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ وَضَعَهُ عِنْدَ أَوْلاهُمَا أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ
قوله: (فَإِنْ كَانَ) أي: المختلف فيه في حفظ مال. (وَضَعَهُ) أي: الحاكم (عِنْدَ أَوْلاهُمَا) أي: لكونه أعدل.
مالك: فيكون المال عند أعدلهما، ولا يقسم.
قال ابن القاسم: وإن كانا في العدالة سواء فأحرزهما أو أكفاهام، وفي كلام بعضهم: الترجيح بكثرة المال عند استوائهما في العدالة.
اللخمي: وكل هذا استحسان ولو جعلاه عند أدناهما في العدالة لم يضمنا؛ لأن كليهام عدل، وقد يكون أحدهما آمن، والآخر أكفى.
مالك في المدونة: وإن اختلفا حينئذٍ طبع عليه وجعل عند غيرهما.
ابن كنانة: وكذلك إذا جعله السلطان عند أحدهما يجتمعان عليه
وقوله: (وَيَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ) ابن عبد السلام: ولا يظهر له كبير معنى؛ لأنهما إن أخرجاه من أيديهما باختيارهما مع وجود الصفات المعتبرة فيهما كانا مخطئين، وينبغي أن يضمنا. وإن كان القاضي هو الذي أخرج المال من أيديهما لعدم الصفات المعتبرة فيهما فلا ينبغي أن يلتفت إلى اجتماعهام، ولا إلى اختلافهما.
خليل: والأحسن أن يكون معنى قوله: (ويجتمعان عليه) أي: يجتمعان ي التصرف فيه؛ لأنه وإن جعل عند أحدهما أو غيرهما، فلا يتصرف فيه إلا الاثنان.
وَفِي جَوَازِ قَسْمِهِمَا الْمَالَ قَوْلانِ
القول بجواز القسم لعلي بن زياد، والقول بعدمه لمالك وابن القاسم وأشهب، وعلله ابن كنانة بأن الموصي قد يريد اجتماعهما؛ فيريد أحدهما لأمانته، والآخر لرأيه.
وَعَلَى الْمَنْعِ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هَلَكَ بيَدِ صَاحِبِهِ
أي: إذا فرعنا على قول مالك بمنع القسم، وظاهر كلامه: أنه لا يضمن ما هلك بيده، وهو ظاهر قول ابن الماجشون على ما في النوادر وابن يونس؛ لأنهما حكيا عنه: إذا اقتسماهضمناه، وإن هلك ما بيد أحدهما ضمنه صاحبه حين أسلمه إليه.
ونقل اللخمي عنه ضمان الجميع، فيضمن ما عنده؛ لاستبداده بالنظر فيه وما عند صاحبه؛ لأنه رفع يده عنه. وقال أشهب: لا يقتسمانه، فإن اقتسماه لم يضمنا.
وَلِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ عَلَى الأَصَحِّ
يعني: للوصي عزل نفسه في حياة الموصي بعد القبول على الأصح، وأما قبله فلا شك أن له ألا يقبل، والأًح ظاهر المدونة وصريح قول أشهب؛ لأنه لم يغره، وهو قادر على أن يستبدل غيره
ومقابله لعبد الوهاب في المعونة قال: فإذا قبل الوصي الوصية ثم أراد تركها لم يجز له ذلك، إلا أن يعجز عنها، أو يظهر له عذر في الامتناع من المقام عليها.
ابن عبد السلام: وهو ظاهر قول غيره من العراقيين وبعض المغاربة؛ لأن ذلك كهبة بعض منافعه.
والمبالغة في قوله: (وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ) ليست بظاهرة؛ لأنه قَبْلَ القبول ليس بوصي.
وَلا رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ عَلَى الأَصَحِّ
يعني: لا رجوع للوصي بعد الموت إذا قَبِلَ الوصية، وظاهره سواء قَبِلَهَا في حياة الموصي أو بعد موته. ونص في المدونة على الأول، وأشهب على الثاني. قال: وسواء قَبِلَ لفظاً، أو جاء منه ما يدل على ذلك من البيع والشراء لهم مما يصلحهم، والاقتضاء والقضاء عنهم أو غير ذلك
ابن عبد السلام: وقال بعضهم: لا فرق بين قبوله بعد الموت أو قبله أن له الرجوع، وَأُخِذَ من تعليل أشهب لرجوعه في الحياة: بأنه لم يَغُرَّهُ، فألزمه اللخمي أن يكون له الرجوع إذا قَبِلَ بعد الموت؛ لكونه لم يَغُرَّهُ.
وَلَوْ أَبَى الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ بَعْدُ
هكذا نص عليه أِهب وابن عبدوس، فإن رأى القاضي تقديمه صار كمقدم القاضي.
ثُمَّ الْوَصِيُّ يَقْتَضِي دُيُونَ الصَّبيَّ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ بالْمَعْرُوفِ، وَيُزَكِّي مَالَهُ وَيَدْفَعُه قِرَاضاً وَبضَاعَةً
…
لأن الوصي وكيل على مصلحة اليتيم وحفظ ماله، فلذلك يقتضي ديونه، وينفق عليه بالمعروف، وفسره اللخمي بأن يكون على حسب المال في قلته وكثرته، فلا يضيق على من له المال الكثير فينفق عليه دون نفقة مثله، ولا يسرف.
ويوس عليه في الأعياد حسب المعتاد، ويضحي عنه من ماله، إلا أن يكون قليل المال ويضر به ذلك.
وينفق على المولى عليه في ختانه، وفي عرسه. ولا حرج على من دعي فأكل، ولا يدعو اللاعبين. وهو ضامن لما أنفق في ذلك أو في غيره من الباطل.
ووسع ربيعة أن يشتري له اللعب، قال: لأن ذلك مما يشبه.
ويجوز أن يدفع إليه من النفقة ما يرى أنه ينفقه الشهر ونحوه، فإن خيف أن يتلفه قبل تمام الشهر، أو علم ذلك منه فنصف شهر أو جمعة على قدر ما يعلم منه، وإن كان يتلفه قبل ذلك فيوم بيوم.
(وَيُزَكِّي مَالَهُ) قال في المدونة: ويخرج عنه وعن ولده الفطرة، ويضحي عنه وهذا إذا أمن أن يتعقب بأمر من اختلاف الناس. وفيه إشارة إلى ما قاله غير واحد: أنه لا يزكي ماله حتى يرفع إلى السلطان.
كما قال مالك رحمه الله: إذا وجد في التركة خمراً لا يريقها إلا بعد الرفع له؛ لئلا يكون حنفياً يرى جواز التخليل، فيضمنه إن أراقها بغير إذنه، وكذلك الحنفي يرى سقوط الزكاة. قيل: وإنما هذا في البلاد التي يخشى فيها ولاية الحنفي، وأما البلاد التي لا يكون فيها او قل ما يكون فيها فلا معنى للرفع.
ابن عبد السلام: وأيضاً فأبو حنيفة رحمه الله، إنما يخالف في بعض المحاجير؛ وهم: الصغار، وفي بعض المال؛ وهو: العين؛ أي: فلا يحتاج في غيرهما إلى الرفع.
(وَيَدْفَعُهُ) أيضاً (قِرَاضاً وَبضاعَةً) لأن ذلك من التنمية.
وَلا يَعْمَلُ فِيهِ هُوَ قِرَاضاً عِنْدَ أَشْهَبَ
لأنه كمؤاجر نفسه، وهو لا يجوز له ذلك كما لا يبيع له سلعة لنفسه.
بعض أصحابنا: فإن أخذه على جزء من الربح يشبه قراض مثله أُمْضِيَ كشرائه شيئاً لليتيم.
وَلا يَبيعُ عَلَى الْكِبَارِ إِلا بحَضْرَتِهِمْ
قد تقدم هذا.
وَلا يَقْسِمُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا اغنِيَاءَ حَتَّى يَاتِيَ السُّلْطَانُ خِلافاً لأَشْهَبَ
قال في المدونة: ولو غاب أحد الأكابر لم يجز قسم الوصي عليه، ولا يَقْسِمُ للغائب إلا الإمام، ويوكل بذلك، ويجعل ما صار له بيد أمين.
وقوله: (وَلا يَقْسِمُ عَلَيْهِمْ) أي: لتمييز حق الصغار، وأما قسمته عليهم فيما بينهم بانفرادهم فلا تجو اتفاقاً.
وقوله: (خِلافاً لأَشْهَبَ) خلاف أشهب خاص بالطعام والعين إذا كان صنفاً واحداً على ما نقله اللخمي وغيره، وأما غير العين والطعام فلا يقسمه إن كان فيهم كبار غُيَّب إلا بوكالة منهم أو من الإمام، فإن فعل فهو إذا قدم مخير.
ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنه لو كان الكبار حضوراً لما احتاج الوصي إلى الرفع إلى الحاكم، فإن أراد بذلك تمييز نصيب الصغار على الكبار فلا يبعد، وإن أراد مع ذلك تمييز نصيب الكبار فيما بقي فهو خلاف ما استحسنه في المدونة.
وَمَهْمَا نَازَعَهُ الصَّبيُّ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لأَنَّهُ أَمِينٌ
يعني: إن نازع الصبي الوصي في قدر النفقة فالقول قول الوصي، وعلله بأنه أمين. وهو مقيد بقيدين في المدونة قال فيها: وَيُصَدَّقُ في الإنفاق عليهم إذا كانوا في حجره، ولم يأتِ بسرف.
وظاهر ما في زكاة الفطر من المدونة أنه ال يشترط كونهم في حضانته، لكن الأكثر على اختيار هذا الشرط إلا ما استحسنه اللخمي من أن الأم إذا كانت فقيرة محتاجة ويظهر على الولد أثر النعمة والخير أن الوصي يصدق، وإن لم يكونوا في حِجْرِهِ.
ولعل المصنف ترك القيد الأول؛ لأنه رض النزاع مع الصبي، ولو كان في غير حجره لكان نزاعه إنما هو مع مَنْ هو في حجره، وترك القيد الثاني للإحالة على القواعد؛ إذ كل من قبل قوله فإنما ذلك إذا ادعى ما يشبه، وإذا قلنا: القول قوله فلابد مِنْ حَلِفِهِ. نص عليه مالك وابن القاسم وغيرهما.
واختلف إذا أراد أن يحسب أقل ما يمكن ويسقط الزائد؛ فقال أبو عمران: لا يمين عليه. وقال عياض: لابد منها؛ إذ قد يمكن أقل منه.
بخِلافِ مَا لَوْ نَازَعَهُ فِي تَارِيخِ مَوْتِ الأَبِ، أَوْ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَقَوْلُ الْصَبيِ
…
أي: فإن القول للصبي، وهذا وإن كان يرجع إلى تكثير النفقةإلا أن الأمانة لم تتناول الزمان المتنازع فيه.
وقوله: (أَوْ فِي دَفْعِ الْمَال) أي: فيكون القول للصبي؛ لأنه قد ادعى الدفع لغير من ائتمنه، خلافاً لابن عبد الحكم. ومنشأ الخلاف هو قوله تعالى:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] هل لئلا تغرموا، أو لئلا تحلفوا؟
وعلى المشهور إذا قلنا لا يقبل قول الوصي، فقال مالك في الوازية: إلا أن يطول زمان ذلك كالثلاثين سنة والعشرين- يقيمون معه، ولا يطلبونه، ولا يسألونه عن شيء، ثم يطلبونه، فإنما عليه اليمين.
ابن رشد: وهو ظاهر قسمة العتبية، ووجهه ظاهر؛ لأن العرف يكذبهم.
وقال ابن زرب: إذا قام بعد عشر سنين، أو ثمانٍ، لم يكن له قبله إلا اليمين.
ابن عبد السلام: ومال ابن رشد إلى القول الأول.
خليل: وينبغي أن ينظر إلى قرائن الأحوال، وذلك يختلف، والله سبحانه أعلم.
* * *